«خراب بغداد بعد عمارتها»([1])
بغداد عاصمة العراق عُمِّرت في زمان المستعصم العبّاسي، وخُرِّبت بفتنة هولاكوخان المغولي بعد أن كثر عمارها وزاد ظلم ملوكها والنّاس على دين ملوكهم.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في بغداد: «ويل لكِ يا بغداد ولدارك العامرة التي لها أجنحة الطواويس تُماثين كما يُماث الملح»، وها هي بغداد عُمِّرت بعد ذلك الخراب، بعماراتها ودورها وقصورها وشوارعها وحدائقها وأسواقها ومحلاتها ومدارسها ومعاهدها وساكنيها، وخرجت منها طينة الجبّارين، فطغوا في البلاد، وأكثروا الفساد، فأزهقوا النفوس، وقتلوا الأبرياء، وهتكوا الأعراض، وأخافوا النّاس، فغلت الأسعار، وكثر المديح، وأخذت البلاد زخرفها وتزيّنت ظاهرها، وخرب باطنها بالحكّام الظلمة والوزراء الفسقة والقادة الخونة، فتداعت عليه الأُمم وأمطرتها حمماً بآلاف الأطنان، وخربت البنية التحتيّة من مشاريع الماء والكهرباء، فعاش النّاس في ظلام دامس وخوف شديد ورعب فضيع وموت سريع، ولا زالت ومنذ أكثر من سنة تعاني من وطأة بني قنطوراء، جيوش جرّارة ترتدي الحديد وتحمل السلاح الجديد، لا ترحم شيخاً ولا ترأف لطفل رضيع، تنهب الخيرات وتزرع الشقاق بين النّاس لتبقى حالة القلق والإضطراب والحاجة إلى الأمن لتبقى هي الأُخرى أكثر وقتاً تسحب النفط وتُذّل النّاس، وتسرق المعادن الثمينة، وتخطف العلماء والأحرار مقيَّدين إلى بلاد الكفر والنفاق، وتسرق الآثار والمخطوطات وتهين هذا وذاك بحجج واهية، وهذا بما كسبت أيدي النّاس، من سوء ما هم عليه من أخلاق ومبادي مستوردة...
خربت بغداد من نواح كثيرة وهي في طريقها إلى الخراب، فالنفاق كثير، وحبّ المال والدنيا أكثر، وكلّ مَن استلم الحكم لا يفكّر إلاّ في نفسه كيف وكم يسرق؟ وأين يودع مسروقاته؟ وكم يقتل حتّى يكون مقرّباً عند أسياده، ولا أمان ولا خلاص إلاّ بالعودة إلى الدّين ونصرة ربِّ العالمين: (إنْ تَنْصُروا اللهَ يَنْصُركُم وَيُثَبِّت أقْدَامَكُم)([2]).
فقد جرّبنا الشرق والغرب، ولم نرَ إلاّ الدمار، وجرّبنا المبادي المستوردة ولم نرَ إلاّ الفرقة والفساد والقتل والإقتتال وسرقة خيرات العراق.
نعم، خربت بغداد على عهد هولاكو وحتّى قيل: كانت هاهنا بغداد، اليوم تخرب بغداد بهذه الفتن، حتّى يمرّ المارّ بها فيقول: كانت هاهنا بغداد، وفي رواية: كانت هاهنا الزوراء، والزوراء اسم اسم من أسماء بغداد فدار الظالم كما قيل خراب.
فمع هذه القنابل الشديدة الإنفجار، ومع تعدّد الأحزاب، والحكومات الطامعة في خيرات العراق يمكن أن نرى ما لا نتصوّره من خسف وقتل وضيق وظلم وافتراء وكلّ ما نرى مقدّمات دمار السفياني، وعلى يده يتمّ الدمار والخراب.
بحيث تكون لها نهاية مأساويّة، والأفضل لسُكّان بغداد النزوح منها وإلاّ فالمصير الأسود ينتظرهم، بغداد عمرت حتّى أنَّنا كنّا نقول: وهل مثلها مدينة؟
بحيث كثر سُكّانها والعاملون فيها من غير التزام، ولا اعتبار، للكتاب والسُّنة، غير العمل بمبادي الأحزاب الهدّامة المستوردة، الكذب والنفاق، وشرب الخمور، والزنا والسفور، وقتل الأنفس البريئة، والسجون والمعتقلات، والسرقة لأموال النّاس وبيت المال، والضرب بيد من حديد لكلِّ مَن لا يعمل معهم، ويؤيّدهم، ويغرق في بحر جرائمهم،نعم إنَّ ما يحلّ من الخسائر بالرايات المختلفة سيكون سبباً في دمار بغداد، وموت أهل بغداد، وسينزل إليها رجال من الجبال قلوبهم كزبر الحديد ونفوسهم جُبلت على الثأر والإنتقام، يرون منهم الويل والثبور، قتلاً وتخريباً وسلباً، حتّى يمرّ المارّ عليها فيقول: هيهات كانت هذه أرض بغداد... إنَّه وعد مكتوب وأمر محتوم، لأنَّهم ظلموا فيُظلمون، وقتلوا الأبرياء فيُقتلون، وخربوا بلاد الجوار فتُخرب بلادهم!
(وَسَيَعْلَمُ الذِينَ ظَلَمُوا أيَّ مُنْقَلَب يَنْقَلِبُونَ)([3]).
--------------------------------------------------------------------------------
([1]) بيان الأئمّة (عليهم السلام)، الشيخ محمَّد مهدي زين العابدين، ج 6، ص: 159، دار الغدير.
([2]) محمَّد / 7.
([3]) الشعراء / 227.
