• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 376 الي 398


[ 376 ]
(سورة النصر مدنية وهي ثلاث آيات) بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاء نصر الله والفتح - 1. ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا - 2. فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا - 3. (بيان) وعدله صلى الله عليه وآله وسلم بالنصر والفتح وأنه سيرى الناس يدخلون في الاسلام فوجا بعد فوج وأمره بالتسبيح حينئذ والتحميد والاستغفار، والسورة مدنية نزلت بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة على ما سنستظهر. قوله تعالى: " إذا جاء نصر الله والفتح " ظهور " إذا " المصدرة بها الآية في الاستقبال يستدعي أن يكون مضمون الآية إخبارا بتحقق أمر لم يتحقق بعد، وإذا كان المخبر به هو النصر والفتح وذلك مما تقر به عين النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو وعد جميل وبشرى له صلى الله عليه وآله وسلم ويكون من ملاحم القرآن الكريم. وليس المراد بالنصر والفتح جنسهما حتى يصدقا على جميع المواقف التي أيد الله فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم على أعدائه وأظهر دينه على دينهم كما في حروبه ومغازيه وإيمان الانصار وأهل اليمن كما قبل إذ لا يلائمه قوله بعد: " ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ". وليس المراد بذلك أيضا صلح الحديبية الذي سماه الله تعالى فتحا إذ قال " إنا فتحنا لك فتحا مبينا " الفتح: 1 - لعدم انطباق الآية الثانية بمضمونها عليه. وأوضح ما يقبل الانطباق عليه النصر والفتح المذكوران في الآية هو فتح مكة الذي هو أم فتوحاته " ص " في زمن حياته والنصر الباهر الذي انهدم به بنيان الشرك في جزيرة العرب. ويؤيده وعد النصر الذي في الآيات النازلة في الحديبية " إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا " الفتح: 3 فإن من القريب جدا أن يكون ما في الآيات وعدا بنصر عزيز يرتبط بفتح الحديبية وهو نصره تعالى نبيه " ص " على قريش حتى فتح مكة بعد
________________________________________
[ 377 ]
مضى سنتين من فتح الحديبية. وهذا الذي ذكر أقرب من حمل الآية على إجابة أهل اليمن الدعوة الحقة ودخولهم في الاسلام من غير قتال، فالاقرب إلى الاعتبار كون المراد بالنصر والفتح نصره تعالى نبيه " ص " على قريش وفتح مكة، وأن تكون السورة نازلة بعد صلح الحديبية ونزول سورة الفتح وقبل فتح مكة. قوله تعالى: " ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا " قال الراغب: الفوج الجماعة المارة المسرعة، وجمعه أفواج. انتهى. فمعنى دخول الناس في دين الله أفواجا دخولهم فيه جماعة بعد جماعة، والمراد بدين الله الاسلام قال تعالى: " إن الدين عند الله الاسلام " آل عمران: 19. قوله تعالى: " فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " لما كان هذا النصر والفتح إذلالا منه تعالى للشرك وإعزازا للتوحيد وبعبارة أخرى إبطالا للباطل وإحقاقا للحق ناسب من الجهة الاولى تنزيهه تعالى وتسبيحه، وناسب من الجهة الثانية - التي هي نعمة - الثناء عليه تعالى وحمده فلذلك أمره " ص " بقوله: " فسبح بحمد ربك ". وههنا وجه آخر يوجه به الامر بالتسبيح والتحميد والاستغفار جميعا وهو أن للرب تعالى: " على عبده أن يذكره بصفات كماله ويذكر نفسه بما له من النقص والحاجة ولما كان في هذا الفتح فراغه " ص " من جل ما كان عليه من السعي في إماطة الباطل وقطع دابر الفساد أمر أن يذكره عند ذلك بجلاله وهو التسبيح وجماله وهو التحميد وأن يذكره بنقص نفسه وحاجته إلى ربه وهو طلب المغفرة ومعناه فيه " ص " - وهو مغفور - سؤال إدامة المغفرة فإن الحاجة إلى المغفرة بقاء كالحاجة إليها حدوثا فافهم ذلك، وبذلك يتم شكره لربه تعالى وقد تقدم (1) كلام في معنى مغفرة الذنب في الابحاث السابقة. وقوله: " إنه كان توابا " تعليل للامر بالاستغفار لا يخلو من تشويق وتأكيد. (بحث روائي) في المجمع عن مقاتل: لما نزلت هذه السورة قرأها " ص " على أصحابه ففرحوا واستبشروا وسمعها العباس فبكى فقال " ص ": ما يبكيك يا عم ؟ قال: أظن أنه قد
________________________________________
(1) في آخر الجزء السادس من الكتاب.
________________________________________
[ 378 ]
نعيت اليك نفسك يا رسول الله فقال: إنه لكما تقول فعاش بعدها سنتين ما رؤي بعدها ضاحكا مستبشرا. اقول: وروي هذا المعنى في عدة روايات بألفاظ مختلفة وقيل في وجه دلالتها أن سياقها يلوح إلى فراغه " ص " مما عليه من السعي والمجاهدة وتمام امره، وعند الكمال يرقب الزوال. وفيه عن ام سلمة قالت: كان رسول الله " ص " بالآخرة لا يقوم ولا يقعد ولا يجئ ولا يذهب إلا قال: سبحان الله وبحمده استغفر الله واتوب إليه فسألناه عن ذلك فقال: إني أمرت بها ثم قرء " إذا جاء نصر الله والفتح ". أقول: وفي هذا المعنى غير واحد من الروايات مع اختلاف ما فيما كان يقوله " ص ". وفي العيون باسناده إلى الحسين بن خالد قال: قال الرضا عليه السلام سمعت ابى يحدث عن ابيه عليهما السلام ان اول سورة نزلت " بسم الله الرحمن الرحيم اقرء باسم ربك " وآخر سورة نزلت " إذا جاء نصر الله ". اقول: لعل المراد به أنها آخر سورة نزلت تامة كما قيل. وفي المجمع في قصة فتح مكة: لما صالح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشا عام الحديبية كان في أشراطهم أنه من أحب أن يدخل في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دخل فيه فدخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودخلت بنو بكر في عقد قريش، وكان بين القبيلتين شر قديم. ثم وقعت فيما بعد بين بني بكر وخزاعة مقاتلة ورفدت قريش بني بكر بالسلاح وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا، وكان ممن أعان بني بكر على خزاعة بنفسه عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو. فركب عمرو بن سالم الخزاعي حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وكان ذلك مما هاج فتح مكة فوقف عليه وهو في المسجد بين ظهراني القوم وقال: لا هم إني نأشد (1) محمدا * حلف أبينا وأبيه الا تلدا (2) إن قريشا أخلفوك الموعدا * ونقضوا ميثاقك المؤكدا وقتلونا ركعا وسجدا
________________________________________
(1) الناشد: الطالب والذكور. (2) الا تلد: القديم.
