• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 276 الي 300


[ 276 ]
وقيل: الاستثناء من ضمير " عليهم " في قوله: " لست عليهم بمصيطر " والمعنى لست عليهم بمتسلط إلا على من تولى منهم عن التذكرة وأقام على الكفر فسيسلطك الله عليه ويأمرك بالجهاد فتقاتله فتقتله. وقيل: الاستثناء منقطع والمعنى لست عليهم بمتسلط لكن من تولى وكفر منهم يعذبه الله العذاب الاكبر، وما قدمناه من الوجه أرجح وأقرب. قوله تعالى: " فيعذبه الله العذاب الاكبر " هو عذاب جهنم فالآية كما تقدم محاذية لقوله في سورة الاعلى الذي يصلى النار الكبرى ". قوله تعالى: " إن الينا إيابهم " الاياب الرجوع و " الينا " خبر إن وإنما قدم للتأكيد ولرعاية الفواصل دون الحصر إذ لا قائل برجوع الناس إلى غير الله سبحانه والآية في مقام التعليل للتعذيب المذكور في الآية السابقة. قوله تعالى: " ثم إن علينا حسابهم " الكلام فيه كالكلام في الآية السابقة. (بحث روائي) في المجمع وقال أبو عبد الله عليه السلام: كل ناصب وإن تعبد واجتهد يصير إلى هذه الآية " عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ". أقول: ورواه في ثواب الاعمال مسندا ولفظه كل ناصب وإن تعبد واجتهد يصير إلى هذه الغاية " عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ". وفيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: الضريع شئ في النار يشبه الشوك أمر من الصبر وأنتن من الجيفة وأشد حرا من النار سماه الله الضريع. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " لا تسمع فيها لاغية " قال: الهزل والكذب. وفيه في قوله تعالى: " لست عليهم بمصيطر " قال: بحافظ ولا كاتب عليهم. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير والحاكم وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ثم قرء " فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر ".
________________________________________
[ 277 ]
أقول: لا دلالة في الرواية على كون الاستثناء من ضمير " عليهم " وهو ظاهر. وفيه وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " إلا من تولى وكفر " يريد من لم يتعظ ولم يصدقك وجحد ربوبيتي وكفر نعمتي " فيعذبه الله العذاب الاكبر " يريد الغليظ الشديد الدائم " إن الينا إيابهم " يريد مصيرهم " ثم إن علينا حسابهم " يريد جزاءهم. وفي النهج وسئل عليه السلام: كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم ؟ قال: كما يرزقهم على كثرتهم. قيل: فكيف يحاسبهم ولا يرونه ؟ قال: كما يرزقهم ولا يرونه. وفيه قال الصادق عليه السلام: كل امة يحاسبها إمام زمانها، ويعرف الائمة أولياءهم وأعداءهم بسيماهم وهو قوله: " وعلى الاعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم " الحديث. أقول: قد تقدم توضيح معنى الحديث في تفسير الآية من سورة الاعراف، وروى هذا المعنى في البصائر عن الصادق عليه السلام مسندا وفي الكافي عن الباقر والكاظم عليهما السلام وفى الفقيه عن الهادي عليه السلام في الزيارة الجامعة. (سورة الفجر مكية وهي ثلاثون آية) بسم الله الرحمن الرحيم والفجر - 1. وليال عشر - 2. والشفع والوتر - 3. والليل إذا يسر - 4. هل في ذلك قسم لذي حجر - 5. ألم تر كيف فعل ربك بعاد - 6. ارم ذات العماد - 7. التي لم يخلق مثلها في البلاد - 8. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد - 9. وفرعون ذي الاوتاد - 10. الذين طغوا في البلاد - 11. فأكثروا فيها الفساد - 12. فصب عليهم ربك سوط عذاب - 13. ان ربك لبالمرصاد - 14. فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن - 15. وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه
________________________________________
[ 278 ]
فيقول ربى أهانن - 16. كلا بل لا تكرمون اليتيم - 17. ولا تحآضون على طعام المسكين - 18. وتأكلون التراث أكلا لما - 19. وتحبون المال حبا جما - 20. كلا إذا دكت الارض دكا دكا - 21. وجاء ربك والملك صفا صفا - 22. وجئ يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الانسان وأنى له الذكرى - 23. يقول يا ليتني قدمت لحياتي - 24. فيومئذ لا يعذب عذابه أحد - 25. ولا يوثق وثاقه أحد - 26. يا أيتها النفس المطمئنة - 27. ارجعي إلى ربك راضية مرضية - 28. فادخلي في عبادي - 29. وادخلي جنتي - 30. (بيان) في السورة ذم التعلق بالدنيا المتعقب للطغيان والكفران وإيعاد أهله بأشد عذاب الله في الدنيا والآخرة فتبين أن الانسان لقصور نظره وسوء فكره يرى أن ما آتاه الله من نعمه من كرامته على الله وأن ما يتلبس به من الفقر والعدم من هوانه فيطغى ويفسد في الارض إذا وجد ويكفر إذا فقد وقد اشتبه عليه الامر فما يصيبه من القدرة والثروة ومن الفقر وضيق المعاش امتحان وابتلاء إلهي ليظهر به ماذا يقدم من دنياه لاخراه. فليس الامر على ما يتوهمه الانسان ويقوله بل الامر كما سيتذكره إذا وقع الحساب وحضر العذاب أن ما أصابه من فقر أو غنى أو قوة أو ضعف كان امتحانا إلهيا وكان يمكنه أن يقدم من يومه لغده فلم يفعل وآثر العقاب على الثواب فليس ينال الحياة السعيدة في الآخرة إلا النفس المطمئنة إلى ربها المسلمة لامره التي لا تتزلزل بعواصف الابتلاءات ولا يطغيه الوجدان ولا يكفره الفقدان. والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " والفجر وليال عشر والشفع والوتر والليل إذا يسر هل في ذلك قسم
________________________________________
[ 279 ]
لذي حجر " الفجر الصبح والشفع الزوج، قال الراغب: الشفع ضم الشئ إلى مثله ويقال للمشفوع شفع. انتهى. وسرى الليل مضية وإدباره، والحجر العقل فقوله: " والفجر " إقسام بالصبح وكذا الحال فيما عطف عليه من ليال والشفع والوتر والليل. ولعل ظاهر قوله: " والفجر " أن المراد به مطلق الفجر ولا يبعد أيضا أن يراد به فجر يوم النحر وهو عاشر ذي الحجة. وقيل: المراد فجر ذي الحجة، وقيل: فجر المحرم أول السنة وقيل: فجر يوم الجمعة، وقيل فجر ليلة جمع، وقيل: المراد به صلاة الفجر، وقيل: النهار كله وقيل: فجر العيون من الصخور وغيرها وهى وجوه ردية. وقوله: " وليال عشر " لعل المراد بها الليالي العشر من أول ذي الحجة إلى عاشرها والتنكير للتفخيم. وقيل: المراد بها الليالي العشر من آخر شهر رمضان، وقيل: الليالي العشر من أوله، وقيل الليالي العشر من أول المحرم، وقيل: المراد عبادة ليال عشر على تقدير أن يراد بالفجر صلاة الفجر. وقوله " والشفع والوتر " يقبل الانطباق على يوم التروية ويوم عرفة وهو الانسب على تقدير أن يراد بالفجر وليال عشر فجر ذي الحجة والعشر الاول من لياليها. وقيل: المراد صلاتا الشفع والوتر في آخر الليل، وقيل: مطلق الصلاة فمنها شفع ومنها وتر، وقيل: الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة، وقيل: الشفع جميع الخلق لانه قال: وخلقناكم أزواجا " النبأ: 8 والوتر هو الله تعالى، وعلى هذه الاقوال روايات ستوافيك في البحث الروائي الآتي إن شاء الله. وقيل: المراد الزوج والفرد من العدد، وفي الاقسام بهما تذكير بالعدد لما في ضبط المقادير به من عظيم النعمة من الله سبحانه، وقيل: الشفع والوتر جميع المخلوقات لان الاشياء إما زوج وإما فرد، وقيل: الوتر آدم شفع بزوجته، وقيل: الشفع الايام والليالي والوتر اليوم الذي لا ليل بعده وهو يوم القيامة، وقيل: الشفع الصفا والمروة والوتر البيت الحرام، وقيل: الشفع أيام عاد والوتر لياليها، وقيل: الشفع أبواب الجنة وهي ثمانية والوتر أبواب جهنم وهي سبعة إلى غير ذلك وهي كثيرة أنهاها بعضهم إلى ستة وثلاثين قولا ولا يخلو أكثرها من تحكم.
