• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 326الي 350


[ 326 ]
وقد ورد في بعض الروايات صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع خديجة وعلي في أوائل البعثة وإن لم يذكر كيفية صلاتهم. وبالجملة قوله: " أرأيت " بمعنى أخبرني، والاستفهام للتعجيب، والمفعول الاول لقوله: " أرأيت " الاول قوله: " الذي ينهى " ولا رأيت الثالث ضمير عائد إلى الموصول، ولا رأيت الثاني ضمير عائد إلى قوله: " عبدا " والمفعول الثاني لارأيت في المواضع الثلاث قوله: " ألم يعلم بأن الله يرى ". ومحصل معنى الآيات أخبرني عن الذي ينهى عبدا إذا صلى وعبد الله الناهي يعلم ان الله يرى ما يفعله كيف يكون حاله. اخبرني عن هذا الناهي ان كان ذاك العبد المصلي على الهدى أو أمر بالتقوى كيف يكون حال هذا الناهي وهو يعلم أن الله يرى. أخبرني عن هذا الناهي ان تلبس بالتكذيب للحق والتولي عن الايمان به ونهى العبد المصلي عن الصلاة وهو يعلم أن الله يرى ؟ هل يستحق الا العذاب ؟ وقيل: المفعول الاول لارأيت في جميع المواضع الثلاث هو الموصول أو الضمير العائد إليه تحرزا عن التفكيك بين الضمائر. والاولى على هذا أن يجعل معنى قوله: " أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى " أخبرني عن هذا الناهي إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى وهو يعلم أن الله يرى ماذا كان يجب عليه أن يفعله ويأمر به ؟ وكيف يكون حاله وقد نهى عن عبادة الله سبحانه ؟ وهو مع ذلك معنى بعيد ولا بأس بالتفكيك بين الضمائر مع مساعدة السياق وإعنانة القرائن. وقوله: " ألم يعلم بأن الله يرى " المراد به العلم على طريق أستلزام فأن لازم الاعتقاد بأن الله خالق كل شئ هو الاعتقاد بأن له علما بكل شئ وإن غفل عنه وقد كان الناهي وثنيا مشركا والوثنية معترفون بأن الله هو خالق كل شئ وينزهونه عن صفات النقص فيرون أنه تعالى لا يجهل شيئا ولا يعجز عن شئ وهكذا. قوله تعالى: " كلا لان لم ينته لنسفعن بالناصية ناصية كاذبة خاطئة " قال في المجمع: والسفع الجذب الشديد يقال: سفعت بالشئ إذا قبضت عليه وجذبته جذبا شديدا. انتهى، وفي توصيف الناصية بالكذب والخطأ وهما وصفا صاحب الناصية مجاز. وفي الكلام ردع وتهديد شديد، والمعنى ليس الامر كما يقول ويريد أو ليس له ذلك.
________________________________________
[ 327 ]
أقسم لان لم يكف عنه نهيه ولم ينصرف لنأخذن بناصيته أخذ الذليل المهان ونجذبنه إلى العذاب تلك الناصية التي صاحبها كاذب فيما يقول خاطئ فيما يفعل، وقيل: المعنى لنسمن ناصيته بالنار ونسودنها. قوله تعالى: " فاليدع ناديه سندعوا الزبانية " النادي المجلس وكأن المراد ما به أهل المجلس أي الجمع الذي يجتمع بهم، وقيل: الجليس، والزبانية الملائكة الموكلون بالنار، وقيل: الزبانية في كلامهم الشرط، ولامر تعجيزي أشير به إلى شدة الاخذ والمعنى فليدع هذا الناهي جمعه لينجوه منها سندع الزبانية الغلاظ الشداد الذين لا ينفع معهم نصر ناصر. قوله تعالى: " كلا لا تطع واسجد وأقترب " تكرار الردع للتأكيد، وقوله: " لا تطعه " أي لا تطعه في النهي عن الصلاة وهي القرينة على أن المراد بالسجود الصلاة، ولعل الصلاة التي كان صلى الله عليه وآله وسلم يأتي بها يومئذ كانت تسبيحه تعالى والسجود له وقيل: المراد به السجود لقراءة هذه السورة التي هي إحدى العزائم الاربع في القرآن. ولاقتراب التقرب إلى الله، وقيل: الاقتراب من ثواب الله تعالى. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج عن عبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن الانباري في المصاحف وابن مردويه والبيهقي من طريق ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة ام المؤمنين أنها قالت: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح. ثم حبب إليه الخلاء وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرء قال: قلت: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرء فقلت: ما أنا بقارئ قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرء فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرء باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق اقرء وربك الاكرم الذي علم بالقلم الآية.
________________________________________
[ 328 ]
فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده فدخل على خديجة بنت خويلد فقال: زملوني زملوني فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسي فقالت خديجة: كلا ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكل وتكسب (1) المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق (2). فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة وكان امرء قد تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الانجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي فقالت له خديجة: يا بن عم اسمع من ابن اخيك. فقال له ورقة. يا بن أخي ماذا ترى ؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رآى فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى ! يا ليتني أكون فيها جذعا يا ليتني أكون فيها حيا إذ يخرجك قومك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم ؟ قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي. قال ابن شهاب: وأخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمان أن جابر بن عبد الله الانصاري قال وهو يحدث عن فترة الوحي فقال في حديثه: بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسى بين السماء والارض فرعبت منه فرجعت فقلت: زملوني زملوني فأنزل الله: يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر فحمي الوحي وتتابع. وفيه أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل عن عبد الله بن شداد قال: أتى جبريل محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد اقرء. قال: وما اقرء فضمه ثم قال: يا محمد اقرء. قال: وما اقرء. قال: اقرء باسم ربك الذي خلق. حتى بلغ " ما لم يعلم ". فجاء إلى خديجة فقال: يا خديجة ما أراه إلا قد عرض لي قالت: كلا والله ما كان ربك يفعل ذلك بك وما أتيت فاحشة قط فأتت خديجة ورقة فأخبرته الخبر قال: لئن كنت صادقة إن زوجك لنبي وليلقين من أمته شدة ولئن أدركته لاؤمنن به. قال: ثم أبطأ عليه جبريل فقالت خديجة: ما أرى ربك إلا قد قلاك فأنزل الله
________________________________________
(1) تكسى ط. (2) الخلق ط.
