• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الحياة السياسية

الحياة السياسية

أمّا الحياة السياسية في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) فقد كانت بشعة وحرجة للغاية لا للإمام فحسب وإنّما كانت لعموم المسلمين وذلك لما فيها من الأحداث الجسام، فقد مُنيت الأمة بموجات عارمة من الفتن والاضطرابات، وقبل أن نتحدّث عنها نرى من اللازم ان نعرض لمنهج الحكم في العصر العباسي وغيره ممّا يتصل بالموضوع وفيما يلي ذلك:

منهج الحكم:

أمّا منهج الحكم في العصر العباسي فإنّه كان على غرار الحكم الأموي، لم يتغير ولم يتبدل، وقد وصفه (نكلسون) بأنّه نظام استبدادي، وانّ العباسيين حكموا البلد حكماً مطلقاً على النحو الذي كان يحكم به ملوك آل ساسان قبلهم[1].

لقد كان الحكم خاضعاً لرغبات ملوك العباسيين وأمرائهم، ولم يكن له أي التقاء مع القانون الإسلامي، فقد شذّت تصرّفاتهم الإدارية والاقتصادية والسياسية عمّا قنّنه الإسلام في هذه المجالات.

لقد استبدّ ملوك بني العباس بشؤون المسلمين وأقاموا فيهم حكماً إرهابياً لا يعرف الرحمة والرأفة، وهو بعيد كلّ البعد عمّا شرّعه الإسلام من الأنظمة الخلاّقة الهادفة إلى بسط العدل، ونشر المساواة، والحق بين الناس.

الخلافة والوراثة:

ولم تخضع الخلافة الإسلامية حسب قيمها الأصيلة إلى أي قانون من قوانين الوراثة ولا لأي لون من ألوان المحاباة أو الاندفاع وراء الأهواء والعواطف، فقد حارب الإسلام جميع هذه المظاهر واعتبرها من ألوان الانحطاط والتأخر الفكري للمسلمين، وأناط الخلافة بالقيم الكريمة، والمُثل العُليا، والقدرة على إدارة شؤون الأمة، فمن يتصف بها فهو المرشّح لهذا المنصب الخطير الذي تدور عليه سلامة الأمّة وسعادتها.

أما الشيعة فإنّما خصّت الخلافة بالأئمة الطاهرين من أهل البيت (عليهم السلام) لا لقرابتهم من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وانّهم ألصق الناس به وأقربهم إليه، وإنّما لمواهبهم وعبقرياتهم، وما اتصفوا به من الفضائل التي لم يتصف بها أحد غيرهم.

وأمّا الذين طبّلوا بالوراثة فهم العباسيّون، فاعتبروها القاعدة الصلبة لاستحقاقهم للخلافة لأنّهم أبناء عم الرسول (صلى الله عليه وآله) وقد بذلوا الأموال الطائلة لأجهزة الإعلام لنشر ذلك وإذاعته بين الناس.

وقد هبّت إلى الأوساط العباسي المرتزقة تتقرّب بانتقاص العلويين وتشهد بأنّ ذئاب بني العباس هم أولى بالنبي (صلى الله عليه وآله) من السادة الأطهار من آل الرسول (صلى الله عليه وآله).

ويقول الرواة: إنّ أبان بن عبد الحميد كان مُبعداً عن العباسيين لولائه لأهل البيت (عليهم السلام) فخفّ إلى البرامكة وطلب منهم أن يوصلوه إلى الرشيد فأشاروا عليه انّه لا سبيل إلى ذلك إلاّ أن يعرض في شِعره أنّ بني العباس هم ورثة النبي (صلى الله عليه وآله) وأولى بالخلافة من العلويين فأجابهم إلى ذلك ونظم قصيدة جاء فيها:

نشدت بحقّ الله من كان مسلماً***أعم بما قد قلته: العجم والعرب

أعمّ رسول الله أقرب زلفة***لديه أم ابن العم في رتبة النسب

وأيّهما أولى به وبعهده***ومن ذا له حق التراث بما وجب

فإن كان عباس أحق بنسلكم***وكان على بعد ذاك على سبب

فأبناء عباس هم يرثونه***كما العم لابن العم في الإرث حجب

ولمّا قرأ قصيدته على الرشيد ملئت نفسه إعجاباً فمنحه الرضا ومنحه الأموال الطائلة.

