الهيات
أمر الخلق بالإقرار[1]
إن سأل سائل فقال: أخبرني هل يجوز أن يكلّف الحكيم عبده فعلاً من الأفاعيل لغير علّة ولا معنا؟
قيل له: ﻻ يجوز ذلك، لأنّه حكيم غير عابث ولا جاهل.
فإن قال قائل: فأخبرني لم كلّف الخلق؟
قيل: للعلل.
فإن قال: فأخبرني عن تلك العلل معروفة موجودة هي، أم غير معروفة ولا موجودة؟
قيل: بل هي معروفة موجودة عند أهلها.
فإن قال قائل: أتعرفونها أنتم، أم ﻻ تعرفونها؟
قيل لهم: منها ما نعرفه، ومنها ما ﻻ نعرفه.
فإن قال قائل: فما أوّل الفرائض؟
قيل: الإقرار بالله وبرسوله وحجّته وبما جاء من عند الله.
فإن قال قائل: لم أمر الخلق بالإقرار بالله وبرسوله وحجّته وبما جاء من عند الله عزّ وجلّ؟
قيل: لعلل كثيرة، منها: أنّ من لم يقرّ بالله عزّ وجلّ لم يتجنّب معاصيه، ولم ينته عن ارتكاب الكبائر، ولم يراقب أحداً فيما يشتهي ويستلذّ من الفساد والظلم، فإذا فعل الناس هذه الأشياء وارتكب كلّ انسان ما يشتهي ويهواه من غير مراقبة لأحد كان في ذلك فساد الخلق أجمعين، ووثوب بعضهم على بعض، فغصبوا الفروج والأموال، وأبا حوا الدماء والسبي، وقتل بعضهم بعضاً من غير حقّ ولا جرم، فيكون في ذلك خراب الدنيا وهلاك الخلق وفساد الحرث والنسل.
ومنها: أنّ الله عزّ وجلّ حكيم، ولا يكون الحكيم ولا يوصف بالحكمة إلاّ الّذي يحظر الفساد ويأمر بالصلاح، ويزجر عن الظلم، وينهى عن الفواحش، ولا يكون حظر الفساد والأمر بالصلاح والنهي عن الفواحش إلاّ بعد الإقرار بالله عزّ وجلّ ومعرفة الآمر والناهي، فلو ترك الناس بغير إقرار بالله ولا معرفة لم يثبت أمر بصلاح ولا نهي عن فساد، إذ ﻻ آمر ولا ناهي.
ومنها: أنّا قد وجدنا الخلق قد يفسدون بامور باطنة مستورة عن الخلق، فلولا الإقرار بالله عزّ وجلّ وخشيته بالغيب لم يكن أحد إذا خلا بشهوته وإرادته يراقب أحداً في ترك معصية وانتهاك حرمة وارتكاب كبير إذا كان فعله ذلك مستوراً عن الخلق بغير مراقب لأحد، وكان يكون في ذلك هلاك الخلق أجمعين، فلم يكن قوام الخلق وصلاحهم إلاّ بالإقرار منهم بعليم خبير يعلم السرّ وأخفى، آمر بالصلاح، ناه عن الفساد، ولا يخفى عليه خافية، ليكون في ذلك انزجار لهم يخلون به من أنواع الفساد.
فإن قال قائل: فلم وجب عليهم الإقرار والمعرفة بأنّ الله تعالى واحد أحد؟
قيل: لعلل، منها: أنّه لو لم يجب ذلك عليهم لجاز لهم أن يتوهّموامدبّرين أو أكثر من ذلك وإذا جاز ذلك لم يهتدوا إلى الصانع لهم من غيره، لأنّ كلّ إنسان منهم ﻻ يدري لعلّه انّما يعبد غير الذي خلقه، ويطيع غير الذي أمره، فلا يكونوا على حقيقة من صانعهم وخالقهم، ولا يثبت عندهم أمر آمر، ولا نهي ناه، إذ ﻻ يعرف الآمر بعينه، ولا الناهي من غيره.
ومنها: أن لوجاز أن يكون اثنين لم يكن أحد الشريكين أولى بأن يعبدو يطاع من الآخر، وفي إجازة أن يطاع ذلك الشريك إجازة أن ﻻ يطاع الله، وفي أن ﻻ يطاع الله عزّ وجلّ الكفر بالله وبجميع كتبه ورسله وإثبات كلّ باطل وترك كلّ حقّ، وتحليل كلّ حرام، وتحريم كلّ حلال، والدخول في كلّ معصية، والخروج من كلّ طاعة، وإباحة كلّ فساد وإبطال كلّ حق.
ومنها: انّه لو جاز أن يكون أكثر من واحد لجاز لإبليس أن يدّعي أنّه ذلك الآخر حتّى يضادّ الله تعالى في جميع حكمه، ويصرف العباد إلى نفسه فيكون في ذلك أعظم الكفر وأشدّ النفاق.
فإن قال قائل: فلم وجب عليهم الإقرار بالله بأنّه ليس كمثله شيء؟
قيل: لعلل، منها، لأن يكونوا قاصدين نحوه بالعبادة والطاعة دون غيره، غير مشبه عليهم ربّهم وصانعهم ورازقهم.
ومنها: أنّهم لولم يعلموا أنّه ليس كمثله شيء لم يدروا لعلّ ربّهم وصانعهم هذه الأصنام الّتي نصبها لهم آباؤهم، والشمس والقمر والنيران، إذا كان جائزاً أن يكون مشبهاً، وكان يكون في ذلك الفساد، وترك طاعاته كلّها، وارتكاب معاصيه كلّها على قدر ما يتناهى إليهم من أخبار هذه الأرباب وأمرها ونهيها.
ومنها: أنّه لولم يجب عليهم أن يعرفوا أنّه ليس كمثله شيء لجاز عندهم أن يجري عليه ما يجري علىالمخلوقين من العجز والجهل والتغيّر والزوال والفناء والكذب والإعتداء، ومن جازت عليه هذه الأشياء لم يؤمن فناؤه ولم يوثق بعدله ولم يحقّق قوله وأمره ونهيه ووعده ووعيده وثوابه وعقابه، وفي ذلك فساد الخلق وإبطال الربوبيّة.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] - علل الشرائع 1/251 - 256، ب 182، ح 9: حدّثني عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس النيسابوري العطّار، قال: حدّثني أبوالحسن علي بن محمّد بن قتيبة النيسابوري، قال: قال أبو محمّد الفضل بن شاذان النيسابوري:...