إن دراسة حياة الإمام الرضا عليهالسلام لن تكون وافية ما لم يُسلط الضوء على العصر السياسي والثقافي الذي اكتنف شخصه الشريف ، الأمر الذي يكشف لنا عن منهجه في التعامل مع مايحيط به زمانا ومكانا ، وكيفية معالجته للاتجاهات الفكرية وما تفرزه سياسة عصره من مؤثرات خارجية على الفكر والعقيدة ، سيما وأن الإمام الرضا عليهالسلام شخصية فذة ظهرت بصماتها واضحة على العصر الذي عاشت فيه.
قال الذهبي : (قد كان عليّ الرضا كبير الشأن ، أهلاً للخلافة) (١) ، فقد كان إمام زمانه وكان الشاهد على عصره ، لما اتصف فيه من كمالات كثيرة : « فيه العلم والحكم والفهم والسخاء والمعرفة بما يحتاج الناس إليه ، فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم ، وفيه حسن الخُلق وحسن الجوار ، وهو باب من أبواب اللّه عز وجل » (٢).
وحتى نحيط بالعصر الذي عاش فيه الإمام الرضا عليهالسلام ، سوف نستعرضه في مبحثين : الأول : يتناول ذلك العصر من الناحية السياسية ، والثاني : مخصص للناحية الثقافية.
المبحث الأول : عصر الإمام الرضا عليهالسلام سياسياً
عاصر الإمام عليهالسلام عددا من الحكام العباسيين ، حيث شهد بقية حكم هارون الرشيد (١٧٠ ـ ١٩٣ هـ ) ، ومن بعده ابنه الأمين المخلوع (١٩٣ ـ ١٩٨ هـ ) وأوائل حكم المأمون (١٩٨ ـ ٢١٨ هـ ) الذي عهد إليه بولاية العهد.
كانت سيرة الخلفاء العباسيين شبيهة إلى حد كبير بسيرة الحكام الامويين ، كلاهما مارس الظلم والعدوان على العباد ، واتخذوا مال اللّه دولاً وعباده خولاً.
وأخذت رياح الفتن تعصف مثل ريح السموم على المسلمين عموما وعلى العلويين بصورة خاصة ، فقد فتح العباسيون أبواب السجون وشهروا السيوف ضد الاحرار من أهل بيت الرسالة ، وكان شغلهم الشاغل ملاحقة العلويين الذين يطالبون بحقهم في الحكم ، لأجل تحقيق العدالة الاجتماعية.
كان الإمام الرضا عليهالسلام يرقب عن كثب ، بمرارة وألم تلك الأحداث والفجائع المؤلمة التي تعصف بالبيت العلوي ، وكان يتبع الحكمة وسياسة النفَس الطويل مع السلطة وجلاوزتها ، هذا الكلام لانقوله جزافا فمصاديقه كثيرة ، منها : «لما خرج محمد بن جعفر بن محمد ـ وهو عمّ الإمام الرضا عليهالسلام ـ في المدينة بعث هارون الرشيد أحد جلاوزته المعروف بالجلودي ، وأمره ان ظفر به أن يضرب عنقه وأن يغير على دور آل أبي طالب ، وأن يسلب نساءهم ولايدع على واحدة منهن إلا ثوبا واحدا .. فصار الجلودي إلى باب دار أبي الحسن الرضا عليهالسلام وهجم على داره مع خيله فلما نظر إليه الرضا عليهالسلام جعل النساء كلهن في بيت ، ووقف على باب البيت ، فقال الجلودي لابي الحسن عليهالسلام لابدّ من أن أدخل البيت فاسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين ، فقال الرضا عليهالسلام : أنا أسلبهن لك وأحلف أنّي لا أدع عليهن شيئا إلاّ أخذته ، فلم يزل يطلب إليه ويحلف له حتى سكن ، فدخل أبو الحسن الرضا عليهالسلام فلم يدع عليهن شيئا حتى أقراطهن وخلاخيلهن وإزارهن إلاّ أخذه منهن وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير» (3).
