• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

ثانيا ـ العبد المبتلى:

ثانيا ـ العبد المبتلى:
وأما المبتلى فهو العبد الجالس على بساط العبودية لله تعالى، قال تعالى في سورة الذاريات. الآية: 56 {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.
ولذلك كانت العبودية لله أساس وجود وحياة العبد في الدنيا، يتلقى من ربه كل ما يصلح له وينفعه في رحلته الدنيوية. فإذا عرف الإنسان أنه عبد فقد عرف نفسه ومن عرف نفسه فقد عرف ربه.

مفهوم العبودية لله:
ذكر العارفون بالله تعالى أن العبودية جوهرة كنهها الربوبية. وهذا يعني أن للعبودية أركان وأسس، من أدركها وفهمها وأسس عبوديته عليها، فإنه حتما سوف يصل إلى معرفة حقيقة وجوده والمراد منه.
فالعبودية لله تعالى هي التذلل والافتقار للواحد القهار مالك الحكم والاختيار، وهي الإستسلام والإنقياد لله تعالى في كل حال.
وهذه المعاني تقتضي منا معرفة أوصاف العبودية حتى يتحقق بها العبد، وأهم تلك الأوصاف، هي الضعف والجهل والذل والفقر من العبد بين يدي ربه وسيده، فمن تحقق بها وما يبتنى عليها من أوصاف، يكون قد حقق معنى العبودية في ذاته وسلوكه.
ويقابل كل صفة من صفات العبودية صفة من صفات الربوبية لا يجوز للعبد أن يتجاوزها أو يتعدى عليها فالذل والفقر من أوصاف العبودية يقابلهما العز والكبرياء من أوصاف الربوبية فقد روى أحمد والحاكم والنسائي وابن ماجة ومسلم في صحيحه عن ابن عباس وغيره الحديث القدسي قال _ قال الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما قصمته. وفي لفظ آخر - ألقيته في جهنم.
وإذا نظرنا إلى صفات الله، وأخذنا كل صفة من صفات الربوبية فإن عكسها يكون للعباد، فهو الخالق ونحن المخلوقين وهو الرب ونحن العبيد وهو الملك ونحن المملوكون وهو الغفار ونحن المذنبون وهو العليم ونحن الجهلاء، وهكذا بقية الصفات.
وقد أكد الله سبحانه وتعالى هذه المعاني وبشكل صريح في القرآن الكريم، نذكر عددا من الآيات الشريفة توضح ذلك.
قال تعالى في سورة فاطر الآية: 15 {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد}. فنحن الفقراء وهو الغني.
وقال تعالى في سورة هود الآية 66 {إن ربك هو القوي العزيز}. فهو عز وجل القوي العزيز ونحن الضعفاء الأذلاء.
وقال تعالى في سورة النساء الآية139 {الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا}.
وقال تعالى في سورة البقرة الآية 216 {عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون}. فهو العالم ونحن لا نعلم.
ومن تمعن في آيات القرآن الكريم فإنه يجد مئات الآيات التي تبين أوصاف الربوبية وأوصاف العبودية، ولذلك فإن العبد المؤمن الصالح الذي يعمل على تحقيق أوصاف العبودية يستمد قوته من الله القوي ويعالج فقره بالله الغني، ويستمد علمه من الله العالم، ويرفع ذلته بالله العزيز، فهو غني بالله قوي بالله عزيز بالله عالم بالله قال تعالى في سورة البقرة الآية 282 {واتقوا الله ويعلمكم الله}.
وعليه فإن على العبد أن يجلس على بساط العبودية في هذه الحياة ويعمل على أن يتحقق بما منحه الله من أوصاف، حتى يتأكد معنى الصلة بين العبد وربه، ويتجسد معنى العبودية عند أداء العبد العبادات كالصلاة والحج والصيام والدعاء والتضرع والمناجاة وغيرها من الطاعات كالزكاة والصدقات بالكيفية التي علمنا الله إياها. فإذا حقق العبد من خلال العبادة، التخشع والتذلل والخضوع والفقر وأداها لله خالصة، كان من جناب الربوبية القبول والمدد بالعزة والقوة، وكانت الصلة بالله أقوى وأوثق. فكلما كان التحقيق بأوصاف العبودية أقوى كانت الصلة بالله أوثق والقبول والإستجاية أوكد. قال تعالى في سورة غافر الآية 60 {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين}. وربما يدرك العبد معنى العبودية أكثر كلما كانت الضرورة لحاجات الحياة أكثر وأشد، فلو أخذنا مثلا من العبادات صلاة الإستسقاء، عند انحباس المطر وفقد عنصر من أهم عناصر الحياة، فالحكم حينئذ إظهار العبودية والفقر والمسكنة والذلة مع التوبة النصوح. وقد استسقى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فخرج إلى المصلى متواضعا متذللا متخشعا متوسلا متضرعا وحسبك به فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد.