________________________________________
[ 329 ]
" والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى ". أقول: وفي رواية أن الذي ألقاه جبريل سورة الحمد. والقصة لا تخلو من شئ وأهون ما فيها من الاشكال شك النبي صلى الله عليه وسلم في كون ما شاهده وحيا إلهيا من ملك سماوي ألقى إليه كلام الله وتردده بل ظنه أنه من مس الشياطين بالجنون، وأشكل منه سكون نفسه في كونه نبوة إلى قول رجل نصراني مترهب وقد قال تعالى: " قل إني على بينة من ربي " الانعام: 57 وأي حجة بينة في قول ورقة ؟ وقال تعالى: " قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " فهل بصيرته صلى الله عليه وسلم هي سكون نفسه إلى قول ورقة ؟ وبصيرة من اتبعه سكون أنفسهم إلى سكون نفسه إلى ما لا حجة فيه قاطعة ؟ وقال تعالى: " إنا أوحينا اليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده " النساء: 163 فهل كان اعتمادهم في نبوتهم على مثل ما تقصه هذه القصة ؟ والحق أن وحي النبوة والرسالة يلازم اليقين من النبي والرسول بكونه من الله تعالى على ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام. وفي المجمع في قوله: " أرأيت الذي ينهى " الآية إن ابا جهل قال: هل يعفر محمد وجهه بين اظهركم ؟ قالوا: نعم. قال: فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لاطأن رقبته فقيل له: ها هو ذلك يصلي فانطلق ليطأ على رقبته فما فجأهم إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه فقالوا: مالك يا ابا الحكم ؟ قال: إن بيني وبينه خندقا من نار وهؤلاء اجنحة، وقال نبي الله: والذي نفسي بيده لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا فأنزل الله " أرأيت الذي ينهى " إلى آخر السورة. رواه مسلم في الصحيح. وفي تفسير القمي في الآية: كان الوليد بن المغيرة ينهى الناس عن الصلاة وأن يطاع الله ورسوله فقال الله: أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ". أقول: مفاده لا يلائم ظهور سياق الآيات في كون المصلي هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي المجمع في الحديث عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: أقرب ما يكون العبد من الله إذا كان ساجدا. وفي الكافي بإسناده إلى الوشاء قال: سمعت الرضا عليه السلام يقول: أقرب ما يكون العبد من الله وهو ساجد وذلك قوله: " واسجد واقترب ". وفي المجمع روى عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: العزائم الم التنزيل وحم السجدة والنجم إذا هوى واقرء باسم ربك، وما عداها في جميع القرآن مسنون وليس بمفروض.
________________________________________
[ 330 ]
(سورة القدر مكية وهي خمس آيات) بسم الله الرحمن الرحيم إنا أنزلناه في ليلة القدر - 1. وما أدراك ما ليلة القدر - 2. ليلة القدر خير من ألف شهر - 3. تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر - 4. سلام هي حتى مطلع الفجر - 5. (بيان) تذكر السورة إنزال القرآن في ليلة القدر وتعظم الليلة بتفضيلها على ألف شهر وتنزل الملائكة والروح فيها، والسورة تحتمل المكية والمدنية ولا يخلو بعض (1) ما روي في سبب نزولها عن أئمة أهل البيت عليهم السلام وغيرهم من تأييد لكونها مدنية. قوله تعالى: " إنا أنزلناه في ليلة القدر " ضمير " أنزلناه " للقرآن وظاهره جملة الكتاب العزيز لا بعض آياته ويؤيده التعبير بالانزال الظاهر في اعتبار الدفعة دون التنزيل الظاهر في التدريج. وفي معنى الآية قوله تعالى: " والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة " الدخان: 3 وظاهره الاقسام بجملة الكتاب المبين ثم الاخبار عن إنزال ما اقسم به جملة. فمدلول الآيات أن للقرآن نزولا جمليا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم غير نزوله التدريجي الذي تم في مدة ثلاث وعشرين سنة كما يشير إليه قوله: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " أسرى: 106، وقوله: " وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا " الفرقان: 32. فلا يعبأ بما قيل: إن معنى قوله: " أنزلناه " ابتدأنا بإنزاله والمراد إنزال بعض القرآن. * (هامش) (1) وهو ما دل على أن السورة نزلت بعد رؤيا النبي صلى الله عليه وآله أن بني امية يصعدون منبره فاغتم فسلاه الله بها.
________________________________________
[ 331 ]
وليس في كلامه تعالى ما يبين ان الليلة أية ليلة هي غير ما في قوله تعالى: " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن " البقرة: 185 فإن الآية بانضمامها إلى آية القدر تدل على أن الليلة من ليالي شهر رمضان. وأما تعيينها أزيد من ذلك فمستفاد من الاخبار وسيجئ بعض ما يتعلق به في البحث الروائي التالي إن شاء الله. وقد سماها الله تعالى ليلة القدر، والظاهر أن المراد بالقدر التقدير فهي ليلة التقدير يقدر الله فيها حوادث السنة من الليلة إلى مثلها من قابل من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء وغير ذلك كما يدل عليه قوله في سورة الدخان في صفة الليلة: " فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك " الدخان: 6 فليس فرق الامر الحكيم إلا إحكام الحادثة الواقعة بخصوصياتها بالتقدير. ويستفاد من ذلك أن الليلة متكررة بتكرر السنين ففي شهر رمضان من كل سنة قمرية ليلة تقدر فيها امور السنة من الليلة إلى مثلها من قابل إذ لا معنى لفرض ليلة واحدة بعينها أو ليال معدودة في طول الزمان تقدر فيها الحوادث الواقعة التي قبلها والتي بعدها وإن صح فرض واحدة من ليالي القدر المتكررة ينزل فيها القرآن جملة واحدة. على أن قوله: " يفرق " - وهو فعل مضارع - ظاهر في الاستمرار، وقوله: " خير من الف شهر " و " تنزل الملائكة " الخ يؤيد ذلك. فلا وجه لما قيل: إنها كانت ليلة واحدة بعينها نزل فيها القرآن من غير أن يتكرر، وكذا ما قيل: إنها كانت تتكرر بتكرر السنين في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم رفعها الله، وكذا ما قيل: إنها واحدة بعينها في جميع السنة وكذا ما قيل: إنها في جميع السنة غير أنها تتبدل بتكرر السنين فسنة في شهر رمضان وسنة في شعبان وسنة في غيرهما. وقيل: القدر بمعنى المنزلة وإنما سميت ليلة القدر للاهتمام بمنزلتها أو منزلة المتعبدين فيها، وقيل: القدر بمعنى الضيق وسميت ليلة القدر لضيق الارض فيها بنزول الملائكة. والوجهان كما ترى. فمحصل الآيات - كما ترى - أنها ليلة بعينها من شهر رمضان من كل سنة فيها إحكام الامور بحسب التقدير، ولا ينافي ذلك وقوع التغير فيها بحسب التحقق في ظرف السنة فإن التغير في كيفية تحقق المقدر أمر والتغير في التقدير أمر آخر كما أن إمكان التغير في
________________________________________
[ 332 ]