________________________________________
[ 280 ]
وقوله: " والليل إذا يسر " أي يمضي فهو كقوله: " والليل إذ أدبر " المدثر: 33 وظاهره أن اللام للجنس فالمراد به مطلق آخر الليل، وقيل: المراد به ليلة المزدلفة وهي ليلة النحر التي يسرى فيها الحاج من عرفات إلى المزدلفة فيجتمع فيها على طاعة الله ثم يغدوا منها إلى منى وهو كما ترى وخاصة على القول بكون المراد بليال عشر هو الليالي العشر الاوائل منها. وقوله: " هل في ذلك قسم لذي حجر " الاشارة بذلك إلى ما تقدم من القسم، والاستفهام للتقرير، والمعنى أن في ذلك الذي قدمناه قسما كافيا لمن له عقل يفقه به القول ويميز الحق من الباطل، وإذا أقسم الله سبحانه بأمر - ولا يقسم إلا بما له شرف ومنزلة - كان من القول الحق المؤكد الذي لا ريب في صدقه. وجواب الاقسام المذكورة محذوف يدل عليه ما سيذكر من عذاب أهل الطغيان والكفران في الدنيا والآخر وثواب النفوس المطمئنة، وأن إنعامه تعالى على من أنعم عليه وإمساكه عنه فيمن أمسك إنما هو ابتلاء وامتحان. وحذف الجواب والاشارة إليه على طريق التكنية أوقع وآكد في باب الانذار والتبشير. قوله تعالى: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد " هم عاد الاولى قوم هود تكررت قصتهم في القرآن الكريم وأشير إلى أنهم كانوا بالاحقاف، وقد قدمنا ما يتحصل من قصصهم في القرآن الكريم في تفسير سورة هود. قوله تعالى: " إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد " العماد وجمعه عمد ما يعتمد عليه الابنية، وظاهر الآيتين أن إرم كانت مدينة لهم معمورة عديمة النظير ذات قصور عالية وعمد ممددة، وقد انقطعت أخبار القوم عهدهم وانمحت آثارهم، فلا سبيل إلى الحصول على تفصيل حالهم تطمئن إليها النفس إلا ما قصه القرآن الكريم من إجمال قصتهم أنهم كانوا بعد قوم نوح قاطنين بالاحقاف وكانوا ذوي بسطة في الخلق أولي قوة وبطش شديد، وكان لهم تقدم ورقي في المدنية والحضارة لهم بلاد عامرة وأراض خصبة ذات جنات ونخيل وزروع ومقام كريم وقد تقدمت القصة. وقيل: المراد بإرم قوم عاد - وهو في الاصل اسم أبيهم سموا باسم أبيهم كما يقال: قريش ويراد به القرشيون ويطلق اسرائيل ويراد به بنو إسرائيل - والمراد بكونهم
________________________________________
[ 281 ]
ذات عماد كونهم أولي قوة وسطوة. والمعنى: ألم تر كيف فعل ربك بقوم عاد الذين هم قوم ارم ذوو القوة والشدة الذين لم يخلق مثلهم في بسطة الجسم والقوة والبطش في البلاد أو في أقطار الارض ولا يخلو من بعد من ظاهر اللفظ. وأبعد منه ما قيل: إن المراد بكونهم ذات العماد أنهم كانوا أهل عمد سيارة في الربيع فإذا هاج النبت رجعوا إلى منازلهم. ومن الاساطير قصة جنة إرم المشهورة المروية عن وهب بن منبه وكعب الاحبار. قوله تعالى: " وثمود الذين جابوا الصخر بالواد " الجوب القطع أي قطعوا صخر الجبال بنحتها بيوتا فهو في معنى قوله: " وتنحتون من الجبال بيوتا " الشعراء: 149. قوله تعالى: " وفرعون ذي الاوتاد " هو فرعون موسى، وسمي ذا الاوتاد - على ما في بعض الروايات - لانه كان إذا أراد أن يعذب رجلا بسطه على الارض ووتد يديه ورجليه بأربعة أوتاد في الارض وربما بسطه على خشب وفعل به ذلك، ويؤيده ما حكاه الله من قوله يهدد السحرة إذ آمنوا بموسى: " ولاصلبنكم في جذوع النخل " طه: 71 فإنهم كانوا يوتدون يدي المصلوب ورجليه على خشبة الصليب. قوله تعالى: " الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد " صفة للمذكورين من عاد وثمود وفرعون، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " فصب عليهم ربك سوط عذاب " صب الماء معروف وصب سوط العذاب كناية عن التعذيب المتتابع المتواتر الشديد، وتنكير عذاب للتفخيم. والمعنى فأنزل ربك على كل من هؤلاء الطاغين المكثرين للفساد إثر طغيانهم واكثارهم الفساد عذابا شديدا متتابعا متواليا لا يوصف. قوله تعالى: " إن ربك لبالمرصاد " المرصاد المكان الذي يرصد منه ويرقب وكونه تعالى على المرصاد استعارة تمثيلية شبه فيها حفظه تعالى لاعمال عباده بمن يقعد على المرصاد يرقب من يراد رقوبه فيأخذه حين يمر به وهو لا يشعر فالله سبحانه رقيب يرقب أعمال عباده حتى إذا طغوا وأكثروا الفساد أخذهم بأشد العذاب. وفي الآية تعليل ما تقدم من حديث تعذيب الطغاة المكثرين للفساد من الماضين وفي قوله: " ربك " باضافة الرب إلى ضمير الخطاب تلويح إلى أن سنة العذاب جارية في أمته
________________________________________
[ 282 ]
صلى الله عليه وآله وسلم على ما جرت عليه في الامم الماضين. قوله تعالى: " فأما الانسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن " متفرع على ما قبله، فيه تفصيل حال الانسان إذا أوتي من نعم الدنيا أو حرم كأنه قيل: إن الانسان تحت رقوب إلهي يرصده ربه هل يصلح أو يفسد ؟ ويبتليه ويمتحنه فيما آتاه من نعمه أو حرمه هذا هو الامر في نفسه وأما الانسان فإنه إذا أنعم الله عليه بنعمه حسب أن ذلك اكرام الهي له أن يفعل بها ما يشاء فيطغى ويكثر الفساد، وإذا أمسك وقدر عليه رزقه حسب أنه اهانة الهية فيكفر ويجزع. فقوله: " فأما الانسان " المراد به النوع بحسب الطبع الاولي فاللام للجنس دون الاستغراق. وقوله: " إذا ما ابتلاه ربه " أي امتحنه واختبره، والعامل في الظرف محذوف تقديره كائنا إذا " الخ " وقيل: العامل فيه " فيقول ". وقوله: " فأكرمه ونعمه " تفسير للابتلاء، والمراد بالاكرام والتنعيم الصوريان وان شئت فقل: الاكرام والتنعيم حدوثا لابقاء أي أنه تعالى أكرمه وآتاه النعمة ليشكره ويعبده لكنه جعلها نقمة على نفسه تستتبع العذاب. وقوله: " فيقول ربي أكرمن " أي جعلني على كرامة منه بالنعم التي آتانيها وان شئت فقل: القدرة والجدة الموهوبتان اكرام وتنعيم حدوثا وبقاء فلي أن افعل ما أشاء. والجملة أعني قوله: " فيقول ربي أكرمن " حكاية ما يراه الانسان بحسب الطبع، وقول الانسان: " ربي أكرمن " الظاهر في نسبة التدبير إلى الله سبحانه - ولا يقول به الوثنية والمنكرون للصانع - مبني على اعترافه بحسب الفطرة به تعالى وإن استنكف عنه لسانا، وأيضا لرعاية المقابلة مع قوله: " إذا ما ابتلاه ربه ". قوله تعالى: " وأما إذا ما ابتلاه ربه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن " أي وأما إذا ما امتحنه واختبره فضيق عليه رزقه فيقول ربي اذلني واستخف بي. ويظهر من مجموع الآيتين أولا حيث كرر الابتلاء وأثبته في صورتي التنعيم والامساك عنه أن إيتاء النعم والامساك عنه جميعا من الابتلاء والامتحان الالهي كما قال: " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " الانبياء: 35 لا كما يراه الانسان. وثانيا أن إيتاء النعم بما أنه فضل ورحمة إكرام إن لم يبدلها الانسان نقما على نفسه.
