كاد المريب أن يقول: خذوني
ومع غض النظر عن كل ما تقدم:
لسوف نغض النظر هنا عن تصريحات المأمون الدالة على أنه سوف يدبر في الإمام بما يحسم عنه مواد بلائه، وعن تأكيدات الإمام وتصريحاته بأنه سوف يموت شهيداً بسم المأمون، حتى لقد واجه نفس المأمون بذلك، لكنه تجاهل الأمر، وغير الحديث(1).
ولسوف نغض النظر أيضاً عن اعتراف المأمون نفسه بأن الإمام (عليه السلام) لم يمت حتف أنفه، وإنما مات مقتولاً بالسم، وأن قتلته هما عبيد الله، والحمزة، ابنا الحسن(2) واللذان لم يكن بينهما وبين الإمام (عليه السلام) ما يوجب ذلك.. بل إن كان لهما دور ما، فإنما هو بإشارة من يهمه مثل هذا الأمر..
بل لقد ورد أن المأمون رمى بنفسه على الأرض، وجعل يخور كما يخور الثور، ويقول: «ويلك يا مأمون، ما حالك، وعلى ما أقدمت، لعن الله فلاناً وفلاناً، فإنهما أشارا علي بما فعلت..»(3).
لسوف نغض النظر عن كل ما تقدم، وحتى عن رسالته للسري، عامله على مصر، والتي أشرنا إليها غير مرة..
والذي نريده هنا:
ولا نريد هنا إلا أن نضع بعض علامات استفهام على بعض تصرفات المأمون، وأقواله حين وفاة الإمام (عليه السلام)، حيث رأيناه: قد ارتبك في أمر وفاة الرضا (عليه السلام) أشد ما يكون الارتباك..
الأسئلة التي لن تجد جوابا:
فأول ما يطالعنا من الأسئلة هو أنه: لماذا يستر موت الرضا (عليه السلام) يوماً وليلة؟!(4).
ولماذا يقول للإمام، وهو بعد لم يمت: «.. ما أدري أي المصيبتين علي أعظم، فقدي إياك، أو تهمة الناس لي: أني اغتلتك وقتلتك»(5)؟!.
ولماذا يظهر التمارض بعد أن أكل مع الإمام (عليه السلام) العنب(6)..؟! وكيف مات الإمام (عليه السلام) في مرضه من العنب، ولم يمت المأمون منه أيضاً؟!.
ولماذا يحضر محمد بن جعفر، وجماعة من آل أبي طالب، ويشهدهم على أن الرضا مات حتف أنفه، لا مسموماً(7)؟!.
ولماذا يبقى على قبره ثلاثة أيام!! يؤتى! كل يوم برغيف واحد وملح ليأكله!. الأمر الذي لم يفعله حتى عندما مات أبوه الذي ولد منه، وأخوه الذي قتله، وفعل برأسه ما فعل؟!.
وهل يمكن أن نصدقه حينما نسمعه يقول: «وقد كنت أؤمل أن أموت قبلك»(8)!. هذا مع علمه بأن الإمام (عليه السلام) كان يكبره ب «22» سنة؟! أم أن وقع المصيبة جعله يتكلم بما لا معنى له، ولا واقع وراءه؟!.
ولماذا أيضاً: يجبره على أكل العنب بعد امتناع الإمام (عليه السلام) من أكله، ثم يقول له: «لا بد من ذلك، وما يمنعك منه، لعلك تتهمنا بشيء؟! «وبعد أن أكل منه الإمام (عليه السلام) قام، فقال له المأمون: إلى أين؟ قال (عليه السلام): إلى حيث وجهتني..»(9)؟!
ولماذا؟ ولماذا؟ إلى آخر ما هنالك مما يضيق عنه المقام..
كاد المريب أن يقول: خذوني:
وبعد.. فهذه بعض الأسئلة، التي تدور حول تصرفات المأمون عند استشهاد الإمام (عليه السلام).. تحتاج إلى جواب.. وأنى لها من المأمون الجواب الصحيح، والصريح. ولكن مواقفه وتصرفاته هذه، هي الجواب الكافي والشافي، فلقد قيل، وما أصدق ما قيل: «كاد المريب أن يقول: خذوني.. كما أن المؤرخين بدورهم قد أجابوا عنها بكل صراحة أحياناً، وباللف والدوران ـ لأسباب مختلفة ـ أحياناً أخرى..
فإلى الفصل التالي، لنقف على بعض أقوال ومواقف المؤرخين، بالنسبة لسبب وفاة الإمام (عليه السلام)..
________________________________________
(1) راجع: عيون أخبار الرضا ج 2 ص 140، والبحار ج 49 ص 149، وعلل الشرايع ج 1 ص 237، وأمالي الصدوق ص 42، 43، وغير ذلك.
(2) راجع: غيبة الشيخ الطوسي ص 49، والبحار ج 49. ص 306.
(3) إثبات الوصية للمسعودي ص 209.
(4) مقاتل الطالبيين ص 567، وكشف الغمة ج 3 ص 72، وروضة الواعظين ج 1 ص 277، والبحار ج 49 ص 309، وإرشاد المفيد ص 316.
(5) مقاتل الطالبيين ص 572، وإرشاد المفيد ص 316، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 241، والبحار ج 49 ص 299. وعبارة مقاتل الطالبيين: «وأغلظ من ذلك علي، وأشد: أن الناس يقولون: إني سقيتك سماً».
(6) إعلام الورى ص 325، وإرشاد المفيد ص 316، ومقاتل الطالبيين ص 566، والخرائج والجرائح طبعة حجرية ص 258، وغير ذلك..
(7) روضة الواعظين ج 1 ص 277، ومقاتل الطالبيين ص 567، وإرشاد المفيد ص 316، وكشف الغمة ج 3 ص 72 و 123. والبحار ج 49 ص 309، وإعلام الورى ص 329.
(8) نفس المصادر السابقة باستثناء كشف الغمة.
(9) أمالي الصدوق ص 393، وروضة الواعظين ج 1 ص 274، وعيون أخبار الرضا ج 2 ص 243، وإعلام الورى ص 226، والبحار ج 49 ص 301، وغير ذلك.