الحوادث الكونية بحسب المشية الالهية لا ينافي تعينها في اللوح المحفوظ قال تعالى: " وعنده ام الكتاب " الرعد: 39. على ان لاستحكام الامور بحسب تحققها مراتب من حيث حضور أسبابها وشرائطها تامة وناقصة ومن المحتمل أن تقع في ليلة القدر بعض مراتب الاحكام ويتأخر تمام الاحكام إلى وقت آخر لكن الروايات كما ستأتي لا تلائم هذا الوجه. قوله تعالى: " وما أدراك ما ليلة القدر " كناية عن جلالة قدر الليلة وعظم منزلتها ويؤكد ذلك إظهار الاسم مرة بعد مرة حيث قيل: " ما ليلة القدر ليلة القدر خير " ولم يقل: وما أدراك ما هي هي خير. قوله تعالى: " ليلة القدر خير من الف شهر " بيان إجمالي لما اشير إليه بقوله: " وما أدراك ما ليلة القدر " من فخامة أمر الليلة. والمراد بكونها خيرا من الف شهر خيريتها منها من حيث فضيلة العبادة على ما فسره المفسرون وهو المناسب لغرض القرآن وعنايته بتقريب الناس إلى الله فإحياؤها بالعبادة خير من عبادة الف شهر، ويمكن أن يستفاد ذلك من المباركة المذكورة في سورة الدخان في قوله: " إنا أنزلناه في ليلة مباركة " وهناك معنى آخر سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله. قوله تعالى: " تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر " تنزل أصله تتنزل، والظاهر من الروح هو الروح الذي من الامر قال تعالى: " قل الروح من أمر ربي " أسرى: 85 والاذن في الشئ الرخصة فيه وهو إعلام عدم المانع منه. و " من " في قوله: " من كل أمر " قيل: بمعنى الباء وقيل: لابتداء الغاية وتفيد السببية أي بسبب كل أمر إلهي، وقيل: للتعليل بالغاية أي لاجل تدبير كل امر من الامور والحق ان المراد بالامر إن كان هو الامر الالهي المفسر بقوله " إنما امره إذا أراد شيئا أن يقول له كن " يس: 82 فمن للابتلاء وتفيد السببية والمعنى تتنزل الملائكة والروح في ليلة القدر بإذن ربهم مبتدء تنزلهم وصادرا من كل أمر إلهي. وإن كان هو الامر من الامور الكونية والحوادث الواقعة فمن بمعنى اللام التعليلية والمعنى تتنزل الملائكة والروح في الليلة بإذن ربهم لاجل تدبير كل امر من الامور الكونية. قوله تعالى: " سلام هي حتى مطلع الفجر " قال في المفردات: السلام والسلامة التعري
________________________________________
[ 333 ]
من الآفات الظاهرة والباطنة انتهى فيكون قوله: " سلام هي " إشارة إلى العناية الالهية بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه وسد باب نقمة جديدة تختص بالليلة ويلزمه بالطبع وهن كيد الشياطين كما اشير إليه في بعض الروايات. وقيل: المراد به ان الملائكة يسلمون على من مروا به من المؤمنين المتعبدين ومرجعه إلى ما تقدم. والآيتان أعني قوله: " تنزل الملائكة " إلى آخر السورة في معنى التفسير لقوله: " ليلة القدر خير من الف شهر ". (بحث روائي) في تفسير البرهان عن الشيخ الطوسى عن ابي ذر قال: قلت يا رسول الله القدر القدر شئ يكون على عهد الانبياء ينزل عليهم فيها الامر فإذا مضوا رفعت ؟ قال: لا بل هي إلى يوم القيامة. أقول: وفي معناه غير واحد من الروايات من طرق أهل السنة. وفي المجمع وعن حماد بن عثمان عن حسان بن أبي علي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن ليلة القدر قال: اطلبها في تسع عشرة وإحدى وعشرين وثلاث وعشرين. أقول: وفي معناه غيرها، وفي بعض الاخبار الترديد بين ليلتين الاحدى والعشرين والثلاث والعشرين كرواية العياشي عن عبد الواحد عن الباقر عليه السلام ويستفاد من روايات أنها ليلة ثلاث وعشرين وإنما لم يعين تعظيما لامرها ان لا يستهان بها بارتكاب المعاصي. وفيه أيضا في رواية عبد الله بن بكير عن زرارة عن أحدهما عليهما السلام قال: ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة الجهني، وحديثه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن منزلي نائ عن المدينة فمرني بليلة أدخل فيها فأمره بليلة ثلاث وعشرين. اقول: وحيث الجهني واسمه عبد الله بن أنيس الانصاري مروي من طرق أهل السنة أيضا اورده في الدر المنثور عن مالك والبيهقي. وفي الكافي بإسناده عن زرارة قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: التقدير في تسع عشرة، والابرام في ليلة إحدى وعشرين، والامضاء في ليلة ثلاث وعشرين. أقول: وفي معناها روايات اخر.
________________________________________
[ 334 ]
فقد اتفقت أخبار اهل البيت عليهم السلام انها باقية متكررة كل سنة، وانها ليلة من ليالي شهر رمضان وانها إحدى الليالي الثلاث. وأما من طرق اهل السنة فقد اختلفت الروايات اختلافا عجيبا يكاد لا يضبط والمعروف عندهم انها ليلة سبع وعشرون فيها نزلت القرآن، ومن اراد الحصول عليها فليراجع الدر المنثور وسائر الجوامع. وفي الدر المنثور اخرج الخطيب عن ابن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اريت بني امية يصعدون منبري فشق ذلك علي فأنزل الله إنا انزلناه في ليلة القدر. أقول: وروى أيضا مثله عن الخطيب في تاريخه عن ابن عباس، وأيضا ما في معناه عن الترمذي وابن جرير والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن الحسن بن علي وهناك روايات كثيرة في هذا المعنى من طرق الشيعة عن أئمه أهل البيت عليهم السلام وفيها أن الله تعالى سلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بإعطاء ليلة القدر وجعلها خيرا من الف شهر وهي مدة ملك بني امية. وفي الكافي بإسناده عن ابن أبي عمير عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه السلام قال له بعض أصحابنا ولا أعلمه إلا سعيد السمان: كيف تكون ليلة القدر خيرا من الف شهر ؟ قال: العمل فيها خير من العمل في الف شهر ليس فيها ليلة القدر. وفيه بإسناده عن الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم عن حمران أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزوجل: " إنا أنزلناه في ليلة مباركة " قال: نعم ليلة القدر وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الاواخر فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر قال الله عزوجل: " فيها يفرق كل أمر حكيم ". قال: يقدر في ليلة القدر كل شئ يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل: خير وشر طاعة ومعصية ومولود وأجل أو رزق فما قدر في تلك الليلة وقضي فهو المحتوم ولله عزوجل فيه المشية. قال: قلت: " ليلة القدر خير من الف شهر " أي شئ عنى بذلك ؟ فقال: والعمل الصالح فيها من الصلاة والزكاة وأنواع الخير خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، ولولا ما يضاعف الله تبارك وتعالى للمؤمنين ما بلغوا ولكن الله يضاعف لهم الحسنات. أقول: وقوله: ولله فيه المشية يريد به إطلاق قدرته تعالى فله أن يشاء ما يشاء
________________________________________
[ 335 ]
وإن حتم فإن إيجابه الامر لا يفيد القدرة المطلقة فله أن ينقض القضاء المحتوم وإن كان لا يشاء ذلك أبدا. وفي المجمع روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إذا كان ليلة القدر تنزل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى ومنهم جبرائيل فينزل جبرائيل ومعه ألوية ينصب لواء منها على قبري ولواء على بيت المقدس ولواء في المسجد الحرام ولواء على طور سيناء ولا يدع فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلم عليه إلا مدمن خمر وآكل لحم الخنزير (1) والمتضمخ بالزعفران. وفي تفسير البرهان عن سعد بن عبد الله بإسناده عن أبي بصير قال: كنت مع أبي عبد الله عليه السلام فذكر شيئا من أمر الامام إذا ولد فقال: استوجب زيادة الروح في ليلة القدر فقلت: جعلت فداك أليس الروح هو جبرئيل ؟ فقال: جبرئيل من الملائكة والروح أعظم من الملائكة أليس إن الله عزوجل يقول: " تنزل الملائكة والروح ". اقول: والروايات في ليلة القدر وفضلها كثيرة جدا، وقد ذكرت في بعضها لها علامات ليست بدائمة ولا أكثرية كطلوع الشمس صبيحتها ولا شعاع لها واعتدال الهواء فيها أغمضنا عنها. (سورة البينة مدنية وهي ثمان آيات) بسم الله الرحمن الرحيم لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة - 1. رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة - 2. فيها كتب قيمة - 3. وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة - 4. وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلوة ويؤتوا الزكاة وذلك دين
________________________________________
(1) تضمخ بالطيب تلطخ به.