وكان واضحا من هذا الموقف مدى الحقد الدفين الذي يكنه هارون للعلويين بسبب معارضتهم التي تشكل كابوسا مؤرقا للعباسيين ، لذلك شن «هارون» ومن قبله من حكام العباسيين حربا شعواء منظمة في كل الاتجاهات ضد العلويين ، وقتلوهم تحت كل حجر ومدر ، ولم يسلم حتى من تظاهر بمسالمتهم فقد دسوا إليه السّم ، ولعل أوضح شاهد على الجو الخانق والضيق الشديد الذي تعرض له أهل البيت عليهمالسلام في ذلك الوقت ماجرى للإمام موسى الكاظم عليهالسلام حتى أنه سمّي بالكاظم لما كظمه من الغيظ عن أعدائه وخاصة العباسيين منهم ، كان يوصي أصحابه بالكتمان والحذر وعدم المجاهرة بالمعارضة ، قال لهشام بن سالم :
« من آنست منهم رشدا فألق إليه وخذ عليه الكتمان ، فإن أذاع فهو الذّبح » وأشار بيده إلى حلقه (4). وكان يشغل أكثر أوقاته بالعبادة ، ومع ذلك ألقوه في غياهب السجون أكثر من مرة على الرغم من تصريحه لهم بعدم الخروج عليهم ، مع كل ذلك أمر المهدي العباسي (١٥٨ ـ ١٦٩ هـ ) بجلبه إلى بغداد وحبسه ، وقال له : تؤمنني أن لاتخرج عليّ أو على أحد من ولدي؟ فقال الإمام عليهالسلام : « لا واللّه! لافعلت ذلك ، ولا هو من شأني ». ولما هلك المهدي وقدم هارون إلى المدينة منصرفا من عمرة رمضان سنة ١٧٩ هـ ، حمل معه موسى الكاظم عليهالسلام إلى بغداد وحبسه إلى أن توفي في محبسه (5) ، قتله السندي بن شاهك في سم جعله في طعام قدّمه إليه (6).
وبذلك عاصر الإمام الرضا عليهالسلام مأساة أبيه من بدايتها إلى نهايتها ، تلك المأساة التي تمثل من جهة أخرى رسالة مفتوحة في خطاب التهديد والإنذار والوعيد ، يتلقّاه في مطلع شبابه.
وفي عصر كهذا ... ، كان الإمام عليهالسلام يتصرّف في حدود ما هو متاح له ، وكان يجهر بالحقيقة ولاتأخذه في الحق لومة لائم ، حتى أن بعض أصحابه قد خاف عليه من السلطة الظالمة ، والبعض دعاه إلى التمسك بالتقية .. ففي رواية ينتهي سندها إلى صفوان بن يحيى ، قال :
لما مضى أبو الحسن موسى بن جعفر عليهماالسلام وتكلم الرضا عليهالسلام خفنا عليه من ذلك ، فقلت له : إنّك قد أظهرت أمرا عظيما وإنّا نخاف من هذا الطاغي ـ يقصد هارون ـ فقال : « ليجتهد جهده فلا سبيل له عليّ » (7).
ومن هنا يبدو متوقعا أن العباسيين سوف يضعون الإمام عليهالسلام في دائرة الضوء ، يراقبون تحركاته ، ويحصون أقواله وأفعاله ، ونتيجة لذلك تظاهر الامام عليهالسلام بالانصراف عن الشؤون العامة والانشغال عن مناوئة السلطة ، وأوحى لها باهتمامه بشأنه الخاص وفق أسلوب بارع تنقله الرواية التالية ، عن أبي الحسن الطيب ، قال : لمّا توفّي أبو الحسن موسى بن جعفر عليهالسلام دخل أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليهالسلام السوق ، فاشترى كلبا وكبشا وديكا ، فلما كتب صاحب الخبر إلى هارون بذلك ، قال : قد أمنا جانبه. وكتب الزبيري أن علي بن موسى الرضا قد فتح بابه ودعا إلى نفسه ، فقال هارون : واعجبا من هذا! يكتب أن علي بن موسى قد اشترى كلبا وكبشا وديكا ، ويكتب فيه ما يكتب (8).
ويبدو أن مناورة الإمام هذه هي حالة امتصاص بارعة للضغوط والمراقبة الشديدة التي يتعرض لها من «هارون» وجواسيسه ، لم يكتب لها النجاح طويلاً فسرعان ما أدركت السلطة أن الإمام عليهالسلام لا يتوانى ولا يستكين ولا يكف عن كشف زيف العباسيين والمظالم التي يرتكبونها باسم الدين ، وكان من الطبيعي أن تثور ثائرتهم ، فلم يتركوه طليق اليدين.