________________________________________
[ 379 ]
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: حسبك يا عمرو ثم قام فدخل دار ميمونة وقال: اسكبي لي ماء فجعل يغتسل وهو يقول: لا نصرت إن لم أنصر بني كعب وهم رهط عمرو بن سالم ثم خرج بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من خزاعة حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه بما أصيب منهم ومظاهرة قريش بني بكر عليهم ثم انصرفوا راجعين إلى مكة وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم قال للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاء ليشدد العقد ويزيد في المدة وسيلقي بديل بن ورقاء فلقوا أبا سفيان بعسفان وقد بعثته قريش إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليشدد العقد. فلما لقي أبو سفيان بديلا قال: من أين أقبلت يا بديل قال: سرت في هذا الساحل وفي بطن هذا الوادي قال: ما أتيت محمدا ؟ قال: لا فلما راح بديل إلى مكة قال أبو سفيان: لئن كان جاء من المدينة لقد علف بها النوى فعمد إلى مبرك ناقته وأخذ من بعرها ففته فرآى فيها النوى فقال: أحلف بالله لقد جاء بديل محمدا. ثم خرج أبو سفيان حتى قدم إلى رسول الله " ص " فقال: يا محمد احقن دماء قومك وأجر بين قريش وزدنا في المدة فقال: أغدرتم يا أبا سفيان ؟ قال: لا فقال: فنحن على ما كنا عليه فخرج فلقي أبا بكر فقال: أجر بين قريش قال: ويحك وأحد يجير على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ثم لقي عمر بن الخطاب فقال له مثل ذلك ثم خرج فدخل على أم حبيبة فذهب ليجلس على الفراش فأهوت إلى الفراش فطوته فقال: يا بنية أرغبت بهذا الفراش عني ؟ فقالت: نعم هذا فراش رسول الله " ص " ما كنت لتجلس عليه وأنت رجس مشرك. ثم خرج فدخل على فاطمة عليها السلام فقال: يا بنت سيد العرب تجيرين بين قريش وتزيدين في المدة فتكونين أكرم سيدة في الناس ؟ فقالت: جواري جوار رسول الله صلى الله عليه وآله. قال: أتأمرين ابنيك أن يجيرا بين الناس ؟ قالت: والله ما بلغ ابناي أن يجيرا بين الناس وما يجير على رسول الله " ص " أحد فقال: يا أبا الحسن إني أرى الامور قد اشتدت علي فانصحني فقال علي عليه السلام: إنك شيخ قريش فقم على باب المسجد واجربين قريش ثم الحق بأرضك قال: وترى ذلك مغنيا عني شيئا ؟ قال: لا والله ما اظن ذلك ولكن لا اجد لك غير ذلك فقام ابو سفيان في المسجد فقال: يا ايها الناس إني قد اجرت بين قريش ثم ركب بعيره فانطلق.
________________________________________
[ 380 ]
فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك ؟ فأخبرهم بالقصة فقالوا: والله إن زاد علي بن أبي طالب على ان لعب بك فما يغني عنا ما قلت ؟ قال: لا والله ما وجدت غير ذلك. قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجهاز لحرب مكة وامر الناس بالتهيئة وقال: اللهم خذ العيون والاخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها، وكتب حاطب بن ابي بلتعة إلى قريش فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخبر من السماء فبعث عليا عليه السلام والزبير حتى اخذا كتابه من المرأه وقد مضت هذه القصة في سورة الممتحنة. ثم استخلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا ذر الغفاري وخرج عامدا إلى مكة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان في عشرة آلاف من المسلمين ونحو من أربعمائة فارس ولم يتخلف من المهاجرين والانصار عنه أحد. وقد كان ابو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن أمية بن المغيرة قد لقيا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنيق العقاب فيما بين مكة والمدينة فالتمسا الدخول عليه فلم يأذن لهما فكلمته أم سلمة فيهما فقالت: يا رسول الله ابن عمك وابن عمتك وصهرك قال لا حاجة لي فيهما اما ابن عمي فهتك عرضي، واما ابن عمتي وصهري فهو الذي قال لي بمكة ما قال فلما خرج الخبر إليهما بذلك ومع ابي سفيان بني له قال: والله ليأذنن لي أو لآخذن بيد بني هذا ثم لنذهبن في الارض حتى نموت عطشا وجوعا فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رق لهما فأذن لهما فدخلا عليه فأسلما. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر الظهران وقد غمت الاخبار عن قريش فلا يأتيهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خبر خرج في تلك الليلة ابو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل ابن ورقاء يتجسسون الاخبار وقد قال العباس ليلة ئذ: يا سوء صباح قريش والله لئن بغتها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بلادها فدخل مكة عنوة إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر فخرج على بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: أخرج إلى الاراك لعلي أرى خطابا أو صاحب لبن أو داخلا يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيأتونه فيستأمنونه. قال العباس فو الله إني لاطوف في الاراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء وسمعت أبا سفيان يقول: والله ما رأيت كالليلة قط نيرانا فقال بديل: هذه نيران خزاعة فقال أبو سفيان: خزاعة ألام من ذلك
________________________________________
[ 381 ]
قال: فعرفت صوته فقلت: يا أبا حنظلة يعني أبا سفيان فقال: ابو الفضل ؟ فقلت: نعم قال: لبيك فداك أبي وامى ما وراءك ؟ فقلت: هذا رسول الله وراءك قد جاء بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين. قال: فما تأمرني ؟ قلت تركب عجز هذه البغلة فاستأمن لك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فو الله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فردفني فخرجت أركض به بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكلما مررت بنار من نيران المسلمين قالوا: هذا عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على بغلة رسول الله حتى مررت بنار عمر بن الخطاب فقال يعني عمر: يا أبا سفيان الحمد لله الذي أمكن منك بغير عهد ولا عقد ثم اشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وركضت البغلة حتى اقتحمت باب القبة وسبقت عمر بما يسبق به الدابة البطيئة الرجل البطئ. فدخل عمر فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان عدو الله قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد فدعني أضرب عنقه فقلت: يا رسول الله إني قد أجرته ثم إني جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذت برأسه وقلت: والله لا يناجيه اليوم أحد دوني فلما أكثر فيه عمر قلت: مهلا يا عمر فو الله ما يصنع هذا الرجل إلا أنه رجل من آل بني عبد مناف ولو كان من عدي بن كعب ما قلت هذا قال: مهلا يا عباس لاسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم فقال صلى الله عليه وآله وسلم: اذهب فقد آمناه حتى تغدو به علي في الغداة. قال: فلما أصبح غدوت به على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ؟ فقال: بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأكرمك وأرحمك وأحلمك والله لقد ظننت أن لو كان معه إله لاغنى يوم بدر ويوم احد فقال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ؟ فقال: بأبي أنت وامي أما هذه فإن في النفس منها شيئا قال العباس: فقلت له: ويحك اشهد بشهادة الحق قبل أن يضرب عنقك فتشهد. فقال صلى الله عليه وآله وسلم للعباس: انصرف يا عباس فاحبسه عند مضيق الوادي حتى يمر عليه جنود الله قال: فحبسته عند خطم (1) الجبل بمضيق الوادي ومر عليه القبائل قبيلة قبيلة وهو يقول: من هؤلاء ؟ وأقول: أسلم وجهينة وفلان حتى مر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الكتيبة الخضراء من المهاجرين والانصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق فقال:
________________________________________
(1) خطم الجبل: أنفه.
