• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

في عصر المأمون

في عصر المأمون

عاش الإمام أبو جعفر محمد الجواد (عليه السلام) معظم حياته في عهد المأمون، ولم يلبث بعده إلاّ قليلاً حتى وافاه الأجل المحتوم.. ويرى بعض المؤرّخين أنّ المأمون كان يكنّ له أعظم الودّ وخالص الحبّ، فزوّجه من ابنته أم الفضل، ووفرّ له العطاء الجزيل، وكان يحوطه، ويحميه ويخشى عليه عوادي الدهر، ويضنّ به على المكروه، وكان يصرّح أنّه يبغي بذلك الأجر من الله، وصلة الرحمة التي قطعها آباؤه، وفيما أحسب أنّ ذلك التكريم لم يكن عن إيمان بالإمام أو إخلاص له، وإنّما كان لدوافع سياسية، نعرض لها في البحوث الآتية.

وعلى أيّ حال فلابدّ لنا من وقفة قصيرة لدراسة حياة المأمون، والوقوف على اتجاهاته الفكرية والعقائدية، والنظر فيما صدر منه من تكريم للإمام (عليه السلام) فإنّ ذلك ممّا يرتبط ارتباطاً موضوعيّاً في البحث عن حياة الإمام أبي جعفر (عليه السلام)، وفيما يلي ذلك:

 

نزعات المأمون وصفاته:

من أبرز نزعات المأمون وصفاته ما يلي:

أ - الدهاء:

ولم تعرف الدبلوماسية الإسلامية في العصر العباسي من هو أذكى من المأمون، ولا من هو أدرى منه في الشؤون السياسية العامّة فقد كان سياسياً من الطراز الأول، فقد استطاع بحدّة ذكائه، وقدراته السياسية أن يتغلّب على كثير من الأحداث الرهيبة التي ألمّت به، وكادت تطوي حياته، وتقضي على سلطانه، فقد استطاع أن يقضي على أخيه الأمين الذي كان يتمتّع بتأييد مكثّف من قِبل الأسرة العباسية، والسلطات العسكرية، كما استطاع أن يقضي على أعظم حركة عسكرية مضادّة له، تلك ثورة أبي السرايا التي اتّسع نطاقها فشملت الأقاليم الإسلامية حتى سقط بعضها بأيدي الثوار، وكان شعار تلك الثورة الدعوة (إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ) فحمل الإمام الرضا (عليه السلام) إلى خراسان، وكان (عليه السلام) زعيم الأسرة العلويّة وعميدها، فأرغمه على قبول ولاية العهد، وعهد إلى جمع أجهزة حكومته بإذاعة فضائله ومآثره، كما ضرب السكّة باسمه، فأوهم على الثوار والقوى الشعبية المؤيّدة لهم أنه جادّ فيما فعله، حتى أيقنوا أنّه لا حاجة إلى الثورة وإراقة الدماء بعد أن حصل الإمام (عليه السلام) على ولاية العهد، وقضى بذلك على الثورة، وطوى معالمها، وهذا التخطيط من أروع المخطّطات السياسية التي عرفها العالم في جميع مراحل التاريخ.

ب - القسوة:

وصفة أخرى من صفات المأمون البارزة، هي القسوة، وانعدام الرحمة والرأفة من آفاق نفسه، أمّا ما يدعم ذلك فهو قتله لأخيه حينما استولت عليه قوّاته العسكرية، ولو كان يملك شيئاً من الرحمة لما قتل أخاه.

كما أنّه قابل العلويّين بعد قتله للإمام الرضا (عليه السلام) بمنتهى الشدّة والقسوة، فعهد إلى جلاّديه بقتلهم والتنكيل بهم أينما وجِدوا.

ج - الغدر:

وظاهرة أخرى من نزعات المأمون وصفاته وهي الغدر، فقد بايع للإمام الرضا (عليه السلام) بولاية العهد، وبعد ما انتهت مآربه السياسية دسّ إليه السمّ فقتله ليتخلّص منه.