________________________________________
[ 336 ]
القيمة - 5. إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية - 6. إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية - 7. جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه - 8. (بيان) تسجل السورة رسالة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لعامة أهل الكتاب والمشركين وبعبارة اخرى للمليين وغيرهم وهم عامة البشر فتفيد عموم الرسالة وأنها مما كانت تقتضيه السنة الالهية - سنة الهداية - التي تشير إليها أمثال قوله تعالى: " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " الانسان: 3، وقوله: " وإن من امة إلا خلا فيها نذير " فاطر: 24، وتحتج على عموم دعوته صلى الله عليه وآله وسلم بأنها لا تتضمن إلا ما يصلح المجتمع الانساني من الاعتقاد والعمل على ما سيتضح إن شاء الله. والسورة تحتمل المكية والمدنية وإن كان سياقها بالمدنية أشبه. قوله تعالى: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة " ظاهر الآيات - وهي في سياق يشير إلى قيام الحجة على الذين كفروا بالدعوة الاسلامية من أهل الكتاب والمشركين وعلى الذين اوتوا الكتاب حينما بدا فيهم الاختلاف - أن المراد هو الاشارة إلى ان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مصاديق الحجة البينة القائمة على الناس التي تقتضي قيامها السنة الالهية الجارية في عباده فقد كانت توجب مجئ البينة إليهم كما أوجبته من قبل ما تفرقوا في دينهم. وعلى هذا فالمراد بالذين كفروا في الآية هم الكافرون بالدعوة النبوية الاسلامية من أهل الكتاب والمشركين، و " من " في قوله: " من اهل الكتاب " للتبعيض لا للتبيين، وقوله: " والمشركين " عطف على " أهل الكتاب " والمراد بهم غير اهل الكتاب من عبدة الاصنام وغيرهم.
________________________________________
[ 337 ]
وقوله: " منفكين " من الانفكاك وهو الانفصال عن شدة اتصال، والمراد به - على ما يستفاد من قوله: " حتى تأتيهم البينة " - انفكاكهم عما تقتضي سنة الهداية والبيان كأن السنة الالهية كانت قد أخذتهم ولم تكن تتركهم حتى تأتيهم البينة ولما أتتهم البينة تركتهم وشأنهم كما قال تعالى: " وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون " التوبة: 115. وقوله: " حتى تأتيهم البينة " على ظاهره من الاستقبال والبينة هي الحجة الظاهرة والمعنى لم يكن الذين كفروا برسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو بدعوته أو بالقرآن لينفكوا حتى تأتيهم البينة والبينة هي محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وللقوم اختلاف عجيب في تفسير الآية ومعاني مفرداتها حتى قال بعضهم - على ما نقل -: إن الآية من أصعب الآيات القرآنية نظما وتفسيرا. انتهى، والذي أوردناه من المعنى هو الذي يلائمه سياقها من غير تناقض بين الآيات وتدافع بين الجمل والمفردات، ومن أراد الاطلاع على تفصيل ما قيل ويقال فعليه أن يراجع المطولات. قوله تعالى: " رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة فيها كتب قيمة " بيان للبينة والمراد به محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قطعا على ما يعطيه السياق. والصحف جمع صحيفة وهي ما يكتب فيها، والمراد بها أجزاء القرآن النازلة وقد تكرر في كلامه تعالى إطلاق الصحف على أجزاء الكتب السماوية ومنها القرآن الكريم قال تعالى: " في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة " عبس: 16. والمراد بكون الصحف مطهرة تقدسها من قذارة الباطل بمس الشياطين، وقد تكرر منه تعالى أنه حق مصون من مداخلة الشياطين وقال: " لا يمسه إلا المطهرون " الواقعة: 79. وقوله: " فيها كتب قيمة " الكتب جمع كتاب ومعناه المكتوب ويطلق على اللوح والقرطاس ونحوهما المنقوشة فيها الالفاظ وعلى نفس الالفاظ التي تحكي عنها النقوش، وربما يطلق على المعاني بما أنها محكية بالالفاظ، ويطلق أيضا على الحكم والقضاء يقال كتب عليه كذا أي قضى أن يفعل كذا قال تعالى: " كتب عليكم الصيام " البقرة: 183 وقال: " كتب عليكم القتال " البقرة: 216. والظاهر أن المراد بالكتب التي في الصحف الاحكام والقضايا الالهية المتعلقة بالاعتقاد
________________________________________
[ 338 ]
والعمل، ومن الدليل عليه توصيفها بالقيامة فإنها من القيام بالشئ بمعنى حفظه ومراعاة مصلحته وضمان سعادته قال تعالى: " أمر أن لا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم " يوسف: 40، ومعلوم أن الصحف السماوية إنما تقوم بأمر المجتمع الانساني وتحفظ مصلحته بما فيها من الاحكام والقضايا المتعلقة بالاعتقاد والعمل. فمعنى الآيتين: الحجة البينة التي أتتهم رسول من الله يقرء صحائف سماوية مطهرة من دنس الباطل في تلك الصحائف أحكام وقضايا قائمة بأمر المجتمع الانساني حافظة لمصالحه. قوله تعالى: " وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة " كانت الآية الاولى " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب " الخ تشير إلى كفرهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكتابه المتضمن للدعوة الحقة وهذه الآية تشير إلى اختلافهم السابق على الدعوة الاسلامية وقد أشير إلى ذلك في مواضع من القرآن الكريم كما قال تعالى: " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم " آل عمران: 19 إلى غير ذلك من الآيات. ومجئ البينة لهم هو البيان النبوي الذي تبين لهم في كتابهم أو أوضحه لهم أنبياؤهم قال تعالى: " ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولابين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله واطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الاحزاب من بينهم " الزخرف: 65. فإن قلت: ما باله