 

تصرّفات شاذّة:

ولمّا التزم العباسيّون بقانون الوراثة، قاموا بتصرفات شاذّة ونابية ومعادية لمصلحة الأمة وكان من بينها:

1 - إسناد الخلافة إلى الذين لم يبلغوا سن الرشد، فقد عهد الرشيد بالخلافة إلى ابنه الأمين، وكان له من العمر خمس سنين، وإلى ابنه المأمون وكان عمره ثلاث عشر سنة.

وقد انحرف بذلك عمّا قرّره الإسلام من أنّ منصب الخلافة إنّما يُسند إلى من كان يتمتع بالحكمة والتجارب، وممارسة الشؤون الاجتماعية والدراية التامة بما تحتاج إليه الأمّة في جميع مجالاتها، وليس من سبيل لإسنادها للأطفال والصبيان.

2 - إسناد ولاية العهد لأكثر من واحد فإنّ في ذلك تمزيقاً لشمل الأمّة وتصديعاً لوحدتها وقد شذّ الرشيد عن ذلك فقد أسند الخلافة من بعده إلى الأمين والمأمون، وقد ألقى الصراع بينهما، وعرّض الأمة إلى الأزمات الحادة، والفتن الخطيرة، وسنعرض لها في البحوث الآتية.

الوزارة:

من الأجهزة الحساسة في الدولة العباسية هي الوزارة، فكانت - على الأكثر - وزارة تفويض، فكان الخليفة يعهد إلى الوزير بالتصرف في جميع شؤون دولته ويتفرغ هو للّهو والعبث والمجون، فقد استوزر المهدي العباسي يعقوب بن داود، وفوّض إليه جميع شؤون رعيّته وانصرف إلى ملذّاته، وفيه يقول الشاعر:

بني أميّة هبّوا طال نومكم***إنّ الخليفة يعقوب بن داود

ضاعت خلافتكم يا قوم***فالتمسوا خليفة الله بين الناي والعود

استوزر الرشيد يحيى بن خالد البرمكي ومنحه جميع الصلاحيات واتجه نحو ملاذّه وشهواته فكانت لياليه الحمراء في بغداد شاهدة على ذلك.

وتصرّف يحيى في شؤون الدولة الواسعة الأطراف حسب رغباته، فقد أنفق الأموال الطائلة على الشعراء المادحين له، واتخذ من العمارات والضِياع التي كانت وارادتها تدرّ عليه بالملايين،وهي التي سببت قيام هارون الرشيد باعتقاله، وقتل ابنه جعفر ومصادرة جميع أموالهم.

وفي عهد المأمون أطلق يد وزيره الفضل بن سهل في أمور الدولة فتصرّف فيها حيثما شاء، وكان الوزير يكتسب الثراء الفاحش بما يقترفه من النهب والرشوات، وقد عانت الأمة من ضروب المحن والبلاء في عهدهم بما لا يوصف فكانوا الأداة الضاربة للشعب، فقد استخدمتهم الملوك لنهب ثروات الناس وإذلالهم وإرغامهم على ما يكرهون.