د - ميله إلى اللهو:

أمّا الميل إلى اللهو فقد كان عنصراً من عناصر حياته، فقد أقبل عليه بنهم وفيما يلي بعض ما أثر عنه:

لعبه بالشطرنج:

ولم يكن شيء من الملاهي أحبّ إلى المأمون من الشطرنج[1] فقد هام في هذه اللعبة وقد وصفها بهذه الأبيات:

أرض مربّعة حمراء من أدم***ما بين الفين موصوفين بالكرم

تذاكرا الحرب فاحتلا لها شبهاً***من غير أن يسعيا فيها بسفك دم

هذا يغير على هذا وذاك على***هذا يغير وعين الحرب لم تنم

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركة***في عسكرين بلا طبل ولا علم[2]

وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج، ولعلّه أسبق من نظم فيه الشعر الذي أحاط بأوصافه، وكان أبوه الرشيد مولعاً بالشطرنج، وقد أهدى إلى ملك فرنسا أدواته، وتوجد حالياً في بعض متاحف فرنسا.

 

ولعه بالموسيقى:

وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى، وكان له هوى شديد في ذلك وكان معجباً كأشدّ ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي، الذي كان من أعظم العازفين والمغنّيين في العالم العربي، وقد قال فيه: (كان لا يغني أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان)[3].

وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص، والعزف على العود، ولم يمرّ اسم الله ولا ذكره في قصوره ولياليه.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض نزعات المأمون وصفاته، وهي تكشف عمّا كان يتمتّع به من القابليات الدبلوماسية، كما كشفت عن ميوله ورغباته الخاصّة في اللهو والدعارة والمجون.

 

 

تظاهره بالتشيّع:

والشيء الذي يهمّنا هو البحث عن تظاهر المأمون بالتشيع، حتى اعتقد الكثيرون من البحّاث أنّه من الشيعة؛ لأنّه قام بما يلي:

أ - ردّ فدك للعلويّين:

وردّ المأمون فدكاً للعلويّين بعد أن صادرتها الحكومات السابقة عليه وكان قصدها إشاعة الفقر بين العلويّين، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم حتى يشغلهم الفقر والبؤس عن مناهضة أولئك الحكام، وقد أنعش المأمون العلويّين، ورفع عنهم تلك الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم، ويعتبر كثيرون من البحّاث هذا الإجراء دليلاً على تشيّعه، ولمّا سجّل لهم فدكاً قام دعبل فأنشد أبياتاً أولها:

أصبح وجه الزمان قد ضحكا***بردّ مأمون هاشم فدكا

ب - تفضيل الإمام أمير المؤمنين على الصحابة:

وقام المأمون بأجراء خطير فقد أعلن رسمياً فضل الإمام أمير المؤمنين رائد العدالة الاجتماعية في الأرض على عموم الصحابة كما أعلن الحطّ من معاوية بن أبي سفيان الذئب الجاهلي.

وكان هذا الإجراء من أهمّ المخطّطات التي تُلفت النظر إلى تشيّعه، فقد جرى سلفه على انتقاص الإمام، والحط من شأنه، وتقديم سائر الصحابة عليه.

ج - ولاية العهد للإمام الرضا:

وثمّة أمر آخر استند إليه القائلون بتشيّعه وهو عقدّه لولاية العهد إلى الإمام الرضا (عليه السلام) وقد أخرج بذلك الخلافة من العباسيين إلى العلويين.

هذه أهمّ الأمور التي استند إليها القائلون بتشيّعه، والذي نراه - بكثير من التأمّل - أنّ الرجل لم يكن من الشيعة، ولم يكن يتعاطف معهم، وإنّما صنع الأمور المتقدّمة تدعيماً لسياسته وأغراضه، ويدلّ على ذلك ما يلي:

أولاً: إنّه كان مختلفاً كأشدّ ما يكون الاختلاف مع الأسرة العباسية الذين كانت ميولهم مع أخيه الأمين لأنّ أمه زبيدة كانت من أندى الناس كفّاً، ومن صميم العباسيين، أمّا أمّ المأمون فهي مراجل، فكانت من إماء القصر العباسي، وكان العباسيون ينظرون إليه نظرة احتقار باعتبار أمّه، فأراد المأمون بما أظهره من التشيّع إرغام أسرته الذين كانوا من ألدّ الأعداء إلى آل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشيعتهم.