________________________________________
[ 382 ]
من هؤلاء يا أبا الفضل ؟ قلت: هذا رسول الله في المهاجرين والانصار فقال: يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما، فقلت: ويحك إنها النبوة فقال: نعم إذا. وجاء حكيم بن حزام وبديل بن ورقاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسلما وبايعاه فلما بايعاه بعثهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين يديه إلى قريش يدعوانهم إلى الاسلام وقال: من دخل دار أبي سفيان وهي بأعلى مكة فهو آمن، ومن دخل دار حكيم وهي بأسفل مكة فهو آمن، ومن أغلق بابه وكف يده فهو آمن. ولما خرج أبو سفيان وحكيم من عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عامدين إلى مكة بعث في اثرهما الزبير بن العوام وأمره على خيل المهاجرين وأمره أن يغرز رايته بأعلى مكة بالحجون وقال له: لا تبرح حتى آتيك ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة وضربت هناك خيمته، وبعث سعد بن عبادة في كتيبة الانصار في مقدمته، وبعث الخالد بن الوليد فيمن كان أسلم من قضاعة وبني سليم وأمره أن يدخل أسفل مكة ويغرز رايته دون البيوت. وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جميعا أن يكفوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا من قاتلهم، وأمرهم بقتل أربعة نفر عبد الله بن سعد بن أبي سرح والحويرث بن نفيل وابن خطل ومقبس بن ضبابة وأمرهم بقتل قينتين كانتا تغنيان بهجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال: اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة فقتل علي عليه السلام الحويرث بن نفيل وإحدى القينتين وأفلتت الاخرى، وقتل مقبس بن ضبابة في السوق، وأدرك ابن خطل وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا فقتله. قال: وسعى أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخذ غرزه أي ركابه فقبله ثم قال: بأبي أنت وامى أما تسمع ما يقول سعد إنه يقول: اليوم يوم الملحمة * اليوم تسبى الحرمة فقال صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام: أدركه وخذ الراية منه وكن أنت الذي يدخل بها وأدخلها إدخالا رفيقا فأخذها علي عليه السلام وأدخلها كما أمر. ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة دخل صناديد قريش الكعبة وهم يظنون أن السيف لا يرفع عنهم وأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووقف قائما على باب الكعبة فقال: لا إله إلا الله وحده وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الاحزاب وحده ألا إن كل مال أو مأثرة ودم يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة الكعبة وسقاية الحاج فإنهما مردودتان إلى أهليهما، ألا إن
________________________________________
[ 383 ]
مكة محرمة بتحريم الله لم تحل لاحد كان قبلي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار وهي محرمة إلى أن تقوم الساعة لا يختلى خلاها، ولا يقطع شجرها ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. ثم قال: ألا لبئس جيران النبي كنتم لقد كذبتم وطردتم وأخرجتم وآذيتم ثم ما رضيتم حتى جئتموني في بلادي تقاتلونني فاذهبوا فأنتم الطلقاء فخرج القوم فكأنما أنشروا من القبور ودخلوا في الاسلام، وكان الله سبحانه أمكنه من رقابهم عنوة فكانوا له فيئا فلذلك سمي أهل مكة الطلقاء. وجاء ابن الزبعرى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأسلم وقال: يا رسول الاله إن لساني * راتق ما فتقت إذ أنا بور (1) إذ أباري (2) الشيطان في سنن (3) * الغي ومن مال ميله مثبور آمن اللحم والعظام لربي * ثم نفسي الشهيد أنت النذير قال: وعن ابن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: " جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ". وعن ابن عباس قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مكة أبى أن يدخل البيت وفيه الآلهة فامر بها فاخرجت وصورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وفي أيديهما الازلام فقال صلى الله عليه وآله وسلم قاتلهم الله أما والله لقد علموا أنهما لم يستقسما بها قط. أقول: والروايات حول قصة الفتح كثيرة من أراد استقصاءها فعليه بكتب السير وجوامع الاخبار وما تقدم كالملخص منها. (سورة تبت مكية وهي خمس آيات) بسم الله الرحمن الرحيم تبت يدا أبي لهب وتب - 1. ما أغنى
________________________________________
(1) النور: الهالك. (2) المباراة: المباهاة. (3) السنن: وسط الطريق.
