• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الفصل الرابع - دور الإمام الرضا عليه السلام في صيانة الفكر الإسلامي

إن الإسلام كفكر أصيل قد وضعت أسسه واتضحت معالمه وتشخصت أركانه في عصر الرسالة ، وعليه فهو ليس بحاجة إلى صياغة جديدة وإنما بحاجة ماسة إلى قراءة تجلّي صورته الأصلية وفق رؤية واضحة ، خصوصا بعد أن ظهرت الفرق والمذاهب وهبّت تيارات فكرية دخيلة أثّرت على نقاء العقيدة وغدا الفكر الإسلامي فسيفساء عجيبة من الاتجاهات المتناقضة والمتنافرة.
وبطبيعة الحال فان الإمام المعصوم بما يتصف به من عصمة على صعيد الفكر والسلوك ، وبما يمتلكه من عمق علمي ، هو المؤهل للعمل على تقديم هذه القراءة المطلوبة لتنقية المعارف الإسلامية من الشوائب والشبهات التي علقت بها من جراء المَسْلَكَين الانحرافي ، والتحريفي ويمثل المسلك الانحرافي التيارات الفكرية التي تناقض العقيدة الإسلامية بشكل مباشر ، كالإلحاد والزندقة والغلو والتناسخ ، أما المسلك التحريفي فتمثله التيارات المحسوبة على الإسلام والتي تحرف عن عمد أو غير عمد مضمون العقيدة الإسلامية الصافي ، كالتجسيم ، والتشبيه ، والجبر ، والتفويض ، والإرجاء. فنحن إذن أمام عب ء دونه زحزحة الجبل.
لقد انحسر جانب كبير من قيم وتعاليم الإسلام في واقع الأُمة الثقافي والأخلاقي والسياسي في عصر الامويين والعباسيين ، وأخذ هذا الانحسار يرسّخ جذوره في عمق الواقع الحياتي للأُمة ، وامتدت تأثيراته في مساحات كبيرة من مجتمع المسلمين ، وبدأ المسخ الحضاري لهوية الأُمة. وقد أصاب القيم الإسلامية اهتزاز كبير وتعرضت روحية الأُمة إلى هبوط واضح ، ووجدت القيم الجاهلية لها مرتعا خصبا في ظل الحكومات المنحرفة.
في ظل هذا الواقع وجد الأئمة عليهم‌السلام أنفسهم أمام مسؤولياتهم الرسالية الكبيرة وعلى رأسها صيانة الفكر الإسلامي من خلال التصدي للتيارات الفكرية ذات الصبغة الانحرافية والتحريفية.
وتجدر الإشارة إلى أن الأدوار التي مارسها الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام في مختلف المراحل ، ليست هي مواقف ارتجالية انفعالية لمواجهة تحديات طارئة ، بقدر ماهي أدوار تنطلق من تشخيص دقيق للظروف الموضوعية التي تمر بها الحالة الإسلامية على كل المستويات.
وغني عن القول أن العوامل السياسية المتغيرة والضاغطة ودرجة وعي الأُمة في كل مرحلة أو مقطع زماني هي من العوامل الأساسية في تنوع أدوار الأئمة تجاه الأمة ، وإن كانت هناك أدوار مشتركة بينهم عليهم‌السلام.
لقد استطاع الإمام الرضا عليه‌السلام أن يستغل فترة التحول السياسي الذي أحدثه المأمون في مسار السياسة العباسية تجاه أهل البيت عليهم‌السلام من أجل إحداث نقلة نوعية على صعيد الفكر الإسلامي وأن يخرجه من قفص التقليد والجمود السائد ، بعد أن سد الساسة وعلماء البلاط على الناس منافذ الرؤية السليمة للإسلام من خلال أفكار الجبر والإرجاء ، وحرفوا أذهانهم عن التوحيد الحقيقي بفعل التجسيم والتشبيه وما شابه ذلك. لذلك أراد الإمام عليه‌السلام أن يضبط عدسة رؤيتهم على منظور سليم للإسلام مستغلاً الانفتاح الثقافي الذي حدث في عصر المأمون وتشجيعه الحركة الثقافية بمختلف تياراتها واتجاهاتها.
وكان المأمون يستبطن غرضا شخصيا ذا صبغة سياسية ، فقد حرص على انقطاعه عن الحُجَّة أمام متكلمي الأديان والمذاهب الذين جلبهم من كل حدب وصوب من أجل توهين الإمام عليه‌السلام أمام العلماء والرأي العام ، قال الشيخ الصّدوق : كان المأمون يجلب على الرضا عليه‌السلام من متكلمي الفرق والأهواء المضلَّة كلَّ من سمع به حرصا على انقطاع الرضا عليه‌السلام عن الحُجَّة مع واحد منهم ، وذلك حسدا منه له ولمنزلته من العلم ، فكان عليه‌السلام لا يكلم أحدا إلاّ أقرَّ له بالفضل والتزم الحُجَّة له عليه (١).
ولكن إمامنا واجه التحدي وشمر عن ساعد الجد ، وحاجج رؤساء الأديان والملل في ذلك الزمان ، ومن خلال عملية مطارحة الأفكار أذعن قادة الفكر الآخر للأدلة العلمية القاطعة التي أوردها الإمام عليه‌السلام حتى أن البعض قد أشهر إسلامه ، كعمران الصابى ء. وسوف نستعرض نماذج من مناظراته مع أهل الأديان والعقائد المختلفة أولاً ، ثم نستعرض ثانيا حواراته مع أهل الإسلام ، والتي قدم من خلالها قراءة جديدة لقضايا شائكة كانت وما زالت موضع سجال بين علماء المسلمين ، كقضايا عصمة الأنبياء والإمامة والبداء.


المبحث الأول : حواراته عليه‌السلام مع أهل الأديان والملل والعقائدالمختلفة
اتّخذ الإمام الرضا عليه‌السلام من الحوار الهادف ، المبني على الدليل ، وسيلة إلى الإقناع ، وكان حواره عليه‌السلام مع أهل الأديان والعقائد المختلفة حوارا مفتوحا ، وذلك من خلال المناظرات التي عقدها معهم ، وسعى من خلالها على إطلاق العقول من عقال الجهل والحيرة والضلالة. ولعل أهم شاهد نسوقه في هذا المجال مجلس الإمام الرضا عليه‌السلام مع أهل الأديان وأصحاب المقالات مثل الجاثليق ورأس الجالوت وعمران الصابى ء والهربذ الأكبر ، في التوحيد ، عند المأمون ، ودار الحوار فيها حول مواضيع عقائدية حساسة ، وقد استطاع الإمام الرضا عليه‌السلام تحقيق النتائج التالية :

أولاً : إثبات نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتب السماوية
تتبدّى لنا عظمة وعلمية الإمام الرضا عليه‌السلام وكونه حجة للّه على عباده من خلال معرفته الكاملة بالكتب السماوية ، وحفظه التام لمتونها واطلاعه الدقيق على ما تتضمنه من نصوص تثبت نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث لا يسعهم انكارها والتنصل منها ، يتضح لنا ذلك من المناظرة التي جرت بمحضر المأمون وبطلب منه بين الإمام الرضا عليه‌السلام وبين الجاثليق النصراني ورأس الجالوت اليهودي ، وقد طلب الجاثليق من الإمام الرضا عليه‌السلام بعد كلام بينهما أن يقيم شاهدي عدل على ما يقوله في إثبات نبوّة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : فأقم شاهدين من غير أهل ملّتك على نُبوة محمد ممن لا تنكرهُ النَّصرانيةُ ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « الآن جئتَ بالنَّصَفة يا نصرانيُ ، ألا تقبل مني العدل المقدم عند المسيح بن مريم؟ ».
قال الجاثليق : ومن هذا العدلُ؟ سمِّه لي. قال : « ما تقول في يوحنا الدَّيلمي؟! » قال : بخٍ بخٍ ، ذكرت أحبَّ النّاس إلى المسيح.
قال : « فأقسمتُ عليك هل نطق الإنجيل أنَّ يوحنّا قال : إنَّ المسيح أخبرني بدينِ محمد العربي وبشّرني به أنّه يكونُ من بعده فبشرتُ به الحواريين فآمنوا به؟! » قال الجاثليقُ : قد ذكر ذلك يوحنّا عن المسيح وبشّر بنبوةِ رجلٍ وبأهل بيته ووصيه ، ولم يُلخِّص متى يكون ذلك ولم يُسمِّ لنا القوم فنعرفهم ، قال الرِّضا عليه‌السلام : « فإن جئناك بمن يقرءُ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته واُمته أَتُؤمن به؟! » قال : سديدا.
قال الرِّضا عليه‌السلام لقسطاس الرُّوميِ : « كيف حفظك للسِّفر الثالث من الإنجيل؟ ».
قال : ما أحفظني له! ثمَّ التفت إلى رأس الجالوت فقال له : « ألست تقرءُ الإنجيل؟! » قال : بلى لعمري. قال : « فخُذ على السِّفر الثالث ، فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته واُّمته سلام اللّه عليهم فاشهدوا لي » وإن لم يكن فيه ذكرهُ فلا تشهدوا لي ، ثم قرأ عليه‌السلام السِّفر الثالث حتّى إذا بلغ ذكر النبيِ عليه‌السلام وقف ، ثم قال : « يا نصراني إنِّي أسألك بحق المسيح واُمّه أتعلم أنِّي عالم بالإنجيل؟! » قال : نعم ، ثمَّ تلا علينا ذكر محمد وأهل بيته واُمته ، ثم قال : « ما تقول يا نصرانيُ؟ هذا قول عيسى بن مريم فإن كذّبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذَّبت عيسى وموسى عليهما‌السلام ، ومتى أنكرت هذا الذِّكر وجب عليك القتل لأنَّك تكون قد كفرت بربِّك ونبيِّك وبكتابك ».
قال الجاثليق : لا اُنكرُ ما قد بان لي في الإنجيل ، وإنِّي لمقرّ به.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « اشهدوا على إقراره ».
ثم قال عليه‌السلام : « يا جاثليق سل عمّا بدا لك » ، قال الجاثليق : أخبرني عن حواريي عيسى بن مريم ، كم عِدّتُهم؟ وعن علماء الإنجيل ، كم كانوا؟
قال الرِّضا عليه‌السلام : « على الخبير سقطت ، أما الحواريّون فكانوا اثني عشر رجلاً ، وكان أفضلهم وأعلمهم ألوقا ، وأمّا علماء النَّصارى فكانوا ثلاثة رجال : يوحنا الأكبر بأج ، ويوحنا بقرقيسيا ، ويوحنا الدَّيلمي بزجان ، وعنده كان ذكرُ النَّبيَ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر أهل بيته واُمته ، وهو الذي بشر اُمَّةَ عيسى وبني إسرائيل به » (2).
والملاحظ أنه مع براعة اليهود في تحريف الكلم عن مواضعه ، تمكن إمامنا الرضا عليه‌السلام من إسكات رأس الجالوت ، وفي سكوته هذا إقرار منه بما جاء في التوراة والإنجيل من البشارة بنبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.
هذا ، وفي المجلس نفسه طلب رأس الجالوت من الإمام الرضا عليه‌السلام أن لا يحتج عليه إلاّ بما في التوراة أو الإنجيل أو الزبور في إثبات نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عليه‌السلام : « شهد بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موسى بن عمران وعيسى بن مريم وداود خليفةُ اللّه عزَّوجلَّ في الأرض ».
فقال له : أثبت قول موسى بن عمران.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « هل تعلم يا يهودي أنَّ موسى أوصى بني إسرائيل ، فقال لهم : إنَّهُ سيأتيكُم نبيّ هو من إخوتكم فبه فصدِّقوا ، ومنه فاسمعوا؟
فهل تعلمُ أنَّ لبني إسرائيل إخوةً غير ولد إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيم عليه‌السلام؟ ».
فقال رأس الجالوت : هذا قول موسى لا ندفعهُ.
فقال له الرِّضا عليه‌السلام : « هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبيّ غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! » قال : لا.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « أو ليس قد صحَّ هذا عندكم؟! » قال : نعم ، ولكنّي اُحبُّ أن تصحّحه لي من التوراة.
فقال له الرِّضا عليه‌السلام : « هل تنكر أنَّ التَّوراة تقولُ لكم : جاءَ النُّورُ من جبل طُور سيناء ، وأضاءَ لنا من جبل ساعير ، واستعلن علينا من جبل فاران؟ ».
قال رأسُ الجالوت : أعرفُ هذه الكلمات ، وما أعرفُ تفسيرها.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « أنا اُخبرك به ، أمّا قولهُ : جاءَ النّورُ من جبل طورِ سيناءَ ، فذلك وحيُ اللّه تبارك وتعالى الذي أنزلهُ على موسى عليه‌السلام على جبل طور سيناء ، وأما قوله : وأضاء لنا من جبل ساعير ، فهو الجبل الّذي أوحى اللّه عزَّوجلَّ إلى عيسى بن مريم عليه‌السلام وهو عليه ، وأما قوله : واستعلن علينا من جبل فاران ، فذلك جبل من جبال مكةَ بينهُ وبينها يوم ، وقال شعيا النّبيّ عليه‌السلام فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة : رأيت راكبين أضاء لهما الأرض ، أحدهما راكب على حمار والآخر على جمل ، فمن راكبُ الحمارِ ومن راكبُ الجملِ؟ ».
قال رأس الجالوتِ : لا أعرفهما ، فخبِّرني بهما.
قال عليه‌السلام : « أمّا راكبُ الحمار فعيسى بنُ مريمَ ، وأما راكبُ الجمل فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أتنكر هذا من التَّوراة؟! » قال : لا ما اُنكرهُ.
ثمّ استعرض الإمام الرضا عليه‌السلام نصوصا أخرى من التوراة والإنجيل تبشّر بنبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ التفت عليه‌السلام إلى رأس الجالوت فقال : « يا يهودي أقبل عليَ أسألك بالعشر الآيات الَّتي اُنزلت على موسى بن عمران عليه‌السلام ، هل تجدُ في التَّوراة مكتوبا نبأ محمد واُمَّته : ( إذا جاءت الاُمّةُ الأخيرةُ أتباعُ راكبِ البعيرِ يُسبِّحونَ الرَّبَّ جدّا جدّا تسبيحا جديدا في الكنائس الجُدد ، فليفرغ بنو إسرائيلَ إليهم وإلى ملكهم لتطمئنَّ قلوبُهم ، فإنَّ بأيديهم سيوفا ينتقمون بها من الاُمم الكافرة في أقطار الأرض) هكذا هو في التوراة مكتوب؟! ».
قال رأس الجالوت : نعم إنّا لنجده كذلك.
ثمّ قال للجاثليق : « يا نصرانيُّ كيف علمكَ بكتابِ شعيا؟ » قال : أعرفُهُ حرفا حرفا.
قال الرِّضا عليه‌السلام لهما : « أتعرفان هذا من كلامه : ( ياقوم إنِّي رأيتُ صورةَ راكبِ الحمار لابسا جلابيب النُّور ، ورأيتُ راكبَ البعيرِ ضوؤهُ مثلُ ضوء القمر) »؟ فقالا : قد قال ذلك شعيا.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « يا نصراني ، هل تعرفُ في الإنجيل قول عيسى : إنِّي ذاهب إلى ربِّي ورَبِّكم ، والفارقليطا جاء هو الَّذي يشهد لي بالحقِّ كما شهدتُ له ، وهو يُفسر لكم كلَّ شيءٍ ، وهو الَّذي يُبدي فضائح الاُمم ، وهو الَّذي يكسر عمود الكفر؟ ».
فقال الجاثليـق : ما ذكرت شيئا ممّا في الإنجيل إلاّ ونحن مقرُّون بـه.
فقال : « أتجدُ هذا في الإنجيل ثابتا يا جاثليقُ؟! » قال : نعم (3).
إن قراءة متمعنة ما بين سطور هذه المناظرة تكشف عن الأفق المعرفي الرَّحب الذي يتمتع به الإمام الرضا عليه‌السلام ، ويهمنا هنا الإشارة إلى أن إمامنا عليه‌السلام حاول إصلاح الفكر والمقولات والرؤى لأقطاب أهل الأديان والملل من خلال الحجج القوية المجلجلة التي قرعت آذانهم وأفحمتهم أيّما إفحام. ومن السهل أن نكتشف أن الإمام عليه‌السلام قد اتبع المنهج النقلي مع أهل الكتاب ممثلين بالجاثليق النصراني ورأس الجالوت اليهودي ، فقد احتج على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزَّبور بزبورهم لتكون الحجة عليهم أقوم ، ولقد وجدنا كيف أن الجاثليق رفض الاحتكام إلى نصوص القرآن ، قائلاً منذ البداية : كيف اُحاجّ رجلاً يحتجُ عليَ بكتاب أنا منكره ، وبنبيٍّ لا أُؤمنُ به؟!
لذلك وقف إمامنا معهم على أرض مشتركة من الفهم ، حيث خاطبهم بلغتهم وأورد نصوصا من كتبهم لا يسعهم إنكارها.