تعرض لاختلاف أهل الكتاب وتفرقهم في مذاهبهم ولم يتعرض لتفرق المشركين وإعراضهم عن دين التوحيد وإنكارهم الرسالة. قلت: لا يبعد أن يكون قوله: " وما تفرق الذين اوتوا الكتاب " الخ شاملا للمشركين كما هو شامل لاهل الكتاب فقد بدل أهل الكتاب - وهم في عرف القرآن اليهود والنصارى والصابئون والمجوس أو اليهود والنصارى - من الذين اوتوا الكتاب، والتعبيران متغايران، وقد صرح تعالى بأنه أنزل الكتاب - وهو الشريعة المفروضة عليهم الحاكمة في اختلافاتهم في امور الحياة - أول ما بدا الاختلافات الحيوية بينهم ثم اختلفوا في الدين بعد تبين الحق لهم وقيام الحجة عليهم فعامة البشر آتاهم الله كتابا ثم اختلفوا فيه فمنهم من نسي ما اوتيه، ومنهم من أخذ به محرفا ومنهم من حفظه وآمن به، قال تعالى: " كان الناس امة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين اوتوه
________________________________________
[ 339 ]
من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم " البقرة: 213 وقد مر تفسير الآية. وفي هذا المعنى قوله تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض - إلى أن قال - ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر " البقرة: 254. وبالجملة فالذين اوتوا الكتاب أعم من أهل الكتاب فقوله: " وما تفرق الذين اوتوا الكتاب " الخ يشمل المشركين كما يشمل أهل الكتاب. قوله تعالى: " وما امروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء " الخ ضمير " امروا " للذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين أي لم يتضمن رسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والكتب القيمة التي في صحف الوحي إلا امرهم بعبادة الله تعالى بقيد الاخلاص في الدين فلا يشركوا به شيئا. وقوله: " حنفاء " حال من ضمير الجمع وهو جمع حنيف من الحنف وهو الميل عن جانبي الافراط والتفريط إلى حاق وسط الاعتدال وقد سمى الله تعالى الاسلام دينا حنيفا لانه يأمر في جميع الامور بلزوم الاعتدال والتحرز عن الافراط وتفريط. وقوله: " ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " من قبيل ذكر الخاص بعد العام أو الجزء بعد الكل اهتماما بأمره فالصلاة والزكاة على أركان الاسلام وهما التوجه العبودي الخاص إلى الله وإنفاق المال في الله. وقوله: " وذلك دين القيمة " أي دين الكتب القيمة على ما فسروا، والمراد بالكتب القيمة إن كان جميع الكتب السماوية أعني كتاب نوح ومن دونه من الانبياء عليهم السلام فالمعنى إن هذا الذي امروا به ودعوا إليه في الدعوة المحمدية هو الدين الذي كلفوا به في كتبهم القيمة وليس بأمر بدع فدين الله واحد وعليهم أن يدينوا به لانه القيم. وإن كان المراد به ما كان يتلوه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الكتب القيمة التي في الصحف المطهرة فالمعنى أنهم لم يؤمروا في الدعوة الاسلامية إلا بأحكام وقضايا هي القيمة الحافظة لمصالح المجتمع الانساني فلا يسعهم إلا أن يؤمنوا بها ويتدينوا. فالآية على أي حال تشير إلى كون دين التوحيد الذي يتضمنه القرآن الكريم المصدق لما بين يديه من الكتاب والمهيمن (1) عليه فيما يأمر المجتمع البشري قائما بأمرهم حافظا
________________________________________
(1) سورة المائدة، آية 48.
________________________________________
[ 340 ]
لمصالح حياتهم كما يبينه بأوفى البيان قوله تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " الروم: 30. وبهذه الآية يكمل بيان عموم رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشمول الدعوة الاسلامية لعامة البشر فقوله: " لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين " الخ يشير إلى أنه كان من الواجب في سنة الهداية الالهية أن تتم الحجة على من كفر بالدعوة من أهل الكتاب والمشركين، وهؤلاء وإن كانوا بعض أهل الكتاب والمشركين لكن من الضروري أن لا فرق بين البعض والبعض في تعلق الدعوة فتعلقها بالبعض لا ينفك عن تعلقها بالكل. وقوله: " رسول من الله " الخ يشير إلى أن تلك البينة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله " وما تفرق " الخ يشير إلى أن تفرقهم وكفرهم السابق بالحق أيضا كان بعد مجئ البينة. وقوله: " وما امروا إلا ليعبدوا الله " الخ يفيد أن الذي دعوا إليه وامروا به دين قيم حافظ لمصالح المجتمع البشري فعليهم جميعا أن يؤمنوا به ولا يكفروا. قوله تعالى: " أن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية " لما فرغ من الاشارة إلى كفرهم بالبينة التي كانت توجبها سنة الهداية الالهية وما كانت تدعوا إليه من الدين القيم أخذت في الانذار والتبشير بوعيد الكفار ووعد المؤمينن، والبرية الخلق، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " إن الذين أمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية " فيه قصر الخيرية في المؤمنين الصالحين كما أن في الآية السابقة قصر الشرية في الكفار. قوله تعالى: " جزاؤهم عند ربهم - إلى قوله - ذلك لم خشي ربه " العدن الاستقرار والثبات فجنات عدن جنات خلود ودوام وتصيفها بقوله: " خالدين فيها أبدا " تأكيد بما يدل عليه الاسم. وقوله: " رضي الله عنهم " الرضى منه تعالى صفة فعل ومصداقه الثواب الذي أعطاهموه جزاء لايمانهم وعلمهم الصالح. وقوله: " ذلك لمن خشي ربه " علامة مضروبة لسعادة الدار الآخرة وقد قال تعالى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " فاطر: 28 فالعلم بالله يستتبع الخشية منه، والخشية منه تستتبع الايمان به بمعنى الالتزام القلبي بربوبيته والوهيته ثم العمل الصالح. واعلم أن لهم في تفسير مفردات هذه الآيات أختلافا شديدا وأقوالا كثيرة لا جدوى في التعرض لها من أراد الوقوف عليها فاليراجع المطولات.