________________________________________
[ 283 ]
وثالثا أن الآيتين معا تفيدان أن الانسان يرى سعادته في الحياة هي التنعم في الدنيا بنعم الله تعالى وهو الكرامة عنده والحرمان منه شقاء عنده والحال أن الكرامة هي في التقرب إليه تعالى بالايمان والعمل الصالح سواء في ذلك الغنى والفقر وأي وجدان وفقدان فإنما ذلك بلاء وامتحان. ولهم في معنى الآيتين وجوه أخر تركنا التعرض لها لقلة الجدوى. قوله تعالى: " كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين " ردع لقولهم: إن الكرامة هي في الغنى والتنعم، وفي الفقر والفقدان هوان ومذلة، والمعنى ليس كما تقولون وإنما إيتاؤه تعالى النعمة وامساكه عنه كل ذلك ابتلاء وامتحان يختبر به حال الانسان من حيث عبوديته. وفي قوله: " بل لا تكرمون اليتيم " الخ إضراب يؤكد الردع بذكر بعض التنعم الذي لا يجامع الكرامة البتة كعدم إكرامهم اليتيم بأكل تراثه ومنعه منه وعدم التحريض على إطعام المسكين حبا للمال فالفطرة الانسانية لا يرتاب في أن لا كرامة في غنى هذا شأنه. وفي الاضراب مضافا إلى أصل الردع تقريع ولتشديد هذا التقريع وقع الالتفات من الغيبة إلى الخطاب. فقوله: " بل لا تكرمون اليتيم " عدم إكرامه حرمانه من تراث أبيه - كما كانوا يحرمون صغار الاولاد من الارث - وتركه صفر الكف بلغ به الجهد ما بلغ كما تؤيده الآية التالية " وتأكلون التراث " الخ. وقوله: " ولا تحاضون على طعام المسكين " أصله ولا تتحاضون، وهو تحريض بعضهم بعضا على التصدق على المساكين المعدمين، ومنشأه حب المال كما في الآية الآتية " وتحبون المال " الخ. قوله تعالى: " وتأكلون التراث اكلا لما " اللم أكل الانسان نصيب نفسه وغيره وأكله ما يجده من دون أن يميز الطيب من الخبيث، والآية تفسير لعدم إكرامهم اليتيم كما تقدم. قوله تعالى: " وتحبون المال حبا جما " الجم الكثير العظيم، والآية تفسر عدم تحاضهم على طعام المسكين كما تقدم. قوله تعالى: " كلا إذا دكت الارض دكا دكا " الدك هو الدق الشديد، والمراد بالظرف حضور يوم القيامة.
________________________________________
[ 284 ]
ردع ثان عما يقوله الانسان في حالي الغنى والفقر، وقوله: " إذا دكت الارض " الخ في مقام التعليل للردع، ومحصل المعنى ليس كما يقوله الانسان فإنه سيتذكر إذا قامت القيامة أن الحياة الدنيا وما فيها من الغنى والفقر وأضرابهما لم تكن مقصودة بالذات بل كانت ابتلاء وامتحانا من الله تعالى يميز به السعيد من الشقي ويهيئ الانسان فيها ما يعيش به في الآخرة وقد التبس عليه الامر فحسبها كرامة مقصودة بالذات فاشتغل بها ولم يقدم لحياته الآخرة شيئا فيتمنى عند ذلك ويقول: يا ليتني قدمت لحياتي ولن يصرف التمني عنه شيئا من العذاب. قوله تعالى: " وجاء ربك والملك صفا صفا " نسبة المجئ إليه تعالى من المتشابه الذي يحكمه قوله تعالى: " ليس كمثله شئ " الشورى: 11 وما ورد في آيات القيامة من خواص اليوم كتقطع الاسباب وارتفاع الحجب عنهم وظهور أن الله هو الحق المبين. وإلى ذلك يرجع ما ورد في الروايات أن المراد بمجيئه تعالى مجئ أمره قال تعالى: " والامر يومئذ لله " الانفطار: 19، ويؤيد هذا الوجه بعض التأيد قوله تعالى " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضى الامر " البقرة: 210 إذا انضم إلى قوله: " هل ينضرون إلا أن يأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك " النحل: 33 وعليه فهناك مضاف محذوف والتقدير جاء أمر ربك أو نسبة المجئ إليه تعالى من المجاز العقلي. والكلام في نسبة المجئ إلى الملائكة وكونهم صفا صفا كما مر. قوله تعالى: " وجئ يومئذ بجهنم " إلى آخر الآية لا يبعد أن يكون المراد بالمجئ بجهنم إبرازها لهم كما في قوله تعالى: " وبرزت الجحيم لمن يرى " النازعات: 36 وقوله: " وبرزت الجحيم للغاوين " الشعراء: 91، وقوله: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22. وقوله: " يومئذ يتذكر الانسان " أي يتذكر أجلى التذكر أن ما كان يؤتاه في الحياة الدنيا من خير أو شر كان من ابتلاء الله وامتحانه وأنه قصر في أمره، هذا ما يفيده السياق. وقوله: " وأنى له الذكرى " أي ومن أين له الذكرى كناية عن عدم انتفاعه بها فإن الذكرى إنما تنفع فيما أمكنه أن بتدارك ما فرط فيه بتوبة وعمل صالح واليوم يوم الجزاء لا يوم الرجوع والعمل. قوله تعالى: " يقول ياليتني قدمت لحياتي " أي لحياتي هذه وهي الحياة الآخرة أو المراد الحياة الحقيقية وهي الحياة الآخرة على ما نبه تعالى عليه بقوله: " وما هذه الحياة الدنيا
________________________________________
[ 285 ]
إلا لهو ولعب وإن الدار الآحرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون " العنكبوت: 64. والمراد بالتقديم للحياة تقديم العمل الصالح للحياة الآخرة وما في الآية تمن يتمناه الانسان عندما يتذكر يوم القيامة ويشاهد أنه لا ينفعه. قوله تعالى: " فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد " ضميرا " عذابه ووثاقه " لله تعالى والمعنى فيومئذ لا يعذب عذاب الله أحد من الخلق ولا يوثق وثاق الله أحد من الخلق أي عذابه ووثاقه تعالى يومئذ فوق عذاب الخلق ووثاقهم، تشديد في الوعيد. وقرء " لا يعذب " بفتح الذال و " ولا يوثق " بفتح الثاء بالبناء للمفعول وضميرا " عذابه ووثاقه " على هذا للانسان والمعنى لا يعذب أحد يومئذ مثل عذاب الانسان ولا يوثق أحد يومئذ مثل وثاقه. قوله تعالى: " يا أيتها النفس المطمئنة " الذي يعطيه سياق المقابلة بين هذه النفس بما ذكر لها من الاوصاف وعين لها من حسن المنقلب وبين الانسان المذكور قبل بما ذكر له من وصف التعلق بدنيا والطغيان والفساد والكفران، وما أوعد من سوء المصير هو أن النفس المطمئنة هي التي تسكن إلى ربها وترضى بما رضي به فترى نفسها عبدا لا يملك لنفسه شيئا من خير أو وشر أو نفع أو ضر ويرى الدنيا دار مجاز وما يستقبله فيها من غنى أو فقر أو أي نفع وضر ابتلاء وامتحانا إلهيا فلا يدعوه تواتر النعم عليه إلى الطغيان وإكثار الفساد والعلو والاستكبار، ولا يوقعه الفقر والفقدان في الكفر وترك الشكر بل هو في مستقر من العبودية لا ينحرف عن مستقيم صراطه بإفراط أو تفريط. قوله تعالى: " إرجعي إلى ربك راضية مرضية " خطاب ظرفه جميع يوم القيامة من لدن إحيائها إلى استقرارها في الجنة بل من حين نزول الموت إلى دخول جنة الخلد وليس خطابا واقعا بعد الحساب كما ذكره بعضهم. وتوصيفها بالراضية لان اطمئنانها إلى ربها يستلزم رضاها بما قدر وقضى تكوينا أو حكم به تشريعا فلا تسخطها سانحة ولا تزيغها معصية، وإذا رضي العبد من ربه رضي الرب منه إذ لا يسخطه تعالى إلا خروج العبد من زي العبودية فإذا لزم طريق العبودية استوجب ذلك رضى ربه ولذا عقب قوله " راضية " بقوله " مرضية ". قوله تعالى: " فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " تفريع على قوله " ارجعي إلى ربك " وفيه دلالة على أن صاحب النفس المطمئنة في زمرة عباد الله حائز مقام العبودية.