________________________________________
[ 384 ]
عنه ماله وما كسب - 2. سيصلى نارا ذات لهب - 3. وامرأته حمالة الحطب - 4. في جيدها حبل من مسد - 5. (بيان) وعيد شديد لابي لهب بهلاك نفسه وعمله وبنار جهنم ولامرأته، والسورة مكية. قوله تعالى: " تبت يدا أبي لهب وتب " التب والتباب هو الخسران والهلاك على ما ذكره الجوهري، ودوام الخسران على ما ذكره الراغب، وقيل: الخيبة، وقيل الخلو من كل خير والمعاني - كما قيل - متقاربة فيد الانسان هي عضوه الذي يتوصل به إلى تحصيل مقاصده وينسب إليه جل أعماله، وتباب يديه خسرانهما فيما تكتسبانه من عمل وإن شئت فقل: بطلان أعماله التي يعملها بهما من حيث عدم انتهائها إلى غرض مطلوب وعدم انتفاعه بشئ منها وتباب نفسه خسرانها في نفسها بحرمانها من سعادة دائمة وهو هلاكها المؤبد. فقوله: " تبت يدا أبي لهب وتب " أي أبو لهب، دعاء عليه بهلاك نفسه وبطلان ما كان يأتيه من الاعمال لاطفاء نور النبوة أو قضاء منه تعالى بذلك. وأبو لهب هذا هو أبو لهب بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان شديد المعاداة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم مصرا في تكذيبه مبالغا في إيذائه بما يستطيعه من قول وفعل وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: تبا لك لما دعاهم إلى الاسلام لاول مرة فنزلت السورة ورد الله التباب عليه. وذكر بعضهم أن أبا لهب اسمه وإن كان في صورة الكنية، وقيل: اسمه عبد العزى وقيل: عبد مناف وأحسن ما قيل في ذكره في الآية بكنيته لا باسمه أن في ذلك تهكما به لان أبا لهب يشعر بالنسبة إلى لهب النار كما يقال أبو الخير وأبو الفضل وأبو الشر في النسبة إلى الخير والفضل والشر فلما قيل: " سيصلى نارا ذات لهب " فهم منه أن قوله: " تبت يدا أبي لهب " في معنى قولنا: تبت يدا جهنمي يلازم لهبها. وقيل: لم يذكر باسمه وهو عبد العزى لان عزى اسم صنم فكره أن يعد بحسب اللفظ عبدا لغير الله وهو عبد الله وإن كان الاسم إنما يقصد به المسمى. قوله تعالى: " ما أغنى عنه ماله وما كسب " ما الاولى نافية وما الثانية موصولة
________________________________________
[ 385 ]
ومعنى " ما كسب " الذي كسبه بأعماله وهو أثر أعماله أو مصدرية والمعنى كسبه بيديه وهو عمله، والمعنى ما أغنى عنه عمله. ومعنى الآية على أي حال لم يدفع عنه ماله ولا عمله - أو أثر عمله - تباب نفسه ويديه الذي كتب عليه أودعي عليه. قوله تعالى: " سيصلى نارا ذات لهب " أي سيدخل نارا ذات لهب وهي نار جهنم الخالدة، وفي تنكير لهب تفخيم له وتهويل. قوله تعالى: " وامرأته حمالة الحطب " عطف على ضمير الفاعل المستكن في " سيصلى " والتقدير: وستصلى امرأته الخ و " حمالة الحطب " بالنصب وصف مقطوع عن الوصفية للذم أي أذم حمالة الحطب، وقيل: حال من " امرأته " وهو معنى لطيف على ما سيأتي. قوله تعالى: " في جيدها حبل من مسد " المسد حبل مفتول من الليف، والجملة حال ثانية من امرأته. والظاهر أن المراد بالآيتين أنها ستتمثل في النار التي تصلاها يوم القيامة في هيئتها التي كانت تتلبس بها في الدنيا وهي أنها كانت تحمل أغصان الشوك وغيرها تطرحها بالليل في طريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تؤذيه بذلك فتعذب بالنار وهي تحمل الحطب وفي جيدها حبل من مسد. قال في مجمع البيان: وإذا قيل: هل كان يلزم أبا لهب الايمان بعد هذه السورة وهل كان يقدر على الايمان ولو آمن لكان فيه تكذيب خبر الله سبحانه بأنه سيصلى نارا ذات لهب. فالجواب أن الايمان يلزمه لان تكليف الايمان ثابت عليه وإنما توعده الله بشرط أن لا يؤمن انتهى موضع الحاجة. أقول: مبنى الاشكال على الغفلة من أن تعلق القضاء الحتمي منه تعالى بفعل الانسان الاختياري لا يستوجب بطلان الاختيار واضطرار الانسان على الفعل فان الارادة الالهية - وكذا فعله تعالى - إنما يتعلق بفعله الاختياري على ما هو عليه أي أن يفعل الانسان باختياره كذا وكذا فلو لم يقع الفعل اختياريا تخلف مراده تعالى عن إرادته وهو محال وإذا كان الفعل المتعلق للقضاء الموجب اختياريا كان تركه أيضا اختياريا وإن كان لا يقع فافهم وقد تقدم هذا البحث في غير موضع من المباحث السابقة. (25 - الميزان - 20)
________________________________________
[ 386 ]
فقد ظهر بذلك أن أبا لهب كان في اختياره أن يؤمن وينجو بذلك عن النار التي كان من المقضي المحتوم أن يدخلها بكفره. ومن هذا الباب الآيات النازلة في كفار قريش أنهم لا يؤمنون كقوله: " إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون " البقرة: 6، وقوله: " لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون " يس: 7، ومن هذا الباب أيضا آيات الطبع على القلوب. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " وأنذر عشيرتك الاقربين " عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصفا فقال: يا صباحاه فاجتمعت إليه قريش فقالوا: ما لك ؟ فقال: أرأيتكم إن أخبرتكم أن العدو مصبحكم وممسيكم ما كنتم تصدقونني ؟ قالوا: بلى. قال: فاني نذير لكم بين يدي عذاب شديد قال أبو لهب: تبا لك ألهذا دعوتنا جميعا ؟ فأنزل الله عزوجل " تبت يدا أبي لهب ". أقول: ورواه أيضا في تفسير السورة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ولم يذكر فيه كون الدعوة عند نزول آية " وأنذر عشيرتك " الآية. وفيه أيضا عن طارق المحاربي قال: بينما أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وإذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه: فقلت: من هذا ؟ فقالوا: هو محمد يزعم أنه نبي وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب. وفي قرب الاسناد بإسناده إلى موسى بن جعفر عليه السلام في حديث طويل يذكر فيه آيات النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من ذلك أن ام جميل امرأه أبي لهب أتته حين نزلت سورة تبت ومع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبو بكر بن أبي قحافة فقال: يا رسول الله هذه ام جميل محفظة اي مغضبة تريدك ومعها حجر تريد ان ترميك به فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنها لا تراني فقالت لابي بكر: أين صاحبك ؟ قال: حيث شاء الله قالت: جئته ولو أراه لرميته فإنه هجاني واللات والعزى إني لشاعرة فقال أبو بكر: يا رسول الله لم ترك ؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا. ضرب الله بيني وبينها حجابا. أقول: وروي ما يقرب منه بغير واحد من طرق أهل السنة.