وبعد هلاك هارون ونشوب الخلاف الدموي بين ولديه الأمين والمأمون أصبح الطريق سالكا أمام الإمام عليهالسلام فوجد الفرصة سانحة له بعض الشيء للقيام بدور فعال في إحياء ما دثر من مآثر الإسلام الخالدة ، وبما يتناسب مع تلك المرحلة الحرجة من تاريخ بني العباس السياسي الدامي ، كما انفسح المجال أمام شيعته للاتصال به ، وعلى ضوء هذا التحول واتساع النفوذ والتعاطف الجماهيري الكبير ، قاد الإمام عليهالسلام حركة فكرية واسعة سرعان ما أثمرت بوقت قصير.
وهناك روايات تاريخية تُلقي ضوءا على حقيقة ما قلناه ، فقد قام بجولة واسعة في العالم الاسلامي ، وقد ابتدأ جولته من المدينة إلى البصرة لكي يجتمع مباشرة مع قواعده الشعبية ويحدثها في كل شيء ، وكان من عادته قبل أن يصل تلك المنطقة أن يرسل إليها رسولاً يخبرهم بمقدمه إليهم خلال الأيام القلائل الآتية .. ثم يأتي إليها الإمام عليهالسلام والجمهور متهيء لاستقباله والاجتماع به ، فيعقد معهم اجتماعا واسعا يلقي عليهم الحجة بإمامته وقيادته ويطلب منهم بعد ذلك أن يسألوه ، لكي يجيب على أسئلتهم في مختلف جوانب المعرفة الاسلامية (9).
بعد هلاك هارون وجد المأمون نفسه بعد خلعه لأخيه ، في مأزق خطير ، فقد كشف الناس زيف شعارات العباسيين الداعية للرضا من آل محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن تبين للقاصي والداني أن سياستهم غير المعلنة تقوم على التفرد والاستئثار بالسلطة ، من جهة أخرى أخذت الثورات وخاصة ثورات العلويين تقضُّ مضاجعهم ، إضافة إلى الصراع الذي نشب داخل البيت العباسي ، مما أضعف قوتهم وشتت شملهم ، وفي الوقت الذي ثار فيه صراع عنيف بين الأخوين ، اشتعلت نار الثورة في بلاد الشام ، اذ ثار السفياني وهو «علي بن عبد اللّه بن خالد بن معاوية بن أبي سفيان» ودعا الى نفسه ، واستولى على دمشق والمنطقة المحيطة بها ، وكاد أن يقيم حكما أمويا في بلاد الشام ، لولا أن نشب نزاع بين اليمنيين والمضريين ، أضعف قوته ، فنجح الأمين بعد جهود كثيرة استمرت أكثر من عامين في القضاء عليها (10) ، كل تلك العوامل دفعت المأمون إلى الامساك بزمام الامور ، وكان معروفا بالدهاء والحنكة السياسية ، اذ وجد أن السيطرة على الوضع لاتتم إلا بانهاء القطيعة مع العلويين الذين اشتد ساعدهم وتزايدت ثوراتهم وتوسعت قواعدهم الجماهيرية ، ولهذا قام باستدعاء الإمام الرضا عليهالسلام من المدينة متظاهرا بانه سوف يتنازل له عن الخلافة ، أو على الأقل يوصي له بولاية العهد ، خصوصا وهو يعلم ان الإمام هو زعيم الطالبيين ، وهذا التحول السياسي المدروس بدهاء أبدل الظرف السياسي الخانق الذي كان يحيط بالامام عليهالسلام إلى نوع من الحرية السياسية من حيث الظاهر ، فبينما كان هارون يورد العلويين حياض الموت والذل والجوع ، وأراد لهم أن يأخذوا دور التابع الذليل الذي لاحول له ولاقوة ، أخذ المأمون يقرب العلويين ويتودد إليهم ويغدق عليهم ويشيد بفضلهم ويتظاهر بالدفاع عن حقهم بالحكم ، كما أرجع فدكا على ولد فاطمة عليهاالسلام ، وغدا دورهم دور الشريك الفاعل ، لا دور التابع الخامل ، كما كان الحال في عهود أسلافه.