________________________________________
[ 286 ]
وذلك أنه لما اطمأن إلى ربه انقطع عن دعوى الاستقلال ورضي بما هو الحق من ربه فرآى ذاته وصفاته وأفعاله ملكا طلقا لربه فلم يرد فيما قدر وقضى ولا فيما أمر ونهى إلا ما أراده ربه، وهذا ظهور العبودية التامة في العبد ففي قوله: " فادخلي في عبادي " تقرير لمقام عبوديتها. وفي قوله: " وادخلي جنتي " تعيين لمستقرها، وفي إضافة الجنة إلى ضمير التكلم تشريف خاص، ولا يوجد في كلامه تعالى إضافة الجنة إلى نفسه تعالى وتقدس إلا في هذه الآية. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " والشفع والوتر "، وقيل: الشفع الخلق لانه قال: وخلقناكم أزواجا " والوتر الله تعالى، عن عطية العوفي وأبي صالح وابن عباس ومجاهد وهي رواية أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل: الشفع والوتر الصلاة منها شفع ومنها وتر وهي رواية عن ابن حصين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل الشفع يوم النحر والوتر يوم عرفة عن ابن عباس وعكرمة والضحاك، وهى رواية جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والوجه فيه أن يوم النحر يشفع بيوم نفر بعده ويتفرد يوم عرفة بالموقف، وقيل: الشفع يوم التروية والوتر يوم عرفة وروي ذلك عن أبي جعفر وابي عبد الله عليهما السلام. أقول: الروايات الثلاث المشار إليها مروية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق أهل السنة ويمكن الجمع بينها بأن المراد مطلق الشفع والوتر والروايات من قبيل الاشارة إلى بعض المصاديق. وفي تفسير القمي " وليال عشر " قال: عشر ذي الحجة " والشفع والوتر " قال: الشفع ركعتان والوتر ركعة، وفي حديث: الشفع الحسن والحسين والوتر أمير المؤمنين عليهم السلام " والليل إذا يسر " قال: هي ليلة جمع. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " لذي حجر " يقول " لذي عقل. وفي العلل بإسناده إلى أبان الاحمر قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: " وفرعون ذي الاوتاد " لاي شئ سمي ذا الاوتاد ؟ فقال: لانه كان إذا عذب رجلا بسطه على الارض على وجهه ومد يديه ورجليه فأوتدها بأربعة أوتاد في الارض. وربما بسطه على خشب منبسط فوتد رجليه ويديه بأربعة اوتاد ثم تركه على حاله حتى يموت فسماه الله عزوجل فرعون ذا الاوتاد.
________________________________________
[ 287 ]
وفي المجمع في قوله تعالى: " إن ربك لبالمرصاد " وروي عن علي عليه السلام أنه قال: إن معناه أن ربك قادر أن يجزي أهل المعاصي جزاءهم. أقول: بناء الرواية على أخذ الجملة استعارة تمثيلية. وفيه عن الصادق عليه السلام أنه قال: المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد. وعن الغوالي عن الصادق عليه السلام في حديث في تفسير قوله تعالى: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه " إنما ظن بمعنى استيقن أن الله تعالى لن يضيق عليه رزقه ألا تسمع قول الله تعالى: " وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه " أي ضيق عليه. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " كلا إذا دكت الارض دكا دكا " قال: هي الزلزلة. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تدرون ما تفسير هذه الآية " كلا إذا دكت الارض - إلى قوله - وجئ يومئذ بجهنم " قال: إذا كان يوم القيامة تقاد جهنم بسبعين ألف زمام بيد سبعين ألف ملك فتشرد شردة لولا أن الله حبسها لاحرقت السماوات والارض. اقول: وهو مروي أيضا عن أبي سعيد وابن مسعود ومن طرق الشيعة في أمالي الشيخ باسناده عن داود بن سليمان عن الرضا عن آبائه عن علي عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله. وفي العيون في باب ما جاء عن الرضا من أخبار التوحيد باسناده عن علي بن فضال عن أبيه قال: سألت الرضا عليه السلام عن قول الله عزوجل: " وجاء ربك والملك صفا صفا " فقال: إن الله سبحانه لا يوصف بالمجئ والذهاب تعالى عن الانتقال انما يعني بذلك وجاء أمر ربك. وفي الكافي باسناده عن سدير الصيرفي قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: جعلت فداك يا بن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه ؟ قال: لا والله إنه إذا أتاه ملك الموت ليقبض روحه جزع عند ذلك فيقول ملك الموت: يا ولي الله لا تجزع فوالذي بعث محمدا لاني أبر بك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر. قال: ويمثل له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والائمة من
________________________________________
[ 288 ]
ذريتهم عليهم السلام فيقال له: هذا رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والائمة عليهم السلام رفقاؤك. قال: فيفتح عينيه فينظر فينادي روحه مناد من قبل رب العزة فيقول: يا أيتها النفس المطمئنة إلى محمد وأهل بيته ارجعي إلى ربك راضية بالولاية مرضية بالثواب فادخلي في عبادي يعني محمدا وأهل بيته وادخلي جنتي فما من شئ أحب إليه من استلال روحه واللحوق بالمنادي. أقول: وروى هذا المعنى القمي في تفسيره والبرقي في المحاسن. (سورة البلد مكية وهي عشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم لا أقسم بهذا البلد - 1. وأنت حل بهذا البلد - 2. ووالد وما ولد - 3. لقد خلقنا الانسان في كبد - 4. أيحسب أن لن يقدر عليه أحد - 5. يقول أهلكت مالا لبدا - 6. أيحسب أن لم يره أحد - 7. ألم نجعل له عينين - 8. ولسانا وشفتين - 9. وهديناه النجدين - 10. فلا اقتحم العقبة - 11. وما أدراك ما العقبة - 12. فك رقبة - 13. أو إطعام في يوم ذي مسغبة - 14. يتيما ذا مقربة - 15. أو مسكينا ذا متربة - 16. ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة - 17. أولئك أصحاب الميمنة - 18. والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة - 19. عليهم نار مؤصدة - 20.