طاعة رسول الله والأئمة من أهم مظاهر العبودية:
وأرجوا أن نلاحظ الآيات التالية التي تضيف معنى آخر للعبودية، وهي طاعة رسول الله وأوصياءه لأن طاعتهم عبودية لله تعالى واستسلاما لأمره، ويستحيل تحقيق معنى العبودية لله تعالى بدون طاعتهم وولايتهم، وأي عمل لا يرتبط بهم وبولايتهم وطاعتهم لا يقبل.
روى الحاكم في المستدرك عن ابن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لو أن رجلا صفن بين الركن والمقام، فصلى، وصام، ثم لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمد دخل النار). رواه الطبراني، وفي كنز العمال، وفي مجمع الزوائد، ورواه ابن حبان وقال رجاله رجال الصحيح.
ومن أجل تأكيد دورهم، وكيف أن الله تعالى قد خصهم بالمدد الإلهي الخاص حتى يكونوا وسيلة بيننا وبين الله تعالى حتى يعلموا الجهلاء ويغنوهم ويزكوهم، ويتفضلوا على عباد الله بالنور والهداية أثناء رحلة تحقيق معنى العبودية في ذاتنا وسلوكنا وظاهرنا وباطننا، فقد جعل الله تعالى طاعته مقترنة بطاعتهم، وقضاءه بقضائهم، وحربه حربهم، وسلمه سلمهم وغير ذلك من ما بينته الآيات القرآنية، وسأذكر بعضا منها على سبيل المثال والإختصار، ولا يتسع المجال لذكرها مفصلة. ولكن وقبل ذلك أذكر بأن الله قد شرط على العباد قبول طاعاتهم إذا تقدمها ذكر محمد وآل محمد، فالصلاة وإن تحققت فيها أوصاف العبودية غير أنه لم يصلى فيها على محمد وآل محمد لن تقبل، وهذا ما أجمع عليه كل علماء المسلمين، وبشتى طوائفهم.
قال تعالى في سورة النساء الآية 80 {ومن يطع الرسول فقد أطاع الله}. وقال تعالى في سورة آل عمران الآية 132 {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون}.
وقال تعالى في سورة النساء. الآية: 59 {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}.
روى الطبري والمتقي الهندي في كنز العمال وغيرهم كثير عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بني عبد المطلب! إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ قال: فأحجم القوم عنها جميعا وقلت: يا نبي الله! أكون وزيرك عليه؟ فأخذ برقبتي ثم قال: هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.
وقال تعالى في سورة التوبة الآية 59 {ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله، سيؤتينا الله من فضله ورسوله، إنا إلى الله راغبون}.
وقال تعالى في سورة التوبة الآية 74 {وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله}.
وقال تعالى سورة البقرة الآية151 {كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}. أي أنه تعالى فوض أمر تعليم العباد وتزكيتهم لرسوله صلى الله عليه وآله، جعله المصدر لذلك والواسطة بيننا وبين ربنا، والوسيلة للوصول إليه.
وقال تعالى في سورة التوبة الآية 105 {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}. وهذه تدل على أن أعمالنا مراقبة في ظل رؤية الله لنا ومتابعة الرسول والأئمة المعصومين لأعمالنا.
وقال تعالى في سورة الأحزاب. الآية: 36 {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا}. جعل الله قضاءه وقضاء رسوله واحدا، وعصيان العباد لقضاء رسول الله هو نفس عصيان قضاء الله تعالى.
وقال تعالى في سورة الفتح الآية 10 {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله}.
وقال تعالى في سورة البقرة الآية 279 {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}. أي حرب رسول الله هي حرب الله نفسها. وهناك عشرات الآيات غير التي ذكرنا، تدلل بشكل واضح وصريح على أن العبودية لله تعالى تمر من خلال طاعة رسول الله وأهل بيته الطاهرين المعصومين، كما أن الأحاديث النبوية الصحيحة المتعلقة بطاعة وولاية أهل البيت أكثر من أن تحصى في مصادر كل طوائف المسلمين.
روى الحاكم في المستدرك عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن أطاع عليا فقد أطاعني، ومن عصى عليا فقد عصاني. ورواه في كنز العمال.
لقد جعل الله سبحانه وتعالى ذكر أهل البيت عبادة، وفرض على المسلمين الصلاة على رسول الله بشرط أن يذكر أهل البيت عليهم الصلاة والسلام معه، كما أنه تعالى اسمه جعل النظر إلى وجوههم عبادة.