وكان الوزراء معرّضين للسخط والانتقام وذلك لما يقترفونه من الظلم والجور، وقد نصح دعبل الخزاعي الفضل بن مروان أحد وزراء العباسيين فأوصاه بإسداء المعروف والإحسان إلى الناس، وقد ضرب له مثلاً بثلاثة وزراء ممّن شاركوه في الاسم وسبقوه إلى كرسي الحكم، وهم الفضل بن يحيى، والفضل بن الربيع، والفضل بن سهل، فإنّهم لمّا جاروا في الحكم تعرّضوا إلى النقمة والسخط، يقول دعبل:

ألاّ أنّ في الفضل بن سهل لعِبرة***إن اعتبر الفضل بن مروان بالفضل

وفي ابن البيع الفضل للفضل زاجر***إن ازدجر الفضل بن مروان بالفضل

وللفضل في الفضل بن يحيى مواعظ***إن اتعظ الفضل بن مروان بالفضل

إذا ذكروا يوماً وقد صرت رابعاً***ذكرت بقدر السعي منك إلى الفضل

فابق جميلاً من حديث تفز به***ولا تدع الإحسان والأخذ بالفضل

ولم أرَ أبياتاً من الشعر قبلها***جميع قوافيها على الفضل والفضل

وليس لها عيب إذا هي أنشدت***سوى أنّ نصحي الفضل كان من الفضل

ومن غرائب ما اقترفه الوزراء من الخيانة أنّ الخاقاني وزير المقتدر بالله العباسي ولِّيَ في يوم واحد تسعة عشر ناظراً للكوفة وأخذ من كلّ واحدة رشوة[2] وكثير من أمثال هذه الفضائح والمنكرات عند بعض وزراء العباسيين.

 

الفتنة بين الأمين والمأمون:

لعلّ من أبرز الأحداث السياسية التي جرت في عصر الإمام محمد الجواد (عليه السلام) هي الفتنة الكبرى التي وقعت بين الأمين والمأمون، وأدّت إلى إشعال نار الحرب بينهما، وقد كلّفت المسلمين ثمناً باهضاً وذلك بما بذلوه من الدماء وإزهاق الأنفُس في سبيل استقرار المُلك والسلطان لأحدهما وقبل أن نعرض إلى ذكر هذه الأحداث نُشير - بإيجاز - إلى بعض شؤون الأمين وأحواله:

صفات الأمين:

ولم تكن في الأمين أيّة صفة كريمة يستحق بها هذا المنصب الخطير في الإسلام، فقد أجمع المترجمون له على أنّه لم يتّصف بأية نزعة شريفة، وإنما قلّده الرشيد منصب الخلافة نظراً لتأثير زوجته السيدة زبيدة عليه وفيما يلي بعض صفاته.

1 - كراهته للعلم:

كان الأمين ينفر من العلم، ويحتقر العلماء، وكان أمّياً لا يقرأ ولا يكتب[3] وإذا كان بهذه الصفة كيف قلّده الرشيد الخلافة الإسلامية.

2 - ضعف الرأي:

وكان الأمين ضعيف الرأي، وقد أعطي المُلك العريض ولم يحسن سياسته، وقد وصفه المسعودي بقوله: (كان قبيح السيرة ضعيف الرأي يركب هواه، ويهمل أمره، ويتّكل في جليلات الخطوب على غيره، ويثق بمن لا ينصحه)[4] ووصفه الكتبي بقوله: (وكان قد هانَ عليه القبيح فاتّبع هواه، ولم ينظر في شيء من عقباه. وكان من أبخل الناس على الطعام، وكان لا يبالي أين قعد، ولا مع من شرب)[5].

وممّا لا شبهة فيه أنّ أصالة الفكر والرأي من أهم الشروط التي يجب أن تتوفر فيمن يلي أمور المسلمين.

3 - احتجابه عن الرعيّة:

واحتجب الأمين عن الرعية كما احتجب عن أهل بيته وامرأته وعمّاله واستخفّ بهم[6] وانصرف إلى اللهو والطرب، وقد عهد إلى الفضل بن الربيع أمور دولته، فجعل يتصرف فيها حسب رغباته وميوله، وقد خفّ إلى الأمين إسماعيل بن صبيح، وكان أثيراً عنده، فقال له: يا أمير المؤمنين انّ قوّادك وجُندك وعامة رعيتك، قد خبثت نفوسهم، وساءت ظنونهم وكبر عندهم ما يرون من احتجابك عنهم، فلو جلست لهم ساعة من نهار فدخلوا عليك فإنّ في ذلك تسكيناً لهم، ومراجعة لآمالهم.