ثانيا : إبطال عقيدة النصارى في المسيح عليه‌السلام
من المعروف أن النصارى تغلو في شخص عيسى عليه‌السلام فتسلب منه صفته البشرية وتمنحه صفة الالُوهية وتعتقد بأنه ابن اللّه جلَّ تعالى عن ذلك ، وإمامنا الرضا عليه‌السلام في الوقت الذي أثبت فيه نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدليل النقلي الوارد بالإنجيل عن طريق بشارة المسيح عليه‌السلام لحوارييه بمبعثه من بعده ، أبطل بالدليل العقلي عقيدة النصارى في المسيح المتّسمة بالغلو والبعيدة كل البعد عن التنزيه للّه تعالى. ففي هذا المجلس الذي هو ـ بحسب تعبيرنا ـ بمثابة مؤتمر فكري عالمي ، وجه إمامنا كلامه للجاثليق قائلاً :
« .. يانصراني واللّه إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ننقم على عيساكم شيئا إلاّ ضعفه وقلّة صيامه وصلاته! »
قال الجاثليق : أفسدتَ واللّه علمك وضعفت أمرك ، وما كنت ظننتُ إلاّ أَنَّك أعلمُ أهل الإسلام!
قال الرِّضا عليه‌السلام : « وكيف ذلك؟ ».
قال الجاثليق : من قولك : « إنَّ عيساكم كان ضعيفا قليلَ الصيام قليل الصلاة » ، وما أفطر عيسى يوما قطُّ ومازال صائمَ الدَّهر ، قائم الليل! ، قال الرَّضا عليه‌السلام : فلمن« كان يصومُ ويُصلّي؟! » قال : فخرس الچاثليق وانقطع.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « يا نصراني ، إنِّي أسألك عن مسألة » ، قال : سل ، فإن كان عندي علمها أجبتك.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « ما أنكرت أن عيسى كان يحيي الموتى بإذن اللّه عزَّوجلَّ؟ ».
قال الجاثليق : أنكرت ذلك من قِبَل أنَّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ، فهو ربّ مستحق لأن يُعبد!
قال الرِّضا عليه‌السلام : « فإنَّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى ، مشى على الماء وأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ، فلم تتخذه اُمّته ربّا ، ولم يعبده أحد من دون اللّه عزَّوجلَّ ، ولقد صنع حزقيل النبي عليه‌السلام مثل ما صنع عيسى ابن مريم عليه‌السلام فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجلٍ من بعد موتهم بستين سنةٍ ... هذا في التَّوراة لا يدفعه إلاّ كافر منكم ».
قال رأس الجالوت : قد سمعنا به وعرفناه ، قال : « صدقت ».
ثمّ قال الرِّضا عليه‌السلام : « لقد أبرأ ـ أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الأكمه والأبرص والمجانين وكلّمته البهائم والطَّير والجنُّ والشَّياطين ولم نتخذه ربّا من دون اللّه عزَّوجلَّ ، ولم ننكر لأحدٍ من هؤلاء فضلهم ، فمتى اتخذتم عيسى ربَّا جاز لكم أن تتَّخذوا اليسع وحزقيل ربّا ، لأنَّهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى ، وغيره أنَّ قوما من بني إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم اُلوف حذر الموت فأماتهم اللّه في ساعةٍ واحدة ، فعمد أهلُ تلك القريةِ فحَظَرُوا عليهم حظيرةً فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما ، فمرَّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم ومن كثرةِ العظام البالية ، فأوحى اللّه إليه أتُحبُّ أن اُحييهم لك فتنذرهم؟ قال : نعم ياربِّ ، فأوحى اللّه عزَّوجلَّ إليه أن نادهم ، فقال : أيَّتُها العظامُ البالية قومي بإذن اللّه عزَّوجلَّ ، فقاموا أحياءً أجمعين ينفضون التُّراب عن رؤوسهم.
ثمَّ إبراهيم عليه‌السلام خليلُ الرَّحمن حين أخذ الطُّيور وقطَّعهنَّ قطعا ثمَّ وضع على كُلِّ جبلٍ منهنَّ جزءا ثمَّ ناداهُنَّ فأقبلن سعيا إليه ، ثم موسى بنُ عمران وأصحابه والسَّبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له : لن نؤمنَ لك حتى نرى اللّه جهرةً ، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيدا ، فقال : ياربِّ اخترتُ سبعينَ رجلاً من بني إسرائيل فجئتُ بهم وأرجعُ وحدي ، فكيف يُصدقني قومي بما اُخبرهم به ، فلو شئت أهلكتهم من قبلُ وإيّاي أفتُهلكنا بما فعل السُّفهاءُ منّا ، فأحياهم اللّه عزَّوجلَّ من بعد موتهم ، وكلُّ شيء ذكرتُهُ لك من هذا لا تقدرُ على دفعهِ لأنَّ التَّوراةَ والانجيلَ والزَّبور والفُرقانَ قد نطقت بهِ ، فإن كان كلُّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرصَ والمجانين يُتَّخذُ ربّا من دونِ اللّه فاتَّخذ هؤلاء كلَّهم أربابا ، ما تقولُ يا نصرانيُ؟! ».
قال الجاثليقُ : القولُ قولكَ ولا إله إلاّ اللّه.
وهكذا أثبت الإمام عليه‌السلام للجاثليق خطأ زعمهم اُلوهية عيسى عليه‌السلام.
ولما تشعب الكلام معه حول الإنجيل وكيف فُقد ومن ثم كتبه تلاميذ تلاميذ المسيح من بعده ، أماط الإمام اللِّثام عن التحريف الذي حصل للإنجيل بعد ضياعه ، وكيف أن تلاميذ تلاميذ المسيح قد خطوه بأيديهم وحرفوه واختلفوا فيه حول طبيعة المسيح عليه‌السلام ، أقر الجاثليق بكل ما جاء به الإمام الرِّضا عليه‌السلام عن الإنجيل وكيفية تحريفه ، فقال موجها كلامه للإمام عليه‌السلام :
قد بان لي من فضل علمك بالإنجيل وسمعت أشياء ممّا علمته شهد قلبي أنَّها حقّ فاستزدتُ كثيرا من الفهم (4).
وعندما كشف الإمام عليه‌السلام عن التناقض الذي وقع فيه علماء الإنجيل ـ لوقا ومرقابوس ومتّى ويوحنا ـ حول طبيعة المسيح عليه‌السلام ، أذعن الجاثليق بهذه الحقائق ، وأقر بالعمق المعرفي للرضا عليه‌السلام ، ثم قال : فلا وحقِّ المسيح ما ظننتُ أنَّ في علماء المسلمين مثلك (5).

ثالثا : الرَّد على عقيدة اليهود
تطرق إمامنا مع رأس الجالوت إلى معاجز موسى عليه‌السلام واستغرب من إقراره بها مع انكاره معاجز الأنبياء من قبله أو من بعده كمعاجز عيسى عليه‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتساءل قائلاً : « أرأيت ما جاء به موسى من الآيات ، أشاهدته؟! أليس إنَّما جاء في الاخبار من ثقات أصحابِ موسى أَنَّه فعل ذلك؟! » قال : بلى.

قال : « فكذلك أتتكُم الأخبارُ المتواترة بما فعل عيسى بنُ مريم فكيف صدَّقتم بموسى ولم تُصدِّقوا بعيسى؟! » فلم يُحِر جوابا.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « كذلك أمرُ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جاء به وأمرُ كلِّ نبيٍّ بعثه اللّه ، ومن آياته أنّه كان يتيما فقيرا أجيرا ولم يختلف إلى معلّم ، ثمَّ جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء وأخبارهم حرفا حرفا وأخبارُ من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة ، ثمَّ كان يُخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم ، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى ».
قال رأس الجالوت : لم يصحَّ عندنا خبرُ عيسى ولا خبر محمد ، ولا يجوز لنا أن نُقرَّ لهما بما لم يصحَّ.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « فالشاهدُ الّذي شهد لعيسى ولمحمدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهدُ زورٍ؟! » فلم يُحِر جوابا (6).

رابعا : الرد على المجوس
ليس خافيا بأن المجوس (7) أُناس منحرفو العقيدة والفطرة يعبدون النار ويحللون الزواج من المحارم ، بدون دليل أو برهان سوى التقليد الأعمى للآباء ، فحاول إمامنا عليه‌السلام أن يدلّهم على الطريق السوي ويوقفهم على أفق أرحب ، وأن يخرج بوعيهم من قفص التقليد :
دعا الإمام الرضا عليه‌السلام الهربذ الأكبر فقال له : « زرادشت الذي تزعم أنَّه نبي ، ما حُجَّتك على نبوَّته؟ ».
قال : إنَّه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله ، ولم نشهده ، ولكنَّ الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنَّه أحلَّ لنا ما لم يُحلّهُ غيره فاتَّبعناهُ.
قال عليه‌السلام : « أفليس إنَّما أتتكم الأخبارُ فاتَّبعتُموه؟! » قال : بلى.
قال : « فكذلك سائرُ الأُمم السالفة أتتهم الأخبارُ بما أتى به النبيّون وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلوات اللّه عليهم ، فما عذركُم في ترك الإقرار لهم إذ كنتم إنَّما أقررتم بزرادشت من قبل الأخبار المتواترة بأنَّه جاء بما لم يجيء به غيره؟! » فانقطع الهربذُ مكانه (8).
لقد وجد الإمام عليه‌السلام أن أصحاب زرادشت تضيق عدسة الرؤية لديهم فيؤمنون بالأخبار الواردة من قبل آبائهم عن زرادشت دون غيره ، وهذا التخصيص لايستقيم على سكة العقل السَّوية ، فإذا كان منهجهم في الاعتقاد قائما على النقل عن الآباء فلماذا لا يعتمدون على ذات المنهج الذي اتبعه الأنبياء؟! الذين جاءوا ـ كذلك ـ بما لم يجيء به غيرهم من الشرائع ، وفوق ذلك كانوا يبرهنون على صحة نبوتهم بالمعاجز الباهرة والبراهين القاطعة؟

خامسا : الردّ على الصابئة :
ثم وصلت النوبة إلى عمران الصابى ء ، وكان واحدا من المتكلمين ، فسأل الإمام عليه‌السلام عن الكائن الأول وعمّا خلق.
قال عليه‌السلام : « سألت فافهم ، أمّا الواحد فلم يزل واحدا كائنا لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض ولايزال كذلك .. واعلم يا عمران أنّه لو كان خلق ما خلق لحاجةٍ لم يخلق إلاّ من يستعين به على حاجته ، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق لأنَّ الأعوان كلَّما كثروا كان صاحبهم أقوى ، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنّه لم يُحدث من الخلق شيئا إلاّ حدثت فيه حاجةٌ اُخرى ، ولذلك أقول : لم يخلق الخلق لحاجةٍ ، ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض وفضَّل بعضهم على بعض ، بلا حاجةٍ منه إلى من فَضَّل ، ولا نقمةٍ منه على من أذلَّ ، فلهذا خَلقَ.
وتطرق معه في النقاش لمسائل مختلفة في توحيد اللّه وأسفرت هذه المناظرة عن اعتراف عمران الصابى ء بصواب أجوبة الإمام الرضا عليه‌السلام على أسئلته الحساسة والمختلفة ، وعلى إثر ذلك أعلن إسلامه أمام المأمون مخاطباً الإمام الرضا عليه‌السلام بقوله : .. قد فهمتُ وأشهدُ أنَّ اللّه على ما وصفتهُ ووحدتهُ ، وأنَّ محمدا عبدهُ المبعوث بالهدى ودين الحقِّ ، ثمّ خرَّ ساجدا نحو القبلة وأسلَمَ.
قال الحسنُ بن محمد النَّوفليّ : فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابى ء ، وكان جدلاً لم يقطعه عن حجّته أحد قط ، لم يدنُ من الرِّضا عليه‌السلام أحد منهم ولم يسألوه عن شيءٍ ، وأمسينا فنهض المأمون والرِّضا عليه‌السلام فدخلا وانصرف الناس .. (9).
ويلاحظ أن الإمام عليه‌السلام قد اتبع المنهج العقلي مع غير أهل الكتاب كأصحاب زرادشت ورؤساء الصابئين ، وذلك لأن هؤلاء لا يؤمنون بالنقل أو النصوص من حيث الأساس.

سادسا : الرَّد على الزنادقة
وإذا أمعنا النظر في طريقة حواره مع الزنادقة نجد أنه اتبع معهم ذات المنهج الأخير ـ أي المنهج العقلي ـ لعدم إيمان هؤلاء باللّه تعالى وكتبه وأنبيائه ، وكان يتبع مع أمثال هؤلاء أسلوب (التداول الحرّ للأفكار) ، يتّضح لنا ذلك من خلال حوار الإمام عليه‌السلام مع أحد الزنادقة :
عن محمد بن عبد اللّه الخراساني ، خادم الرضا عليه‌السلام ، قال : دخل رجل من الزنادقة على الرضا عليه‌السلام وعنده جماعة ، فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : « أرأيت إن كان القول قولكم ، وليس هو كما تقولون ، ألسنا وإياكم شرع سواء ، ولا يضرّنا ما صلينا وزكينا وأقررنا؟ » فسكت ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « وإن يكن القول قولنا ، وهو قولنا ، وكما نقول ، ألستم قد هلكتم ونجونا؟ ».
قال : رحمك اللّه فأوجدني كيف هو؟ وأين هو؟ قال : « ويلك ، إن الذي ذهبت إليه غلط ، وهو أيّن الأين ولا أين ، وكيّف الكيف وكان ولا كيف ، فلا يُعرف بكيفوفية ، ولا بأينونية ، ولا يدرك بحاسة ولا يُقاس بشيء ».
قال الرجل : فإذن انه لا شيء إذا لم يدرك بحاسة من الحواس!
فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « ويلك إذا عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ، ونحن إذا عجزت حواسنا عن ادراكه أيقنّا انه ربنا ، وأنه شيء بخلاف الأشياء ».
قال الرجل : فأخبرني متى كان؟!
قال أبو الحسن عليه‌السلام : « أخبرني متى لم يكن ، فأخبرك متى كان؟! ».
قال الرجل : فما الدليل عليه؟
قال أبو الحسن عليه‌السلام : « إني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة اليه ، علمت أن لهذا البنيان بانيا ، فأقررت به ، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته ، وإنشاء السحاب ، وتصريف الرياح ، ومجرى الشمس والقمر والنجوم ، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات ، علمت أن لهذا مقدّرا ومنشأً ».
قال الرجل : فلم احتجب؟
فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « إنّ الحجاب على الخلق ، لكثرة ذنوبهم ، فأما هو فلا يخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار ».
قال : فلم لا تدركه حاسة الأبصار؟
قال : « للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار منهم ومن غيرهم ، ثم هو أجلّ من أن يدركه بصر أو يحيطه وهم أو يضبطه عقل ».
قال : فحده لي؟
قال : « لا حدّ له » ، قال : ولم؟
قال : « لأن كل محدود متناه إلى حدّ ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة ، واذا احتمل الزيادة احتمل النقصان ، فهو غير محدود ولا متزايد ولا متناقص ولا متجزيء ولا متوهَّم .. » (10).
نستخلص من هذا النص ومما سبقه أن الإمام عليه‌السلام كان يحاجج الخصوم بصدر رحب وطول نفس ، وبأسلوب يتناسب مع عقلية الخصم سواء كان من أهل الكتاب أو غيرهم ليلزمهم بما ألزموا به أنفسهم.

المبحث الثاني : حواراته مع أهل الإسلام
لم يهدف الإمام الرضا عليه‌السلام من مناظراته وخاصة مع أهل الإسلام إلى كسب المناظرة والحوار ، وإنما إلى إيصال الحقيقة الدينية الصحيحة ، وتنقية العقيدة الإسلامية من كل الشوائب التي لحقت بها والشبهات التي تثار حولها ، خصوصا بعد أن اختلط الحقّ بالباطل ، والتبست السنّة بالبدعة. والملاحظ أنه اعتمد في مناظراته مع أهل الإسلام على المنهج النقلي ـ من قرآن وسنّة نبوية ـ بصورة أساسية. وكان ينتزع إجاباته من هذين المصدرين بدون تكلف أو اعتساف في تحميل النصوص. علما بأن المأمون قد جهد منذ البداية على إحراج الإمام الرضا عليه‌السلام أمام أهل الأديان والملل المختلفة الذين حشدهم من كل ملة ومكان لأجل هذه الغاية.
ولكنه خابت ظنونه بأهل الأديان وخسر الصفقة ، ومن هنا حاول أن يعيد التجربة ، فحشد له ـ هذه المرّة ـ أبرز علماء الإسلام ومتكلميه ، أمثال : علي بن محمد بن الجهم ويحيى بن الضحاك السمرقنديّ وسليمان المروزيّ ، وكان العالمان الأخيران من أبرز علماء خراسان في ذلك الزمان.
كان المأمون يأمرهم بإثارة مواضيع حساسة مع الإمام الرضا عليه‌السلام ، كمسألة عصمة الأنبياء ، ومسألة الإمامة ، والبداء ، وما إلى ذلك.