فقد روى السيوطي في الجامع الصغير، والديلمي في مسند الفردوس عن أم المؤمنين عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (ذكر علي عبادة). ورواه في كنز العمال، وروى الطبراني في الكبير، والحاكم في المستدرك عن عمران بن الحصين وعن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال (النظر إلى وجه علي عبادة). ورواه ابن عساكر، وفي مجمع الزوائد، وابن حبان. والحديث ورد من رواية أحد عشر صحابيا بعدة طرق وتلك طرق عدة التواتر.

مصير من ترفع عن العبودية وتطاول على الربوبية:
ولنعد إلى موضوع العبودية وأوصافها، ونضرب بعض الأمثلة من القرآن والسنة حتى يتضح المعنى ويتوضح.
فإذا ادعى إنسان القوة التي اختصها الله لنفسه، وجعلها من أوصاف الربوبية ولا تصلح للعبد إلا إذا كانت بالله ومن الله، فلو ادعاها عبد ضعيف ولم يستمد قوته من الله القوي العزيز، فإنه يضع نفسه في موضع لم يرضاه الله له، لأنه بالأصل ضعيف، وأنى له القوة إذا لم تكن من الله مالك القوة جميعا، وبالتالي فإن ذلك العبد سوف يخرج عن معنى العبودية لله ويدعي الربوبية لنفسه، ثم يكون مصيره أن يؤكد الله تعالى له ضعفه وعجزه ويقصمه ثم يلقي به في جهنم، وهذا ما حصل مع الطاغية فرعون، الذي ادعى القوة لنفسه ثم تطور إلى التجرؤ على رب العزة، وادعاء الربوبية والتأله على العباد، فأهلكه الله تعالى بعد أن كشف ضعفه وفقره وذلته. وهذا يبشر بمصير كل الطواغيت في هذا العصر، الذين يدعون التفرد بالقوة ويتسلطون على خلق الله وعباده المؤمنين بالظلم والقهر والأذى، فتلك نهاية محتومة لمن خرجوا عن عبوديتهم لله، وفطرتهم التي فطرهم الله عليها.
قال تعالى في سورة النازعات الآية 15 - 26 {هل أتاك حديث موسى، إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى، اذهب إلى فرعون إنه طغى، فقل هل لك إلى أن تزكى، وأهديك إلى ربك فتخشى، فأراه الآية الكبرى، فكذب وعصى، ثم أدبر يسعى، فحشر فنادى، فقال أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، إن في ذلك لعبرة لمن يخشى}.
وقال تعالى في سورة القصص {وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا لعلي أطلع إلى إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين، واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون، فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين، وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين}.
وكذلك لو ادعى عبد الغنى الذي لا يصلح للعبد إلا بالله، فإنه يخرج عن حقيقته البشرية، فنحن الفقراء إلى الله وهو تعالى الغني. فالإنسان مهما امتلك في هذه الدنيا الفانية، ووصل إلى أعلى حالات الغنى والتملك، فإن ذلك لا يخرجه عن حقيقة فقره وحاجته إلى الله تعالى ومدده. فإذا خرج عن أصله ولم يستمد غناه من الله، فإنه سوف يدعي التفرد بالغنى ويدعي ما ليس له، ومن ادعى ما ليس له فضحته شواهد الإمتحان، وسوف يكون مصيره مثل مصير قارون الذي ادعى الغنى لنفسه، ولم ينسبه إلى الله تعالى، ولم يعترف بالعبودية لله، فخسف الله به وبماله الأرض، ليكون عبرة لكل من يتفرد بالغنى ويدعيه لنفسه ويخرج عن طور العبودية لله الغني الحميد، وهذا يبشر بمصير المتجبرين الذين يتلاعبون في أرزاق عباد الله المؤمنين، ويظنون أنهم هم الذين يرزقون الناس ويتفضلون عليهم بالإنتعاش الإقتصادي والرفاهية ولو على حساب العبودية لله تعالى.
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة القصص الآيات: 76-82 {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين، وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين، قال إنما أوتيته على علم عندي، أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون، فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم، وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون، فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين، وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون}.
وقال تعالى قي سورة العنكبوت. الآية: 39 - 40 {وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين، فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.
وقال تعالى في سورة فصلت الآية 13 - 16 {فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، إذ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم ألا تعبدوا إلا الله قالوا لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون، فأما عاد فاستكبروا في الأرض بغير الحق وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة وكانوا بآياتنا يجحدون، فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون}.
وقال تعالى في سورة العلق {كلا إن الإنسان ليطغى، أن رآه استغنى}.
تلك كانت بعض الأمثلة على من ادعى ما ليس له من أوصاف الربوبية التي لا تنبغي للعباد، فظلموا أنفسهم وعتوا وتجبروا واستكبروا على العبودية، وتطاولوا على مقام الربوبية، فكانت النتيجة أن أهلكهم الله تعالى. بعد أن أظهر ضعفهم وعجزهم وخستهم وذلتهم، حتى يكونوا عبرة لكل من يخرج عن مقام العبودية لله تعالى.