واستجاب له الأمين فجلس في بلاطه ودخل عليه الشعراء فأنشدوه قصائدهم، ثمّ انصرف فركب الخراقة إلى الشماسية، واصطفّت له الخيل وعليها الرجال، وقد اصطفّوا على ضفاف دجلة، وحملت معه المطابخ والخزائن، أمّا الخراقة التي ركبها فكانت سفينة على مثال أسد وما رأى الناس منظراً كان أبهى من ذلك المنظر، وقد ركب معه أبو نؤاس وكان ينادمه فقال:

سخّر الله للأمين مطايا***لم تسخّر لصاحب المحراب[7]

فإذا ما ركابه سرن بحراً***سار في الماء راكباً ليث غاب

أسداً باسطاً ذراعيه يعدو***أهرت الشدق كالخ الأنياب[8]

لا يعانيه باللجام ولا السو***ط ولا غمز رجله في الركاب

عجب الناس إذ رؤوك على صو***رة ليث تمرّ مرّ السحاب

سبّحوا إذ رؤوك سرت عليه***كيف لو أبصروك فوق العقاب[9]

ذات زدون منسّر جناحين***تشقّ العباب بعد العباب

تسبق الطير في السماء إذا ما***استعجلوها بجيئة وذهاب

بارك الله للأمين وأبقا***ه له رداء الشباب

ملك تقصر المدائح عنه***هاشمي موفّق للصواب[10]

هذه بعض نزعات الأمين وصفاته، وهي تصوّر لنا إنساناً تافهاً قد اتجه إلى ملذّاته وشهواته ولن يعن بأي شأن من شؤون الدولة الإسلامية.

خلعه للمأمون:

وتقلّد الأمين الخلافة يوم توفى الرشيد، وقد ورد عليه خاتم الخلافة والبردة والقضيب التي يتسلّمها كلّ من يتقلد الخلافة من ملوك العباسيين وحينما استقرت له الأمور خلع أخاه المأمون، وجعل العهد لولده موسى وهو طفل صغير في المهد وسمّاه الناطق بالحق، وأرسل إلى الكعبة من جاءه بكتاب العهد الذي علّقه فيها الرشيد، وقد جعل فيه ولاية العهد للمأمون بعد الأمين، وحينما أتى به مزّقه وكان ذلك - فيما يقول المؤرخون - برأي الفضل بن الربيع وبكر بن المعتمر.

وهذا ليس غريباً عليه فقد اقترف كل ما هو مجاف للأخلاق والأعراف.

الحروب الطاحنة:

وبعدما خلع الأمين أخاه المأمون عن ولاية العهد، وأبلغه ذلك رسمياً ندب إلى حربه علي بن عيسى، ودفع إليه قيداً من ذهب، وقال له: أوثق المأمون، ولا تقتله حتى تقدم به إلَيَّ وأعطاه مليوني دينار سوى الأثاث والكراع، ولمّا علم المأمون ذلك سمّى نفسه أمير المؤمنين، وقطع عنه الخراج، وألغى اسمه من الطراز والدراهم والدنانير، وأعلن الخروج عن طاعته، وندب طاهر بن الحسين، وهرثمة بن أعين إلى حربه، والتقى الجيشان بالري، وقد التحما في معركة رهيبة جرت فيها أنهار من الدماء وأخيراً انتصر جيش المأمون على جيش الأمين، وقتل القائد العام للقوات المسلحة في جيش الأمين، وانتهبت جميع أمتعته وأسلحته، وكتب طاهر ابن الحسين إلى الفضل بن سهل وزير المأمون يخبره بهذا الانتصار الباهر وقد جاء في رسالته (كتبت إليك، ورأس علي بن عيسى في حجري، وخاتمه في يدي والحمد لله ربّ العالمين) ودخل الفضل على المأمون فسلّم عليه بالخلافة، وأخبره بالأمر، وأيقن المأمون بالنصر فبعث إلى طاهر القائد العام في جيشه بالهدايا والأموال، وشكره شكراً جزيلاً على ذلك، وقد سمّاه ذا اليمينين، وصاحب خيل اليدين، وأمره بالتوجه إلى احتلال العراق والقضاء على أخيه الأمين.