________________________________________
[ 289 ]
(بيان) تذكر السورة أن خلقة الانسان مبنية على التعب والمشقة فلا تجد شأنا من شؤن الحياة إلا مقرونا بمرارة الكد والتعب من حين يلج في جثمانه الروح إلى أن يموت فلا راحة له عارية من التعب والمشقة ولا سعادة له خالصة من الشقاء والمشأمة إلا في الدار الآخرة عند الله. فليتحمل ثقل التكاليف الالهية بالصبر على الطاعة وعن المعصية وليجد في نشر الرحمة على المبتلين بنوائب الدهر كاليتم والفقر والمرض واضرابها حتى يكون من أصحاب الميمنة وإلا فآخرته كاولاه وهو من أصحاب المشأمة عليهم نار مؤصدة. وسياق آيات السورة، يشبه السياق المكي فيؤيد به كون السورة مكية وقد ادعى بعضهم عليه الاجماع، وقيل: السورة مدنية والسياق لا يساعد عليه، وقيل: مدنية إلا أربع آيات من أولها وسيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " لا أقسم بهذا البلد " ذكروا أن المراد بهذا البلد مكة وتؤيده مكية سياق السورة وقوله: " ووالد وما ولد " خاصة بناء على كون المراد بوالد هو ابراهيم عليه السلام على ما سيجئ. قوله تعالى: " وأنت حل بهذا البلد " حال من هذا البلد، ووضع الظاهر موضع الضمير في قوله: " بهذا البلد " للدلالة على عظم شأنه والاعتناء بأمره وهو البلد الحرام، والحل مصدر كالحلول بمعنى الاقامة والاستقرار في مكان والمصدر بمعنى الفاعل. والمعنى أقسم بهذا البلد والحال أنك حال به مقيم فيه وفي ذلك تنبيه على تشرف مكة بحلوله صلى الله عليه وآله وسلم فيها وكونها مولده ومقامه. وقيل: الجملة معترضة بين القسم والمقسم به والمراد بالحل المستحل الذي لا حرمة له قال في الكشاف: واعترض بين القسم والمقسم عليه بقوله: " وأنت حل بهذا البلد " يعني ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك يستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في غير الحرم - عن شرحبيل - يحرمون أن يقتلوا بها صيدا ويعضدوا (1) بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك، وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعث على * (هامش) (1) عضد الشجرة: قطعها ونثر ورقها للابل. وشرحبيل راوي الحديث.
________________________________________
[ 290 ]
احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب من حالهم في عداوته انتهى. ثم قال: أو سلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالقسم ببلده أن الانسان لا يخلو من مقاساة الشدائد واعترض بأن وعده فتح مكة تتميما للتسلية والتنفيس عنه فقال: " وأنت حل بهذا البلد " يعنى وأنت حل به في المستقبل تصنع فيه ما تريد من القتل والاسر إلى آخر ما قال، ومحصله تفسير الحل بمعنى المحل ضد المحرم، والمعنى وسنحل لك يوم فتح مكة حينا فنقاتل وتقتل فيه من شئت. قوله تعالى: " ووالد وما ولد " لزوم نوع من التناسب والارتباط بين القسم والمقسم عليه يستدعي أن يكون المراد بوالد وما ولد من بينه وبين البلد المقسم به نسبة ظاهرة وينطبق على إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام وهما السببان الاصليان لبناء بلدة مكة والبانيان للبيت الحرام قال تعالى: " وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل " البقرة: 127 وإبراهيم عليه السلام هو الذي سأل الله أن يجعل مكة بلدا آمنا قال تعالى: " وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا " إبراهيم 35. وتنكير " والد " للتعظيم والتفخيم، والتعبير بقوله " وما ولد " دون أن يقال: ومن ولد، للدلالة على التعجيب من أمره مدحا كما في قوله: " والله أعلم بما وضعت " آل عمران: 36. والمعنى واقسم بوالد عظيم الشأن هو إبراهيم وما ولد من ولد عجيب أمره مبارك أثره وهو إسماعيل ابنه وهما البانيان لهذا البلد فمفاد الآيات الثلاث الاقسام بمكة المشرفة وبالنبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو حل فيها وبإبراهيم وإسماعيل اللذين بنياها. وقيل: المراد بالوالد ابراهيم وبما ولد جميع أولاده من العرب. وفيه أن من البعيد أن يقارن الله سبحانه بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإبراهيم عليه السلام وبين أمثال أبي لهب وأبي جهل وغيرهم من أئمة الكفر فيقسم بهم جميعا في سياق، وقد تبرأ ابراهيم عليه السلام ممن لم يتبعه من بنيه على التوحيد إذ قال فيما حكاه الله: " واجنبني وبني أن نعبد الاصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فمن تبعني فانه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم " ابراهيم 36. فعلى من يفسر ما ولد بأولاد ابراهيم أن يخصهم بالمسلمين من ذريته كما في دعاء ابراهيم واسماعيل عند بنائهما الكعبة على ما حكاه الله: " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا امة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا " البقرة: 128.