عبودية الأنبياء والأوصياء:
ومن المناسب أن نذكر عن العبد المؤمن الصالح نبي الله سليمان عليه السلام الذي ملكه الله تعالى الأرض ومن عليها وآتاه ملكا عظيما، فلم يزيده كل ذلك إلا عبودية وطاعة لله تعالى.
قال تعالى في سورة النمل الآيات 36-40 {فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون، قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين، قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين، قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم}.
إن تصرفات وسلوكيات العبد المؤمن المطيع لله تعالى، تكون دائما من منطلق العبودية لله تعالى، ويعتبر ذلك شرف عظيم منحه الله إياه، ولذلك مدح الله تعالى رسوله محمدا صلى الله عليه وآله بالعبودية فقال في سورة الإسراء الآية 1 {سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير}.
يقول الإمام علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه: إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار.
ويقول الأمام علي عليه السلام مناجيا رب العزة_ إلهي ما عبدتك - حين عبدتك - خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك.
ويقول الإمام الصادق عليه السلام في زيارة جده الإمام الحسين عليه السلام في يوم الأربعين: وبذل مهجته فيك ليستنقذ عبادك من الجهالة وحيرة الضلالة.
إذ أن أعلى شرف للإنسان أن يكون عبدا لله تعالى على بساط العبودية متحققا بأوصاف العبودية قائما بحقوق الربوبية متبعا لأوامر الله كلها مطيعا مستسلما له، من الإيمان بالله تعالى وبنبوة محمد وإمامة علي والأئمة من ولده الذين اجتباهم الله واختارهم هداة لعباده، وهذا كله لمن يدرك أنه عبد لله عليه السمع والطاعة لربه من على بساط العبودية حتى تصح وتصلح الصلة بينه وبين ربه. ولذلك تجد العبد المؤمن المؤدب بآداب ربه دائما يردد أنا فقير إلى الله محتاج إلى الله، غني بالله عزيز بالله، قوي بالله عالم بالله، لأن الله تعالى هو الذي يمد عبده بالقوة والعزة والعلم والغنى وما إلى ذلك من أوصاف كريمة.
لقد جسد النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين المعصومين معنى العبودية وتحققوا بكامل أوصافها، وأدوا حقوق الربوبية لله تعالى فكانوا مطهرين معصومين كما أخبر عنهم القرآن الكريم في آية التطهير، قال تعالى في سورة الأحزاب {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا}.
روى البخاري ومسلم عن عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه. فقلت له: لم تصنع هذا يا رَسُول اللَّهِ وقد غفر اللَّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال - أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا.
أخرج عبد بن حميد وابن أبي الدنيا في التفكر وابن المنذر وابن حبان في صحيحه وابن مردويه والأصبهاني في الترغيب وابن عساكر عن عطاء قال "قلت لعائشة أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: وأي شأنه لم يكن عجبا! إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثم قال: ذريني أتعبد لربي. فقام فتوضأ ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره، ثم ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى. فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة فقلت: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبدا شكورا.
وأما عبودية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والسيدة فاطمة الزهراء والأمام الحسن والإمام الحسين سلام الله تعالى عليهم جميعا، فكانت استسلاما كاملا لله تعالى في جميع نواحي الحياة، فقد نذروا أنفسهم لله تعالى، ويكفيهم شرفا سورة الدهر التي نزلت في حقهم قال تعالى في سورة الدهر {إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا}.
قال الإمام الحسن بن علي عليه السلام يصف حالة من حالات العبودية للسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام قال- رأيت أمي فاطمة الزهراء عليها السلام قامت في محرابها ليلة جمعة، فلم تزل راكعة ساجدة حتى اتضح عمود الصبح، وسمعتها تدعوا للمؤمنين والمؤمنات وتسميهم، وتكثر الدعاء لهم ولاتدعوا لنفسها بشيء، فقلت لها يا أماه لم لاتدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت يابني الجار ثم الدار.
وقال الحسن البصري- ما كان في هذه الأمة أعبد من فاطمة الزهراء عليها السلام، كانت تقوم حتى تورمت قدماها.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "لقد دخل الإمام أبوجعفر الباقر عليه السلام على الإمام السجاد علي بن الحسين ـ فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفرّ لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته، وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة،
قال أبو جعفر الباقر عليه السلام: فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له، وإذا هو يفكر، فالتفت إليّ بعد هنيهة من دخولي وقال:
يا بنيّ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة علي بن أبي طالب عليه السلام، فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً، ثم تركها من يده تضجراً وقال: من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب وعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: كان علي بن الحسين عليه السلام إذا قام في الصلاة تغير لونه فإذا سجد لم يرفع رأسه حتى يرفض عرقاً.