 

محاصرة بغداد:

وخفّت جيوش المأمون إلى احتلال بغداد بقيادة طاهر بن الحسين، فحاصرت بغداد، وقد دام الحصار مدة طويلة تخرّبت فيها معالم الحضارة في بغداد، وعمّ الفقر والبؤس جميع سكانها وكثرة العابثون، والشذّاذ فقاموا باغتيال الأبرياء، ونهبوا الأموال وطاردوا النساء حتى تهيأت جماعة من خيار الناس تحت قيادة رجل يقال له سهل بن سلامة فمنعوا العابثين وتصدوا لهم بقوة السلاح حتى أخرجوهم من بغداد[11].

وعلى أي حال فقد منيت بغداد بأفدح الخسائر من جرّاء تلك الفتنة الكبرى، وقد فقدت الكثير من أبنائها، وقد زحفت جيوش المأمون إلى تطويق قصر الأمين، وإلحاق الهزائم بجيشه فلم تتمكّن من الصمود أمام جيش المأمون الذي كان يتمتّع بروح معنوية عالية بالإضافة إلى ما يملكه من العتاد والسلاح.

 

قتل الأمين:

وكان الأمين في تلك المحنة الحازبة مشغولاً بلهوه وطربه، ويقول المؤرّخون: إنّه كان يصطاد سمكاً مع جماعة من الخدم وكان فيهم (كوثر) الذي كان مغرماً به فكانت توافيه الأنباء بهزيمة جنوده، ومحاصرة قصره فلم يعن بذلك، وكان يقول: اصطاد كوثر ثلاث سمكات وما اصطدت إلاّ سمكتين، وهجمت عليه طلائع جيش المأمون فأجهزت عليه، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على رمح وتلا قوله تعالى: (اللهمّ مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممّن تشاء)[12] وقال فيه بعض الشعراء:

إذا غدا ملك باللهو مشتغلاً***فاحكم على ملكه بالويل والخرب

أما ترى الشمس في الميزان هابطة***لما غدا وهو برج اللهو والطرب[13]

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن الخلاف بين الأمين والمأمون، وهو من أعظم الأحداث السياسية في ذلك العصر.

 

خلافة إبراهيم الخليع:

من الأحداث السياسية في ذلك العصر خلافة إبراهيم الخليع الذي لم يترك لوناً من ألوان المجون إلاّ ارتكبه، وكان مدمناً على الخمر في أكثر أوقاته، وقد نصّبه العباسيون خليفة عليهم، وذلك لحقدهم على المأمون وكراهيّتهم له، وقد بايعه الغوغاء، وأهل الطرب من الناس، ومن الطريف أنّ الغوغاء أرادوا منه المال فجعل يسوّفهم، وطال عليهم الأمر فأحاطوا بقصره فخرج إليهم رسوله فأخبرهم أنّه لا مال عنده، فقام بعض ظرفاء بغداد فنادى: (أخرجوا إلينا خليفتنا ليغنّي لأهل هذا الجانب ثلاث أصوات، ولأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات فتكون عطاءً لهم...)[14].

وقد سخر به دعبل في أبيات له، فقد وصفه بأبشع الصفات وجعل مصحفه البربط، ووصفه رسترستين بقوله: (لم تكن له مواهب الحاكم، ولكنّه كان رجلاً سليم الذوق، يهتمّ بالموسيقى والغناء)[15].