________________________________________
[ 341 ]
(بحث روائي) في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: البينة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قلت: يا رسول الله من أكرم الخلق على الله ؟ قال: يا عائشة أما تقرئين " أن الذين أمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية " ؟ وفيه أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأقبل علي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة ونزلت " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية " فكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا أقبل علي قالوا: جاء خير البرية. أقول: وروى هذا المعنى أيضا عن ابن عدي عن ابن عباس، وأيضا عن ابن مردويه عن علي عليه السلام، ورواه أيضا في البرهان عن الموفق بن أحمد في كتاب المناقب عن يزيد ابن شراحيل الانصاري كاتب علي عنه، وكذا في المجمع عن كتاب شواهد التنزيل للحاكم عن يزيد بن شراحيل عنه، ولفظه: سمعت عليا يقول: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مسنده إلى صدري فقال: يا علي ألم تسمع قول الله: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات اولئك هم خير البرية " هم شيعتك وموعدي وموعدكم الحوض إذا اجتمع الامم للحساب يدعون غرا محجلين. وفي المجمع عن مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس في قوله: " هم خير البرية " قال: نزلت في علي وأهل بيته. (سورة الزلزال مدنية وهي ثمان آيات) بسم الله الرحمن الرحيم إذا زلزلت الارض زلزالها - 1. وأخرجت الارض أثقالها - 2. وقال الانسان مالها - 3. يومئذ تحدث أخبارها - 4.
________________________________________
[ 342 ]
بأن ربك أوحى لها - 5. يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم - 6. فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره - 7. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره - 8. (بيان) ذكر للقيامة وصدور الناس للجزاء وإشارة إلى بعض أشراطها وهي زلزلة الارض وتحديثها أخبارها. والسوره تحتمل المكية والمدنية. قوله تعالى: " إذا زلزلت الارض زلزالها " الزلزال مصدر كالزلزلة، وإضافته إلى ضمير الارض تفيد الاختصاص، والمعنى إذا زلزلت الارض زلزلتها الخاصة بها فتفيد التعظيم والتفخيم أي إنها منتهية في الشدة والهول. قوله تعالى: " وأخرجت الارض أثقالها " الاثقال جمع ثقل بفتحتين بمعنى المتاع أو خصوص متاع المسافر أو جمع ثقل بالكسر فالسكون بمعنى الحمل، وعلى أي حال المراد بأثقالها التي تخرجها، الموتى على ما قيل أو الكنوز والمعادن التي في بطنها أو الجميع ولكل قائل وأول الوجوه أقربها ثم الثالث لتكون الآية إشارة إلى خروجهم للحساب، وقوله: " يومئذ يصدر الناس " إشارة إلى انصرافهم إلى الجزاء. قوله تعالى: " وقال الانسان مالها " أي يقول مدهوشا متعجبا من تلك الزلزلة الشديدة الهائلة: ما للارض تتزلزل هذا الزلزال، وقيل: المراد بالانسان الكافر غير المؤمن بالبعث، وقيل غير ذلك كما سيجئ. قوله تعالى: " يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها فتشهد على أعمال بني آدم كما تشهد بها أعضاؤهم وكتاب الاعمال من الملائكة وشهداء الاعمال من البشر وغيرهم. وقوله: " بأن ربك أوحى لها " اللام بمعنى إلى لان الايحاء يتعدى بإلى والمعنى تحدث أخبارها بسبب أن ربك أوحى إليها أن تحدث فهي شاعرة بما يقع فيها من الاعمال خيرها وشرها متحملة لها يؤذن لها يوم القيامة بالوحي أن تحدث أخبارها وتشهد بما تحملت، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " أسرى: 44، وقوله: " قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ " حم السجدة: 21 أن المستفاد من كلامه سبحانه أن الحياة والشعور ساريان في الاشياء
________________________________________
[ 343 ]
وإن كنا في غفلة من ذلك. وقد اشتد الخلاف بينهم في معنى تحديث الارض بالوحي أهو بإعطاء الحياة والشعور للارض الميتة حتى تخبر بما وقع فيها أو بخلق صوت عندها وعد ذلك تكلما منها أودلالتها بلسان الحال بما وقع فيها من الاعمال، ولا محل لهذا الاختلاف بعد ما سمعت ولا أن الحجة تتم على أحد بهذا النوع من الشهادة. قوله تعالى: " يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم " الصدور انصراف الابل عن الماء بعد وروده، وأشتات كشتى جمع شتيت بمعنى المتفرق، والآية جواب بعد جواب لاذا. والمراد بصدور الناس متفرقين يومئذ انصرافهم عن الموقف إلى منازلهم في الجنة والنار وأهل السعادة والفلاح منهم متميزون من أهل الشقاء والهلاك، وإراءتهم أعمالهم إراءتهم جزاء أعمالهم بالحلول فيه أو مشاهدتهم نفس أعمالهم بناء على تجسم الاعمال. وقيل: المراد به خروجهم من قبورهم إلى الموقف متفرقين متميزين بسواد الوجوه وبياضها وبالفزع والامن وغير ذلك لاعلامهم جزاء أعمالهم بالحساب والتعبير عن العلم بالجزاء بالرؤية وعن الاعلام بالاراءة نظير ما في قوله تعالى: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء " آل عمران: 30، والوجه الاول أقرب وأوضح. قوله تعالى: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " المثقال ما يوزن به الاثقال، والذرة ما يرى في شعاع الشمس من الهباء، وتقال لصغار النمل. تفريع على ما تقدم من إراءتهم أعمالهم، فيه تأكيد البيان في أنه لا يستثنى من الاراءة عمل خيرا أو شرا كبيرا أو صغيرا حتى مثقال الذرة من خير أو شر، وبيان حال كل من عمل الخير والشر في جملة مستقلة لغرض إعطاء الضابط وضرب القاعدة. ولا منافاة بين ما تدل عليه الآيتان من العموم وبين الآيات الدالة على حبط الاعمال، والدالة على انتقال أعمال الخير والشر من نفس إلى نفس كحسنات القاتل إلى المقتول وسيئات المقتول إلى القاتل، والدالة على تبديل السيئات حسنات في بعض التائبين إلى غير ذلك مما تقدمت الاشارة إليه في بحث الاعمال في الجزء الثاني من الكتاب وكذا في تفسير قوله: " ليميز الله الخبيث من الطيب " الآية الانفال: 37. وذلك لان الآيات المذكورة حاكمة على هاتين الآيتين فإن من حبط عمله الخير محكوم بأنه لم يعمل خيرا فلا عمل له خيرا حتى يراه وعلى هذا القياس في غيره فافهم.