وعن الإمام الباقر عليه السلام قال كان علي بن الحسين عليه السلام يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة... وكان إذا قام في صلاته غشي لونه لونا آخر. وكان قيامه في صلاته قيام العبد الذليل بين يدي الملك الجليل.
عن الإمام الباقر عليه السلام: إن أبي علي بن الحسين عليه السلام ما ذكر نعمة الله عليه إلا سجد. ولا قرأ آية من كتاب الله عزوجل فيها سجود إلا سجد.
ولا دفع الله تعالى عنه سوءً يخشاه أو كيد كايد إلا سجد. ولا فرغ من صلاة مفروضة إلا سجد. ولا وفق لإصلاح بين اثنين إلا سجد. وكان أثر السجود في جميع مواضع سجوده، فسمي السجاد لذلك.
لقد جسدوا معنى العبودية لله تعالى في أدعيتهم، فهذا الإمام أبي عبد الله الحسين سلام الله تعالى عليه يناجي رب العزة في دعاء يوم عرفه، ويقدم بين يدي دعائه إعترافا بأوصاف العبودية وأداء لحقوق الربوبية فيقول سلام الله تعالى عليه _ (إلهي أنا الفقير في غناي، فكيف لا أكون فقيرا في فقري، إلهي أنا الجاهل في علمي، فكيف لا أكون جهولا في جهلي).
وكان أيضا من دعاء الإمام علي بن الحسين الإمام السجاد زين العابدين دعاء التذلل:
(مولاي مولاي، أنت المولى وأنا العبد، وهل يرحم العبد إلا المولى.
مولاي مولاي، أنت العزيز وأنا الذليل، وهل يرحم الذليل إلا العزيز.
مولاي مولاي، أنت المالك وأنا المملوك، وهل يرحم المملوك إلا المالك.
مولاي مولاي، أنت الخالق وأنا المخلوق، وهل يرحم المخلوق إلا الخالق.
مولاي مولاي، أنت المعطي وأنا السائل، وهل يرحم السائل إلا المعطي.
مولاي مولاي، أنت المغيث وأنا المستغيث، وهل يرحم المستغيث إلا المغيث.
مولاي مولاي، أنت الباقي وأنا الفاني، وهل يرحم الفاني إلا الباقي.
مولاي مولاي، أنت الدائم وأنا الزائل، وهل يرحم الزائل إلا الدائم.
مولاي مولاي، أنت الحي وأنا الميت، وهل يرحم الميت إلا الحي.
مولاي مولاي، أنت القوي وأنا الضعيف، وهل يرحم الضعيف إلا القوي.
مولاي مولاي، أنت الغني وأنا الفقير، وهل يرحم الفقير إلا الغني.
مولاي مولاي، أنت الكبير وأنا الصغير، وهل يرحم الصغير إلا الكبير).
وكان من دعاء الإمام موسى بن جعفر الكاظم سلام الله تعالى عليه:
(اللهم عد على جهلي بحلمك، وعلى فقري بغناك، وعلى ذلي بعزك وسلطانك، وعلى ضعفي بقوتك، وعلى خوفي بأمنك، وعلى ذنوبي وخطاياي بعفوك ورحمتك يا رحمان يا رحيم).
هذه نماذج من أدعية أهل البيت سلام الله تعالى عليهم، أظنها واضحة الدلالة في تبيان معنى العبودية وأوصافها، (ومن أراد المزيد من أدعية أهل البيت عليهم السلام فعليه بالصحيفة السجادية، وكتب الأدعية المختارة كمفاتيح الجنان وضياء الصالحين وغيرها) فهم يعلموننا أوصاف العبودية التي يجب على العبد المؤمن أن يحققها في ذاته وسلوكه، وكلما تحققت كان العبد أقرب إلى ربه، ذلك أن العبد إذا عرف أوصافه فمن المحتوم أن يعرف ربه كم بينت ذلك أدعية أهل البيت. فعندما يعرف العبد أنه مخلوق يعرف الخالق، وعندما يعرف أنه ضعيف يعرف أن ربه هو القوي، وهذا ما تتميز به أنواع الإبتلاء التي سأبينها في مواضعها إن شاء الله تعالى.