 

هربه:

وزحف المأمون بجيوشه نحو بغداد للقضاء على تمرّد إبراهيم، فلمّا علم ذلك هرب، وهرب من كان يعتمد على نصرته، وقال في هجائهم:

فلا جزيت بنو العباس خيراً***على رغمي ولا اغتبطت بري

أتوني مهطعين وقد أتاهم***بواد الدهر بالخبر الجلي

وقد ذهل الحواضن عن بنيها***وسد الثدي عن فمه الصبي

وحلّ عصائب الأملاك منها***فشدّت في رقابي بني علي

فضجّت أن تشدّ على رؤوس***تطالبها بميراث النبي[16]

وظلّ إبراهيم مختفياً في بغداد يطارده الرعب والخوف، وقد ظفر به المأمون فعفا عنه لأنّه لم يكن له أي وزن سياسي حتى يخشى منه.

 

ثورة أبي السرايا:

من أعظم الثورات الشعبية التي حدثت في عصر الإمام أبي جعفر (عليه السلام) هي ثورة أبي السرايا التي استهدفت القضايا المصيرية لجميع الشعوب الإسلامية، فقد رفعت شعار الدعوة إلى (الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)) الذين هم الأمل الباسم للمضطهدين والمحرومين، وكادت أن تعصف هذه الثورة بالدولة العباسية، فقد استجاب لها معظم الأقطار الإسلامية، فقد كان قائدها الملهم أبو السرايا ممّن هذّبته الأيام، وحنّكته التجارب، وقام على تكوينه عقل كبير، فقد استطاع بمهارته أن يجلب الكثير من أبناء الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) ويجعلهم قادة في جيشه، ممّا أوجب اندفاع الجماهير بحماس بالغ إلى تأييد ثورته والانضمام إليها إلاّ أنّ المأمون قد استطاع بمهارة سياسية فائقة أن يقضي على هذه الحركة، ويقبرها في مهدها، فقد جلب الإمام الرضا (عليه السلام) إلى خراسان، وأرغمه على قبول ولاية العهد، وأظهر للمجتمع الإسلامي أنّه علوي الرأي، فقد رفق بالعلويّين، وأوعز إلى جميع أجهزة حكومته بانتقاص معاوية والحطّ من شأنه، وتفضيل الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على جميع صحابة النبي (صلى الله عليه وآله) فاعتقد الجمهور أنّه من الشيعة واستطاع بهذا الأسلوب الماكر أن يتغلّب على الأحداث ويخمد نار الثورة كما ألمحنا إلى ذلك في بعض فصول هذا الكتاب.

هذه بعض الثورات التي حدثت في عصر الإمام محمد الجواد (عليه السلام) وهي تحكي عن عدم استقرار الوضع السياسي في ذلك العصر.

مبايعة العباسيين للعلويين:

ولم يشك أحد من المسلمين أن أهل البيت أولى بالخلافة وأحقّ بها من العباسيين، كما أن العباسيين كانوا لا يرون أنهم أهل للخلافة مع وجود العلويّين وقد بايعوا بالإجماع الزعيم العلوي الكبير محمد ذا النفس الزكية، فقد اجتمعوا بالأبواء مع العلويين، فانبرى صالح بن عليّ فقال لهم:

(إنّكم القوم الذين تمتدّ إليهم أعين الناس فقد جمعكم الله في هذا الموضع فاجتمعوا على بيعة أحدكم، وتفرّقوا في الآفاق، فادعوا الله لعلّه أن يفتح عليكم وينصركم..).

وبادر المنصور الدوانيقي فدعاهم إلى بيعة محمد الذي تؤيّده جميع القوى الإسلامية في ذلك العصر، فقال:

(لأي شيء تخدعون أنفسكم، والله لقد علمتم ما الناس أصور - أي أميل - أعناقاً، ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى - وأشار إلى محمد بن عبد الله - ..).