________________________________________
[ 387 ]
وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وامرأته حمالة الحطب " قال: كانت ام جميل بنت صخر وكانت تنم على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتنقل أحاديثه إلى الكفار. (سورة الاخلاص مكية وهي أربع آيات) بسم الله الرحمن الرحيم قل هو الله أحد - 1. الله الصمد - 2. لم يلد ولم يولد - 3. ولم يكن له كفوا أحد - 4. (بيان) السورة تصفه تعالى بأحدية الذات ورجوع ما سواه إليه في جميع حوائجه الوجودية من دون أن يشاركه شئ لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وهو التوحيد القرآني الذي يختص به القرآن الكريم ويبني عليه جميع المعارف الاسلامية. وقد تكاثرت الاخبار في فضل السورة حتى ورد من طرق الفريقين انها تعدل ثلث القرآن كما سيجئ إن شاء الله. والسورة تحتمل المكية والمدنية، والظاهر من بعض ما ورد في سبب نزولها أنها مكية. قوله تعالى: " قل هو الله أحد " هو ضمير الشأن والقصة يفيد الاهتمام بمضمون الجملة التالية له، والحق أن لفظ الجلالة علم بالغلبة له تعالى بالعربية كما أن له في غيرها من اللغات اسما خاصا به، وقد تقدم بعض الكلام فيه في تفسير سورة الفاتحة. وأحد وصف مأخوذ من الوحدة كالواحد غير أن الاحد إنما يطلق على ما لا يقبل الكثرة لا خارجا ولا ذهنا ولذلك لا يقبل العد ولا يدخل في العدد بخلاف الواحد فإن كل واحد له ثانيا وثالثا إما خارجا وإما ذهنا بتوهم أو بفرض العقل فيصير بانضمامه كثيرا، وأما الاحد فكل ما فرض له ثانيا كان هو هو لم يزد عليه شئ. واعتبر ذلك في قولك: ما جاءني من القوم أحد فإنك تنفي به مجئ اثنين منهم وأكثر كما تنفي مجئ واحد منهم بخلاف ما لو قلت: ما جاءني واحد منهم فإنك إنما تنفي به مجئ واحد منهم بالعدد ولا ينافيه مجئ اثنين منهم أو أكثر، ولافادته هذا المعنى لا يستعمل في الايجاب مطلقا إلا فيه تعالى ومن لطيف البيان في هذا الباب قول
________________________________________
[ 388 ]
علي عليه أفضل السلام في بعض خطبه في توحيده تعالى: كل مسمى بالوحدة غيره قليل، وقد أوردنا طرفا من كلامه عليه السلام في التوحيد في ذيل البحث عن توحيد القرآن في الجزء السادس من الكتاب. قوله تعالى: " الله الصمد " الاصل في معنى الصمد القصد أو القصد مع الاعتماد يقال: صمده يصمده صمدا من باب نصر أي قصده أو قصده معتمدا عليه، وقد فسروا الصمد - وهو صفة - بمعاني متعددة مرجع اكثرها إلى انه السيد المصمود إليه اي المقصود في الحوائج، وإذا اطلق في الآية ولم يقيد بقيد فهو المقصود في الحوائج على الاطلاق. وإذا كان الله تعالى هو الموجد لكل ذي وجود مما سواه يحتاج إليه فيقصده كل ما صدق عليه انه شئ غيره، في ذاته وصفاته وآثاره قال تعالى: " ألا له الخلق والامر " الاعراف: 54 وقال واطلق: " وان إلى ربك المنتهى " النجم: 42 فهو الصمد في كل حاجة في الوجود لا يقصد شيئا إلا وهو الذي ينتهي إليه قصده وينجح به طلبته ويقضي به حاجته. ومن هنا يظهر وجه دخول اللام في الصمد وانه لافادة الحصر فهو تعالى وحده الصمد على الاطلاق، وهذا بخلاف احد في قوله: " الله احد " فإن احدا بما يفيده من معنى الوحدة الخاصة لا يطلق في الاثبات على غيره تعالى فلا حاجة فيه إلى عهد أو حصر. واما إظهار اسم الجلالة ثانيا حيث قيل: " الله الصمد " ولم يقل: هو الصمد، ولم يقل: الله احد صمد فالظاهر ان ذلك للاشارة إلى كون كل من الجملتين وحدها كافية في تعريفه تعالى حيث إن المقام مقام تعريفه تعالى بصفة تختص به فقيل: الله احد الله الصمد إشارة إلى ان المعرفة به حاصلة سواء قيل كذا أو قيل كذا. والآيتان مع ذلك تصفانه تعالى بصفة الذات وصفة الفعل جميعا فقوله: " الله احد " يصفه بالاحدية التي هي عين الذات، وقوله: " الله الصمد " يصفه بانتهاء كل شئ إليه وهو من صفات الفعل. وقيل: الصمد بمعنى المصمت الذي ليس بأجوف فلا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يلد ولا يولد وعلى هذا يكون قوله: " لم يلد ولم يولد " تفسيرا للصمد. قوله تعالى: " لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد " الآيتان الكريمتان تنفيان عنه تعالى أن يلد شيئا بتجزيه في نفسه فينفصل عنه شئ سنخه بأي معنى أريد من الانفصال
________________________________________
[ 389 ]
والاشتقاق كما يقول به النصارى في المسيح عليه السلام انه ابن الله وكما يقول الوثنية في بعض آلهتهم أنهم أبناء الله سبحانه. وتنفيان عنه أن يكون متولدا من شئ آخر ومشتقا منه بأي معنى اريد من الاشتقاق كما يقول الوثنية ففي آلهتهم من هو إله أبواله ومن هو إلهة ام إله ومن هو إله ابن إله. وتنفيان أن يكون له كفؤ يعدله في ذاته أو في فعله (1) وهو الايجاد والتدبير ولم يقل أحد من المليين وغيرهم بالكفؤ الذاتي بأن يقول بتعدد واجب الوجود عز اسمه، وأما الكفؤ في فعله وهو التدبير فقد قيل به كآلهة الوثنية من البشر كفرعون ونمرود من المدعين للالوهية وملاك الكفاءة عندهم استقلال من يرون الوهيته في تدبير ما فوض إليه تدبيره كما أنه تعالى مستقل في تدبير من يدبره وهم الارباب والآلهة وهو رب الارباب وإله الآلهة. وفي معنى كفاءة هذا النوع من الاله ما يفرض من استقلال الفعل في شئ من الممكنات فإنه كفاءة مرجعها استغناؤه عنه تعالى وهو محتاج من كل جهة والآية تنفيها. وهذه الصفات الثلاث المنفية وإن امكن تفريع نفيها على صفة احديته تعالى بوجه لكن الاسبق إلى الذهن تفرعها على صفة صمديته. اما كونه لم يلد فإن الولادة التي هي نوع من التجزي والتبعض بأي معنى فسرت لا تخلو من تركيب فيمن يلد، وحاجة المركب إلى اجزائه ضرورية والله سبحانه صمد ينتهي إليه كل محتاج في حاجته ولا حاجة له، واما كونه لم يولد فان تولد شئ من شئ لا يتم إلا مع حاجة من المتولد إلى ما ولد منه في وجوده وهو سبحانه صمد لا حاجة له، واما انه لا كفؤ له فلان الكفؤ سواء فرض كفوا له في ذاته أو في فعله لا تتحقق كفاءته إلا مع استقلاله واستغنائه عنه تعالى فيما فيه الكفاءة والله سبحانه صمد على الاطلاق يحتاج إليه كل من سواه من كل جهة مفروضة. فقد تبين ان ما في الآيتين من النفي متفرع على صمديته تعالى ومآل ما ذكر من صمديته تعالى وما يتفرع عليه إلى إثبات توحده تعالى في ذاته وصفاته وافعاله بمعنى انه واحد لا يناظره شئ ولا يشبهه فذاته تعالى بذاته ولذاته من غير استناد إلى غيره واحتياج إلى من سواه وكذا صفاته وافعاله، وذوات من سواه وصفاتهم وافعالهم بإفاضة منه على ما يليق بساحة كبريائه وعظمته فمحصل السورة وصفه تعالى بأنه احد واحد.
