«يا عماه، لولا أنه لا ينبغي للمودع أن يسكت، وللمشيع أن ينصرف، لقصر الكلام، وإن طال الأسف. وقد أتى من القوم إليك ما ترى، فضع عنك الدنيا بتذكر فراغها وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها، واصبر حتى تلقى نبيك (صلى الله عليه وآله)، وهو عنك راض» (1).
تلك هي كلمات الإمام الحسن المجتبى صلوات الله وسلامه عليه، وهو يودع مع أبيه، وأخيه، وعمه عقيل، وابن عمه عبد الله بن جعفر، وابن عباس ـ أبا ذر، ذلك الصحابي الجليل، الذي جاهد وناضل القوم في سبيل الدين والحق. ولاقى منهم ما لاقى من اضطهاد وإهانة وبلاء، حتى قضى غريباً، وحيداً فريداً في «الربذة»: منفاه.
هي كلمات ناطقة بموقفه القائم على أساس العقيدة والحق، تجاه تصرفات وأعمال الهيئة الحاكمة: «القوم».
وهو بكلماته هذه يساهم في تحقيق ما كان يرمي إليه أبو ذر من أهداف، حيث كان لا بد من إطلاق الصرخة، لإيقاظ الأمة من سباتها، وتوعيتها على حقيقة ما يجري وما يحدث، وإفهامها: ان الحاكم لا يمكن أن يكون أبداً في منأى عن المؤاخذة، ولا هو فوق القانون، وإنما هو ذلك الحامي له، والمدافع عنه، فإذا ما سوّلت له نفسه أن يرتكب أية مخالفة، أو أن يستغل مركزه في خدمة أهوائه ومصالحه الشخصية، فإن بإمكان كل أحد أن يقف في وجهه، ويعلن كلمة الحق، ويعمل على رفع أي ظلم أو حيف يصدر منه.
ومن جهة أخرى... فإنه إذا كانت الظروف لا تسمح لأمير المؤمنين وسبطيه (عليهم السلام)، وآخرين ممن هم على خطهم لأن يقفوا موقف أبي ذر، فإن عليهم ـ على الأقل ـ أن يعلنوا عن رأيهم ـ الذي هو رأي الإسلام ـ فيه، وفي مواقفه، فإن ذلك من شأنه: أن يعطي موقفه العظيم ذاك بعداً إعلامياً، وعمقاً فكرياً وسياسياً، يحمي تلك المعطيات والنتائج التي ستنشأ عنه.. فكانت مبادرتهم ـ إلى جانب مبادرات أخرى لأمير المؤمنين (عليه السلام) خاصة، لامجال لذكرها هنا ـ لتوديعه، رغم منع السلطة، ثم جرى بينهم وبين مروان، ثم بينهم وبين عثمان ما جرى، حسبما ذكره، أو أشار إليه غير واحد من المؤرخين (2).
وإذا تأملنا في كلمات الإمام الحسن صلوات الله وسلامه عليه لأبي ذر في ذلك الموقف، فإننا نجدها تتضمن: تأسفه العميق لما فعله القوم بأبي ذر، ثم هو يشجعه على الاستمرار على موقفه، ويعتبر أن فيه رضى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ومن ثم رضى الله سبحانه وتعالى..
كما أنه يحاول التخفيف عن أبي ذر، وإعطائه الرؤية الصحيحة، التي من شأنها أن تخفف من وقع المحنة عليه، وتسهل عليه مواجهة البلايا التي تنتظره، وذلك حينما يأمره (عليه السلام) بأن: يضع عنه الدنيا، بتذكر فراغها، وشدة ما اشتد منها برجاء ما بعدها.
فإن هذه الكلمات بالذات قد تكفلت ببيان السر الحقيقي، الذي يجعل شخصية الإنسان المسلم أقوى من كل ما في الدنيا من أسلحة وقدرات تملكها قوى البغي والشر، وتجعله على استعداد لأن يضحي بكل شيء حتى بنفسه، بكل رضا وثقة واطمئنان، بل وباندفاع يحمل معه شعوراً غامراً بالسرور والهناء، بل وبالفرحة والسعادة.
____________
(1) شرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 253 والغدير ج 8 ص 301 عنه، وأشار إلى ذلك اليعقوبي في تاريخه ج 2 ص 172 وعن: الوافي ج 3 ص 107 والبحار ج 22 ص 412 و 436. وراجع أيضاً روضة الكافي ج 8 ص 207.
(2) راجع: مروج الذهب ج 2 ص 339 ـ 342 وشرح النهج للمعتزلي ج 8 ص 252 ـ 255 وتاريخ اليعقوبي ج 2 ص 172/173 والفتوح لابن أعثم ج 2 ص 159 و 160
الإمام الحسن (عليه السلام) في وداع أبي ذر
- الزيارات: 3984