وصدقوا جميعاً مقالته قائلين بلسان واحد:

(والله صدقت إنّا نعلم هذا..).

وبادر العلويّون والعباسيون إلى بيعة محمد، وكان ممّن بايعه السفاح والمنصور[17] وكان أشدهم اندفاعاً في خدمته والتملّق إليه المنصور الدوانيقي فكان يأخذ بركابه، ويسوّي عليه ثيابه، ويقول:إنه مهدينا أهل البيت[18].

وكانت بيعة المنصور لمحمد موضع وفاق، فقد جيئ بعثمان بن محمد الزبيري أسيراً إلى المنصور بعد فشل ثورة محمد، فصاح به المنصور.

(يا عثمان أنت الخارج عليَّ مع محمد..).

فأجابه عثمان بمنطق الأحرار، وهو ساخر من الحياة، وهازئ بالموت قائلاً: (بايعته أنا وأنت بمكّة فوفيت ببيعتي، وغدرت ببيعتك..).

وكانت هذه الكلمات كالصاعقة على رأس الطاغية فشتمه إلاّ أن عثمان لم يعن به وأجابه بالمثل، فأمر السفاك بقتله، فقتل[19] ويذكر أبو فراس الحمداني في شافيّته نكث العباسيين لبيعتهم للعلويين بقوله:

بئس الجزاء جزيتم في بني حسن***أباهم العلم الهادي وأمّهم

لا بيعة ردعتكم عن دمائهم***ولا يمين ولا قربى ولا ذمم

لقد بايع العباسيون بالإجماع العلوي الثائر محمد ذا النفس الزكية إلاّ أنهم نكثوا بيعتهم، وخاسوا بعدهم فقتلوه وقتلوا كلّ من كان متّصلاً به من العلويّين وغيرهم.

 

اختلاس العباسيين للسلطة:

واختلس العباسيون السلطة من العلويين، فقد أوعزوا إلى دعاتهم في بداية الثورة برفع شعار الدعوة إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، وأن يموهوا بكلّ حذر على الجماهير بأنّ الخلافة بأنّ الخلافة لأهل البيت (عليهم السلام)، ولا نصيب فيها لغيرهم، وفي سبيل هذه الدعوى الغالية ضحّى المسلمون بأفلاذ أكبادهم، فقد أيقن المسلمون وآمنوا أنّ لا منقذ لهم، ولا محرّر لهم من جور الأمويّين وظلمهم سوى أهل البيت حماة العدل، ودعاة الحقّ في الإسلام، يقول السيد مير علي: (وكانت كلمة أهل البيت هي السحر الذي يؤلّف بين قلوب مختلف طبقات الشعب، ويجمعهم حول الراية السوداء..)[20].

وتستّر العباسيون تحت هذا الظلال الوارف الذي جمع ما بين العواطف والمشاعر وأخذوا يردّدون الشعارات التي تردّدها الجماهير وهي أن لا حاكم للمسلمين سوى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) وانطلقت الأمة في مسارها وهي تدكّ حصون الظالمين وتبيد دعاتهم وجيوشهم، ولمّا تمّ النصر وإذا بالعبّاسيين قد زحفوا إلى دست الحكم واحتلّوا منصب أهل البيت (عليهم السلام) وسرقوا جهود الجماهير.

