ولنا أن نستقرأ هذه الشروط لكي نستقرأ معها حيثيات الهدنة ودوافعها، أو نلتمس ما ينبغي إلتماسهُ من إلمامة بالماضي المرير، لتنفتح لنا أسارير مستقبل ممتحنٍ يجيش بكل دواعي النزعات الداعية للتمرّد على الشرعية الإلهية، أو هو ماضٍ محمّل بتبعات سوأة التمرد على تلك الشرعية، ليكوّن المستقبل المتمرّد على كل الأعراف والقيم، وستكون الخلافة ضحيتها المنحورة على قرابين شهوة السلطان.
ولن نغفل ـ بعد ما سلف من استقصاء ـ دواعي الحسن(عليه السلام) لهذه الهدنة «المضطهدة» أو قُل الدوافع المظلومة التي أودت بعزيمة الإمام(عليه السلام) في قتال القاسطين، أن تندفع باتجاه الفتح العاجل أو النصر القريب، وإنّما كانت تلك العزائم «الأسيرة» لدى الأهواء المتمرّدة عرضة للتهم القادمة بعد حين، لتصوّر ضعف عزيمة الإمام(عليه السلام) عن القتال وسكونه للدعة أو المهادنة، أو كما يضخّمها الإعلام المضاد من أنّه اندفع للصلح وخضع لما أملاه معاوية من البيعة عليه وعلى شيعته... وهكذا عزِمَ الإعلام أنّ يصوّر الهدنة بأنّها التنازل، والسلام بأنه استسلام، وعكف أن يؤسس «عقلية» قاصرة تقرأ الأحداث دون روية، أو قُل دون مسكة إنصاف، أو حصافة رأيٍ...
وقد كشفت هذه الشروط سوأة ابن أبي سفيان حين أراد أن يراهن على ظروف طارئة، بل لم تكن طارئة حقاً إذا ما عرفنا أنّها وليدة مناوراتٍ سياسية أطاحت بالشرعية، لتوصلها إلى الهدنة التي لم تكن في حسابات الإمام الحسن(عليه السلام) وهو يطمح أن يواصل مهمة أبيه الشهيد إلى هدفها المنشود..
ولم يكد معاوية يخفي هلعه ممّا عزم عليه الحسن(عليه السلام) من تحقيق النصر على مناورات معاوية ومساوماته المخادعة حتّى بعث معاوية بصحيفة بيضاء للحسن يدعوه أن يشترط عليه ما شاء بما شاء، ولم يكن الحسن(عليه السلام) قد راجعه في صلح أو موادعة لولا ما رأى من أصحابه جفوة التمرّد على مواصلة القتال أو خيانة بعضهم ونكوص آخرين، عدا ما بقي من صفوة شيعته وشيعة أبيه فضن بهم على الموت والفناء.
قال الطبري: وقد أرسل معاوية بصحيفة بيضاء مختوم على أسفلها، وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك(1)...
ولا يسعنا الآن إلاّ أن نستعرض تلك الشروط التي ذكرها التاريخ وأرّخها المؤرّخون وعكف على دراستها الباحثون أو أن نجعلها آلية لقراءة حيثيات الهدنة، ودواعي المسالمة، ودوافع إرجاء مهمّة الإمام الحسن(عليه السلام) في القضاء على جيوب التمرّد وحركات النفاق إلى حين.
ولا نجد من استقصى تلك الشروط وجمّعها كما هو عليه شيخ المحققين العلامة الأجل الشيخ راضي آل ياسين نوّر الله ضريحه وحشره مع من تولاّه، فقد أفرغ الوسع وبذل الجهد في تقصّي شروط الهدنة. ونحن ذاكرون ذلك ما يقتضيه البحث من تحقيق الشروط ومناقشتها لاحقاً.
_____________
(1) تاريخ الطبري: 4/ 124.
شروط الهدنة
- الزيارات: 4106