وكل من يتتبّع المجرى العريض لهذا التحول السياسي ، يجد أن المأمون أراد أن لا يسير عكس التيار ، فالتيار الجماهيري العريض كان لصالح العلويين في زمانه ، وكان تيار الحب للعلويين قد تعاظم حتى في عقر داره وبالتحديد في عاصمته «مرو» بخراسان. زد على ذلك زيادة تحركات الإمام الرضا عليهالسلام في المدينة وهي العاصمة الروحية للخلافة الاسلامية ، ويكفينا الاستدلال على خشية المأمون من العلويين عامة ومن زعيمهم الإمام الرضا عليهالسلام على وجه الخصوص ، ماقاله المأمون لقادة العباسيين عندما وجهوا إليه اللّوم والعتاب على تقليده ولاية العهد للرضا عليهالسلام ، قال : قد كان هذا الرجل مستترا عنا يدعو الناس إلى نفسه ، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا ، ليكون دعاؤه إلينا ، وليعرف أن الملك والخلافة لنا ، وليعتقد فيه المعتقدون أنّه ليس مما ادعى لنفسه في قليل ولا كثير ، وأن هذا الأمر لنا دونه ، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينشقَّ علينا منه ما لا نقدر على سدِّه .. وأن يأتي علينا ما لا طاقة لنا به .. (11).
هذا النص يعكس لنا بدون لبس مدى خوف المأمون من تحرك الإمام ومن اتساع قاعدته الجماهيرية ، وقد تمكن المأمون من خلال مخطط ولاية العهد من تطويق الإمام وعزله عن الناس ووضعه في الاقامة الجبرية في خراسان ، لم يضعوه ـ هذه المرّة ـ في السجون المظلمة كما كان الحال مع أبيه الكاظم عليهماالسلام من قبل ، بل وضعوه في قصور شاهقة وأبنية فارهة ، لم يكن التغير ـ اذن ـ في الجوهر بل في الظاهر ، وقد كان الإمام عليهالسلام يشتكي على الدوام من الوضع الخانق الذي يحيط به ، فعيون السلطة ترصد حركاته وسكناته ، وتحجب عنه أقطاب شيعته ، وكان محاطا بالدسائس والمؤامرات التي تحاك هناك بين أقطاب السلطة أنفسهم من أجل الايقاع به ومنعه من الاتصال بالناس.
ومن أجلى الشواهد على ذلك أن المأمون وجد في يوم عيد انحراف مزاج أحدث عنده ثقلاً عن الخروج إلى الصلاة بالناس ، فقال لأبي الحسن علي الرضا عليهالسلام : يا أبا الحسن قم وصل بالناس ، فخرج الرضا عليهالسلام وعليه قميص قصير أبيض وعمامة بيضاء لطيفة ، وفي يده قضيب .. فلما رآه الناس هرعوا إليه وانثالوا عليه لتقبيل يديه ، فأسرع بعض الحاشية إلى الخليفة المأمون ، فقال : يا أمير المؤمنين تدارك الناس واخرج وصلّ بهم وإلا خرجت الخلافة منك الآن ، فحمله على أن يخرج بنفسه وجاء مسرعا ، والرضا عليهالسلام بعد من كثرة زحام الناس عليه لم يخلص إلى المصلى ، فتقدم المأمون وصلّى بالناس (12).
ومن هنا يبدو متوقعا أن يسعى المأمون للتخلص من الإمام عليهالسلام عن طريق دس السّم اليه ، كما سيأتي في محله من هذا البحث.
وخلاصة القول أن الإمام الرضا عليهالسلام عاصر أحداثا سياسية جسيمة عصفت بالبيت العلوي خاصة وبالمسلمين عامة ، فقد قضى شطرا كبيرا من عمره زمن هارون يشاهد مأساة العلويين ، وخاصة بعد سجن أبيه عليهماالسلام ومن ثم اغتياله بالسم ، ومعاصرته للصراع الدموي الذي تفجر داخل الكيان العباسي بين الاخوين (الأمين والمأمون) حيث انقسمت الدولة العباسية التي كانت كيانا واحدا إلى شطرين متحاربين.