 

خيبة آمال المسلمين:

وخابت آمال المسلمين حينما تسلم العباسيون قيادة الأمة، فلم تتغير أيّة جهة من معالم السياسة الأمويّة، فقد عاد الجور، وانفتح باب الظلم على مصراعيه يقول الدكتور أحمد محمود صبحي: (ولكن ذلك المثل الأعلى للعدالة والمساواة الذي انتظره الناس من العباسيين قد أصبح وهماً من الأوهام، فشراسة المنصور والرشيد وجشعهم، وجور أولاد علي بن عيسى وعبثهم بأموال المسلمين يذكّرنا بالحجّاج وهشام ويوسف بن عمر الثقفي، وعمّ الاستياء أفراد الشعب بعد أن استفتح عبد الله المعروف بالسفاح، وكذلك المنصور بالإسراف في سفك الدماء على نحو لم يعرف من قبل)[21] وقد صوّر شعراء ذلك العصر مدى خيبة المسلمين وضياع آمالهم في الحكم العباسي، يقول أبو عطاء السندي:

يا ليت جور بني مروان عاد لنا***يا ليت عدل بني العباس في النار

وقال عطاء يذكر ارتفاع الأسعار:

بني هاشم عودوا إلى نخلاتكم***فقد قام سعر التمر صاعاً بدرهم

وقال أحمد بن أبي نعيم:

لا أحسب الجور ينقضي وعلى الأ***مّة والٍ من آل عبّاس

وقال أبو دلامة في المنصور:

وكنّا نرجي من أمير زيادة***فزاد لنا فيها بطول القلانس

وقال سليم العدوي:

حتى متى لا نرى عدلاً نسر به***ولا نرى لولاة الحقّ أعوانا

مستمسكين بحقّ قائمين به***إذا تلوّن أهل الجور ألوانا

ياللرجال لداء لا دواء له***وقائد ذي عمى يقتاد عميانا

ويقول دعبل الخزاعي:

ألم تر للأيام ما جر جورها***على الناس من نقض وطول شتات

ومن دول المستهترين ومن غدا***بهم طالباً للنور من الظلمات

وقال سديف:

إنّا لنأمل أن ترتد الفتنا***بعد التباعد والشحناء والإحن

وتنقضي دولة أحكام قادتها***فينا كأحكام قوم عابدي وثن

ولمّا سمع الطاغية المنصور بهذين البيتين كتب إلى عامله عبد الصمد أن يدفنه حيّاً ففعل[22].

لقد انهارت الأماني التي كانت تأمل بها الشعوب الإسلامية، وتبدّدت أحلامهم إلى سراب، فقد كان الحكم العبّاسي قائماً على الجبروت والطغيان، ومتعطّشاً إلى سفك الدماء، وربّما كانت معالم الحياة السياسية في العهد الأموي خيراً منها بكثير في العهد العباسي الأوّل فقد كانت لبني أمية من الفواضل ما لم تكن للمنصور الدوانيقي السفاك على حدّ تعبير الإمام الصادق (عليه السلام).

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1]  اتّجاهات الشعر العربي: ص 49.

[2]  تاريخ التمدّن الإسلامي: ج 4 ص 182.

[3]  السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي: ج 1 ص 16.

[4]  التنبيه والإشراف: ص 302.

[5]  عيون التواريخ: ج 3 ورقة 212.

[6]  سمط النجوم: ج3 ص 306.

[7]  صاحب المحراب: هو سليمان بن داود الذي بنى بيت المقدس.

[8]  هرت الشدق: واسعه. كالخ الأنياب: كاشرها.

[9]  العقاب: إحدى السفن التي كانت معدّة للأمين.

[10]  أبو نؤاس لابن منظور: ص 103 - 104.

[11]  اتّجاهات الشعر العربي: ص 73.

[12]  عيون التواريخ: ج 3 ورقة 211.

[13]  حياة الحيوان للدميري: ج 1 ص 78.

[14]  الأغاني.

[15]  دائرة المعارف الإسلامية البريطانية: ج 1 ص 140.

[16]  التنبيه والأشراف: ص 303. الولاة والقضاة: ص 168.

[17]  مقاتل الطالبيين.

[18]  مقاتل الطالبيين.

[19]  تاريخ ابن الأثير.

[20]  رواح الإسلام: ص 308.

[21]  نظرية الإمامة: ص 381.

[22]  العمدة لابن رشيق: ج 1 ص 75 - 76.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page