أولاً : مناظرته عليه‌السلام حول عصمة الأنبياء عليهم‌السلام
يعتقد أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أن الأنبياء (صلى اللّه عليهم) معصومون ، بمعنى عدم اقترافهم جريمة ولا ذنب ولا خطيئة حتى الغلط والخطأ والسهو والغفلة والنسيان.
ومعصومون كذلك عن كل ما ينفي الحشمة والكرامة منذ ولادتهم وإلى وفاتهم. والشيعة الإمامية يقولون بعصمة الأنبياء قبل البعثة وبعدها ، ويستدلّون على وجوب عصمتهم بأدلّة عقلية عديدة.
ولما كان بعض المسلمين يجوّز صغائر الذنوب على الأنبياء ، كالمعتزلة ، والبعض الآخر كالأشعرية والحشوية يُجوز ارتكابهم الكبائر فضلاً عن الصغائر ، إلاّ الكفر والكذب ، ويستدلون على ذلك بظواهر بعض الآيات القرآنية.
وجد أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أن هذا الفهم يتصادم مع العقل ولا يليق بمكانة الأنبياء عليهم‌السلام ومنزلتهم ، ويترك آثارا سلبية على العقيدة الإسلامية ، فقاموا ، وهم تراجم القرآن ، ببيان شافٍ لجميع الآيات التي يظهر منها نسبة الخطأ أو المعصية للأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، وقد قام إمامنا الرضا عليه‌السلام بإماطة الستار عن المعاني القرآنية الحقيقية التي تتحدّث عن الأنبياء والرُّسل ، وبدّد ضباب الغبش والتشويش وسوء الفهم الذي حجب دلالاتها.
عن أبي الصلت الهروي قال : لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا عليه‌السلام أهل المقالات ، فلم يقم أحد إلاّ وقد ألزمه حجّته كأنه أُلقم حجرا ، قام إليه علي بن محمد بن الجهم ، فقال له : يابن رسول اللّه أتقول بعصمة الأنبياء؟
قال : « نعم ».
قال : فما تعمل في قول اللّه عزّوجلّ : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) (1١) وفي قوله عزّوجلّ : ( وَذَا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) (12) وفي قوله عزّوجلّ في يوسف عليه‌السلام : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) (13) وفي قوله عزّوجلّ في داود عليه‌السلام : ( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) (14) وقوله تعالى في نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّه مُبْدِيهِ )؟ (15).
فقال الرضا عليه‌السلام : « ويحك يا علي ، اتقِ اللّه ولا تنسب إلى أنبياء اللّه الفواحش ، ولا تتأوّل كتاب اللّه برأيك ، فإنّ اللّه عزّوجلّ قال : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (16).
وأما قوله عزّوجلّ في آدم عليه‌السلام : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) فإن اللّه عزّوجلّ خلق آدم حجّة في أرضه وخليفته في بلاده لم يخلقه للجنّة وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض وعصمته يجب أن تكون في الأرض ليتمّ مقادير أمر اللّه ، فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجّة وخليفة عُصم بقوله عزّوجلّ : ( إِنَّ اللّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (17) » (18).
وعلى هذا السياق أجاب عليه‌السلام عن التهمة الشنيعة التي نسبت إلى داود عليه‌السلام من أنه اطلع في دار قائده «أوريا» فعشق امرأته فقدّمه أمام التابوت في المعركة فقُتِل وتزوّج بامرأته! فنسبوا داود عليه‌السلام ـ زورا وبهتانا ـ إلى الفاحشة ثمّ القتل.
كما كشف عن سبب إخفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بنفسه من أمر زواجه بزينب بنت جحش فقد أطلعه اللّه تعالى على أسماء أزواجه فوجد اسم زينب مع أسمائهن وكانت تحت زيد بن حارثة فخشي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المنافقين إن أخبر عن ذلك ، فعاتبه تعالى بقوله : ( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللّه أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) (19). وليس في هذا ذنب أو ارتكاب معصية.
ومن المناسب التذكير بأن أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في تنزيه الأنبياء كثيرة مبثوثة في كتب الحديث والتفسير ، ومنها استقى السيد الشريف المرتضى ردوده في كتابه (تنزيه الأنبياء).
وفي رواية أخرى أجاب الإمام عليه‌السلام على سؤال علق بذهن المأمون حول طلب موسى عليه‌السلام من ربه الرؤية ، مع علمه باستحالة رؤيته تعالى بالأبصار؟! ، فقال الرِّضا عليه‌السلام : « إنَّ كليمَ اللّه موسى بن عمران عليه‌السلام عَلِمَ أنَّ اللّه تعالى عن أن يُرى بالأبصار ، ولكنه لمّا كلَّمه عزَّوجلَّ وقرَّبه نجيّا رجع إلى قومه فأخبرهم أنَّ اللّه عزَّ وجلَّ كلَّمه وقرَّبه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى سمع كلامهُ كما سمعت .. فاختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربِّه ، فخرج بهم إلى طور سيناء ، فأقامهم في سفح الجبل ، وصعد موسى عليه‌السلام إلى الطُّور وسأل اللّه تبارك وتعالى أن يُكلّمه ويُسمعهم كلامه ، فكلَّمه اللّه تعالى ذكره وسمعوا من فوقٍ وأَسفلَ ويمينٍ وشمالٍ ووراءٍ وأمام ، لأن اللّه عزَّوجلَّ أحدثهُ في الشَّجرةِ ، ثم جعلهُ منبعثا منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه.
فقالوا : لن نؤمنَ لكَ بأَنَّ هذا الَّذي سمعناه كلام اللّه حتى نرى اللّه جهرةً!! فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا ، بعث اللّه عزَّوجلَّ عليهم صاعقةً فأخذتهم بظُلمهم فماتوا ، فقال موسى : يا ربِّ ما أقولُ لبني إسرائيلَ إذا رجعتُ إليهم وقالوا : إنَّك ذهبت بهم فقتلتهم لأنَّكَ لم تكن صادقا فيما ادَّعيت من مناجاة اللّه إياك؟ فأحياهم اللّه وبعثهم معه ، فقالوا : إنك لو سألت اللّه أن يُريك أن تنظرَ إليه لأجابك وكنت تُخبرنا كيف هو فنعرفهُ حقَّ معرفته.
فقال موسى عليه‌السلام : يا قوم إنَّ اللّه لا يُرى بالأبصار ولا كيفيَّة له ، وإنَّما يُعرفُ بآياته ويُعلم بأعلامه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتّى تسألهُ ، فقال موسى عليه‌السلام : يا ربِّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم ، فأوحى اللّه جلَّ جلاله إليه : يا موسى اسألني ما سألوك فلن أؤاخِذكَ بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى عليه‌السلام : ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ) وهو يهوي ( فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) بآيةٍ من آياته ( جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ) يقولُ : رجعتُ إلى معرفتي بك عن جهلِ قومي ( وَأَنا أَوَّلُ الْمُؤمِنِينَ ) (20) منهم بأنّك لا تُرى » ، فقال المأمون : للّه دَرُّك يا أبا الحسن (21).

ثانيا : مناظرته عليه‌السلام حول الإمامة
تمثل الإمامة معلما أساسيا من معالم الإسلام ، التي بينها رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأمة إكمالاً للدين وإتماما للنعمة. وهي تمثل ـ من جانب آخر ـ لبنة أساسية في بنية الفكر الإسلامي عامة والشيعي على وجه الخصوص ، لا سيما إذا ما عرفنا بان التشيع هو تجسيد لمبدأ الإمامة.
وفي ظل التجميد المتعمد لإطروحة الإمامة ، حاول الأئمة عليهم‌السلام الاحتفاظ بهذه الإطروحة حية في وعي الأمة ولو على المستوى النظري ، لأن غيابها من ذاكرة الأمة تأكيد لحالة المصادرة وإلغاء لهذا المفهوم الهام من منظومة الأفكار والمفاهيم المتحركة في واقع التصور الإسلامي.
وكنا قد ذكرنا في الفصل الثالث موقف الإمام الرضا عليه‌السلام من الإمامة ، ويهمّنا هنا أن نستشهد بنماذج من مناظراته حول موضوع الإمامة كشاهد على ذلك.
وصف الرّيان بن الصلت مجلساً للمأمون بمرو ، وقد اجتمع فيه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان ، وتطرّق الحديث لعدّة محاور تتعلّق بإمامة أهل البيت عليهم‌السلام وفضائلهم ، هي :

١ ـ الفرق بين العترة والأمة
دار الحوار حول تفسير بعض الآيات القرآنية التي تدل على أفضلية ومكانة أهل البيت عليهم‌السلام وبالتالي أهليتهم للإمامة ، ولكنها فُسِّرت على غير معناها الحقيقي ، وضُرب حولها سور هائل من التعتيم ، فأزال إمامنا سوء الفهم الحاصل ، وحدّدَ المعنى المراد.
والملاحظ أنه استعمل المنهج «النقلي» معتمدا على القرآن والسنة ، ومستعملاً في التفسير منهج «التفسير الموضوعي» وليس المنهج التجزيئي الذي ينظر للآية بمعزل عن الآيات الأخرى ، وقد مرّ نص هذا الحوار في الفصل الثالث ، وعرفنا كيف احتج الإمام عليه‌السلام بنصوص كثيرة من القرآن الكريم تلاها على مسامع المأمون ومن كان معه بكل بسالة ولم يأبه بالمأمون ولا بحاشيته أو مخالفيه في العقيدة.

٢ ـ استعراض الآيات الدالة على اصطفاء الأئمة عليهم‌السلام
ثمّ طلب منه العلماء أن يستشهد بآيات تدل على اصطفاء اللّه تعالى لآل البيت عليهم‌السلام في الكتاب ، فذكر اثنتا عشرة آية تدل على ذلك : منها (آية الإنذار) و (آية التطهير) و (المباهلة) وعند آية (المودّة في القربى) قال : « وهذه خصوصية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة وخصوصية للآل دون غيرهم ، وذلك ان اللّه عزّوجلّ حكى في ذكر نوح في كتابه : ( وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُم عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّه .. ) (22) وحكى عزّوجلّ عن هود انه قال : ( يَاقَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَني أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (23) وقال عزّوجلّ لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( قُلْ ) يا محمد ( لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (24) ولم يفرض اللّه تعالى مودّتهم إلاّ وقد علم انهم لا يرتدون عن الدين أبدا ولا يرجعون إلى ضلال أبدا .. فأي فضيلة وأي شرف يتقدم هذا أو يدانيه؟ » (25).
والمفارقة العجيبة أنه في الوقت الذي يقرع فيه الإمام عليه‌السلام أسماعهم بهذه الاستدلالات والشواهد القرآنية البديعة التي لاينكرها إلاّ أعمى أو معاند ، قالت العلماء : يا أبا الحسن ، هذا الشرح وهذا البيان لايوجد إلاّ عندكم معاشر أهل بيت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!
فقال : « ومن ينكر لنا ذلك ورسول اللّه يقول : أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها؟ ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة ما لا ينكره إلاّ معاند للّه عزّوجلّ » (26).

٣ ـ مكانة آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ربّهم عزّوجلّ
من اللفتات القرآنية البديعة التي تكشف عن عمق إمامنا المعرفي بالقرآن وكونه أحد تراجمته ، جوابه البديع للمأمون عندما طلب منه أن يستدل على مكانة الآل في القرآن حتى يكون ألزم للخصم مما تقدم ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « نعم ، أخبروني عن قول اللّه عزّوجلّ : ( يسآ * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (27) فمن عني بقوله يس؟ ».
قالت العلماء : يس محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يشك فيه أحد.
قال أبو الحسن : « فإن اللّه عزّوجلّ أعطى محمداً وآل محمد من ذلك فضلاً لا يبلغ أحد كنه وصفه إلاّ مَن عقله ، وذلك أن اللّه عزّوجلّ لم يُسلم على أحد إلاّ على الأنبياء صلوات اللّه عليهم ، فقال تبارك وتعالى : ( سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) (28) وقال : ( سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (29) وقال : ( سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) (30) ولم يقل : سلام على آل نوح ، ولم يقل : سلام على آل ابراهيم ، ولا قال : سلام على آل موسى وهارون ، وقال عزّوجلّ : ( سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) (31) يعني آل محمد صلوات اللّه عليهم ».
فقال المأمون : لقد علمت ان في معدن النبوة شرح هذا وبيانه (32).

٤ ـ الأئمة عليهم‌السلام هم أهل الذكر :
ضمن سياق الحوار الذي دار في هذا المجلس كان حديث الإمام ينساب كنهر متدفق ، فتطرق معهم إلى مفهوم «أهل الذكر» ولفت نظرهم الى هذا المفهوم الهام الذي أريد له أن يغيب عن الأذهان ويمحى عن الذاكرة ويُسدل عليه ستار النسيان ، من خلال التفسير القاصر ، قال لهم : « فنحن أهل الذكر فاسألونا إن كنتم لا تعلمون ».
فقالت العلماء : إنما عنى اللّه بذلك اليهود والنصارى.
فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « سبحان اللّه! وهل يجوز ذلك؟ يدعونا إلى دينهم ، ويقولون : انه أفضل من دين الإسلام! ».
فقال المأمون : فهل عندك في ذلك شرح بخلاف ما قالوه يا أبا الحسن؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « نعم ، الذكر رسول اللّه ، ونحن أهله ، وذلك بيّن في كتاب اللّه عزّوجلّ حيث يقول في سورة الطلاق : ( فَاتَّقُوا اللّه يَا أُوْلِي الاْءَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللّه إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللّه مُبَيِّنَاتٍ ) (33) فالذكر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن أهله » (34).
وفي نهاية المطاف اعترف المأمون ومن معه من العلماء بمقدرة الإمام العلمية وأنه بحر زاخر ، وأقرّوا بأفضلية أهل البيت عليهم‌السلام ، وقالوا : «جزاكم اللّه أهل بيت نبيكم عن هذه الأمة خيرا ، فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلاّ عندكم» (35).

٥ ـ في الواقع التاريخي للخلافة
من المعروف أن الإمامة كانت ـ ومازالت ـ موضوعا ساخنا يثير الجدل وتختلف حوله الأقوال وتتباين فيه وجهات النظر ، وقد اعتبر البعض بأن ما حدث في السقيفة قد تجاوزه التاريخ وغدا حقيقة واقعة ليس من المناسب أن تمسّها يد المراجعة والتقييم ، ولكن الرؤية الموضوعية تقرّر بأن هناك أحداثا تشكل انعطافة مهمة على صعيد التاريخ الإنساني تبقى تداعياتها حية مهما طالت الفترة الزمنية ، وموضوع الإمامة واحد من هذه المواضيع الجسام التي ما زالت تبعات ما أحاط بها من أحداث تنعكس سلبا على كافة الاصعدة الإسلامية : الفكرية والسياسية والاجتماعية.
والمعالجة الجادة ينبغي أن تنطلق من التشخيص الدقيق لأسباب المشكلة ، وهنا نجد أن إمامنا الرضا عليه‌السلام قد وضع إصبعه على موضع الداء ، فالإمامة شغلها بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لم يكن لها أهلاً ، ثم لم يحدث أن تدارك المسلمون ذلك ، بل أمضوه حتى تلاحقت فصوله الأخرى ، فتراكم الخطأ.