________________________________________
[ 291 ]
وقيل: المراد بوالد وما ولد، آدم عليه السلام وذريته جميعا بتقريب أن المقسم عليه بهذه الاقسام خلق الانسان في كبد وقد سن الله في خلق هذا النوع وإبقاء وجوده سنة الولادة فقد أقسم في هذه الآيات بمحصول هذه السنة وهو الوالد وما ولد على ان الانسان في كد وتعب بحسب نوع خلقته من حين يحيى إلى حين يموت. وهذا الوجه في نفسه لا بأس به لكن يبقى عليه بيان المناسبة بين بلدة مكة وبين والد وكل مولود في الجمع بينهما في الاقسام. وقيل: المراد بهما آدم والصالحون من ذريته، وكأن الوجه فيه تنزيهه تعالى من أن يقسم بأعدائه الطغاة والمفسدين من الكفار والفساق. وقيل: المراد بهما كل والد وكل مولود وقيل: من يلد ومن لا يلد منهم بأخذ " ما " في " ما ولد " نافية لا موصولة. وقيل: المراد بوالد هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبما ولد امته لانه بمنزلة الاب لامته وهي وجوه بعيدة قوله تعالى: " لقد خلقنا الانسان في كبد " الكبد الكد والتعب، والجملة جواب القسم فاشتمال الكبد على خلق الانسان وإحاطة الكد والتعب به في جميع شؤون حياته مما لا يخفى على ذي لب فليس يقصد نعمة من نعم الدنيا إلا خالصة في طيبها محضة في هنائها ولا ينال شيئا منها إلا مشوبة بما ينغص العيش مقرونة بمقاساة ومكابدة مضافا إلى ما يصيبه من نوائب الدهر ويفاجئه من طوارق الحدثان. قوله تعالى: " أيحسب أن لن يقدر عليه أحد " بمنزلة النتيجة لحجة الآية السابقة تقريرها أن الانسان لما كانت خلقته مبنية على كبد مظروفة له لا ينال قط شيئا مما يريد إلا دون ما يريد أو غير ما يريد فهو محاط في خلقه مغلوب في إرادته مقهور فيما قدر له من الامر والذي يغلبه في إرادته ويقهره على التلبس بما قدر له وهو الله سبحانه يقدر عليه من كل جهة فله أن يتصرف فيه بما شاء ويأخذه إذا أراد. فليس للانسان أن يحسب أن لن يقدر عليه أحد فيدعوه ذلك إلى أن يعلو على الله ويستكبر عن عبادته أو يعطيه في بعض ما أمر به كالانفاق في سبيله فيستكثره ويمتن به على الله أو يمكر به تعالى بعد ما عمله رياء وسمعة عملا لوجه الكريم فيقول: أهلكت مالا لبدا. قوله تعالى: " يقول أهلكت مالا لبدا " اللبد الكثير، سياق الآية وما يتلوها من الآيات إلى آخر السورة مشعر بأنه كان هناك بعض من أظهر الاسلام أو مال إليه فقد أنفق
________________________________________
[ 292 ]
بعض ماله وامتن به مستكثرا له بقوله: " أهلكت مالا لبدا " فنزلت الآيات ورد الله عليه بأن الفوز بميمنة الحياة لا يتم إلا باقتحام عقبة الانفاق في سبيل الله والدخول في زمرة الذين آمنوا وتواصوا بالصبر والمرحمة، ويتأيد به ما سيأتي في البحث الروائي إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " أيحسب أن لم يره أحد " إنكار لما هو لازم قول الانسان " أهلكت مالا لبدا " على طريق التكنية ومحصل المعنى أن لازم إخبار الانسان بإهلاكه مالا لبدا أنه يحسب أنا في غفلة وجهل بما أنفق وقد أخطأ في ذلك فالله سبحانه بصير بما أنفق لكن هذا المقدار لا يكفي في الفوز بميمنة الحياة بل لا بد له من أن يتحمل ما هو أزيد من ذلك من مشاق العبودية فيقتحم العقبة ويكون مع المؤمنين في جميع ما هم فيه. قوله تعالى: " ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين وهديناه النجدين " النجد الطريق المرتفع، والمراد بالنجدين طريق الخير وطريق الشر وسميا النجدين لما في سلوك كل منهما من الجهد والكدح، وفسرا بثديي الام وهو بعيد. وقوله: " ألم نجعل له عينين " أي جهزناه في بدنه بما يبصر به فيحصل له العلم بالمرئيات على سعة نطاقها، وقوله: " ولسانا وشفتين " أي أولم نجعل له لسانا وشفتين يستعين بها على التكلم والدلالة على ما في ضميره من العلم ويهتدي بذلك غيره على العلم بالامور الغائبة عن البصر. وقوله: " وهديناه النجدين " أي علمناه طريق الخير وطريق الشر بالهام منا فهو يعرف الخير ويميزه من الشر فالآية في معنى قوله تعالى: ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " الشمس: 8. وفي الآيات الثلاث حجة على قوله: " أيحسب أن لم يره أحد " أي على أنه تعالى يرى أعمال عباده ويعلم ما في ضمائرهم من وجوه الاعمال ويميز الخير من الشر والحسنة من السيئة. محصلها أن الله سبحانه هو الذي يعرف المرئيات للانسان بوسيلة عينيه وكيف يتصور أن يعرفه أمرا وهو لا يعرفه ؟ وهو الذي يدل الانسان على ما في الضمير بواسطة الكلام وهل يعقل أن يكشف له عما هو في حجاب عنه ؟ وهو الذي يعلم الانسان ويميزله الخير والشر بالالهام وهل يمكن معه أن يكون هو نفسه لا يعلم به ولا يميزه ؟ فهو تعالى يرى ما عمله الانسان ويعلم ما ينويه بعمله ويميز كونه خيرا أو شرا وحسنه أو سيئة. قوله تعالى: " فلا اقتحم العقبة " الاقتحام الدخول بسرعة وضغط وشدة، والعقبة الطريق الصعب الوعر الذي فيه صعود من الجبل، واقتحام العقبة إشارة إلى الانفاق الذي
________________________________________
[ 293 ]
يشق على منفقه كما سيصرح به. وقيل: الجملة دعاء على الانسان القائل: أهلكت مالا لبدا، وليس بشئ. قوله تعالى: " وما أدراك ما العقبة " تفخيم لشأنها كما مر في نظائره. قوله تعالى: " فك رقبة " أي عتقها وتحريرها أو التقدير هي أي العقبة فك رقبة فالمراد بالعقبة نفس الفك الذي هو العمل واقتحامه الاتيان به، والاتيان بالعمل نفس العمل. وبه يظهر فساد قول بعضهم إن فك رقبة اقتحام للعقبة لا نفس العقبة فهناك مضاف محذوف يعود إليه الضمير والتقدير وما أدراك ما اقتحام العقبة هو - أي الاقتحام - فك رقبة. وما ذكر في بيان العقبة من فك الرقبة والاطعام في يوم ذي مسغبة من مصاديق نشر الرحمة خص بالذكر لمكان الاهمية، وقدم فك الرقبة وابتدئ به لكمال عناية الدين بفك الرقاب. قوله تعالى: " أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة " المسغبة المجاعة، والمقربة القرابة بالنسب، والمتربة من التراب ومعناها الالتصاق بالتراب من شدة الفقر، والمعنى أو إطعام في يوم المجاعة يتيما من ذي القربى أو مسكينا شديد الفقر. قوله تعالى: " ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة " المرحمة مصدر ميمي من الرحمة، والتواصي بالصبر وصية بعضهم بعضا بالصبر على طاعة الله والتواصي بالمرحمة وصية بعضهم بعضا بالرحمة على ذوي الفقر والفاقة والمسكنة. والجملة أعني قوله: " ثم كان " الخ معطوفة على قول: " اقتحم " والتقدير فلا اقتحم العقبة ولا كان من الذين آمنوا " الخ " وقيل فيها غير ذلك مما لا جدوى فيه. قوله تعالى: " أولئك أصحاب الميمنة " بمعنى اليمن مقابل الشؤم، والاشارة باولئك إلى ما يدل عليه السياق السابق أي الذين اقتحموا العقبة وكانوا من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر والمرحمة أصحاب اليمن لا يرون مما قدموه من الايمان وعملهم الصالح إلا أمرا مباركا جميلا مرضيا. وقيل: المراد بالميمنة جهة اليمين وأصحاب الميمنة هم الذين يؤتون كتابهم بيمينهم، ومقابلة الميمنة بالمشأمة لا تلائمه. قوله تعالى: " والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة " الآيات الآفاقية والانفسية آيات وأدلة عليه تعالى تدل على توحده في الربوبية والالوهية وسائر ما يتفرع عليه وردها كفر بها والكفر بها كفر بالله وكذا القرآن الكريم وآياته، وكذا ما نزل وبلغ من
________________________________________
[ 294 ]
طريق الرسالة. والظاهر أن المراد بالآيات مطلقها، والمشأمة خلاف الميمنة. قوله تعالى: " عليهم نار موصدة " أي مطبقة. (بحث روائي) في المجمع في قوله: " وأنت حل بهذا البلد ": قيل: معناه وأنت محل بهذا البلد وهو ضد المحرم، والمراد أنت حلال لك قتل من رأيت من الكفار، وذلك حين أمر بالقتال يوم فتح مكة فأحلها الله له حتى قاتل وقتل، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: لم يحل لاحد قبلي ولا يحل لاحد بعدي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار. عن ابن عباس ومجاهد وعطاء. وفيه في الآية وقيل: لا أقسم بهذا البلد وأنت حلال منتهك الحرمة مستباح العرض لا تحترم فلا تبقى للبلد حرمة حيث هتكت عن أبي مسلم وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. قال: كانت قريش تعظم البلد وتستحل محمدا فيه فقال: " لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد " يريد أنهم استحلوك فيه وكذبوه وشتموك، وكانوا لا يأخذ الرجل منهم فيه قاتل أبيه ويتقلدون لحاء شجر الحرم فيأمنون بتقلدهم إياه فاستحلوا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يستحلوه من غيره فعاب الله ذلك عليهم. وفيه في قوله تعالى: " ووالد وما ولد ": قيل: آدم وما ولد من الانبياء والاوصياء واتباعهم. عن ابي عبد الله عليه السلام. أقول: والمعاني السابقة مروية من طرق أهل السنة في أحاديث موقوفة، وروى القمي في تفسيره الاخيرتين بالارسال والاضمار. وفي تفسير القمي " يقول أهلكت مالا لبدا " قال: اللبد المجتمع وفي المجمع في الآية قيل: هو الحارث بن نوفل بن عبد مناف وذلك أنه أذنب ذنبا فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأمره أن يكفر فقال: لقد ذهب مالي في الكفارات والنفقات منذ دخلت في دين محمد، عن مقاتل. وفي المجمع أنه قيل لامير المؤمنين عليه السلام: إن أناسا يقولون في قوله: " وهديناه النجدين ": أنهما الثديان فقال: لا هما الخير والشر.