عبودية الجهل والأهواء والشهوات:
وكما ضربنا أمثلة على من ادعى ما ليس له من أوصاف الربوبية من القرآن الكريم من طواغيت عصورهم كفرعون وقارون، نتطرق إلى قضية أهم عانت ولازالت الأمة الإسلامية تعاني منها ومن آثارها، نضرب مثلا على أساس من أسس العبودية وهو الجهل، فالعبد في حقيقته جاهل، ولا يمكن أن يعلم إلا بالله ومن الله عن طريق الأنبياء والأوصياء الذين اختارهم لنا الله، فمهما بلغ العبد من العلم والمعرفة لا يمكن أن يصل إلى حد الإحاطة، ولابد أن يبقى محتاج إلى الرب تعالى، فكيف يمكن للعبد الجاهل أن يعرف ما يريد الله منه، لولا اختيار الله تعالى لمن يخبر عنه ما يريد منا، لأننا نعجز عن معرفة شريعة الله وأمره ونهيه من أنفسنا، ولا نعرف ما يصلحنا أو يفسدنا، ولا نعرف ما يهدينا أو يضلنا إلا أن يخبرنا الله تعالى عن ذلك، فنحن في مقام الجهل، ولذلك اختار الله تعالى لنا رسوله الأكرم محمدا وأوصياءه الأئمة من أهل البيت عليهم الصلاة والسلام وفوض إليهم ذلك، ودور العباد هو الطاعة لهم وموالاتهم وإتباعهم والإقتداء بهديهم، وقد أمر الله الناس بموالاتهم وطاعتهم، وأدلة الطاعة لرسول الله وأهل بيته واضحة جلية في القرآن الكريم ذكرنا بعضا منها في هذا البحث.
لكن المصيبة أن يخرج الجهلاء عن بساط العبودية، ولا يعترفون بجهلهم ويتطاولون على مقام الربوبية، ولا يطيعون الله ورسوله فيما يريده منهم ويأمرهم به، فهذا هو الضلال بعينه بل وربما أكثر من ذلك والعياذ بالله.
فعندما أمر الله تعالى رسوله محمد صلى الله عليه وآله أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه فيما يتعلق بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فالواجب على العبيد أن يطيعوا أمر ربهم، في إختيار من يخلف رسول الله بعد وفاته.
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت هذه الآية {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم غدير خم، في علي بن أبي طالب.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك} أن عليا مولى المؤمنين {وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس}.
أما صيغة الأمر الإلهي علي لسان رسول الله يوم غدير خم فكانت كما في الروايات التالية.
فقد روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عدد كبير من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وآله خطب يوم غدير خم قال _ من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.... ثم نزلت في ذلك اليوم آية إكمال الدين وتمام النعمة وهي قوله تعالى {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. أي أن الله تعالى قد أكمل دينه بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وأتم علينا النعمة بذلك.
ويتوضح معنى ولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ووصايته بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، بالروايات المتضافرة والمتواترة في صحاح السنة ومسانيدها. كحديث الثقلين، والولاية، والسفينة، وغيرها من الأحاديث الصحيحة المتواترة التي لاتحتمل إلا معنى واحدا وهو ولاية أمير المؤمنين وأهل البيت عليهم السلام.
روي في كل صحاح المسلمين ومسانيدهم عن زيد بن أرقم قال:
لما رجع رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- من حجة الوداع، ونزل غدير خم، أمر بدوحات، فقممن، فقال: كأني قد دعيت فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله تعالى، وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض.
ثم قال: إن الله -عز وجل- مولاي، وأنا مولى كل مؤمن، ثم أخذ بيد علي -عليه السلام- فقال: من كنت مولاه فهذا وليه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.
وأخرج الحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول"مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق.
وأخرج أحمد والحاكم عن ابن مسعود. أنه سئل كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال: سألنا عنها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اثنا عشر كعدة بني إسرائيل.
إن العبد مهما بلغ من العلم ما بلغ لا يمكن له أن يختار بعقله الناقص المحتاج من يكون وصي رسول الله، ولذلك اقتضت الضرورة العقلية أن يكون البلاغ من الله، والواجب على المسلمين الطاعة والإلتزام، وليس تأويل معنى النصوص الشرعية وفق رغبات العبيد الجهلاء. بل الأصل أن يتذكر الإنسان أن العبد عبد والرب رب. فإذا خرج العباد عن موقعيتهم فالنتيجة هي غضب الرب والعصيان والحرمان والضلال.
ثم وقبل انتقال رسول الله صلى الله عليه وآله إلى الرفيق الأعلى، دعا الصحابة وأمرهم أن يأتوه بدواة وكتف، ليكتب لهم كتابا حتى لا يضلوا بعد رسول الله أبدا. فهو صلى الله عليه وآله يعلمنا بالله وينيرنا بالله ويهدينا بالله تعالى إلى صراطه المستقيم. فهو صلى الله عليه وآله ينطق بالوحي من الرب العالم الذي يعلم ما ينفعنا ويصلحنا، ويجنبنا طريق الضلال والطغيان.
قال تعالى سورة الأنفال. الآية: 20 {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون}.
فبعد أن أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده أبدا، كثر لغط الصحابة، وتنازعوا ولا ينبغي لهم أن يتنازعوا عند رسول الله، ولا يعترضوا على أوامره.