وصف محمد بن يحيى الصولي مجلساً للمأمون بحضرة الإمام الرضا وثلّة من كبار أهل العلم الذين دعاهم المأمون لمناظرة الإمام عليه‌السلام ، فأداروا أمر الإمامة ، فتكلم متكلّمهم يحيى بن الضحاك السمرقندي فقال : نتكلم في الإمامة ، كيف ادعيت لمن لم يَؤم وتركت من أمّ ووقع الرضا به؟
فقال له : « يا يحيى أخبرني عمن صدّق كاذبا على نفسه ، أو كذّب صادقا على نفسه ، أيكون محقّا مصيبا أو مبطلاً مخطئا؟ » فسكت يحيى ، فقال له المأمون : أجبه ، فقال : يعفيني أمير المؤمنين من جوابه ، فقال المأمون : يا أبا الحسن عرّفنا الغرض في هذه المسألة.
فقال عليه‌السلام : « لا بدّ ليحيى من أن يخبر عن أئمته؛ كذبوا على أنفسهم أو صدقوا؟ فإن زعم أنهم كذبوا ، فلا أمانة لكذاب ، وإن زعم أنهم صدقوا ، فقد قال أولهم : ولّيتكم ولست بخيركم ، وقال تاليه : كانت بيعته فلتة ، فمن عاد لمثلها فاقتلوه ، فواللّه مارضي لمن فعل مثل فعلهم إلاّ بالقتل ، فمن لم يكن بخير الناس ، والخيرية لا تقع إلاّ بنعوت منها : العلم ، ومنها الجهاد ، ومنها سائر الفضائل وليست فيه ، ومن كانت بيعته فلتة يجب القتل على من فعل مثلها ، كيف يقبل عهده إلى غيره وهذه صورته؟! ثمّ يقول على المنبر : إنّ لي شيطانا يعتريني ، فإذا مال بي فقوموني ، وإذا أخطأت فارشدوني ، فليسوا أئمة بقولهم ، إن صدقوا ، أو كذبوا ، فما عند يحيى في هذا جواب ».
فعجب المأمون من كلامه ، وقال : يا أبا الحسن ما في الأرض من يحسن هذا سواك (36).
والملفت للنظر أن إمامنا عليه‌السلام في هذا الحوار قد اتبع منهجا فريدا ، فلم يستعمل في مناظرته الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية الكثيرة التي يمكن الاستدلال بها على إمامة أهل البيت عليهم‌السلام ، فلعلّه يعلم بأن الغوص في هذا قد يؤدي إلى تجريدات فكرية لا يلتزم القوم بمدلولاتها ، لذلك درس مسألة الإمامة في إطارها التاريخي محاولاً إلقاء الضوء على الحقائق كما هي من خلال أقوال أقطاب السقيفة بدون تأويل أو تفسير ، فكثيرا ما يتأثر الناس بالتفسير الذي يأتيهم لحدث أكثر ما يتأثرون بالحدث نفسه ، وهنا وضعهم الإمام عليه‌السلام وجها لوجه أمام الحدث ، عارضا بأمانة تصريحات القوم التي أدلوا بها في قلب الحدث ودلالاتها ؛ وحينئذ يكتشف كل منصف الحقيقة بنفسه.

ثالثا : مناظرته عليه‌السلام حول البداء
البداء من المسائل المعقدة التي كثر الجدل والنزاع حولها قديما وحديثا بين الفلاسفة والعلماء من السنة والشيعة ، ولكل من الفريقين رأي واتجاه.
فما هو البداء؟
البَداء ـ لغةً : ظهور الشيء بعد خفائه .. وبدا له في هذا الأمر بداءً ، أي : تغير رأيه عمّا كان عليه بعد أن ظهر له فيه رأي آخر (37).
وقد اتُهم الشيعة بنسبة الجهل إلى اللّه تعالى استنادا إلى المعنى اللغوي المتقدم للبَداء ، والحال أن الشيعة يتبرأون من هذه التهمة الشنيعة ، وهم يكفّرون كل من ينسب الجهل إلى اللّه تعالى ، ويرون بأنه تعالى لا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض ، وأنه ليس محلاً للحوادث والتغيرات ، لاستلزام ذلك خروجه ـ عزّوجلّ ـ عن حضيرة الوجوب إلى الإمكان ، زد على ذلك أن الشيعة متفقون على أن اللّه تعالى عالم بالجزئيات كعلمه بالكليات ، وعلمه بالمعدوم كعلمه بالموجود ، وآراء الشيعة هذه مدونة في عشرات الكتب والرسائل والبحوث تحت عنوان «البَداء» (38).
والحال أن حقيقة البَداء عندهم ليس ظهور الأمر للّه تعالى بعد أن كان خافيا عليه ، تعالى اللّه عزّوجلّ عن ذلك علواً كبيراً بل هو ظهور أمر لنا منه تعالى لم يكن مرتقبا ، يعد مساوقا لتغيير القضاء كما هو عند الجمهور ، وعليه فالبداء عند الشيعة الإمامية هو البداء الواقع في (التكوينيات) كالنسخ المتعلق بـ (التشريعات) ، فكما أن النسخ في التشريعات أمر جائز وسائغ ، كذلك البداء في التكوينات أمر سائغ وممكن وجائز.
ثم إن البداء يكون في القضاء الموقوف المعبّر عنه بـ (لوح المحو والإثبات) والالتزام بجواز البداء فيه لايستلزم نسبة الجهل إلى اللّه سبحانه ، وليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته وجلاله (39).
وهناك آيات قرآنية كثيرة تثبت بأن اللّه تعالى مبسوط اليدين في مجال التكوين ، يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، ويثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء ، منها : قوله تعالى : ( يَمْحُوا اللّه مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (40).
وتوجد أحاديث في صحاح السنة تشير إلى حصول المحو والإثبات الإلهيين ، وإمكانية التغيير والتبديل فيما كتبه اللّه وقدَّره وفقا لمشيئته وإرادته تعالى ، منها ما أخرجه البخاري عن عبد اللّه بن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير قوله تعالى : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (41) أنَّه قال : « إنَّ اللّه يحدث من أمره ما يشاء ، وإنَّ مما أحدث أن لا تكلّموا في الصلاة » (42).
وبإسناد عن أنس بن مالك أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما صعد إلى السّماء واجتمع بالأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، نصحه موسى عليه‌السلام بأن يراجع ربّه لتخفيف الصلاة عن أمته فيما فرضه اللّه على أمته من خمسين صلاة في كل يوم ، وبعد أن راجع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه عدة مرات حسب نصيحة موسى عليه‌السلام خفّف اللّه تعالى الصلاة من خمسين إلى خمس صلوات (43).
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنه سمع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إن ثلاثة في بني إسرائيل : أبرص ، وأقرع ، وأعمى بدا للّه أن يبتليهم ...» (44) ثم ساق الخبر (الصحيح).
ومن هذه الأحاديث يظهر بوضوح دخول فكرة البداء عند أقطاب المحدثين ورواة المسلمين في دائرة المحو والاثبات المصرّح بها في القرآن الكريم ، لكن المؤسف حقاً أنّها قد استغلت من قبل خصوم الشيعة للتشنيع والتشهير.
ويقتضي التنويه بأن «مصالح العباد متوقفة على القول بالبداء ، إذ لو اعتقدوا أنَّ كل ما قُدّر في الأزل فلا بُدَّ من وقوعه حتما لما دعوا اللّه تعالى في شيء من مطالبهم ، وما تضرَّعوا إليه ، وما استكانوا لديه ، ولا خافوا منه ، ولا رجعوا إليه ، وإذا انتفت هذه الأمور فلا يبقى مجال للصدقة وصلة الرحم ، وبرّ الوالدين ، وغير ذلك من صالح الأعمال ..

أضف إلى ذلك أن القول بالبداء هو الاعتراف الصريح بأن العالم كله تحت سلطان اللّه وقدرته في حدوثه وبقائه ، وان إرادة اللّه نافذة في الأشياء أزلاً وأبدا» (45). من هنا دافع إمامنا الرضا عليه‌السلام عن مسألة البداء ، وأولاها عناية خاصة وأعتبرها من المسائل الأساسية التي قامت عليها الأديان السماوية.
وجدير بالذكر هو أن أول من نفى القول بالبداء هم اليهود الذين قالوا ـ لعنهم اللّه ـ : إن يد اللّه مغلولة! غلّت أيديهم ولُعنوا بما قالوا. بل هو سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
ومما يكشف عن اهتمام الإمام الرضا عليه‌السلام بمسألة البداء حواراته ومناظراته مع أهل الإسلام ، ومن أبرز الشواهد على ذلك مناظرته مع سليمان المروزي متكلم خُراسان الذي قدم على المأمون فأكرمه ووصله ، ثم طلب منه أن يناظر الإمام عليه‌السلام.
وكان عمران الصابى ء الذي أسلم ببركة إمامنا الرضا عليه‌السلام وأصبح من تلاميذه قد التقى بالمروزي فتحاورا حول البداء وكان المروزي قد أنكره ، فقال المأمون : يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه؟
قال عليه‌السلام : « وما أنكرت من البداءِ يا سليمان ، واللّه عزَّوجلَّ يقول : ( أَوَلاَ يَذْكُرُ الاْءِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) (46) ويقول عزَّوجلَّ : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) (47) ويقول : ( بَدِيعُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ ) (48) ويقول عزَّوجلَّ : ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاء ) (49) ويقول : ( بَدَأَ خَلْقَ الإنْسانِ مِنْ طِيْنٍ ) (50) ويقول عزَّوجلَّ : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّه إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) (51) ويقول عزَّوجلَّ : ( وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ) (52)؟!
قال سُليمان : هل رويتَ فيه شيئا عن آبائكَ؟ قال : نعم ، رويتُ عن أبي عبداللّه عليه‌السلام أَنَّه قال : « إنَّ للّه عزَّوجلَّ علمين : علما مخزونا مكنونا لا يعلمهُ إلاّ هو ، ومن ذلك يكونُ البَداءُ ، وعلما علَّمهُ ملائكتهُ ورُسُلَهُ ، فالعلماء من أهلِ بيت نبيِّه يعلمونه ».
قال سُليمان : اُحبُّ أن تَنزَعهُ لي من كتابِ اللّه عزَّوجلَّ.
قال عليه‌السلام : « قولُ اللّه عزَّوجلَّ لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ) (53) أراد هلاكهمُ ثمَّ بدا للّه ـ أي : عن علم ـ فقال : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) (54) ».
قال سُليمان : زدني جُعلتُ فداك ، قال الرضا عليه‌السلام : « لقد أخبرني أبي عن آبائه أنَّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنَّ اللّه عزَّوجلَّ أوحى إلى نبيٍ من أنبيائه : أن أخبر فلان الملك أني متوفّيه إلى كذا وكذا ، فقال : يا ربِّ أجِّلني حتى يشبَّ طفلي وأقضي أمري ، فأوحى اللّه عزَّوجلَّ إلى ذلك النَّبيِ أن ائت فُلانَ الملك فأعلمهُ أنِّي قد أنسيتُ في أجلهِ وزدتُ في عُمره خمس عشرةَ سنةً ، ثمّ أوحى اللّه عزَّوجلَّ إليه : إنَّما أنتَ عبد مأمور فأبلغهُ ذلك ، واللّه لا يسألُ عمّا يفعلُ » (55).
واستمر الإمام عليه‌السلام في إيراد الأدلة على جواز البداء حتى أذعن سُليمان المروزي للمأمون ، قائلاً : يا أمير المؤمنين لا اُنكرُ بعد يومي هذا البَداء ولا اُكذِّب به إن شاء اللّه (56).
ثم تطرّقا في المناظرة إلى مواضيع أخرى منها ما كان حول الإرادة ، وهل هي اسم أم صفة ، وهل يعلم اللّه تعالى جميع ما في الجنة والنار ، وما إلى ذلك إلى أن انقطع سليمان عن الإجابة ، وعندها قال المأمون : «يا سليمان هذا أعلم هاشميٍ».
وهكذا نجد أن إمامنا عليه‌السلام قد استطاع الصمود وسط العواصف الفكرية التي أثارها المأمون من حوله بما امتلكه من عمق علمي وبصيرة ثاقبة.
وهو في الوقت نفسه كان يدافع ـ بقوة ـ عن العقيدة الإسلامية ، يذبّ عنها حملات المشكّكين والمنكرين ، ويصحّح رؤى بعض علماء المسلمين ، وعموما فقد أحدث هزة عنيفة في قناعات العديد من الشخصيات التي ناظرها ، وقد لاحظنا كيف أن البعض منهم قد اعترف بقصوره وخطأ تصوراته ، بينما اكتفى من لم يمتلك الشجاعة الكافية ومن لم يبصر نور الحقيقة بالسكوت.

المبحث الثالث : أدوار أخرى في خدمة الفكر والعقيدة
إذا ما حاولنا تتبع أبرز المعطيات الإيجابية التي قدمها الإمام الرضا عليه‌السلام للفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية ، نجدها كثيرة جداً ، ومع هذا يمكن الإشارة إلى بعضها بالعناوين التالية :

أولاً : ايجاد الحلول الشافية في مسائل الخلاف
نظرا لما امتاز به الإمام الرضا عليه‌السلام من عمق علمي فقد أعطى قواعد فكرية تعصم من تمسك بها من الوقوع في مهاوي الضلال أو الانحراف العقيدي وخاصة في القضايا العويصة أو المسائل الخلافية التي تثير الجدل بين الفرق الإسلامية ، وعلى سبيل الاستشهاد لا الحصر ، قد ذكر عند الإمام الرضا عليه‌السلام الجبر والتفويض ، فقال : « ألا أعطيكم في هذه أصلاً لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلاّ كسرتموه؟ » قلنا : إن رأيت ذلك.
فقال عليه‌السلام : « إنّ اللّه عزَّوجلَّ لم يطع بإكراه ، ولم يعص بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه ، وهو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد بالطاعة لم يكن اللّه عنها صادا ، ولا منها مانعا ، وإن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، فإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيها ـ ثم قال عليه‌السلام ـ من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من خالفه » (57).
ثانيا : تصحيح المفاهيم
قاد إمامنا عليه‌السلام حملة تصحيحية واسعة على الصعيد الفكري ، كان لها الأثر البالغ في فضح وتعرية المفاهيم المغلوطة ، ومواجهة السذاجة الفكرية ، وهنا نود التعجيل بإيراد الشواهد على ذلك :
دخل على علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قوم من الصوفية فقالوا : إن أمير المؤمنين المأمون لما نظر فيما ولاه من الأمور فرآكم أهل البيت أولى من قام بأمر الناس ، ثم نظر في أهل البيت فرآك أولى بالناس عن كل واحد منهم ، فرد هذا الأمر إليك ، والإمامة تحتاج إلى من يأكل الخشن ويلبس الخشن ويركب ويعود المريض ويشيع الجنائز ، وكان الرضا متكئا فاستوى جالسا ، ثم قال : « كان يوسف بن يعقوب نبيا فلبس أقبية الديباج المزركشة بالذهب والقباطي المنسوجة بالذهب وجلس على متكآت آل فرعون ، وحكم وأمر ونهى ، وإنما يراد من الإمام قسط وعدل ، إذا قال صدق وإذا حكم عدل وإذا وعد أنجز ، إن اللّه لم يحرّم ملبوسا ولا مطعوما » وتلا قوله : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (58) (59).
وبهذا تلقى المتصوفة درسا بليغا في الزهد حريا بأن يكون موعظة لادعياء الزهد والزاهدين معا. علما بأن إمامنا الرضا عليه‌السلام كان من الزاهدين ، كان جلوسه في الصيف على حصير ، وفي الشتاء على مسح (60).
ومن الشواهد الأخرى التي نستدل من خلالها على حملة تصحيح المفاهيم هذه ، نظرة الإمام عليه‌السلام العميقة لمفهومي «الجود والبخل» علما بان الجود يمثل أحد الخصال العربية الأصيلة ، التي يتباهى بها البعض دون أن يعرف أبعادها وما تنطوي عليه من بُعد عبادي :
سأله رجل وهو في الطواف : أخبرني عن الجواد؟
فقال : « إن لكلامك وجهين ، فإن كنت تسأل عن المخلوق ، فإن الجواد هو الذي يؤدي ما افترض اللّه عليه ، والبخيل من بخل بما افترض اللّه عليه. وان تكن تعني الخالق فهو الجواد ان أعطى ، وهو الجواد إن منع ، إن أعطى عبدا أعطاه ما ليس له ، وان منع منع ما ليس له » (61).
وقد شملت حملة التصحيح هذه بعض المفاهيم ذات العلاقة بطبائع الناس كمفهوم «الحمية»؟
عن إسماعيل الخراساني ، عن الرضا عليه‌السلام قال : « ليس الحمية من الشيء تركه ، إنما الحمية من الشيء الإقلال منه » (62).