وفي خضم هذه الاحداث وقف الامام عليهالسلام بكل شموخ مدافعا عن صرح الإسلام العظيم ، معريّا السلطة مما كانت تذيعه من شرعية وجودها السياسي.
المبحث الثاني : عصر الإمام الرضا عليهالسلام ثقافياً
لقد رافق عصر الإمام الرضا عليهالسلام حركة فكرية بلغت الغاية في نشاطها وانتشارها ، فقد اتسعت رقعة الاسلام وكثرت الفتوحات ، واتصل المسلمون بالامم الاخرى من فرس وروم وغيرهم ، وكان المأمون أول من ترجم علوم الحكمة وقرب أهلها ، فظهرت ـ على اثر ذلك ـ مقالات غريبة وتيارات أجنبية عن الاسلام ، وكان الملحدون يلقون الشبهات ، والمرجئة يساندون حكام الجور ، والمغالون يدعون مع اللّه آلهة أخرى والخوارج يكفرون المسلمين ، وكثير من الرواة يضعون الأحاديث بطلب من الحكام لاغراض سياسية أو مذهبية. وكانت صور الصراع الفكري تتمثل في الخطابات المتبادلة ومجالس المناظرة وعن طريق الاستعانة بالشعراء في الدفاع عن آراء كل فريق وهجاء الفريق الآخر ، فقد كان لكل فريق شعراءه ، وعموما كان الشعر من أمضى الاسلحة (13).
وفي هذا العصر انتشر التشيع في كل قطر ، وبرزت معالمه ، وتركزت أسسه وانتشر فقه الشيعة وناظر متكلموهم خصومهم في مسائل التوحيد والعدل وعصمة الأنبياء وما إلى ذلك من مسائل عقيدية ، كل ذلك بفضل الجهد العلمي الكبير الذي اضطلع به الإمام الصادق عليهالسلام ، وكان من نتائج هذا الجهد المبارك أن عرف المذهب على حقيقته ، اصولاً وفروعا ، ومن هنا اطلق على الشيعة لفظ الجعفريين وعلى فقههم الفقه الجعفري تيمنا باسم الإمام الصادق عليهالسلام.
فقد انطلق الإمام الصادق عليهالسلام إلى تأسيس مدرسة علمية عظيمة في مطلع القرن الهجري الثاني ، تخرجت منها كوادر علمية كثيرة في مجالات عديدة من المعرفة. وعمد الإمام الكاظم عليهالسلام على تعميق أسس مدرسة أبيه الصادق عليهماالسلام وقام بتوضيح معالمها أكثر فأكثر ، ولكن الظروف الاستثنائية التي عاشها وقضاءه شطرا كبيرا من عمره في السجون لم تمكنه من تحقيق سائر اهدافه الشريفة في احياء السنة النبوية الشريفة على ضوء مدرسة أبيه عليهماالسلام ، فبلغ به الأمر أن يبعث إلى هشام بن الحكم بأن يكف عن الكلام نظرا لخطورة الموقف ، فكف هشام عن ذلك حتى مات المهدي العباسي (14). مع ذلك استغل الإمام الكاظم عليهالسلام فترات الهدوء النسبي لنشر الاحكام والتعاليم الاسلامية الصافية ، وكان العلماء والرواة لا يفارقونه ولا يفترون عنه ، يسجلون أحاديثه وأبحاثه.
روى السيد ابن طاووس : أنه كان جماعة من خاصة أبي الحسن موسى عليهالسلام من أهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه ، ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس وأميال ، فإذا نطق بكلمة وأفتى في نازلة أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك (15).