________________________________________
[ 295 ]
وفي اصول الكافي بإسناده عن حمزة بن محمد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن قول الله تعالى: " وهديناه النجدين " قال: نجد الخير والشر. أقول: وروى في الدر المنثور هذا المعنى بطرق عن علي عليه السلام وأنس وأبي أمامة وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورواه القمي في تفسيره مرسلا مضمرا. وفي الكافي بإسناده عن جعفر بن خلاد قال: كان أبو الحسن الرضا عليه السلام إذا أكل أتي بصحفة فتوضع قرب مائدته فيعمد إلى أطيب الطعام مما يؤتى به فيأخذ من كل شئ شيئا فيضع في تلك الصفحة ثم يأمر بها للمساكين ثم يتلو هذه الآية " فلا اقتحم العقبة ". ثم يقول: علم الله عزوجل أنه ليس كل إنسان يقدر على عتق رقبة فجعل لهم السبيل إلى الجنة وفي المجمع وروي مرفوعا عن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة قال: إن كنت أقصرت الخطبة لقد أعرضت المسألة، أعتق النسمة وفك الرقبة، فقال أو ليسا واحدا ؟ قال: لا، عتق الرقبة أن يتفرد بعتقها وفك الرقبة أن يعين في ثمنها، والفئ على ذي الرحم الظالم. فإن لم يكن ذلك فأطعم الجائع وأسق الظمآن وامر بالمعروف وأنه عن المنكر فان لم تطق ذلك فكف لسانك إلا من خير. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " أو مسكينا ذا متربة " قال: لا يقيه من التراب شئ. (سورة الشمس مكية وهي ست عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم والشمس وضحاها - 1. والقمر إذا تلاها - 2. والنهار إذا جلاها - 3. والليل إذا يغشاها - 4. والسماء وما بناها - 5. والارض وما طحاها - 6. ونفس وما سواها - 7. فألهمها فجورها وتقواها - 8. قد أفلح من زكاها - 9. وقد خاب من دساها - 10.
________________________________________
[ 296 ]
كذبت ثمود بطغواها - 11. إذ انبعث أشقاها - 12. فقال لهم رسول الله ناقة الله وسقياها - 13. فكذبوه فعقروها - 14. فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها - 15. ولا يخاف عقباها - 16. (بيان) تذكر السورة أن فلاح الانسان - وهو يعرف التقوى والفجور بتعريف إلهي وإلهام باطني - أن يزكي نفسه وينميها إنماء صالحا بتحليتها بالتقوى وتطهيرها من الفجور، والخيبة والحرمان من السعادة لمن يدسيها، ويستشهد لذلك بما جرى على ثمود من عذاب الاستئصال لما كذبوا رسولهم صالحا وعقروا الناقة، وفي ذلك تعريض لاهل مكة، والسورة مكية بشهادة من سياقها. قوله تعالى: " والشمس وضحاها " في المفردات: الضحى انبساط الشمس وامتداد النهار وسمي الوقت به انتهى، والضمير للشمس، وفي الآية إقسام بالشمس وانبساط ضوئها على الارض. قوله تعالى: " والقمر إذا تلاها " عطف على الشمس والضمير لها وإقسام بالقمر حالكونه تاليا للشمس، والمراد بتلوه لها إن كان كسبه النور منها فالحال حال دائمة وإن كان طلوعه بعد غروبها فالاقسام به من حال كونه هلالا إلى حال تبدره. قوله تعالى: " والنهار إذا جلاها " التجلية الاظهار والابراز، وضمير التأنيث للارض، والمعنى وأقسم بالنهار إذا أظهر الارض للابصار. وقيل: ضمير الفاعل في " جلاها " للنهار وضمير المفعول للشمس، والمراد الاقسام بحال إظهار لنهار للشمس فإنها تنجلي وتظهر إذا انبسط النهار، وفيه أنه لا يلائم ما تقدمه فان الشمس هي المظهرة للنهار دون العكس. وقيل: الضمير المؤنث للدنيا، وقيل: للظلمة، وقيل: ضمير الفاعل لله تعالى وضمير المفعول للشمس، والمعنى وأقسم بالنهار إذا أظهر الله الشمس، وهى وجوه بعيدة. قوله تعالى: " والليل إذا يغشاها " أي يغطي الارض، فالضمير للارض كما في " جلاها "
________________________________________
[ 297 ]
وقيل: للشمس وهو بعيد فالليل لا يغطي الشمس وإنما يغطي الارض وما عليها. والتعبير عن غشيان الليل الارض بالمضارع بخلاف تجلية النارلها حيث قيل: " والنهار إذا جلاها والليل إذا يغشاها " للدلالة على الحال ليكون فيه إيماء إلى غشيان الفجور الارض في الزمن الحاضر الذي هو أوأئل ظهور الدعوة الاسلامية لما تقدم أن بين هذه الاقسام وبين المقسم بها نوع اتصال وارتباط، هذا مضافا إلى رعاية الفواصل. قوله تعالى: " والسماء وما بناها والارض وما طحاها " طحو الارض ودحوها بسطها، و " ما " في " وما بناها " و " ماطحاها " موصولة، والذي بناها وطحاها هو الله تعالى والتعبير عنه تعالى بما دون من لايثار الابهام المفيد للتفخيم والتعجيب فالمعنى وأقسم بالسماء والشئ القوي العجيب الذي بناها وأقسم بالارض والشئ القوي العجيب الذي بسطها. وقيل: ما مصدرية والمعنى وأقسم بالسماء وبنائها والارض وطحوها، والسياق - وفيه قوله: " ونفس وما سواها فألهمها " الخ - لا يساعده. قوله تعالى: " ونفس وما سواها " أي واقسم بنفس والشئ ذي القدرة والعلم والحكمة الذي سواها ورتب خلقتها ونظم أعضاءها وعدل بين قواها. وتنكير " نفس " قيل: للتنكير، وقيل: للتفخيم ولا يبعد أن يكون التنكير للاشارة إلى أن لها وصفا وأن لها نبأ. والمراد بالنفس النفس الانسانية مطلقا وقيل: المراد بها نفس آدم عليه السلام ولا يلائمه السياق وخاصة قوله: " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " إلا بالاستخدام على أنه لا موجب للتخصيص. قوله تعالى: " فألهمها فجورها وتقواها " الفجور - على ما ذكره الراغب - شق ستر الديانة فالنهي الالهي عن فعل أو عن ترك حجاب مضروب دونه حائل بين الانسان وبينه واقتراف المنهي عنه شق للستر وخرق للحجاب. والتقوى - على ما ذكره الراغب - جعل النفس في وقاية مما يخاف، والمراد بها بقرينة المقابلة في الآية بينها وبين الفجور التجنب عن الفجور والتحرز عن المنافي وقد فسرت في الرواية بأنها الورع عن محارم الله. والالهام الالقاء في الروع وهو إفاضته تعالى الصور العملية من تصور أو تصديق على النفس.