ثالثا : كشف التحريف في الحديث
لقد قام الرضا عليه‌السلام بدور مشرّف في كشف وتعرية التحريف الذي حصل في الأحاديث ، والذي أثر بشكل مباشر على العقيدة الإسلامية وأفقدها نقاءها وأوقع الالتباس في فهم النصوص ، ولسنا بحاجة هنا لاستعراض جميع مظاهر التحريف ، ولكن يكفينا الاستشهاد على ذلك بما ورد عن ابراهيم بن محمود ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يا بن رسول اللّه ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ان اللّه تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا؟ (63)
قال عليه‌السلام : « لعن اللّه المحرّفين للكلم عن مواضعه ، واللّه ما قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك ، إنّما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان اللّه تعالى يُنزل ملكا إلى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير وليلة الجمعة في أول الليل ، فيأمره فينادي : هل من سائل فاعطيه؟ هل من تائب فاتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ يا طالب الخير أقبِل ، يا طالب الشرّ أقصر ، فلا يزال ينادي بذلك حتى يطلع الفجر ، فإذا طلع الفجر عاد إلى محله من ملكوت السماء. حدثني بذلك أبي عن جدي عن آبائه عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (64).
والملاحظ أن تأكيد الإمام عليه‌السلام على سند هذا الحديث ـ وأنه عن أبيه وأجداده عليهم‌السلام عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ جاء في مقابل من يسند كذباً إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه قال بخلاف ذلك.
ومن الشواهد على تصدي الإمام عليه‌السلام لهذا اللّون من التحريف الذي طال الأحاديث ، ما جاء عن الحسين بن خالد ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يا بن رسول اللّه إن قوما يقولون : ان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إن اللّه خلق آدم على صورته » فقال : قاتلهم اللّه! لقد حذفوا أول الحديث ، إن رسول اللّه مرّ برجلين يتسابّان ، فسمع أحدهما يقول لصاحبه : قبّح اللّه وجهك ووجه من يشبهك فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا عبد اللّه لا تقل هذا لأخيك! فإن اللّه عزَّوجلَّ خلق آدم على صورته » (65).

رابعا : التأويل السليم لما دلّ بظاهرة على التشبيه والتجسيم :
من المعلوم أن هناك فريقاً من المسلمين قد جمد على ظواهر القرآن ، الأمر الذي أساء إلى العقيدة الإسلامية ، وخاصة في مسألة التوحيد التي تعتبر حجر الزاوية فيها ، فقد أدّى الجمود على ظواهر الألفاظ إلى التشبيه والتجسيم تعالى اللّه عن ذلك ، فتصوّروا مثلاً أن للّه يدا ، وعرشا يجلس عليه ، وأن بالإمكان النظر إليه ، وأن له مكانا يُحجَب عنه الكافرون ، وأنه يتحرك ويجيء مع المَلَك ، وما إلى ذلك من مزاعم لا تستقيم مع سكة العقل السوية ، وتتنافى مع تنزيه اللّه تبارك وتعالى.
ومن هنا قام إمامنا الرضا عليه‌السلام بواجبه المقدس وأزاح غبش العيون لترى حقائق القرآن صافية ، مؤكدا أن لتلك الظواهر القرآنية معنىً تكشف عنه آيات اُخر ، وثوابت العقيدة أيضاً ، ومن الشواهد على ذلك : قال الرضا عليه‌السلام : في قول اللّه عزَّوجلَّ : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (66) قال : يعني ـ مشرقة ـ تنتظر ثواب ربها (67).
ويؤكد هذا المعنى ما قاله أمير المؤمنين عليه‌السلام لأحد الزنادقة عندما سأل الإمام عليه‌السلام قائلاً : أجد اللّه يقول : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) وأجده يقول : ( لاَتُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَبْصَارَ ) (68).
فقال عليه‌السلام : « إنَّ المؤمنين يُؤمَرون بدخول الجنّة ، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربّهم كيف يثيبهم ... أي : النظر إلى ما وعدهم ـ عزَّوجلَّ ـ فذلك قوله تعالى : ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ).
والناظرة : المنتظرة ». ثمّ قال عليه‌السلام : « ألم تسمع قوله تعالى : ( فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) (69) أي منتظرة » (70).
وأيضا : سُئل عن قوله عزَّوجلَّ : ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّا صَفّا ) (71) فقال : « إن اللّه لا يُوصف بالمجيء والذهاب والانتقال ، إنما يعني بذلك : وجاء أمر ربّك » (72).
وسئل عن قوله عزَّوجلَّ : ( .. كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَـحْجُوبُونَ ) (73) فقال : « إن اللّه تعالى لا يُوصف بمكان يحلّ فيه فيحجب عن عباده ، ولكنّه يعني : عن ثواب ربّهم محجوبين » (74).

خامسا : بيان سرّ أخبار الغلو والتقصير ومصدرها
ليس خافيا بأن أهل البيت عليهم‌السلام هم رموز العقيدة وأعلامها ، وبعد أن فشل الأعداء في النيل من العقيدة أخذوا يثيرون الشبهات والشكوك حول رموزها ، بأساليب وطرق مختلفة ، مرّة من خلال وضع الأحاديث التي ينم ظاهرها عن إظهار فضائل آل البيت ولكنها في الحقيقة تُسيء إليهم بما تتضمنه من غلو أو تقصير في أمرهم ، أو التصريح بمثالب أعدائهم بأسمائهم بغية تأجيج نار الفتنة ورفع وتيرة العداء معهم.
والإمام الرضا عليه‌السلام قد كشف عن هذه الأساليب التي يراد منها الإساءة إلى أهل البيت عليهم‌السلام يتضح لنا ذلك من هذه الرواية : قال ابراهيم ابن أبي محمود ، قلت للرضا عليه‌السلام يابن رسول اللّه ، إن عندنا أخبارا في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام وفضلكم أهل البيت ، وهي من رواية مخالفيكم ولا نعرف مثلها عندكم ، أفندين بها؟
فقال : « يا بن أبي محمود ، لقد أخبرني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه عليه‌السلام : ان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فان كان الناطق عن اللّه عزَّوجلَّ فقد عبد اللّه ، وان كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس ..
يا بن أبي محمود ، إن مخالفينا وضعوا أخبارا في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام : أحدها الغلو ، وثانيها التقصير في أمرنا ، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا ، فإذا سمع الناس الغلو فينا كَفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا ، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا ، واذا سمعوا مثالب أعداءنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا ، وقد قال اللّه عزَّوجلَّ : ( وَلاَتَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّه فَيَسُبُّوا اللّه عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (75).
يابن أبي محمود ، إذا أخذ الناس يمينا وشمالاً فالزم طريقتنا ، فانه من لزمنا لزمناه ، ومن فارقنا فارقناه ، ان أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يقول للحصاة : هذه نواة ثم يدين بذلك ويبرء ممن خالفه ، يابن أبي محمود احفظ ما حدثتك به ، فقد جمعت لك خير الدنيا والآخرة » (76).
وهكذا نجد إمامنا يقوم بتعرية وفضح أساليب أعداء أهل البيت عليهم‌السلام وتقويم اعوجاج الأذهان وقشع غيوم الشبهات المثارة.
ومن الشواهد ذات الدلالة على ذلك ما روي عن محمد بن زيد الطبريِ ، قال : كنت قائما على رأس الرِّضا عليه‌السلام بخراسان ، وعنده جماعة من بني هاشم منهم إسحاق بن العباس بن موسى .. فقال عليه‌السلام له : « يا اسحاق بلغني أنَّكم تقولون : إنّا نقول : إنَّ الناس عبيد لنا! لا وقرابتي من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قلته قطّ ، ولا سمعته من أحد من آبائي ، ولا بلغني عن أحد منهم قاله ، ولكنّا نقول : النّاس عبيد لنا في الطاعة ، مدال لنا في الدِّين ، فليبلّغ الشاهد الغائب » (77).

سادساً : الآثار العلمية المنسوبة إلى الإمام الرضا عليه‌السلام
من المبحث السابق اتضح لنا مقدار الجهد العلمي الكبير الذي بذله إمامنا عليه‌السلام من أجل الذود عن العقيدة والفكر الإسلامي ، وكان من نتيجة ذلك ظهور بعض الآثار العلمية المنسوبة إلى إمامنا الرضا عليه‌السلام ، وقد اُثير الجدل والنقاش بين العلماء حول صحة نسبة بعضها إليه عليه‌السلام ، وهي :

١ـ كتاب الفقه الرضوي.
٢ـ الطب الرضوي أو (الرسالة الذهبية).
٣ـ الصحيفة الرضوية.
٤ـ أجوبة مسائل ابن شاذان.
٥ـ العلل لابن شاذان.

ولا نرى حاجة بتتبّع هذه الآثار وبيان من شكك في نسبة بعضها للإمام عليه‌السلام سيما كتاب الفقه الرضوي وكتاب العلل لابن شاذان ، سيّما وهدفنا من هذه الدراسة تربوي محض ..

المبحث الرابع : أساليبه التربوية وتعاليمه الراقية
خلّف لنا الإمام الرضا عليه‌السلام مجموعة قيمة من التعاليم والوصايا التربوية والحضارية لكي تنير لنا الطريق ، وتصنع في النفوس المؤمنة صنيع الغيث في التربة الكريمة ، وتساعد الإنسان المسلم عند مراعاتها على إرتقاء سلَّم القيم أو على الأقل ترميم ماتهدم منها.
ارتأينا تقسيم التعاليم التربوية والحضارية التي وردت عن الإمام عليه‌السلام إلى أربعة دوائر كل دائرة منها تنظم علاقة الإنسان بنفسه وبربّه ونبيه أو إمامه وأبناء جنسه كالآتي :

أولاً : علاقة الإنسان بنفسه
للإمام عليه‌السلام تعاليم تربوية وحضارية تساعد الإنسان المسلم على السيطرة على نفسه وكبح جماحها ، وإيقاظ خير ما في النفس البشرية من قيم ومشاعر وأحاسيس ، وتسعى إلى استئصال كل جذور الشرّ في نفوس البشر.
ومن مجموعها يستفاد أن الإمام عليه‌السلام يريد للإنسان من خلال السيطرة على نفسه الارتفاع إلى مستوى إيماني أعلى ، إنطلاقا من تعدّد مراتب الإيمان كما جاء في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام بأن الإيمان : يزيد وينقص ويشتدّ ويضعف.
عن أبي عمر الزبيدي : قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل ، فمنه التامّ المنتهي ، ومنه الناقص البيّن نقصانه ، ومنه الراجح الزائد » قلت : إنَّ الإيمان ليتم وينقص ويزيد؟ قال : « نعم » (78).
وقد نسج الإمام الرضا عليه‌السلام على منوال جده الصادق عليه‌السلام فحثّ الإنسان المسلم على الارتقاء إلى مراحل إيمانية عالية والتحليق في مدارات روحية أسمى ..
روى الفضيل بن يسار عن الإمام الرضا عليه‌السلام قوله : « إنَّ الإيمان أفضل من الإسلام بدرجة ، والتقوى أفضل من الإيمان بدرجةٍ ، ولم يُعط بنو آدم أفضل من اليقين » (79).
فإمامنا عليه‌السلام يريد للمؤشر الإيماني أن يرتفع لدينا وأن نصل إلى حقيقة اليقين المتمثل بالصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء ، والرضا بالقضاء ..
عن سليمان الجعفري ، عن أبي الحسن الرّضا ، عن أبيه عليهما‌السلام قال : « رفع إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوم في بعض غزواته فقال : من القوم؟ فقالوا : مؤمنون يا رسول اللّه ، قال : وما بلغ من إيمانكم؟ قالوا : الصبر عند البلاء ، والشكر عند الرّخاء ، والرضا بالقضاء ، فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلماء علماء ، كادوا من الفقه أن يكونوا أنبياء ، إن كنتم كما تصفون ، فلا تبنوا ما لا تسكنون ، ولا تجمعوا ما لا تأكلون ، واتّقوا اللّه الذي إليه ترجعون » (80).
من جانب آخر نجد أن الإمام الرضا عليه‌السلام يدعو الإنسان إلى أن يضع نصب عينه دائما حقائق أساسية في الحياة ، هي : الموت وأنه لابدّ منه ، والقدر وتحكّمه فيه ، والحياة وتحولها من حال إلى حال ، فمن تيقن بالموت فسوف يحسب ألف حساب لما بعده من البعث والجزاء ، وعندها سيسيطر على سلوكه ويهذبه خوفا من الحساب المرتقب.
ومن يدرك قوة القدر الجبارة التي تتحكم فيه ، لايحزن لما يصيبه من مصائب ونوازل ، ولا يفقد توازنه إزاءها.
ومن يعي بأنَّ الدنيا متقلبة الأحوال لا يركن إليها ، ويوطن نفسه مسبقا على ما يصيبه منها من خيرٍ أو شرٍ ، وحينئذ لا يبطر عند السرَّاء ولا يجزع في الضَّراء.
وللإمام وصايا وإرشادات تربوية وحضارية تسلك بالإنسان المسلم قصد السبيل ، وتستأصل شأفة الشر من نفسه الأمّارة بالسوء ، وتساهم في طهارة نفسه وبدنه يمكننا الإشارة إليها بالفقرات التالية :

١ـ إلتزام الصمت :
لا يخفى بأن أكثر مشاكلنا تتأتى من اطلاقنا العنان لألسنتنا بدون ضابط ، وأن الكثير منا يرغب في الكلام أكثر من الاستماع ، وهنا تستدعي الضرورة في أحيان كثيرة أن نتربى على الاعتصام بالصمت فى حالات الانفعال أو المواقف الحرجة ، أو من أجل الحفاظ على الأسرار ، من هنا يشيد إمامنا عليه‌السلام بالصمت ، فهو عنده من علامات الفقه ، وباب من أبواب الحكمة ، ويرى بأن له معطيات اجتماعية عديدة.
عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، قال : قال أبو الحسن الرّضا عليه‌السلام : « من علامات الفقه : الحلم والعلم والصمت ، إنَّ الصمت باب من أبواب الحكمة ، إنَّ الصمت يكسب المحبة ، إنه دليل على كل خير » (81).
ومن المفيد التذكير أن هناك علاقة وثيقة بين العبادة والصمت ، فالعبادة عادةً تحتاج إلى صفاء وتفرغ عن المشاكل ، واللسان المهذار أحد الأسباب التي تكدر صفو العبادة ، وقد تسهم في إبطالها كما إذا تفوّه الإنسان بكلمات كبيرة كالقذف والسّباب والفسوق وما إلى ذلك.
وعموما فإطلاق العنان للِّسان ، وهو المعروف بعثراته وزلاته ، يوقع الإنسان في شرك الشيطان الذي يوحي له بالسوء والفحشاء ، الأمر الذي ينعكس سلبا على العبادة. من هنا ينبه الإمام عليه‌السلام إلى حقيقة منطقية ، هي : أن السيطرة على النفس لا تتمّ إلاّ من خلال عقل اللِّسان عن عبارات السوء والفحشاء :
عن الوشّاء ، قال : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : « كان الرجَّل من بني إسرائيل إذا أراد العبادة صمت قبل ذلك عشر سنين » (82).

٢ـ الحلم :
يحثّ الإمام عليه‌السلام على الحلم ويعتبره من علامات الفقه كالعلم والصمت ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : قال أبو الحسن الرّضا عليه‌السلام : « من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت .. » (83).
ويحدّد لنا قاعدتين تربويتين ، هما : السكوت عن الجاهل ، وعدم عتاب الصديق ، فكثيرا ما تكون البيئة التي تربّى فيها والتربية الخاطئة التي تلقاها ، هي السبب في بعض تصرفاته غير السليمة ، وهنا لابدّ من السكوت وغضّ النظر عن الهفوات غير المهمة التي تصدر منه بصورة عفوية ، وعدم معاتبته عليها ، لأن العتاب قد يتطوّر إلى جدال بالباطل ، الأمر الذي قد يتسبّب في قطع عروق العلائق بين الجانبين. وهنا يصبّ إمامنا عليه‌السلام هذه القواعد التربوية في قالب جميل من الشعر ، قال له المأمون (84) : هل رويت من الشعر شيئا ، فقال عليه‌السلام : قد رويت منه الكثير ، فقال : أنشدني أحسن ما رويته في الحلم ، فقال عليه‌السلام :

إذا كان دوني من بليت بجهله
    
أبيت لنفسي أن تقابل بالجهل

وإن كان مثلي في محلي من النهى
    
أخذت بحلميكياجل عن المثل

وإن كنت أدنى منه فيالفضل والنهى

عرفت له حق التقـدم والفضل

فقال له المأمون : ما أحسن هذا ، من قاله؟! فقال بعض فتياننا ، قال : فأنشدني أحسن ما رويته في السكوت عن الجاهل وترك عتاب الصديق ، فقال عليه‌السلام :

إني ليهجرني الصديق تجنّبا

فأريه أنَّ لهجره أسبابا

وأراه إن عاتبته أغريته

فأرى له ترك العتاب عتابا

وإذا بليت بجاهل مستحكم

يجد المحال من الأمور صوابا

أوليته مني السكوت وربما

كان السكوت عن الجواب عتابا

ثمّ قال المأمون : أنشدني أحسن ما رويته في استجلاب العدو حتى يكون صديقا ، فقال عليه‌السلام :

ومن لايدافع سيئات عدوه

بإحسانه لم يأخذ الطَول من عَلِ

ولم أرَ في الأشياء أسرع مهلكا
    
لغمر (85) قديم من وداد معجّلِ



فالإمام هنا ونتيجة للأفق الاجتماعي الرّحب الذي يتمتع به يدعو ليس فقط إلى السكوت عن الصديق وإنما إلى أبعد من ذلك بكثير إلى استجلاب العدو حتى يكون صديقا! ..إنها النفس الكبيرة.

