السلوك القدوة
سلوكه في مظهره
ممّا لا نزاع فيه عند أحد ممن قرأ التاريخ وعرف سيرة أهل بيت العصمة أنّهم أبعد الناس عن الكبرياء والتعالي على الناس وأنّهم كانوا بمظهرهم الخارجي يمثّلون الإنسان المتواضع البسيط غير أنّهم من ناحية أخرى يرفضون أن يفسّروا الزهد على طريقة المتصوفين بتشعيث اللمّة ولبس الأرذل من الثياب وأكل الجشب من الطعام، فهم يرون أفضل الزهد إخفاء الزهد والنعم التي ينعم بها ربّ العباد، يجب أن تظهر على المنعم عليه بشكل واضح وملموس وإلاّ عدّ غير شاكر لنعمائه سبحانه وتعالى.
ويرون أنّ الدنيا إذا أقبلت أحقّ بها أبرارها لا فجّارها، ومؤمنوها لا منافقوها. والإمام الرضا (عليه السلام) هو فرد من أفراد هذه الثلة الطاهرة والذي عرف بعظيم تواضعه وكبير حلمه وواسع علمه.
قال الآبي في (كنز الدرر):
دخل على الرضا بخراسان قوم من الصوفية فقالوا له: أمير المؤمنين نظر فيما ولاّه الله تعالى من الأمر فرآكم أهل البيت أولى الناس بالناس بأن تؤمّوا الناس، ونظر فيكم أهل البيت فرآك أولى الناس بالناس فرأى أن يرد الأمر إليك والأمّة تحتاج إلى من يلبس الخشن ويأكل الجشب ويركب الحمار ويعود المريض.
قال: وكان الرضا متكئاً، فاستوى جالساً ثم قال: كان يوسف نبيّاً يلبس أقبية الديباج المزررة بالذهب ويجلس على متكآت آل فرعون، ويحكم؟! إنّما يراد من الإمام قسطه وعدله، إذا قال صدق وإذا حكم عدل وإذا وعد أنجز إنّ الله لم يحرم لبوساً ولا مطعماً ثم تلا قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (23).
وقيل للإمام الجواد: ما تقول في المسك؟
فقال: إنّ أبي أمر فعمل له مسك في بان يسيع مائة درهم فكتب له الفضل بن سهيل يخبره: إنّ الناس يعيبون ذلك فكتب إليه: (يا فضل أما علمت أن يوسف وهو نبي كان يلبس الديباج مزرراً بالذهب على كراسيّ الذهب فلم ينقص ذلك من حكمته شيئاً قال: ثم أمر فعملت له غالية بأربعة آلاف درهم) (24).
وبذلك يثبت الإمام أنّ المظهر الخارجي للزهد لا علاقة له بواقع الزهد بل ربما يكون ذلك زيفاً يحاول الإنسان أن يلفت به لنفسه انتباه الآخرين ومن هنا كان الإمام الرضا وغيره من الأئمة لا يرون بأساً في الظهور بمظهر العزة في اللباس والمأكل مادام ذلك لا يصطدم مع واقع الزهد الذي هو بناء النفس من الداخل على رفض الدنيا وفتنتها باعتبارها عرضا زائلاً لا بقاء له وهذا لا يمنع من أن ينال المؤمن من طيباتها بالوجه الذي أحلّه الله ولم يخلق الله الطيبات في الدنيا لينعم بها الكافر ويحرم منها المؤمن بل المؤمن أولى بنعم الله عندما يهب نفسه لله ويبذلها في سبيله.
ويحدثنا بن عباد عن طبيعة السلوك الزهدي للإمام الرضا فيقول: وكان جلوس الرضا (عليه السلام) في الصيف على حصير وفى الشتاء على مسح، ولبسه الغليظ من الثياب حتى إذا برز للناس تزين لهم (25).
فهو حين يخلو لنفسه ويبتعد عن واقع الحياة العامة تنسجم روحه مع طبيعة الرفض للزيف المتمثل في بهارج هذه الدنيا وزينتها، أمّا حين يبرز للناس فإنّه يتزين لهم انسجاماً مع ما فطروا عليه من الاهتمام بمظاهر هذه الدنيا والتمتع بطيباتها.
وهذا السلوك الزهدي الواقعي للإمام يعطينا المثال الرائع على واقعية أهل البيت في نظرتهم الصافية للحياة الخالية من كل شائبة زيف أو خداع.