________________________________________
[ 344 ]
(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الارض لتخبر يوم القيامة بكل ما عمل على ظهرها وقرء رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا زلزلت الارض زلزالها " حتى بلغ " يومئذ تحدث أخبارها " قال أتدرون ما إخبارها ؟ جاءني جبريل قال: خبرها إذا كان يوم القيامة أخبرت بكل عمل عمل على ظهرها. أقول: وروى مثله عن أبى هريرة. وفيه أخرج الحسين بن سفيان في مسنده وأبو نعيم في الحلية عن شداد بن أوس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أيها الناس إن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، وإن الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر يحق فيها الحق ويبطل الباطل. أيها الناس كونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن كل ام يتبعها ولدها اعملوا وأنتم من الله على حذر، واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم وأنكم ملاقو الله لا بد منه فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وأخرجت الارض أثقالها " قال: من الناس " وقال الانسان ما لها " قال: ذلك أمير المؤمنين عليه السلام " يومئذ تحدث أخبارها - إلى قوله - أشتاتا " قال: يجيئون أشتاتا مؤمنين وكافرين ومنافقين " ليروا أعمالهم " قال: يقفون على ما فعلوه. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " يقول " إن كان من أهل النار قد عمل مثقال ذرة في الدنيا خيرا (كان عليه ظ) يوم القيامة حسرة إن كان عمله لغير الله " ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " يقول: إن كان من أهل الجنة رآى ذلك الشر يوم القيامة ثم غفر له. (سورة العاديات مدنية وهي إحدى عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم والعاديات ضبحا - 1. فالموريات
________________________________________
[ 345 ]
قدحا - 2. فالمغيرات صبحا - 3. فأثرن به نقعا - 4. فوسطن به جمعا - 5. إن الانسان لربه لكنود - 6. وإنه على ذلك لشهيد - 7. وإنه لحب الخير لشديد - 8. أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور - 9. وحصل ما في الصدور - 10. إن ربهم بهم يومئذ لخبير - 11. (بيان) تذكر السورة كفران الانسان لنعم ربه وحبه الشديد للخير عن علم منه به وهو حجة عليه وسيحاسب على ذلك. والسورة مدنية بشهادة ما في صدرها من الاقسام بمثل قوله: " والعاديات ضبحا " الخ الظاهر في خيل الغزاة المجاهدين على ما سيجئ، وإنما شرع الجهاد بعد الهجرة ويؤيد ذلك ما ورد من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أن السورة نزلت في علي عليه السلام وسريته في غزوة ذات السلاسل، ويؤيده أيضا بعض الروايات من طرق أهل السنة على ما نشير إليه في البحث الروائي التالي إن شاء الله. قوله تعالى: " والعاديات ضبحا " العاديات من العدو وهو الجري بسرعة والضبح صوت أنفاس الخيل عند عدوها وهو المعهود المعروف من الخيل وإن ادعي أنه يعرض لكثير من الحيوان غيرها، والمعنى أقسم بالخيل اللاتي يعدون يضبحن ضبحا. وقيل: المراد بها إبل الحاج في ارتفاعها بركبانها من الجمع إلى منى يوم النحر، وقيل: إبل الغزاة، وما في الآيات التالية من الصفات لا يلائم كون الابل هو المراد بالعاديات. قوله تعالى: " فالموريات قدحا " الايراء إخراج النار والقدح الضرب والصك المعروف يقال: قدح فأورى إذا أخرج النار بالقدح، والمراد بها الخيل تخرج النار بحوافرها إذا عدت على الحجارة والارض المحصبة. وقيل: المراد بالايراء مكر الرجال في الحرب، وقيل: إيقادهم النار، وقيل: الموريات ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به، وهي وجوه ظاهرة الضعف. قوله تعالى: " فالمغيرات صبحا الاغارة والغارة الهجوم على العدو بغتة بالخيل وهي
________________________________________
[ 346 ]
صفة أصحاب الخيل ونسبتها إلى الخيل مجاز، والمعنى فاقسم بالخيل الهاجمات على العدو بغتة في وقت الصبح. وقيل: المراد بها الآبال ترتفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى والسنة أن لا ترتفع حتى تصبح، والاغارة سرعة السير وهو خلاف ظاهر الاغارة. قوله تعالى: " فأثرن به نقعا " أثرن من الاثارة بمعنى تهييج الغبار ونحوه، والنقع الغبار، والمعنى فهيجن بالعدو والاغارة غبارا. قيل: لا بأس بعطف " أثرن " وهو فعل على ما قبله وهو صفة لانه اسم فاعل وهو في معنى الفعل كأنه قيل: اقسم باللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن. قوله تعالى: " فوسطن به جمعا " وسط وتوسط بمعنى، وضمير " به " للصبح والباء بمعنى في أو الضمير للنقع والباء للملابسة. والمعنى فصرن في وقت الصبح في وسط جمع والمراد به كتيبة العدو أو المعنى فتوسطن جمعا ملابسين للنقع. وقيل: المراد توسط الآبال جمع منى وأنت خبير بأن حمل الآيات الخمس بما لمفرداتها من ظواهر المعاني على إبل الحاج الذين يفيضون من جمع إلى منى خلاف ظاهرها جدا. فالمتعين حملها على خيل الغزاة وسياق الآيات وخاصة قوله: " فالمغيرات صبحا " " فوسطن به جمعا " يعطي أنها غزاة بعينها أقسم الله فيها بخيل المجاهدين العاديات والفاء في الآيات الاربع تدل على ترتب كل منها على ما قبلها. قوله تعالى: " إن الانسان لربه لكنود " الكنود الكفور، والآية كقوله: " إن الانسان لكفور " الحج: 66، وهو إخبار عما في طبع الانسان من اتباع الهوى والانكباب على عرض الدنيا والانقطاع به عن شكر ربه على ما أنعم عليه. وفيه تعريض للقوم المغار عليهم، وكأن المراد بكفرانهم كفرانهم بنعمة الاسلام التي أنعم الله بها عليهم وهي أعظم نعمة أوتوها فيها طيب حياتهم الدنيا وسعادة حياتهم الابدية الاخرى. قوله تعالى: " وإنه على ذلك لشهيد " ظاهر اتساق الضمائر أن يكون ضمير " وإنه " للانسان فيكون المراد بكونه شهيدا على كفران نفسه بكفران نفسه علمه المذموم وتحمله له. فالمعنى وإن الانسان على كفرانه بربه شاهد متحمل فالآية في معنى قوله: " بل
________________________________________
[ 347 ]
الانسان على نفسه بصيرة " القيامة: 14. وقيل: الضمير لله واتساق الضمائر لا يلائمه. قوله تعالى: " وإنه لحب الخير لشديد " قيل: اللام في " لحب الخير " للتعليل والخير المال، والمعنى وإن الانسان لاجل حب المال لشديد أي بخيل شحيح، وقيل: المراد أن الانسان لشديد الحب للمال ويدعوه ذلك إلى الامتناع من إعطاء حق الله، والانفاق في الله. كذا فسروا. ولا يبعد أن يكون المراد بالخير مطلقه ويكون المراد أن حب الخير فطري للانسان ثم إنه يرى عرض الدنيا وزينتها خيرا فتنجذب إليه نفسه وينسيه ذلك ربه أن يشكره. قوله تعالى: " أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور - إلى قوله - لخبير " البعثرة كالبحثرة البعث والنشر، وتحصيل ما في الصدور تمييز ما في باطن النفوس من صفة الايمان والكفر ورسم الحسنة والسيئة قال تعالى: " يوم تبلى السرائر " الطارق: 9، وقيل: هو إظهار ما أخفته الصدور لتجازى على السر كما تجازى على العلانية. وقوله: " أفلا يعلم " الاستفهام فيه للانكار، ومفعول يعلم جملة قائمة مقام المفعولين يدل عليه المقام. ثم استؤنف فقيل: إذا بعثر ما في القبور الخ تأكيدا للانكار، والمراد بما في القبور الابدان. والمعنى - والله أعلم - أفلا يعلم الانسان أن لكنوده وكفرانه بربه تبعة ستحلقه ويجازى بها، إذا اخرج ما في القبور من الابدان وحصل وميز ما في سرائر النفوس من الايمان والكفر والطاعة والمعصية إن ربهم بهم يومئذ لخبير فيجازيهم بما فيها. (بحث روائي) في المجمع، قيل: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سرية إلى حي من كنانة فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الانصاري أحد النقباء فتأخر رجوعهم فقال المنافقون: قتلوا جميعا فأخبر الله تعالى عنها بقوله: " والعاديات ضبحا " عن مقاتل. وقيل: نزلت السورة لما بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام إلى ذات السلاسل فأوقع بهم وذلك بعد أن بعث عليهم مرارا غيره من الصحابة فرجع كل منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث طويل.