________________________________________
(1) لم تذكر الصفة لانها اما صفة الذات فهي عين الذات واما صفة الفعل منتزعة عن الفعل، منه.
________________________________________
[ 390 ]
ومما قيل في الآية ان المراد بالكفؤ الزوجة فان زوجة الرجل كفؤه فيكون في معنى قوله تعالى: " جد ربنا ما اتخذ صاحبة " وهو كما ترى. (بحث روائي) في الكافي باسناده عن محمد بن مسلم عن ابي عبد الله عليه السلام قال: إن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: انسب لنا ربك فلبث ثلاثا لا يجيبهم ثم نزلت " قل هو الله احد " إلى آخرها. أقول: وفي الاحتجاج عن العسكري عليه السلام ان السائل عبد الله بن صوريا اليهودي، وفي بعض روايات اهل السنة ان السائل عبد الله بن سلام سأله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك بمكة ثم آمن وكتم إيمانه، وفي بعضها ان اناسا من اليهود سألوه ذلك، وفي غير واحد من رواياتهم ان مشركي مكة سألوه ذلك، وكيف كان فالمراد بالنسبة النعت والوصف. وفي المعاني باسناده عن الاصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام في حديث: نسبة الله عز وجل قل هو الله. وفي العلل باسناده عن الصادق عليه السلام في حديث المعراج ان الله قال له اي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: اقرء قل هو الله احد كما انزلت فانها نسبتي ونعتي. أقول: وروى ايضا باسناده إلى موسى بن جعفر عليه السلام ما في معناه. وفي الدر المنثور اخرج ابو عبيد في فضائله عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال قل هو الله احد ثلث القرآن. اقول: وقد تكاثرت الروايات من طرقهم في هذا المعنى رووه عن عدة من الصحابة كابن عباس وقد مر وابي الدرداء وابن عمر وجابر وابن مسعود وابي سعيد الخدري ومعاذ ابن أنس وأبي أيوب وأبي أمامة وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وورد أيضا في عدة من الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وقد وجهوا كون السورة تعدل ثلث القرآن بوجوه مختلفة أعدلها أن ما في القرآن من المعارف تنحل إلى الاصول الثلاثة: التوحيد والنبوة والمعاد والسورة تتضمن واحدا من الثلاثة وهو التوحيد. وفي التوحيد عن أمير المؤمنين عليه السلام رأيت الخضر عليه السلام في المنام قبل بدر بليلة فقلت له: علمني شيئا أنصر به على الاعداء فقال: قل: ياهو يا من لا هو إلا هو فلما أصبحت قصصتها على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لي: يا علي علمت الاسم الاعظم فكان على
________________________________________
[ 391 ]
لساني يوم بدر. وإن أمير المؤمنين عليه السلام قرء قل هو الله أحد فلما فرغ قال: يا هو يا من لا هو إلا هو اغفر لي وانصرني على القوم الكافرين. وفي نهج البلاغة: الاحد لا بتأويل عدد. اقول: ورواه في التوحيد عن الرضا عليه السلام ولفظه: أحد لا بتأويل عدد. وفي اصول الكافي باسناده عن داود بن القاسم الجعفري قال: قلت لابي جعفر الثاني عليه السلام: ما الصمد ؟ قال عليه السلام: السيد المصمود إليه في القليل والكثير. اقول: وفي تفسير الصمد معان أخر مروية عنهم عليه السلام فعن الباقر عليه السلام الصمد السيد المطاع الذي ليس فوقه آمر وناه، وعن الحسين عليه السلام: الصمد الذي لا جوف له والصمد الذي لا ينام، والصمد الذي لم يزل ولا يزال، وعن السجاد عليه السلام: الصمد الذي إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون، والصمد الذي أبدع الاشياء فخلقها أضدادا وأشكالا وأزواجا وتفرد بالوحدة بلا ضد ولا شكل ولا مثل ولا ند. والاصل في معنى الصمد هو الذي رويناه عن أبي جعفر الثاني عليه السلام لما في مادته لغة في معنى القصد فالمعاني المختلفة المنقولة عنهم عليهم السلام من التفسير يلازم المعنى فإن المعاني المذكورة لوازم كونه تعالى مقصودا يرجع إليه كل شئ في كل حاجة فإليه ينتهي الكل من دون أن تتحقق فيه حاجة. وفي التوحيد عن وهب بن وهب القرشي عن الصادق عن آبائه عليهم السلام أن أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي عليه السلام يسألونه عن الصمد فكتب إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فلا تخوضوا في القرآن ولا تجادلوا فيه ولا تتكلموا فيه بغير علم فقد سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: من قال في القرآن بغير علم فليتبوء مقعده من النار، وإن الله سبحانه فسر الصمد فقال: الله أحد الله الصمد ثم فسره فقال: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وفيه باسناده إلى ابن أبي عمير عن موسى بن جعفر عليه السلام أنه قال: واعلم أن الله تعالى واحد أحد صمد لم يلد فيورث ولم يولد فيشارك. وفيه في خطبة اخرى لعلي عليه السلام الذي لم يولد فيكون في العز مشاركا ولم يلد فيكون موروثا هالكا.