٣ـ الحياء :
وهو رأس الخصال الكريمة ، وأصل المروءة وسبب العفّة. والعلاقة وثيقة بين الإيمان والحياء ، فكلما زاد حياء الإنسان دل على مدى عمق إيمانه ، وأما من خلع ثوب الحياء فلا إيمان له ، يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الحياء والإيمان مقرونان في قرن ، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه » (86).
وقد أكّد الإمام الرضا عليه‌السلام على هذه الحقيقة المهمة ، حقيقة التلازم بين الإيمان والحياء ، فقال عليه‌السلام : « الحياء من الإيمان » (87). ومن هنا فمن يخلع حزام العفة وينطلق مع شهواته ولا يبالي بما قيل له أو فيه لا إيمان له واقعاً ؛ لأن الإيمان التزام وشعور متغلغل في أعماق النفس يحكي عنه الحياء بجلاء.

٤ـ التواضع :
وهو خصلة أخلاقية جميلة احتلت مكانا واضحا في فكر وسلوك إمامنا الرضا عليه‌السلام ؛ فعلى صعيد الفكر كشف عن المفهوم العميق للتواضع ، وبيّن حدَّه ودرجاته ، ومن يتمعّن في الرواية التالية يكتشف نفاذ رؤية الإمام عليه‌السلام وشمول نظرته وعمق تناوله.
عن الحسن بن الجهم ، عن أبي الحسن الرِّضا عليه‌السلام قال : « التواضع أن تعطي النّاس ما تحبُ أن تُعطاه ».
وفي حديث آخر قال : « التواضع درجات؛ منها أن يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم ، لا يحبّ أن يأتي إلى أحد إلاّ مثل ما يؤتى إليه ، إن رأى سيئة درأها بالحسنة ، كاظم الغيظ عافٍ عن الناس ، واللّه يحب المحسنين » (88).
فهو يقدم لنا قراءة عظيمة لمفهوم التواضع ، تنطلق من رؤيا دقيقة وموضوعية مفادها أن يعرف المرء أولاً وقبل كل شيء قدر نفسه ومنزلتها ، ولا يرتفع بها فوق مقامها ، كي لا يلام على ذلك ، وقد يكون عِرضةً للسخرية والاستهزاء. وأن لا يحبّ لنفسه ما لا يحبّ لغيره ، بل عليه أن يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه ، إضافة إلى ذلك يشير إمامنا إلى بُعد أبعد للتواضع فيه جنبة اجتماعية ، ويتمثّل بدرأ السيئة بالحسنة ، وكظم الغيظ والعفو عن الناس.
هذا على صعيد الفكر أمّا على صعيد العمل فنجده في سلوكه عليه‌السلام يتواضع إلى الدرجة القصوى في تعامله مع الناس ، ومن الأمثلة الحية على مقدار تواضعه ، أنه دخل الحمام ، فقال له بعض الناس : دلّكني يا رجل ، فجعل يدلّكه ، فعرّفوه ، فجعل الرجل يستعذر منه وهو عليه‌السلام يُطيب قلبه ويدلكه (89).
فهو يرى أن الشرف والكرامة تتحقّق من خلال القيم والمقاييس المعنوية المتمثلة بالتقوى والطاعة للّه تعالى وليس من خلال القيم والمقاييس المادية المتمثلة بالحسب والنسب ، أو المال والقدرة وما إلى ذلك.
وكان عندما يكيلون له أو لآبائه عليهم‌السلام المديح والثناء يتواضع جدا ويكشف لهم عن المفهوم القرآني للشرف والخيرية المتمثّل بالتقوى :
عن محمد بن موسى بن نصر الرازي ، قال (90) : سمعت أبي ، يقول : قال رجل للرضا عليه‌السلام : واللّه ما على وجه الأرض أشرف منك أبا ، فقال عليه‌السلام : « التقوى شرفتهم ، وطاعة اللّه أحظتهم » ، فقال له آخر : أنت واللّه خير الناس ، فقال له : « لا تحلف يا هذا ، خير مني من كان أتقى للّه تعالى وأطوع له ، واللّه ما نسخت هذه الآية : ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم ) (91) ».
حاول بذلك التنبيه على أن الاعتماد على محض القرابة ليس يستحسن في العقول ، وإنما الشرف في الكمال العلمي والعملي ورأسهما التقوى.
وعن ابن ذكوان قال : سمعت إبراهيم بن العباس يقول : سمعت عليَ بن موسى الرضا عليه‌السلام يقول : « حلفت بالعتق ولا أحلف بالعتق إلاّ أعتقت رقبة ، وأعتقت بعدها جميع ما أملك إن كان يرى أنه خير من هذا ـ وأومأ إلى عبد أسود من غلمانه ـ بقرابتي من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل به منه » (92).

٥ ـ العمل لوجه اللّه تعالى :
العمل شعار المؤمن ، وهو الذي يسهم في إيصاله إلى أعلى الدرجات ، قال تعالى : « ومن يأته مؤمنا قد عَمِلَ الصّالحاتِ فأُولئِكَ لهمُ الدَّرجات العُلى » (93) والعمل هو الذي يفجّر طاقات النفس الإبداعية ، فتنطلق في آفاق أرحب وتحيى حياة طيبة ، يقول عزَّوجلَّ : ( ومن عَملَ صالحا من ذكر أو أُنثى وهو مؤمنٌ فلنُحيينّهُ حياةً طيبة .. ) (94).
ومعلومٌ أن مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام تركز على «الثنائي الحضاري» المتمثل بالإيمان المقترن بالعمل ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل » (95).
والإمام الرضا عليه‌السلام يدعو المؤمن إلى سبر أغوار نفسه ومعرفة دافع العمل الذي يقوم به هل هو خالص للّه أم لا؟ فليس العمل المجرّد في الإسلام هو المطلوب ، وإنما العمل المقترن بدوافع نبيلة ونية خالصة ، والبعيد عن الرياء والسمعة ، بتعبير آخر أن يكون خالصا للّه. وفي هذا الصدد يصوغ لنا إمامنا قاعدة عبادية ، هي : « من عمل لغير اللّه وكله اللّه إلى ما عمل ».
عن محمد بن عرفة قال : قال لي الإمام الرضا عليه‌السلام : « ويحك يا بن عرفة ، اعملوا لغير رياء ولا سُمعة ، فإنّه من عمل لغير اللّه وكله اللّه إلى ما عمل ، ويحك! ما عمل أحد عملاً إلاّ ردّاه اللّه ، إن خيرا فخيرٌ ، وإن شرّا فشر » (96).
ثمّ ان الاستتار بالعمل يبعده عن الرياء والسمعة ، ويوجب مضاعفة الثواب :
عن العباس مولى الرضا عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة ، والمذيع بالسيئة مخذول ، والمستتر بها مغفور له » (97).
وفي جانب آخر يصوغ لنا إمامنا قاعدة تتعلّق بالقناعة بالرزق وعلاقته بالعمل ، ومفادها : « من يقتنع بالقليل من الرزق يكفيه القليل من العمل ».
قال عليه‌السلام : « من لم يقنعه من الرّزق إلاّ الكثير لم يكفه من العمل إلاّ الكثير ومن كفاه من الرّزق القليل فإنه يكفيه من العمل القليل » (98).
فالإمام يذمّ ـ بصورة ضمنية ـ التكالب على الدنيا ، ويرى بأن القناعة كتربة خصبة ينمو فيها العمل ولو كان قليلاً ما دام خالصا للّه تعالى. أما حرص الإنسان على الحصول على فوق ما يكفيه من الرزق فقد يشغله بملذّات ومغريات الدنيا ، فيحتاج ـ والحال هذه ـ إلى عمل عبادي أكثر يتناسب وحجم ما يسعى لتحصيله كما هو مفاد الحديث.

٦ ـ الاستغناء عن الناس :
يدعو الإمام عليه‌السلام في تعاليمه التربوية على الاعتماد على النفس والامتناع عن طلب الحوائج من الآخرين وخاصة إذا كانوا مخالفين ، صيانة لماء الوجه ، وتنزيها للنفس عما يشينها :
عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : جعلت فداك اكتب لي إلى إسماعيل بن داود الكاتب لعلّي اُصيب منه ، قال : « أنا أضنّ بك أن تطلب مثل هذا وشبهه ، ولكن عوّل على مالي » (99). فالإمام يريد العزة والكرامة للمسلم ، وأن لا يكون كلاًّ على غيره ، وإن كان ولا بُد من الطلب فينبغي أن تُطلب الحاجة من الأفراد الصالحين ، وأن لاتكون الحاجة خسيسة وغير ذات قيمة.

٧ ـ الاهتمام بالمظهر :
وهو أمر حضاري يعبّر عن درجة الرّقي لأفراد أي أمة. علما بأن الإسلام قد حثّ من اعتنقه على الاهتمام بالنظافة عموما ، كما حثّ على الاهتمام بالاناقة ، وكان الرضا عليه‌السلام يلفت النظر إلى أهمية الطيب ، وفي هذا المجال يقول : « لا ينبغي للرجل أن يدَع الطيب في كل يوم ، فإن لم يقدر عليه فيوم ويوم لا ، فإن لم يقدر ففي كل جمعة ، ولا يدع ذلك » (100).
وعن الحسن بن الجهم ، قال : قال أبو الحسن عليه‌السلام : « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : لا يأبى الكرامة إلاّ حمار ، قلت : مامعنى ذلك؟ قال : « التوسعة في المجلس والطيب يُعرض عليه » (101).
نخلص من هذا كله إلى القول بأن الإمام الرضا عليه‌السلام قد ترك لنا ثروة معنوية لا تقدر بثمن ، هي مجموع التعاليم التربوية والحضارية الرائعة التي ينبغي أن نضعها نصب أعيننا من أجل الصعود الحضاري بأفراد أمتنا إلى مدارج الكمال والرفعة.

ثانيا : علاقة الإنسان بخالقه
يدعو الإمام الرضا عليه‌السلام إلى بناء وتوثيق علاقة المسلم بخالقه ، ويوقظ في نفسه العاطفة الدينية ، ويزرع في وعيه المفهوم السليم للعبادة ، وضرورة الإخلاص فيها ، كما يبين الأساليب المؤدية إلى تعزيز العلاقة مع الرَّب ، ويكشف عن النتائج الايجابية لمن أطاع ربَّه والعواقب الوخيمة لمن عصاه. والحديث التالي يقدم لنا مفهوما عميقا للعبادة يعطي فيه للفكر الأولوية ، بينما يأتي العمل العبادي من صلاة وصوم وما إلى ذلك في المرتبة الثانية :
عن معمر بن خلاّد قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام يقول : « ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم ، إنّما العبادة التفكّر في أمر اللّه عزَّوجلَّ » (102) ، فإمامنا يقدم في مفهومه للعبادة الفكر والعقل لكونه أصل في الاعتقاد السليم ، أما الشعائر وأعمال الجوارح فهي تابع للعقل والاعتقاد ومتفرعة عليه. ومن هنا كانت عبادة أكثر المقربين إلى أهل البيت عليهم‌السلام كأبي ذرّ وعمّار وسلمان وغيرهم (رضي اللّه عنهم) مقرونة بالتفكّر والاعتبار ، وقد سألوا أم ذرّ يوما عن عبادته ، فقالت : «كان نهاره أجمع يتفكّر في ناحية من الناس» (103).
من جانب آخر يركز إمامنا عليه‌السلام على الإخلاص في العبادة لكونها تنطلق من بواعث ذاتية ، كالنية ، وبدونها يفسد العمل العبادي كما تُفسد قطرة الخل العسل. وفي هذا الخصوص يروي الرضا عليه‌السلام عن جده أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : « طوبى لمن أخلص للّه العبادة والدُّعاء ، ولم يشغل قلبه بما تراه عيناه ، ولم ينسَ ذكر اللّه بما تسمع أذناه ، ولم يحزن صدره بما اُعطي غيره » (104).
ضمن هذا السياق يعرض لنا إمامنا عليه‌السلام أسلوبين لتقوية العلاقة مع الخالق ، هما :

١ ـ أسلوب الاستغفار
ليس خافيا بأن الذنوب تمثل عائقا يحول دون توطيد العلاقة مع الرَّب ، والاستغفار هو الأسلوب الذي يرتضيه الرَّب لكسب عفوه واستجلاب رحمته ، وليس من شكّ في أن الاعتراف بالذنب مقدمة ضرورية عند العقلاء لتخفيف الجرم أو إلغائه ، واللّه تعالى سيد العقلاء يدعو عباده المذنبين الذين قطعوا حبل الوصال معه إلى الاستغفار والتوبة كمقدمة للدخول في حظيرة قدسه ، بشرط أن يكون المستغفر صادقا في طلبه مقلعا عن ذنبه.
والملاحظ أن إمامنا عليه‌السلام يستخدم ضرب الأمثال كأسلوب تربوي فعال لتقريب الفكرة إلى الواقع المحسوس في عقول الناس :
عن ياسر ، عن الرضا عليه‌السلام قال : « مثل الاستغفار مثل ورق على شجرة تحرَّك فيتناثر ، والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزى ء برَّبه » (105).

٢ ـ أسلوب الدعاء
تتوطّد دعائم العلاقة باللّه تعالى من خلال الدعاء الذي يمثل الاتصال المباشر بين البشر وخالقهم ، لا سيما وأن اللّه تعالى قد أَذِن للإنسان بالدعاء وتكفّل له بالإجابة. والدعاء هو شكل من العبادة بل أفضلها ، قال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفضل العبادة الدعاء » (106) ، وهو أحبّ الأعمال إلى اللّه تعالى ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أحبّ الأعمال إلى اللّه عزَّوجلَّ في الأرض الدعاء » (107) ، وعن أبي جعفر عليه‌السلام : « إن اللّه تعالى يحبّ من عباده المؤمنين كل دعّاء » (108).
وعلى هذا الأساس يحث الإمام الرضا عليه‌السلام أصحابه وشيعته على الارتباط باللّه وتقوية العلاقة معه من خلال الإلحاح بالدعاء ، الذي هو ـ حسب تعبيره ـ سلاح الأنبياء :
عن ابن فضال ، بإسناده إلى الرضا عليه‌السلام أنّه كان يقول لأصحابه : « عليكم بسلاح الأنبياء » ، فقيل : وما سلاح الأنبياء؟ قال : « الدُّعاء » (109).
وينقل لنا عليه‌السلام حديثا عن جدّه زين العابدين عليه‌السلام مبينا فيه الاقتران في الدنيا بين الدعاء والبلاء ، كاشفا عن القدرة الكبرى للدعاء في رفع أمواج البلاء المتلاطمة في بحر الحياة الهائج المائج : عن أبي همّام إسماعيل بن همّام ، عن الرضا عليه‌السلام ، قال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : « إن الدّعاء والبلاء ليترافقان إلى يوم القيامة ، إنَّ الدُّعاء ليردُّ البلاء وقد اُبرم إبراما » (110).
ومن المفيد التذكير بأن الدعاء في السر أكثر ثوابا من الدعاء في العلن ، لأن الأول يمثل اتصال مباشر بين العبد وربّه لا مجال فيه للرياء والنفاق أو إلحاق الأذى بالنفس أمام الظالمين أو إثارة مشاعر الآخرين ، من هنا يوصي إمامنا عليه‌السلام بدعوة السرّ : عن أبي همّام إسماعيل بن همّام عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية ». وفي رواية اُخرى : « دعوة تخفيها أفضل عند اللّه من سبعين دعوة تظهرها » (111).
ويلفت نظرنا عليه‌السلام إلى نقطة مهمة ، وهي عدم القنوط واليأس عند تأخر إجابة الدعاء ، فالقنوط أواليأس نوع من إساءة الظن باللّه تعالى ، ولأن اللّه تعالى حكيم ورحيم وأعرف بمصالح عبده ، فقد يستجيب الدعاء ولكن يؤخره للوقت أو الظرف المناسب للعبد ، وعليه يُسدي الإمام عليه‌السلام نصيحته لشيعته بتجنب الوقوع في شرك الشيطان ، الذي يحاول أن يقنط الإنسان من رحمة ربّه :
عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : جعلت فداك إنّي قد سألت اللّه حاجة منذ كذا وكذا سنة وقد دخل قلبي من إبطائها شيء ، فقال : « يا أحمد ، إيّاك والشيطان أن يكون له عليك سبيلاً حتى يقنّطك ، إنَّ أبا جعفر صلوات اللّه عليه كان يقول : إنَّ المؤمنَ يسألُ اللّه عزَّوجلَّ حاجةً فيُوخّرُ عنه تعجيل إجابته حبّا لصوته واستماع نحيبه ».
ثمَّ قال : « واللّه ما أَخَّر اللّه عزَّوجلَّ عن المؤمنين ما يطلبون من هذه الدُّنيا خيرٌ لهم ممّا عجَّل لهم فيها ، وأَيُّ شيءٍ الدُّنيا؟ إنَّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقولُ : ينبغي للمؤمن أن يكونَ دُعاؤُهُ في الرَّخاء نحوا من دُعائهِ في الشدَّةِ ، ليس إذا اُعطي فَتَر ، فلا تملّ الدّعاءَ فانّهُ من اللّه عزَّوجلَّ بمكانٍ ، وعليك بالصَّبر وطلب الحلال وصلة الرّحم ، وإيّاك ومكاشفة الناس ، فإنّا أهل البيتِ نصلُ من قطعنا ونُحسنُ إلى من أساء إلينا ، فنرى واللّه في ذلك العاقبة الحسنة » (112).
وفي هذا الإطار يكشف لنا الإمام عليه‌السلام عن الثمار الطيبة التي يجنيها الإنسان المسلم عند ارتباطه بربّه وإيثار طاعته ، وبالمقابل يبين لنا العواقب الوخيمة المترتّبة على المعصية : عن سليمان الجعفري ، عن الرضا عليه‌السلام قال : « أوحى اللّه عزَّوجلَّ إلى نبيّ من الأنبياء : إذا اُطعتُ رضيتُ ، وإذا رضيتُ باركتُ ، وليس لبركتي نهاية ، وإذا عُصيتُ غضبتُ ، وإذا غضبتُ لَعَنتُ ، ولعنتي تبلغ السابع من الورى (113) .. » (114).
وهكذا يقدم لنا رؤية شمولية لتوثيق العلاقة مع الخالق ، تلك العلاقة التي تعود بأعظم الفوائد على المخلوق في الدنيا والآخرة.