________________________________________
[ 348 ]
قال: وسميت هذه الغزوة ذات السلاسل لانه اسر منهم وقتل وسبى وشد اسراؤهم في الحبال مكتفين كأنهم في السلاسل. ولما نزلت السورة خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس فصلى بهم الغداة وقرء فيها " والعاديات " فلما فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه سورة لم نعرفها فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نعم إن عليا ظفر بأعداء الله وبشرني بذلك جبريل في هذه الليلة فقدم علي عليه السلام بعد أيام بالغنائم والاسارى. (سورة القارعة مكية وهي إحدى عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم القارعة - 1. ما القارعة - 2. وما أدراك ما القارعة - 3. يوم يكون الناس كالفراش المبثوث - 4. وتكون الجبال كالعهن المنفوش - 5. فأما من ثقلت موازينه - 6. فهو في عيشة راضية - 7. وأما من خفت موازينه - 8. فأمه هاوية - 9. وما أدراك ماهيه - 10. نار حامية - 11. (بيان) إنذار وتبشير بالقيامة يغلب فيه جانب الانذار، والسورة مكية. قوله تعالى: " القارعة ما القارعة " مبتدء وخبر، والقارعة من القرع وهو الضرب باعتماد شديد، وهي من أسماء القيامة في القرآن. قيل: سميت بها لانها تقرع القلوب بالفزع وتقرع أعداء الله بالعذاب. والسؤال عن حقيقة القارعة في قوله: " ما القارعة " مع كونها معلومة إشارة إلى تعظيم أمرها وتفخيمه وأنها لا تكتنه علما، وقد اكد هذا التعظيم والتفخيم بقوله بعد: " وما أدراك ما القارعة ".
________________________________________
[ 349 ]
قوله تعالى: " يوم يكون الناس كالفراش المبثوت " ظرف متعلق بفعل مقدر نحو اذكر وتقرع وتأتي، والفراش على ما نقل عن الفراء الجراد الذي ينفرش ويركب بعضه بعضا وهو غوغاء الجراد. قيل: شبه الناس عند البعث بالفراش لان الفراش إذا ثار لم يتجه إلى جهة واحدة كسائر الطير وكذلك الناس إذا خرجوا من قبورهم أحاط بهم الفزع فتوجهوا جهات شتى أو توجهوا إلى منازلهم المختلفة سعادة وشقاء. والمبعوث من البث وهو التفريق. قوله تعالى: " وتكون الجبال كالعهن المنفوش " العهن الصوف ذو ألوان مختلفة، والمنفوش من النفش وهو نشر الصوف بندف ونحوه فالعهن المنفوش الصوف المنتشر ذو ألوان مختلفة إشارة إلى تلاشي الجبال على اختلاف ألوانها بزلزلة الساعة. قوله تعالى: " فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية " إشارة إلى وزن الاعمال وأن الاعمال منها ما هو ثقيل في الميزان وهو ما له قدر ومنزلة عند الله وهو الايمان وأنواع الطاعات، ومنها ما ليس كذلك وهو الكفر وأنواع المعاصي ويختلف القسمان أثرا فيستتبع الثقيل السعادة ويستتبع الخفيف الشقاء، وقد تقدم البحث عن معنى الميزان في تفسير السور السابقة. وقوله: " في عيشة راضية " العيشة بكسر العين كالجلسة بناء نوع، وتوصيفها براضية - والراضي صاحبها - من المجاز العقلي أو المعنى في عيشة ذات رضى. قوله تعالى: " وأما من خفت موازينه فامه هاوية " الظاهر أن المراد بهاوية جهنم وتسميتها بهاوية لهوي من القي فيها أي سقوطه إلى أسفل سافلين قال تعالى: " ثم رددنا أسفل سافلين إلا الذين آمنوا " التين: 6. فتوصيف النار بالهاوية مجاز عقلي كتوصيف العيشة بالراضية وعد هاوية اما للداخل فيها لكونها مأواه ومرجعه الذي يرجع إليه كما يرجع الولد إلى امه. وقيل: المراد بامه ام رأسه والمعنى فام رأسه هاوية أي ساقطة فيها لانهم يلقون في النار على ام رأسهم، ويبعده بقاء الضمير في قوله: " ما هيه " بلا مرجع ظاهر. قوله تعالى: " وما ادراك ماهية " ضمير هي لهاوية، والهاءفي " هيه " للوقف والجملة تفسير تفيد تعظيم أمر النار وتفخيمه. قوله تعالى: " نار حامية " أي حارة شديدة الحرارة وهو جواب الاستفهام في " ماهيه " وتفسير لهاوية.
________________________________________
[ 350 ]
(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " كالعهن المنفوش " قال: العهن الصوف، وفي قوله: " وأما من خفت موازينه " قال: من الحسنات، وفي قوله: " فامه هاوية " قال: ام رأسه، يقذف في النار على رأسه. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي أيوب الانصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن نفس المؤمن إذا قبضت يلقاها أهل الرحمة من عباد الله كما يلقون البشير من أهل الدنيا فيقولون: أنظروا صاحبكم يستريح فإنه كان في كرب شديد ثم يسألونه ما فعل فلان وفلانة ؟ هل تزوجت ؟ فإذا سألوه عن الرجل قد مات قبله فيقول: هيهات قد مات ذاك قبلي فيقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب به إلى امه الهاوية فبئست الام وبئست المربية. أقول: وروي هذا المعنى عن أنس بن مالك وعن الحسن والاشعث بن عبد الله الاعمى عنه صلى الله عليه وآله وسلم. (سورة التكاثر مكية وهي ثمان آيات) بسم الله الرحمن الرحيم ألهاكم التكاثر - 1. حتى زرتم المقابر - 2. كلا سوف تعلمون - 3. ثم كلا سوف تعلمون - 4. كلا لو تعلمون علم اليقين - 5. لترون الجحيم - 6. ثم لترونها عين اليقين - 7. ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم - 8. (بيان) توبيخ شديد للناس على تلهيهم بالتكاثر في الاموال والاولاد والاعضاء وغفلتهم عما وراءه من تبعة الخسران والعذاب، وتهديد بأنهم سوف يعلمون ويرون ذلك ويسألون عن


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page