________________________________________
[ 392 ]
وفيه في خطبة له عليه السلام: تعالى أن يكون له كفؤ فيشبه به. اقول: وفي المعاني المتقدمة روايات اخرى. (سورة الفلق مكية وهي خمس آيات) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الفلق - 1. من شر ما خلق - 2. ومن شر غاسق إذا وقب - 3. ومن شر النفاثات في العقد - 4. ومن شر حاسد إذا حسد - 5. (بيان) أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعوذ بالله من كل شر ومن بعضه خاصة والسورة مدنية على ما يظهر مما ورد في سبب نزولها. قوله تعالى: " قل أعوذ برب الفلق " العوذ هو الاعتصام والتحرز من الشر بالالتجاء إلى من يدفعه، والفلق بالفتح فالسكون الشق والفرق، والفلق بفتحتين صفة مشبهة بمعنى المفعول كالقصص بمعنى المقصوص، والغالب إطلاقه على الصبح لانه المشقوق من الظلام، وعليه فالمعنى أعوذ برب الصبح الذي يفلقه ويشقه ومناسبة هذا التعبير للعوذ من الشر الذي يستر الخير ويحجب دونه ظاهر. وقيل: المراد بالفلق كل ما يفطر ويفلق عنه بالخلق والايجاد فإن في الخلق والايجاد شقا للعدم وإخراجا للموجود إلى الوجود فيكون مساويا للمخلوق، وقيل هوجب في جهنم ويؤيده بعض الروايات. قوله تعالى: " من شر ما خلق " أي من شر من يحمل شرا من الانس والجن والحيوانات وسائر ماله شر من الخلق فان اشتمال مطلق ما خلق على الشر لا يستلزم الاستغراق. قوله تعالى: " ومن شر غاسق إذا وقب " في الصحاح: الغسق أول ظلمة الليل وقد غسق الليل يغسق إذا أظلم والغاسق الليل إذا غاب الشفق. انتهى، والوقوب الدخول فالمعنى ومن شر الليل إذا دخل بظلمته. ونسبة الشر إلى الليل إنما هي لكونه بظلمته يعين
________________________________________
[ 393 ]
الشرير في شره لستره عليه فيقع فيه الشر اكثر مما يقع منه بالنهار، والانسان فيه أضعف منه في النهار تجاه هاجم الشر، وقيل: المراد بالغاسق كل هاجم يهجم بشره كائنا ما كان. وذكر شر الليل إذا دخل بعد ذكر شر ما خلق من ذكر الخاص بعد العام لزيادة الاهتمام وقد اهتم في السورة بثلاثة من أنواع الشر خاصة هي شر الليل إذا دخل وشر سحر السحرة وشر الحاسد إذا حسد لغلبة الغفلة فيهن. قوله تعالى: " ومن شر النفاثات في العقد " أي النساء الساحرات اللاتي يسحرن بالعقد على المسحور وينفثن في العقد. وخصت النساء بالذكر لان السحر كان فيهن ومنهم أكثر من الرجال، وفي الآية تصديق لتأثير السحر في الجملة، ونظيرها قوله تعالى: في قصة هارون وماروت " فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " البقرة: 102 ونظيره ما في قصة سحرة فرعون. وقيل: المراد بالنفاثات في العقد النساء اللاتي يملن آراء أزواجهن إلى ما يرينه ويردنه فالعقد هو الرأي والنفث في العقد كناية عن حله، وهو بعيد. قوله تعالى: " ومن شر حاسد إذا حسد " أي إذا تلبس بالحسد وعمل بما في نفسه من الحسد بترتيب الاثر عليه. وقيل: الآية تشمل العائن فعين العائن نوع حسد نفساني يتحقق منه إذا عاين ما يستكثره ويتعجب منه. (بحث روائي) في الدر المنثور اخرج عبد بن حميد عن زيد بن اسلم قال: سحر النبي صلى الله عليه وآله وسلم رجل من اليهود فاشتكى فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين وقال: إن رجلا من اليهود سحرك والسحر في بئر فلان فأرسل عليا فجاء به فأمره ان يحل العقد ويقرء آية فجعل يقرء ويحل حتى قام النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنما نشط من عقال. اقول: وعن كتاب طب الائمة باسناده إلى محمد بن سنان عن المفضل عن الصادق عليه السلام مثله وفي هذا المعنى روايات كثيرة من طرق اهل السنة باختلافات يسيرة، وفي غير واحد منها انه ارسل مع علي عليه السلام زبيرا وعمارا وفيه روايات اخرى ايضا من طرق ائمة اهل البيت عليهم السلام. وما استشكل به بعضهم في مضمون الروايات ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان مصونا من تأثير السحر كيف ؟ وقد قال الله تعالى: " وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر
________________________________________
[ 394 ]
كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " الفرقان: 9. يدفعه ان مرادهم بالمسحور والمجنون بفساد العقل بالسحر واما تأثره عن السحر بمرض يصيبه في بدنه ونحوه فلا دليل على مصونيته منه. وفي المجمع وروي ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان كثيرا ما يعوذ الحسن والحسين عليهما السلام بهاتين السورتين. وفيه عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: انزلت علي آيات لم ينزل مثلهن المعوذتان، اورده في الصحيح. اقول: واسندها في الدر المنثور إلى الترمذي والنسائي وغيرهما ايضا، وروى ما في معناه ايضا عن الطبراني في الاوسط عن ابن مسعود، ولعل المراد من عدم نزول مثلهن انهما في العوذة فقط ولا يشاركهما في ذلك غيرهما من السور. وفي الدر المنثور اخرج احمد والبزار والطبراني وابن مردويه من طرق صحيحة عن ابن عباس وابن مسعود انه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول: لا تخلطوا القرآن بما ليس منه إنهما ليستا من كتاب الله إنما أمر النبي ان يتعوذ بهما، وكان ابن مسعود لا يقرء بهما. اقول: ثم قال السيوطي قال البزار: ولم يتابع ابن مسعود احد من الصحابة وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قرء بهما في الصلاة وقد اثبتتا في المصحف انتهى. وفي تفسير القمي باسناده عن ابي بكر الحضرمي قال: قلت لابي جعفر عليه السلام إن ابن مسعود كان يمحو المعوذتين من المصحف. فقال: كان ابي يقول: انما فعل ذلك ابن مسعود برأيه وهو [ هماظ ] من القرآن. أقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة من طرق الفريقين على ان هناك تواترا قطعيا من عامة المنتحلين بالاسلام على كونهما من القرآن، وقد استشكل بعض المنكرين لاعجاز القرآن أنه لو كان معجزا في بلاغته لم يختلف في كون السورتين من القرآن مثل ابن مسعود، واجيب بأن التواتر القطعي كاف في ذلك على أنه لم ينقل عنه احد انه قال بعدم نزولهما على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أوقال بعدم كونهما معجزتين في بلاغتهما بل قال بعدم كونهما جزء من اللقرآن وهو محجوج بالتواتر. وفى الدر المنثور أخرج ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الفلق جب في جهنم مغطى. أقول: وفي معناه غير واحد من الروايات في بعضها: قال صلى الله عليه وآله وسلم: باب في النار إذ
________________________________________
[ 395 ]