تجدر الاشارة إلى أن علم الخلاف كان قد وجد منذ نهاية القرن الأول الهجري ، وطوال القرن الثاني بين مدرستي أهل الرأي وأهل الحديث ، وثار الجدل بينهم ، وانبرى كل فريق يدافع عن رأيه ويشكك بالمدرسة الاخرى ، وينال من علمائها والقائمين عليها. وكان أئمة أهل البيت عليهمالسلام في هذا العصر ينتقدون مدرسة الرأي والقياس بشدة ، ويؤكدون على أن القياس من فعل إبليس. وكان الإمام الرضا عليهالسلام ينشر آراء مدرسة أهل البيت عليهمالسلام العقائدية منها والفقهية ، وكان في فترة ولاية العهد يعقد المؤتمرات والندوات في تعبيرنا المعاصر ، يروى أن المأمون جمع علماء الملل والنحل مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئة والنصارى والمتكلم سليمان المروزي ، فكان الإمام الرضا عليهالسلام يدحض حججهم ويصحح مفاهيمهم الخاطئة ، وينشر الوعي الإيماني حتى أسلم على يديه بعض الملاحدة والنصارى (16). وكانت شهرته قد طبقت الآفاق ، وغدا شخصه العظيم حديث الساعة حينئذ ، ومحط اهتمام العلماء لغزارة علمه ومتانة استدلاله ، وقد حفظ لنا التاريخ روائع رضوية كثيرة في هذا المجال. هذا وفي الوقت الذي كان فيه المأمون العباسي يقوم بترجمة ونشر الفلسفة اليونانية ، كان الإمام الرضا عليهالسلام يقوم بنشر الثقافة القرآنية الخالصة ، فقد كان جوابه كله وتمثله انتزاعات من القرآن المجيد (17).
وعموماً كان عصره (سلام اللّه عليه) عصر الجدل والنظر والبحث ، وبتعبير معاصر عصر «التعددية الثقافية» فقد حاور الإمام عليهالسلام ـ كما سيأتي في الفصل الخامس ـ أهل الملل والنحل والأهواء وعلماء المذاهب الاسلامية. وعلى العكس من الجو السياسي السيء والمضطرب ، الذي عاصره الإمام عليهالسلام كان الجو الثقافي يمتاز بالتفتح النسبي ، ملائماً للحوار وعرض الافكار ، وكان المأمون يشجع هكذا حوار لاشغال الناس في مشاكل جانبية بعيدا عن مشاكل الحكم والسياسة ، بدليل أن المأمون الذي كان في زمن ضعفه وصراعه مع أخيه الأمين يشجع على الحوار والنظر وكان ينصر التشيع في الظاهر ، تغير موقفه هذا بعد وفاة الإمام الرضا عليهالسلام بعد أن وطد أركان حكمه فقمع الرأي الآخر وتبنّى فكر المعتزلة وأظهر فتنة خلق القرآن عام ( ٢١٢ هـ ) ، وفرضها بالقوة وأقام محاكم تفتيش من نوع آخر ، يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن ، وفتك بوحشية وقسوة بكل من عارض هذه المسألة أو أبدى حياده حولها ، فأظهر البعض منهم موافقته وهم كارهون.
__________________
(١) سير أعلام النبلاء ٩ : ٣٩٢ / ١٢٥.
(٢) من حديث للإمام موسى الكاظم عليهالسلام ، عن عيون أخبار الرضا عليهالسلام ١ : ٣٤ ، ح ٩ ، الباب ٤.
(3) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ١٧٢ ، ح ٢٤ ، باب (٤٠).
(4) الارشاد / الشيخ المفيد ٢ : ٢٢٢ و ٢٣٥.
(5) الأئمة الاثنا عشر / شمس الدين بن طولون : ٩٠.
(6) الارشاد ٢ : ٢٤٢.
(7) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ٢٤٦ ، ح ٤ ، الباب (٥٠).
(8) عيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ٢٢٢ ، ح ٤ ، الباب (٤٧).
(9) سيأتي تفصيل ذلك في الفصل الثاني.
(10) جهاد الشيعة / الدكتورة سميرة الليثي : ٣١٦.
(11) دلائل الإمامة / الطبري : ٣٤٠ ـ ٣٨ ، عيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ١٨١ ، ح ١٦٠ ، الباب (٤١).
(12) كشف الغمّة / أبي الحسن الإربلي ٣ : ٥٨ ، وانظر : الإرشاد ٢ : ٢٦٤ ، وعيون أخبار الرضا عليهالسلام ٢ : ١٦٠ / ٢١٦ ، باب (٤٠).
(13) انظر : جهاد الشيعة : ٢١٢.
(14) انظر : رجال الكشي : ٢٢٧ ، رقم الترجمة (١٣١).
(15) مهج الدعوات / ابن طاووس : ٢١٩.
(17) انظر : أعيان الشيعة ٢ : ١٤.
(18) انظر : الأنوار البهية : ١٧٩.
الفصل الأول - عصر الإمام الرضا عليه السلام سياسيا وثقافياً
- الزيارات: 1978