ثانياً: إنّه أراد كشف الشيعة، ومعرفة السلطة بهم بعدما كانوا تحت الخفاء، ولم تستطع الحكومات العباسية معرفتهم والوقوف على أسمائهم وخلاياهم، فأراد المأمون بما صدر منه من إحسان لهم أن يكشفهم، وقد دلّت على ذلك بعض الوثائق الرسمية التي صدرت منه.

ثالثاً: إنه أراد القضاء على الحركة الثورية التي فجّرتها الشيعة بقيادة الزعيم الكبير أبي السرايا، فرأى المأمون أن خير وسيلة للقضاء عليها وشلّ فعاليّاتها هو الإحسان إلى الشيعة.

هذه بعض الأسباب التي أدّت إلى تظاهر المأمون بالتشيّع، والتزامه ببعض القضايا التي تذهب إليها الشيعة.

 

مع الإمام الجواد:

والذي يهمّ القراء - فيما اعتقد - هو البحث عن علاقة الإمام أبي جعفر (عليه السلام) بالمأمون ومدى ارتباطه به، وسائر شؤونه معه، وفيما يلي ذلك:

أوّل التقاء:

وجرى أوّل التقاء بين الإمام أبي جعفر (عليه السلام) والمأمون في بغداد، حينما كان المأمون خارجاً مع حاشيته في موكب إلى الصيد فاجتاز في الطريق على صبية فلما رأوه انهزموا خوفاً منه سوى الإمام الجواد، فبصر به المأمون فوقف يسأله عن عدم فراره، فأجابه (عليه السلام) بحكمة وتدبّر:

(ليس في الطريق ضيق حتى أوسعه لك، وليس لم جرم فأخشاك منه، والظنّ بك حسن إنّك لا تضرّ من لا ذنب له..).

وبُهر المأمون من هذا المنطق الفيّاض فراح يسأله:

ما اسمك؟

محمد.

ابن مَن؟

ابن علي الرضا.

ولم يستكثر عليه المأمون هذا الذكاء المفرط، فهو من أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومركز الوعي، والإحساس في الأرض، وترحّم المأمون على الإمام الرضا (عليه السلام) وانطلق في مسيرته نحو البيداء للصيد، ولمّا انتهى إلى موضع الصيد أرسل بازيّاً كان معه فغاب عنه، وبعد فترة عاد وفي منقاره سمكة صغيرة فيها بقايا الحياة، فتعجّب المأمون وقفل راجعاً إلى بلاطه، والتقى بالإمام الجواد (عليه السلام)، وبادره المأمون قائلاً:

(يا محمد ما في يدي؟..).

فأجابه الإمام:

(إنّ الله تعالى خلق في بحر قدرته سمكاً صغيراً تصيده بازات الملوك والخلفاء، كي يختبروا بها سلالة بني المصطفى..).

ولم يملك المأمون إعجابه بالإمام فراح يقول:

(أنت ابن الرضا حقّاً!!).

وأخذه معه، وأحسن إليه، وبالغ في إكرامه[4] وكان هذا الاجتماع أوّل التقاء بين الإمام والمأمون.

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1]  العقد الفريد: ج 3 ص 254.

[2]  المستطرف: ج 2 ص 306.

[3]  الحضارة العربية لجاك س. ريسلر: ص 108.

[4]  نور الأبصار: 146، أخبار الدول: 116، الإتحاف بحب الأشراف: ص 64 بحر الأنساب: ج 2 ص 19 (من مصوّرات مكتبة الإمام أمير المؤمنين).


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page