فتح سعرت جهنم رواه عقبة بن عامر، وفي بعضها: بئر في جهنم إذا سعرت جهنم فمنه تسعر، رواه عمرو بن عنبسة إلى غير ذلك. وفي المجمع وقيل: الفلق جب في جهنم يتعوذ أهل جهنم من شدة حره عن السدي ورواه أبو حمزة الثمالي وعلي بن إبراهيم في تفسير يهما. وفى تفسير القمي عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كاد الفقر أن يكون كفرا وكاد الحسد أن يغلب القدر. اقول: الرواية مروية بلفظها عن أنس عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي العيون بإسناده عن السلطي عن الرضا عن أبيه عن آبائه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كاد الحسد أن يسبق القدر. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الحسد ليأكل الحسنات كما يأكل النار الحطب. (سورة الناس مدنية وهي ست آيات) بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس - 1. ملك الناس - 2. إله الناس - 3. من شر الوسواس الخناس - 4. الذي يوسوس في صدور الناس - 5. من الجنة والناس - 6. (بيان) أمر للنبي أن يعوذ من شر الوسواس الخناس والسورة مدنية كسابقتها على ما يستفاد مما ورد في سبب نزولها بل المستفاد من الروايات أن السورتين نزلتا معا. قوله تعالى: " قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس " من طبع الانسان إذا أقبل عليه شر يحذره ويخافه على نفسه وأحسن من نفسه الضعف أن يلتجئ بمن يقوى على دفعه ويكفيه وقوعه والذي يراه صالحا للعوذ والاعتصام به أحد ثلاثة إما رب يلي أمره ويدبره ويربيه يرجع إليه في حوائجه عامة، ومما يحتاج إليه في بقائه دفع ما يهدده من
________________________________________
[ 396 ]
الشر، هذا سبب تام في نفسه، وإما ذو قوة وسلطان بالغة قدرته نافذ حكمه يجيره إذا استجاره فيدفع عنه الشر بسلطته كملك من الملوك، وهذا أيضا سبب تام مستقل في نفسه. وهناك سبب ثالث وهو الاله المعبود فإن لازم معبودية الاله وخاصة إذا كان واحدا لا شريك له إخلاص العبد نفسه له فلا يدعو إلا إياه ولا يرجع في شئ من حوائجه إلا إليه فلا يريد إلا ما أراده ولا يعمل إلا ما يشاؤه. والله سبحانه رب الناس وملك الناس وإله الناس كما جمع الصفاة الثلاث لنفسه في قوله: " ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون " الزمر: 6 وأشار تعالى إلى سببية ربوبيته وألوهيته بقوله: " رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا " المزمل: 9، وإلى سببية ملكه بقوله: " له ملك السماوات والارض وإلى الله ترجع الامور " الحديد: 5 فإن عاذ الانسان من شر يهدده إلى رب فالله سبحانه هو الرب لا رب سواه وإن أراد بعوذه ملكا فالله سبحانه هو الملك الحق له الملك وله الحكم (1) وإن أراد لذلك إلها فهو الاله لا إله غيره. فقوله تعالى: " قل أعوذ برب الناس " الخ أمر لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يعوذ به لانه من الناس وهو تعالى رب الناس ملك الناس إله الناس. ومما تقدم ظهر أولا وجه تخصيص الصفات الثلاث: الرب والملك والاله من بين سائر صفاته الكريمة بالذكر وكذا وجه ما بينها من الترتيب فذكر الرب أولا لانه أقرب من الانسان وأخص ولاية ثم الملك لانه أبعد منالا وأعم ولاية يقصده من لا ولي له يخصه ويكفيه ثم الاله لانه ولي يقصده الانسان عن إخلاصه لا عن طبعه المادي. وثانيا وجه عدم وصل قوله: " ملك الناس إله الناس " بالعطف وذلك للاشارة إلى كون كل من الصفات سببا مستقلا في دفع الشر فهو تعالى سبب مستقل لكونه ربا لكونه ملكا لكونه إلها فله السببية بأي معنى أريد السبب وقد مر نظير الوجه في قوله " الله أحد الله الصمد ". وبذلك يظهر أيضا وجه تكرار لفظ الناس من غير أن يقال: ربهم وإلههم فقد أشير به إلى أن كلا من الصفات الثلاث يمكن أن يتعلق بها العوذ وحدها من غير ذكر الاخريين لاستقلالها ولله الاسماء الحسنى جميعا، وللقوم في توجيه اختصاص هذه الصفات
________________________________________
(1) التغابن: 1.
________________________________________
[ 397 ]
وسائر ما مر من الخصوصيات وجوه لا تغني شيئا. قوله تعالى: " من شر الوسواس الخناس " قال في المجمع: الوسواس حديث النفس بما هو كالصوت الخفي انتهى فهو مصدر كالوسوسة كما ذكره وذكروا أنه سماعي والقياس فيه كسر الواو كسائر المصادر من الرباعي المجرد وكيف كان فالظاهر كما استظهر أن المراد به المعنى الوصفي مبالغة، وعن بعضهم أنه صفة لا مصدر. والخناس صيغة مبالغة من الخنوس بمعنى الاختفاء بعد الظهور قيل: سمي الشيطان خناسا لانه يوسوس للانسان فإذا ذكر الله تعالى رجع وتأخر ثم إذا غفل عاد إلى وسوسته. قوله تعالى: " الذي يوسوس في صدور الناس " صفة للوسواس الخناس، والمراد بالصدور هي النفوس لان متعلق الوسوسة هو مبدء الادراك من الانسان وهو نفسه وإنما أخذت الصدور مكانا للوسواس لما أن الادراك ينسب بحسب شيوع الاستعمال إلى القلب والقلب في الصدر كما قال تعالى: " ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " الحج: 46 قوله تعالى: " من الجنة والناس " بيان للوسواس الخناس وفيه اشارة إلى أن من الناس من هو ملحق بالشياطين وفي زمرتهم كما قال تعالى: " شياطين الانس والجن " الانعام: 112 (بحث روائي) في المجمع: أبو خديجة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو شاك فرقاه بالمعوذتين وقل هو الله أحد وقال: بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء يؤذيك خذها فلتهنيك فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس إلى آخر السورة. في المجمع: أبو خديجة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو شاك فرقاه بالمعوذتين وقل هو الله أحد وقال: بسم الله أرقيك والله يشفيك من كل داء يؤذيك خذها فلتهنيك فقال: بسم الله الرحمن الرحيم قل أعوذ برب الناس إلى آخر السورة. أقول: وتقدم بعض الروايات الواردة في سبب نزول السورة. وفيه روى عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله خنس وإذا نسى التقم فذلك الوسواس الخناس. وفيه روى العياشي باسناده عن أبان بن تغلب عن جعفر بن محمد عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ما من مؤمن إلا ولقلبه في صدره أذنان أذن ينفث فيها الملك وأذن ينفث فيها الوسواس الخناس فيؤيد الله المؤمن بالملك، وهو قوله سبحانه: " وأيدهم بروح منه ".
________________________________________
[ 398 ]
وفي أمالي الصدوق باسناده إلى الصادق عليه السلام قال: لما نزلت هذه الآية " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم " صعد إبليس جبلا بمكه يقال له ثوير فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا إليه فقالوا: يا سيدنا لم دعوتنا ؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها ؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا وكذا. قال: لست لها فقام آخر فقال مثل ذلك فقال لست لها. فقال الوسواس الخناس: أنا لها. قال: بماذا ؟ قال: أعدهم وأمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار فقال: أنت لها فوكله بها إلى يوم القيامة. اقول: تقدم بعض الكلام في الشيطان في أوائل الجزء الثامن من الكتاب. تم الكتاب والحمد لله واتفق الفراغ من تأليفه في ليلة القدر المباركة الثالثه والعشرين من ليالى شهر رمضان من شهور سنه اثنتين وتسعين وثلاث مائة بعد الالف من الهجرة والحمد لله على الدوام، والصلاة على سيدنا محمد وآله والسلام.



أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page