ثالثا : علاقة المسلم بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام :
لا بدّ للمسلم السويّ من أن يوطّد علاقته بأولياء أمره الذين فرض اللّه طاعتهم ، فهم حجج اللّه تعالى ووسيلته إلى رضوانه والشفعاء في يوم حسابه. وتوطيد العلاقة معهم يتأتى من خلال الاقتداء بهديهم والتأسّي بهم ، وفي طليعتهم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يقول أمير المومنين عليه‌السلام موصيا : « اقتدوا بهدى نبيِّكم فإنَّه أفضل الهدى ، واستنُّوا بسنَّته فإنَّها أهدى السُّنن » (115) وهنا يرشدنا الإمام الرضا عليه‌السلام إلى دوام الصلاة على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفانا بالجميل ، وتقديرا للجهود الجبارة التي بذلها من أجل أمته : عن عبيداللّه بن عبداللّه الدّهان ، قال : دخلت على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فقال لي : « ما معنى قوله : ( وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) (116) » قلت : كلّما ذكر اسم ربّه قام فصلّى ، فقال لي : « لقد كلّف اللّه عزَّوجلَّ هذا شططا » (117) فقلت : جعلت فداك فكيف هو؟ فقال : « كلّما ذكر اسم ربّه صلّى على محمّد وآله » (118).
أما أهل البيت عليهم‌السلام فهم شمس الهداية الأبدية لهذه الأمة وسفن نجاتها ، وفي هذا المورد يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سَمْتَهُم واتَّبعوا أثَرهم ، فلن يُخرجوكم من هُدى ، ولن يُعيدُوكم في ردى » (119) ، ويرشد الإمام الرضا عليه‌السلام شيعته إلى إحياء ذكر أهل البيت عليهم‌السلام وإقامة مجالس العزاء تثمينا للتضحيات الجسام التي بذلوها والمصائب العظام التي لاقوها في سبيل إعلاء كلمة الدين : عن علي بن الحسن بن فضال عن أبيه ، قال الرضا عليه‌السلام : « من تذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون ، ومن جلس مجلسا يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب » (120).
وهذا الحديث فيه أسلوب تربوي قيم يُعمق من رابطة الولاء بين المسلم وأئمته عليهم‌السلام ، فإدامة ذكرهم وذكر مصائبهم تُنمي في وعيه ووجدانه الأفكار والمفاهيم الإسلامية الصحيحة ، فتنطلق في داخله ينابيع العواطف الإنسانية الخيرة ، إضافة إلى المعطيات الايجابية التي يحصل عليها يوم الحساب حيث الثواب الجزيل.

رابعا : علاقته بأبناء جنسه
يريد الإسلام من الإنسان أن يخرج بوعيه من قفص الأنانية الضيق إلى أفق الإنسانية الأرحب ، وأن لا يتقوقع على ذاته وينعزل عن محيطه الاجتماعي ، وإلاّ تحوّلت حياته إلى صحراء مجدبة. لذلك يشجّع الإنسان على بناء وتدعيم علاقات طيبة مع أبناء جنسه قائمة على الاحترام المتبادل وتبادل المنفعة والمعونة وإسداء النصيحة وما إلى ذلك.
والملاحظ أن المسألة الاجتماعية تأخذ مكان الصدارة في الآيات القرآنية والروايات الواردة عن النبي وأهل بيته (صلوات اللّه عليهم) ، ولإمامنا الرضا عليه‌السلام نصائح وإرشادات قيمة بخصوص المسألة الاجتماعية عند مراعاتها تشكل صمام أمان لبناء إنسان مسلم ملتزم بالحقوق الاجتماعية المترتبة عليه.
والملاحظ أن اهتمام الإمام عليه‌السلام ينصب أولاً على الدائرة الاجتماعية الأقرب للإنسان وهي دائرة الوالدين ، الذين لهم حق عظيم عليه في ولادته ونشأته وتربيته ، فأقل ما يتوجب لهما من الحقوق وجوب مداراتهما وعدم عقوقهما ، إذا كانا على قيد الحياة ، أما إذا طوى الموت صفحة حياتهما فينبغي على الأولاد الدعاء لهما والتصدّق عنهما ، بغضّ النظر عن عقيدتهما أو عدم معرفتهما للمذهب الحق : عن معمر بن خلاّد قال : قلت لأبي الحسن الرّضا عليه‌السلام : أدعوا لوالديّ إذا كانا لا يعرفان الحقَّ؟ قال : « ادع لهما وتصدَّق عنهما ، وإن كانا حيّين لا يعرفان الحقَّ فدارهما ، فإنَّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنَّ اللّه بعثني بالرَّحمة لا بالعقوق » (121).
فهنا يوقظ إمامنا عليه‌السلام خير ما في نفس الإنسان من أحاسيس خيرة وعواطف نبيلة تجاه والديه ، ويكشف عن المعطيات الإيجابية التي سيحصل عليها المسلم في الدنيا قبل الآخرة والمتمثّلة بطول العمر :
عن محمد بن عبيد اللّه : قال : قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : « يكون الرَّجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيّرها اللّه ثلاثين سنة ، ويفعل اللّه ما يشاء » (122).
ومما يدلّل على الأهمية القصوى التي يوليها الإمام عليه‌السلام للمسألة الاجتماعية توسيعه من دائرة الاهتمام بالمحيط الاجتماعي لتشمل الجار والقريب والصديق ، وهم الذين يمتون بصلة القرابة مع الإنسان المسلم ويشاركونه بالعيش في محيطه ، ويمكننا الإشارة إلى أبرز الارشادات في هذا الصدد بالنقاط التالية :
١ ـ المواساة والإخاء في اللّه تعالى : عمل إمامنا على تكريس مبدأ الإخاء عمليا من خلال تعامله مع خدمه وحشمه ، فعن ياسر الخادم ، قال : كان الرضا عليه‌السلام إذا خلا جمع حشمه كلهم عنده ، الصغير والكبير فيحدثهم ويأنس بهم ويؤنسهم ، وكان عليه‌السلام إذا جلس على المائدة لا يدع صغيرا ولا كبيرا حتى السائس والحجام إلاّ أقعده معه على مائدته (123).
لقد جعل إمامنا عليه‌السلام الإخاء مقرونا بالطاعة للّه ، فليس الإخاء ـ عنده ـ إلاّ طاعة للّه تعالى ، فكل من أطاع اللّه فهو أخ وقريب وان بَعُدت لحمته ، وكل من عصاه فهو بعيد وإن قرب نسبه ، ومن مصاديق ذلك :
روي أن الإمام الرضا عليه‌السلام قال لأخيه زيد : « أنت أخي ما أطعت اللّه ، فإن عصيت اللّه فلا أخاء بيني وبينك » (124).
٢ ـ العطاء والسخاء : لهاتين الفضيلتين دور كبير في جذب النفوس واستمالتها ، فان الإنسان بطبعه يحب الخير والمنفعة ، ولا ينسى في الغالب من أسدى إليه الإحسان. وكان إمامنا عليه‌السلام كآبائه الأطهار عليهم‌السلام جوادا كريما ، ينفق على المعوزين ، ولا يمسك مالاً ، يقوم بقضاء حوائج المحتاجين ، ولا يرد سائلاً ، ولا يُخَيّب مؤمّلاً ، وهناك شواهد عديدة على ذلك أرادها أن تكون أدبا أو منهجا للسائرين في طريقه عليه‌السلام ، منها ما جاء عن اليسع بن حمزة : أن رجلاً قال له : السلام عليك يا بن رسول اللّه ، أنا رجل من محبيك ومحبي آبائك ، مصدري من الحج ، وقد نفذت نفقتي وما معي ما أبلغ مرحلة ، فإن رأيت أن تهبني إلى بلدي .. فإذا بلغت بلدي تصدّقت بالذي توليني عنك ، فلستُ موضع صدقة. فقام عليه‌السلام فدخل الحجرة وبقي ساعة ، ثم خرج وردّ الباب وأخرج يده من أعلى الباب ، فقال : « خذ هذه المائتي دينار فاستعن بها في أمورك ونفقتك وتبرّك بها ولا تتصدّق بها عني ، اخرج ولا أراك ولا تراني ». فلما خرج سئل عن ذلك فقال : « مخافة أن أرى ذل السؤال في وجهه لقضاء حاجته » (125). ما أعظمه من موقف تربوي أن يكون العطاء بدون امتنان ، ويحفظ كرامة الإنسان.
وعن يعقوب بن إسحاق النوبختي ، قال : مرّ رجل بأبي الحسن الرضا عليه‌السلام فقال له : أعطني على قدر مروّتك ، قال : « لا يسعني ذلك » ، فقال : على قدر مروّتي ، قال : « إذا فنعم » ، ثم قال : « يا غلام أعطه مائتي دينار » (126).
وقد فرق بخراسان ماله كله في يوم عرفة ، فقال له الفضل بن سهل : إن هذا لمغرم ، فقال : « بل هو لمغنم ، لا تعدنّ مغرما ما ابتغيت به أجرا وكرما » (127).
وقد تجسّد عطاؤه ـ أيضا ـ في عتق العبيد ، حيث آمن بكرامة الإنسان وسعى إلى تحريره من براثن العبودية والرِّق ، ومن مصاديق ذلك : أنه أعتق ألف مملوك (128) ، وكان عليه‌السلام يمجد السخاء ويرى بأن السخي قريب من الخالق ومن الخَلق على حد سواء ، وبالمقابل يذم البخل لكونه يبعد الإنسان عن ربه وعن أبناء جنسه : عن الحسن بن علي الوشاء ، قال : سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول : « السخي قريب من اللّه ، قريب من الجنة ، قريب من الناس ، بعيد عن النار ، والبخيل بعيد عن الجنة ، بعيد عن الناس ، قريب من النار » (129).
ضمن هذا السياق حدد بعمق أظهر علامات السخي والبخيل فقال : « السخي يأكل من طعام الناس ليأكلوا من طعامه ، والبخيل لا يأكل من طعام الناس لئلا يأكلوا من طعامه » (130).
وعن معمر بن خلاّد قال : كان أبو الحسن الرضا عليه‌السلام إذا أكل أُتي بصحفه توضع بطرف مائدته ، فيعمد إلى أطيب طعام ممّا يؤتى به فيأخذ من كل شيء شيئا فيوضع في تلك الصحفة ، ثم يأمر بها للمساكين ، ثم يتلو هذه الآية : ( فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) ثم يقول : « علم اللّه عزّوجلّ أن ليس كلُّ إنسان يقدر على عتق رقبة ، فجعل لهم السبيل إلى الجنة بإطعام الطعام » (131).
٣ ـ العذر : دعا إمامنا إلى التسامح مع الناس ، والتماس العذر لكل من أساء التصرف منهم أو أخطأ بحق الآخرين ، ودعا إلى حمل عمل المسيء على أحسن المحامل ، والستر على عيوبه ، وله أشعار حول قبول العذر ، فعن أبي الحسن القرضي عن أبيه قال : حضرنا مجلس أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فجاء رجل فشكا إليه حاله فأنشأ الرضا يقول :

أعذر أخاك على ذنوبه

واصبر وغظّ على عيوبه

واصبر على سفه السفيه

وللزمان على خطوبه

ودع الجواب تفضّلاً
    
وكِلِ الظلوم على حسيبه (132)