قال تعالى في سورة الأنفال. الآية: 46 {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}. لأن تكليف العبيد أن يسمعوا ويطيعوا رسول ربهم وسيدهم، وأن يتذكروا أنهم عبيد وليس للعبد التطاول على أوامر سيده.
وبعد أن تنازعوا، ولم يطيعوا وتمردوا على الله ورسوله، رموا رسول الله بالهجر أي الهذيان والخرف. وبدلا من أن يجيبوا رسول الله، قالوا لبعضهم دعوه فإنه يهجر ثم زادوا على ذلك بأن قالوا لا نريد أمر رسول الله ولا نريد أن نسمع كلامه وتركوه، وكان قائد تلك الحركة التمردية عمر بن الخطاب ومعه عددا كبيرا من الصحابة.
روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس؛ أنه قال: يوم الخميس! وما يوم الخميس! ثم جعل تسيل دموعه. حتى رأيت على خديه كأنها نظام اللؤلؤ. قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتوني بالكتف والدواة (أو اللوح والدواة) أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا. فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر.
روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا من بعده). قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط، قال: (قوموا عني، ولا ينبغي عندي التنازع). فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه.
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما حُضِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي البيت رجال، فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: هَلُمَّ أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرِّبوا يكتب لكم النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وسلم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا.
قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرَّزيَّة كل الرَّزيَّة ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، من اختلافهم ولغطهم.
لقد خرج أولئك عن حقيقة العبودية لله تعالى إلى عبودية أهوائهم وآرائهم، وترفعوا عن الإعتراف بحقيقة جهلهم إستكبارا وعتوا، وحسدا وبغضا، وادعوا الأعلمية على الله ورسوله، ونتيجة لذلك الرفض لكتاب رسول الله والترفع عن العبودية بعدم الإستجابة لرسول الله، فإن كل ما نراه اليوم من ضلال وتمزق وتشرذم وخلافات وصراعات في الأمة الإسلامية، وقتل للأبرياء، وضعف شديد، وتداعي الأمم الكافرة علينا، كله نتيجة لرفض أمر رسول الله والترفع عن العبودية، لأن رسول الله قال لهم لن تضلوا، وقال لهم في موقع آخر لن تضلوا ما إن تمسكتم بهما أي الكتاب والعترة الطاهرة، وكرر ذلك طيلة حياته، وكلامه حق وقوله صدق، وماذا بعد الحق إلا الضلال.
قال تعالى في سورة الأنفال. الآية: 24 {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}.
وقال تعالى في سورة النور الآية 63 {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
روى البخاري مسلم في صحيحهما عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال صلى الله عليه وسلم: ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم.
وروى أبو داود عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته، يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه.
ولم تكن تلك الحادثة هي الوحيدة التي خرجوا فيها عن حدود العبودية لله تعالى، فقد كان هناك عشرات الحوادث ممتلئة بها كتب التأريخ الإسلامي، فلنراجع قصة الحديبية عندما قيل لرسول الله ما قيل، حيث شك البعض في نبوة محمد صلى الله عليه وآله، وذلك لأنهم نسوا أن حقيقتهم الجهل، فنسوا أنه رسول الله الذي ينطق عن الله، ولا يفعل إلا ما يأمره الله به، واعتقدوا أنهم أعلم من رسول الله، وحاولوا فرض جهلهم على بقية المسلمين.
روى البخاري في صحيحه أن عمر بن الخطاب قال عن يوم الحديبية: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقا؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: إني رسول الله، ولست أعصيه، وهو ناصري. قلت: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام. قال: قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به. قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقا، قال بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل، إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه، فوالله إنه على الحق؟ قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به، قال: بلى، قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالا، قال: فلما فرغ من قضية الكتاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: (قوموا فانحروا ثم احلقوا). قال: فوالله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد.
قال عمر بن الخطاب: والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ.
لاحظ في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وآله، بعد أن أكد لعمر أنه رسول الله، لم يقنع بذلك، وذهب بعد جواب رسول الله إلى أبي بكر، ثم بعد ذلك أكد أنه قام بإعمال ليمنع رسول الله من تنفيذ أمر ربه، وبعد ذلك اعترف بأنه شك في نبوة محمد صلى الله عليه وآله.
وهناك أيضا مخالفتهم لرسول الله في معركة أحد وتركهم رسول الله ومعه أمير المؤمنين علي وهربوا إلى رؤوس الجبال ومنهم من رجع إلى أحضان قبائل المشركين ومنهم من كان ينتظر ليرى نهاية الأمر حتى يقرر مع أي جهة يميل.