٤ ـ عدم مجالسة أهل المعاصي : إدراكا من الإمام عليه‌السلام بأن الوقاية خيرٌ من العلاج ، فهو يحذر من مجالسة أهل المعاصي ولو كانوا ضمن دائرة الأقربين ؛ لأن العدوى الفكرية أخطر من العدوى الجرثومية ، فهي تورد الإنسان موارد الهلكة والنقمة في الدنيا والعذاب الدائم في الآخرة :
عن الجعفري ، قال : سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول لأبي : « ما لي رأيتك عند عبد الرَّحمن بن يعقوب »؟ فقال : إنّه خالي ، فقال : « إنّه يقول في اللّه قولاً عظيما ، يصف اللّه ولا يوصف ، فإمّا جلست معه وتركتنا ، وإمّا جلست معنا وتركته؟ » فقلت : هو يقول ما يشاء ، أيُّ شيءٍ عليَّ منه إذا لم أقل ما يقول؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعا؟ أما علمت بالّذي كان من أصحاب موسى عليه‌السلام وكان أبوه من أصحاب فرعون ، فلمّا لحقت خيل فرعون موسى تخلَّف عنه ليعظ أباه فيلحقه بموسى فمضى أبوه وهو يراغمه (133) حتى بلغا طرفا من البحر ، فغرقا جميعا ، فأتى موسى عليه‌السلام الخبر ، فقال : هو في رحمة اللّه ، ولكنَّ النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمّن قارب الذنب دفاع » (134).
الرواية المتقدمة ذات قيمة اجتماعية كبرى ، ففيها دعوة إلى الانسلاخ الاجتماعي من الموبوئين فكريا والحجر عليهم والابتعاد عنهم.
صحيح أن الأفراد المحصنين عقائديا والواعين فكريا لايتأثرون بأمثال هؤلاء ، ولكن الخشية كل الخشية تتأتى من النقمة الإلهية التي إذا نزلت فإنها تعم الكافر والمؤمن على حد سواء في دار الدنيا ، وإن كان المؤمن تشمله رحمة اللّه في الآخرة. هذا فضلاً عما في مجالسة أهل المعاصي من إضفاء صورة عليهم لا يستحقونها ؛ لأنهم أهل للتحقير والاستصغار لا أهل للتقدير والاحترام.
هذه الحقيقة الجوهرية التي أثارها الإمام عليه‌السلام والمتمثّلة بتسبّب الفكر المنحرف في دمار المجتمع والمدنية لم يلتفت إليها علماء الاجتماع وخاصة الغربيين منهم ، فهؤلاء ينظرون لعوامل انحطاط وتدمير المجتمعات وسقوط الحضارات وفق نظرة مادية تستبعد كليا العوامل الغيبية كنزول النقمة الإلهية.
أما النظرية الإسلامية في علم الاجتماع فتأخذ بنظر الاعتبار عامل الغيب ، وتعده من أبرز العوامل المؤثرة في تدمير المجتمعات وسقوط الحضارات ، وإمامنا هنا أرشد إلى هذا العامل الفاعل بصورة لالبس فيها.
وهناك عدة ارشادات راقية للإمام الرضا عليه‌السلام وهي صالحة للانطباق على أكثر من دائرة واحدة من دوائر العلاقة السالفة الذكر ، ويمكننا الإشارة إليها من خلال الفقرات الآتية :
أ ـ التمجيد بالعقل : ما من دين ذهب أبعد من الإسلام في التمجيد بالعقل وتثمين دوره في الاعتقاد ، وكان إمامنا الرضا عليه‌السلام ينسج على منوال الإسلام في تأكيد قيمة العقل وإبراز مكانته ، فقد اعتبر العقل حجّة على الخلق ، يتّضح لنا ذلك من الحوار الذي دار بين الإمام الرضا عليه‌السلام وبين ابن السكّيت الذي أثنى على الإمام عليه‌السلام قائلاً : «واللّه ما رأيت مثلك» .. ثمّ سأله : فما الحجّة على الخلق اليوم؟
فقال : « العقل ، يعرف به الصادق على اللّه فيصدقه ، والكاذب على اللّه فيكذبه ». فقال ابن السكيت : هذا واللّه هو الجواب (135).
قال الطبرسي : قد ضمّن الرضا عليه‌السلام في كلامه هذا أن العالم لا يخلو في زمان التكليف من صادق من قبل اللّه يلتجى ء المكلّف إليه في أمر الشريعة ، صاحب دلالة تدل على صدقه عليه تعالى ، يتوصّل المكلّف إلى معرفته بالعقل ، ولولاه لما عرف الصادق من الكاذب ، فهو حجة اللّه على الخلق أولاً (136).
مما تقدّم يبدو لنا أن الإمام عليه‌السلام أراد أن يغرس في نفوس الناس القيمة الحضارية للعقل حتى يحررهم من عقال الجهل ، لذلك دعا إلى عقد صداقة وثيقة مع العقل وتحكيمه في شؤون الحياة ، وبالمقابل معاداة الجهل ، فعن حمدان الديواني ، قال : قال الرضا عليه‌السلام : « صديق كل امرء عقله ، وعدوه جهله » (137).
ب ـ توجيه النصح والمواعظ : وهي من الأساليب التربوية العظيمة النفع ، وبها جاءت سائر الأديان ، وعمل بها جميع الأنبياء والرسل والأوصياء عليهم‌السلام كما اتبعها كثير من القادة والزعماء من أجل أن يغرسوا في ثنايا النفوس بذور الخير والصلاح ، وتقويم اعوجاج السلوك. وكان إمامنا عليه‌السلام يكثر من وعظ المأمون إذا خلا به ، ويخوّفه باللّه ويقبّح له ما يرتكبه من خلافه ، وكان المأمون يظهر قبول ذلك ويبطن كراهته (138).
كان الإمام يعلم بأن الدّين النصيحة ، وعليه كان لايبخل بإسداء نصائحه المخلصة كلما وجد التربة الصالحة لغرسها ، ولكن هناك صنف من الناس لايقبل النَّصح ولاتُجدي معه الموعظة ، ففي هذه الحالة يرى الإمام عليه‌السلام بأن من العبث محض النصيحة لأمثال هؤلاء :
جاء قوم بخراسان إليه عليه‌السلام فقالوا : إن قوما من أهل بيتك يتعاطون أمورا قبيحة ، فلو نهيتهم عنها؟ قال : « لا أفعل » ، فقيل : ولم؟ قال : « سمعت أبي عليه‌السلام يقول : النصيحة خشنة » (139).
جـ ـ عدم الرضا عن المنكر : يصوغ لنا الإمام عليه‌السلام قاعدة حضارية كبرى لو طبقت على صعيد العالم لعم السلام والأمن الأرض ألا وهي «قاعدة الرضا» فهو يقرر بحق : « أن من رضي شيئا كان كمن أتاه » لكون الرضا هو الأساس النفسي للفعل ، وبمقتضى هذه القاعدة : من رضي عن الفعل الحسن فهو يشارك في ثوابه ، أما من رضي بالفعل القبيح فسوف يشترك في الإثم المترتب عليه ، وهذه القاعدة لم تأت من فراغ ، وانما تنبثق من دستور الإسلام العظيم قرآناً وسنة.
وتتّضح لنا أبعاد هذه القاعدة لو علمنا بأن كثيرا من الجرائم والتجاوزات تقع ويتكرر وقوعها بسبب رضا البعض بوقوعها أو سكوته حيالها ، فلو رفع كل إنسان صوته ضد الظلم والعدوان لاندحر الباطل وعلا صوت الحق.
عن عبد السلام الهروي ، قال : قال الرضا عليه‌السلام : « من رضي شيئا كان كمن أتاه ، ولو أن رجلاً قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند اللّه عزّوجلّ شريك القاتل .. » (140).
د ـ إقتفاء السنن : يلفت إمامنا نظرنا إلى وجود سنن أو خصال تربوية ينبغي مراعاتها من قبل الإنسان المؤمن ، لكي يكون سلوكه سويّا ، تتّضح لنا هذه السنن أو الخصال فيما روي عن إمامنا أنه قال : « لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون فيه ثلاث خصال : سنّة من ربه ، وسنّة من نبيه ، وسنّة من وليه؛ فالسنّة من ربّه كتمان سره .. أما السنّة من نبيّه فمداراة الناس .. وأما السنّة من وليّه فالصبر على البأساء والضراء .. » (141).
__________________
(١) التوحيد / الشيخ الصدوق : ٤٥٤ ، باب (٦٦).
(2) التوحيد / الصّدوق : ٤١٧ وما بعدها ، باب (٦٥).
(3) التوحيد : ٤١٧ ـ ٤٤٠ ، باب (٦٥).
(4) التوحيد : ٤١٧ ـ ٤٤٠ ، باب (٦٥).
(5) التوحيد : ٤١٧ ـ ٤٤٠ ، باب (٦٥).
(6) التوحيد : ٤١٧ ـ ٤٤٠ ، باب (٦٥).
(7) أتباع زرادشت. وهو رجل من أذربيجان. ادّعى النبوة ، ويتفق المجوس على أن اللّه تعالى يسلم العالم إلى الشيطان سبعة آلاف سنة يحكم ويفعل مايريد. وبعد ذلك عهد أن يقتل

الشيطان. وهذا الكلام غير لائق بالعقلاء (انظر : اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ، فخر الدين الرازي : ١٢٠ ، الفصل الثالث).
(8) التوحيد : ٤١٧ ـ ٤٤٠ ، باب (٦٥).
(9) التوحيد : ٤١٧ ـ ٤٤٠ ، باب (٦٥).
(10) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ / ١٢٠ ، ح ٢٨ ، باب (١١).
(11) سورة طه : ٢٠ / ١٢١.
(12) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٧.
(13) سورة يوسف : ١٢ / ٢٤.
(14) سورة ص : ٣٨ / ٢٤.
(15) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٧.
(16) سورة آل عمران : ٣ / ٧.
(17) سورة آل عمران : ٣ / ٣٣.
(18) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩١ / ١ باب (١٤).
(19) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٧.
(20) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٣.
(21) كتاب التوحيد ، الصّدوق : ١٢١ ، ح ٢٤ ، باب (٨).
(22) سورة هود : ١١ / ٢٩.
(23) سورة هود : ١١ / ٥١.
(24) سورة الشورى : ٤٢ / ٢٣.
(25) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٧ ، ح ١ ، باب (٢٣).
(26) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٧ ، ح ١ ، باب (٢٣).
(27) سورة يآس : ٣٦ / ١ ـ ٤.
(28) سورة الصافات : ٣٧ / ٧٩.
(29) سورة الصافات : ٣٧ / ١٠٩.
(30) سورة الصافات : ٣٧ / ١٢٠.
(31) سورة الصافات : ٣٧ / ١٣٠.
(32) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٤ ، ح ١ ، باب (٢٣).
(33) سورة الطلاق : ٦٥ / ١٠ ـ ١١.
(34) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٦ ، ح ١ ، باب (٢٣).
(35) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠٧ ـ ٢١٧ ، ح ١ ، باب (٢٣) ، وأمالي الشيخ الصّدوق : ٦١٥ ، المجلس (٧٩).
(36) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٥٥ ، ح ١ ، باب (٥٧).
(37) لسان العرب / ابن منظور ١٤ : ٦٥ ، مفردات الراغب : ٤٠ ، مادة (بدا).
(38) اُنظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني ٣ : ٥١ ـ ٥٧ و ١٣١ ـ ١٥١.
(39) اُنظر : دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي ٢ : ٣٣ وما بعدها.
(40) سورة الرعد : ١٣ / ٣٩.
(41) سورة الرحمن : ٥٥ / ٢٩.
(42) صحيح البخاري ٩ : ١٨٧ ـ باب : قول اللّه تعالى : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ).
(43) اُنظر : صحيح البخاري ١ : ٩٨ ، كتاب الصلاة ، وأيضا ٩٦ : ١٨٢ ، باب قوله تعالى : ( وَكَلَّمَ اللّه مُوسَى تَكْلِيماً ).
(44) صحيح البخاري ٤ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ، كتاب الأنبياء ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل.
(45) دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي ٢ : ١٦٠ وما بعدها.
(46) سورة مريم : ١٩ / ٦٧.
(47) سورة الروم : ٣٠ / ٢٧.
(48) سورة البقرة : ٢ / ١١٧ ، وسورة الأنعام : ٦ / ١٠١.
(49) سورة فاطر : ٣٥ / ١.
(50) سورة السجدة : ٣٢ / ٧.
(51) سورة التوبة : ٩ / ١٠٦.
(52) سورة فاطر : ٣٥ / ١١.
(53) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٤.
(54) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٥.
(55) التوحيد / الصّدوق : ٤٤١ ، باب (٦٦).
(56) التوحيد / الصّدوق : ٤٤١ ، باب (٦٦).
(57) كشف الغمة ٣ : ٨٢ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.
(58) سورة الأعراف : ٧ / ٣٢.
(59) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ٢٥١ ، الفصل الثامن.
(60) اُنظر : الفصول المهمة : ٢٤٨ ، الفصل الثاني.
(61) كشف الغمة ٣ : ٨١ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.
(62) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٧٦ ، ح ٧٢ ، باب (٢٨).
(63) أخرجه البخاري عن أبي هريرة ، اُنظر : صحيح البخاري ١ : ٣٨٤ ، ح ١٠٩٤ ، باب (١٤) كتاب التهجّد
(64) كشف الغمة ٢ : ٧٨ ـ ٧٩ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.
(65) الاحتجاج / الطبرسي ٢ : ١٩٢.
(66) سورة القيامة : ٧٥ / ٢٢ ـ ٢٣.
(67) الاحتجاج ٢ : ١٩١ ، اُنظر : أجوبة الإمام عليه‌السلام على أسئلة أبي الصلت الهروي.
(68) سروة الأنعام : ٦ / ١٠٣.
(69) سورة النمل : ٢٧ / ٣٥.
(70) التوحيد / الصدوق : ٢٦١ / ٥.
(71) سورة الفجر : ٨٩ / ٢٢.
(72) الاحتجاج ٢ : ١٩٣.
(73) سورة المطففين : ٨٣ / ١٥.
(74) الاحتجاج ٢ : ١٩٣.
(75) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٨.
(76) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٧٢ ، ح ٦٣ ، باب (٢٨).
(77) أمالي الشيخ المفيد : ٢٥٣ ، المجلس الثلاثون.
(78) اُصول الكافي ٢ : ٣٣ ، ح ١ ، كتاب الإيمان والكفر.
(79) اُصول الكافي ٢ : ١٦ ، ح ٦ ، باب : فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الإيمان.
(80) اُصول الكافي ٢ : ٤٨ ، ح ٤ ، باب : خصال المؤمن ، كتاب الإيمان والكفر.
(81) اُصول الكافي ٢ : ١١٣ ، ح ١ باب : الصمت وحفظ اللسان ، وكشف الغمة ٣ : ٨٥ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.
(82) اُصول الكافي ٢ : ١١٦ ، ح ١٩ ، باب : الصمت وحفظ اللِّسان.
(83) اُصول الكافي ٢ : ١١٣ ، ح ١ ، باب : الصمت وحفظ اللِّسان.
(84) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٨٧ ، ح ١ ، باب (٤٣).
(85) الغمر : الحقد.
(86) كنز العمال / المتقي الهندي ٣ : ١٢١ / ٥٧٥٥.
(87) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٥٦ ، ح ٢٣ ، باب (٢٦) حول الحياء.
(88) اُصول الكافي ٢ : ١٢٤ ، ٧ باب التواضع.
(89) المناقب ٤ : ٣٩.
(90) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٦١ ، ح ١٠ ، باب (٥٨).
(91) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٣.
(92) بحار الأنوار ٤٩ : ٩٥ ، باب (٧).
(93) سورة طه : ٢٠ / ٧٥.
(94) سورة النحل : ١٦ / ٩٧.
(95) نهج البلاغة : ٤٩٧ ، حكمة رقم / ١٥٠.
(96) اُصول الكافي ٢ : ٢٩٤ باب الرياء.
(97) اُصول الكافي ٢ : ٤٢٨ / ١ باب ستر الذنوب.
(98) اُصول الكافي ٢ : ١٣٨ / ٥ باب القناعة.
(99) اُصول الكافي ٢ : ١٤٩ / ٥ باب الاستغناء عن الناس.
(100) كشف الغمة ٣ : ٨٦ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.
(101) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٧٨ ، ح ٧٧ ، باب (٢٨).
(102) اُصول الكافي ٢ : ٥٥ / ٤ باب التفكّر.
(103) تنبيه الخواطر / الأمير ورّام ١ : ٢٥٠ باب التفكّر.
(104) اُصول الكافي ٢ : ١٣ / ٣ باب الاخلاص ، كتاب الإيمان والكفر.
(105) اُصول الكافي ٢ : ٥٠٤ / ٣ باب الاستغفار ، كتاب الدعاء.
(106) تنبيه الخواطر ٢ : ٢٣٧.
(107) اُصول الكافي ٢ : ٤٦٧ / ٨ باب الدعاء.
(108) كتاب سلوة الذاكرين المعروف بـ «الدعوات» / قطب الدين الراوندي : ٣٤ / ٧٨.
(109) اُصول الكافي ٢ : ٤٦٨ / ٥ باب : الدعاء سلاح المؤمن ، كتاب الدُّعاء.
(110) اُصول الكافي ٢ : ٤٦٩ / ٤ باب : ان الدعاء يرد البلاء والقضاء ، كتاب الدُّعاء.
(111) اُصول الكافي ٢ : ٤٧٦ / ١ باب : اخفاء الدعاء ، كتاب الدُّعاء.
(112) اُصول الكافي ٢ : ٤٨٨ / ١ باب : من أبطأت عليه الإجابة ، كتاب الدُّعاء.
(113) الورى : ولد الولد.
(114) اُصول الكافي ٢ : ٢٧٥ / ٢٦ باب : الذنوب ، كتاب الإيمان والكفر.
(115) نهج البلاغة / تحقيق : السيد جعفر الحسيني ، خطبة ١١٠.
(116) سورة الأعلى : ٨٧ / ١٥.
(117) الشطط : مجاوزة القدر في كل شيء ، يعني لو كان كذلك لكان التكليف فوق الطاقة.
(118) اُصول الكافي ٢ : ٤٩٤ ـ ٤٩٥ / ١٨ باب : الصلاة على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام ، كتاب الدُّعاء.
(119) نهج البلاغة ، خطبة ٩٧.
(120) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٦٤ / ٤٨ باب (٢٨).
(121) اُصول الكافي ٢ : ١٥٩ / ٨ باب : البرّ بالوالدين ، كتاب الإيمان والكفر.
(122) اُصول الكافي ٢ : ١٥٠ / ٣ باب : صلة الرحم ، كتاب الإيمان والكفر.
(123) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١٧٠ ، ح ٢٤ ، باب (٤٠).
(124) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٩١.
(125) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٩٠.
(126) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٩٠.
(127) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٩٠.
(128) الاتحاف بحب الاشراف / الشيخ عبد اللّه الشبراوي : ١٥٥.
(129) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥ ، ح ٢٧ ، باب (٣٠).
(130) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥ ، ح ٢٧ ، باب (٣٠).
(131) بحار الأنوار ٤٩ : ٩٧ باب (٢٧).
(132) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ٢٤٤ ، الفصل الثالث.
(133) المراغمة : الهجران والتباعد والمغاضبة ، أي يبالغ في ذكر ما يبطل مذهبه.
(134) اُصول الكافي ٢ : ٣٧٤ / ٢ ، أمالي الشيخ المفيد : ١١٢ / ٣.
(135) الاحتجاج ٢ : ٢٢٥.
(136) الاحتجاج ٢ : ٢٢٥.
(137) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٣٤ ، ح ١٥ ، باب (١٦).
(138) كشف الغمة ٣ : ٧٤ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.
(139) كشف الغمة ٣ : ٨٦ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.
(140) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٧ ، ح ٥ ، باب (٢٨).
(141) كشف الغمة ٣ : ٨٤.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page