وهروبهم يوم حنين، حيث أعجبوا بما ليس لهم، فأظهر الله حقيقة جبنهم وتخاذلهم، وهربوا وتركوا رسول الله وأمير المؤمنين علي وثلة من مؤمني بني هاشم، وستظهر لك الروايات إذا راجعتها أن كبار الصحابة كانوا من الهاربين.
قال تعالى في سورة التوبة الآية 25 {ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين}.
وروى البخاري عن أبي قتادة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام حنين، فلما التقينا، كانت للمسلمين جولة، فرأيت رجلا من المشركين علا رجلا من المسلمين، فاستدرت حتى أتيته من ورائه حتى ضربته بالسيف على حبل عاتقه، فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت فأرسلني، فلحقت عمر بن الخطاب فقلت: ما بال الناس؟ قال: أمر الله.
ثم تركهم لرسول الله يوم الجمعة يخطب ليلحقوا بركب أهل الدنيا. قال تعالى في سورة الجمعة الآية: 11 {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين}. ولم يبق مع رسول الله في المسجد سوى علي وفاطمة والحسن والحسين والمؤمنون من بني هاشم وبعض الصحابة الأبرار كعمار وبلال وسلمان وروي عنه عليه وآله الصلاة والسلام أنه قال: والذي نفسي بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا.
ورفع أصواتهم فوق صوت النبي قال تعالى في سورة الحجرات. الآية: 2 {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون}.
روى البخاري ومسلم أن أبا بكر وعمر رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر، قال نافع: لا أحفظ اسمه، فقال: أبو بكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله: {يا أيها الذين آمنوا لاترفعوا أصواتكم}.
وتلاحيهم في المسجد أمام رسول الله الذي خرج ليخبرهم عن ليلة القدر ونتيجة لذلك حرم المسلمون من معرفتها.
روى البخاري عن أنس قال: أخبرني عبادة بن الصامت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان، فرفعت.
وعندما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وآله أن الأئمة بعده إثنا عشر وأراد أن يسميهم ويعددهم وقال كلهم من بني هاشم. بدأ القوم برفع أصواتهم وكثر اللغط حتى لايسمع الحاضرون ماذا يقول رسول الله.
روى أحمد في المسند عن جابر بن سمرة قال -خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هذا الدين لا يزال عزيزا إلى اثني عشر خليفة قال: ثم تكلم بكلمة لم أفهمها وضج الناس فقلت لأبي: ما قال قال: كلهم من قريش. ‏
وروى أحمد في المسند عن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يزال هذا الأمر عزيزا إلى إثني عشر خليفة فكبر الناس وضجوا وقال كلمة خفية قلت لأبي: يا أبت ما قال؟ قال: كلهم من قريش.
وكذلك ترك الصحابة ونقضهم لعشرات الأحكام الربانية بعد وفاة رسول الله، حيث حذرهم رسول الله مرارا وتكرارا قبل وفاته حتى لا يدعوا ما ليس لهم ويتطاولوا على مقام الربوبية.
روى الحاكم في المستدرك عن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وليكونن أئمة مضلون، وليخرجن على أثر ذلك الدجالون الثلاثة.
روى أحمد وابن حبان والحاكم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال- لتنتقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم، و آخرهن الصلاة.
روى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردنَّ علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم قال أبو حازم: فسمعني النعمان بن أبي عياش فقال: هكذا سمعت من سهل؟ فقلت: نعم، فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري، لسمعته وهو يزيد فيها: (فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيَّر بعدي.
وروى البخاري عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وآله قال-إنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربَّ أصحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: (وكنتُ عليهم شهيداً ما دمتُ فيهم - إلى قوله - الحكيم). قال: فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم.
ومن نظر في آيات القرآن الكريم التي تأمر بطاعة الله ورسوله، من حيث كثرتها، يتبين له أن ميول النفس تنزع إلى التمرد على العبودية، إذ يكفي العبد المؤمن المطيع أن يؤمر لمرة واحدة حتى يلتزم بطاعة ربه على بساط العبودية لله وحده.
فيجب على العبد المسلم أن يراقب عبوديته لله تعالى، ومراقبة سلوكه وأفعاله، وأن يتحقق بأوصاف العبودية في هذه الدنيا، ويقوم بحقوق الربوبية، لأجل الهدف الذي خلقنا الله تعالى من أجله، ونقتدي في ذلك برسول الله والأئمة الأطهار من أهل بيته وأتباعهم وشيعتهم خير البرية، الذين يعبدون الله تعالى عبادة الأحرار، الذين التزموا بولاية أهل البيت عليهم السلام، لأن عبودية الله تعالى لا يتم معناها إلا من خلالهم وموالاتهم وطاعتهم، لأن طاعتهم من طاعة الله تعالى. ومعصيتهم هي عين معصية الله تعالى.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page