________________________________________
[ 298 ]
وتعليق الالهام على عنواني فجور النفس وتقواها للدلالة على أن المراد تعريفه تعالى للانسان صفة فعله من تقوى أو فجور وراء تعريفه متن الفعل بعنوانه الاولي المشترك بين التقوى والفجور كأكل المال مثلا المشترك بين أكل مال اليتيم الذي هو فجور وبين أكل مال نفسه الذي هو من التقوى، والمباشرة المشتركه بين الزنا وهو فجور والنكاح وهو من التقوى وبالجملة المراد أنه تعالى عرف الانسان كون ما يأتي به من فعل فجورا أو تقوى وميز له ما هو تقوى مما هو فجور. وتفريع الالهام على التسوية في قوله: " وما سواها فألهمها " الخ للاشارة إلى أن إلهام الفجور والتقوى وهو العقل العملي من تكميل تسوية النفس فهو من نعوت خلقتها كما قال تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " الروم: 30. وإضافة الفجور والتقوى إلى ضمير النفس للاشارة إلى أن المراد بالفجور والتقوى الملهمين الفجور والتقوى المختصين بهذه النفس المذكورة وهي النفس الانسانية ونفوس الجن على ما يظهر من الكتاب العزيز من كونهم مكلفين بالايمان والعمل الصالح. قوله تعالى: " قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " الفلاح هو الظفر بالمطلوب وإدراك البغية، والخيبة خلافه، والزكاة نمو النبات نموا صالحا ذا بركة والتزكية إنماؤه كذلك، والتدسى - وهو من الدس بقلب إحدى السينين ياء - إدخال الشئ في الشئ بضرب من الاخفاء، والمراد بها بقرينة مقابلة التزكية: الانماء على غير ما يقتضيه طبعها وركبت عليه نفسها. والآية أعني قوله: " قد أفلح " الخ جواب القسم، وقوله: " وقد خاب " الخ معطوف عليه. والتعبير بالتزكية والتدسى عن إصلاح النفس وافسادها مبتن على ما يدل عليه قوله: " فألهمها فجورها وتقواها " على أن من كمال النفس الانسانية أنها ملهمة مميزة - بحسب فطرتها - للفجور من التقوى أي أن الدين وهو الاسلام لله فيما يريده فطري للنفس فتحلية النفس بالتقوى تزكية وانماء صالح وتزويد لها بما يمدها في بقائها قال تعالى: " وتزودوا فان خير الزاد التقوى واتقون يا اولي الالباب " البقرة: 197 وأمرها في الفجور على خلاف التقوى.
________________________________________
[ 299 ]
قوله تعالى: " كذبت ثمود بطغواها " الطغوى مصدر كالطغيان، والباء للسببية. والآية وما يتلوها إلى آخر السورة استشهاد وتقرير لما تقدم من قوله " قد أفلح من زكاها " الخ. قوله تعالى: " إذ انبعث أشقاها " ظرف لقوله: " كذبت " أو لقوله: " بطغواها " والمراد بأشقى ثمود هو الذي عقر الناقة واسمه على ما في الروايات قدار بن سالف وقد كان انبعاثه ببعث القوم كما تدل عليه الآيات التالية بما فيها من ضمائر الجمع. قوله تعالى: " فقال لهم رسول الله ناقه الله وسقياها " المراد برسول الله صالح عليه السلام نبي ثمود، وقوله: " ناقه الله " منصوب على التحذير، وقوله: " وسقياها " معطوف عليه. والمعنى فقال لهم صالح برسالة من الله: احذروا ناقة الله وسقياها ولا تتعرضوا لها بقتلها أو منعها عن نوبتها في شرب الماء، وقد فصل الله القصة في سورة هود وغيرها. قوله تعالى: " فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها " العقر إصابة أصل الشئ ويطلق على نحر البعير والقتل، والدمدمة على الشئ الاطباق عليه يقال: دمدم عليه القبر أي أطبقه عليه والمراد شمولهم بعذاب يقطع دابرهم ويمحو أثرهم بسبب ذنبهم. وقوله: " فسواها " الظاهر أن الضمير لثمود باعتبار أنهم قبيلة أي فسواها بالارض أو هو تسوية الارض بمعنى تسطيحها واعفاء ما فيها من ارتفاع وانخفاض. وقيل: الضمير للدمدمة المفهومة من قوله: " فدمدم " والمعنى فسوى الدمدمة بينهم فلم يفلت منهم قوي ولا ضعيف ولا كبير ولا صغير. قوله تعالى: " ولا يخاف عقباها " الضمير للدمدمة أو التسوية، والواو للاستئناف أو الحال. والمعنى: ولا يخاف ربهم عاقبة الدمدمة عليهم وتسويتهم كما يخاف الملوك والاقوياء عاقبة عقاب أعدائهم وتبعته، لان عواقب الامور هي ما يريده وعلى وفق ما يأذن فيه فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " الانبياء: 23. وقيل: ضمير " لا يخاف " للاشقى، والمعنى ولا يخاف عاقر الناقة عقبى ما صنع بها. وقيل: ضمير " لا يخاف " لصالح وضمير " عقباها " للدمدمة والمعنى ولا يخاف صالح عقبى الدمدمة عليهم لثقته بالنجاة وضعف الوجهين ظاهر.
________________________________________
[ 300 ]
(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " ونفس وما سواها " قال: خلقها وصورها. وفي المجمع وروى زرارة وحمران ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام في قوله تعالى: " فألهمها فجورها وتقواها " قال: بين لها ما يأتي وما يترك، وفي قوله تعالى: " قد أفلح من زكاها " قال: قد أفلح من أطاع " وقد خاب من دساها " قال: قد خاب من عصى. وفي الدر المنثور أخرج أحمد ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عمران بن حصين أن رجلا قال: يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه شئ قد قضي عليهم ومضى عليهم في قدر قد سبق ؟ أو فيما يستقبلون به نبيهم واتخذت عليهم به الحجة ؟ قال: بل شئ قضي عليهم. قال: فلم يعملون إذا ؟ قال: من كان الله خلقه لواحدة من المنزلتين هيأه لعملها وتصديق ذلك في كتاب الله " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها " أقول: قوله: أو فيما يستقبلون الخ الظاهر أن الهمزة فيه للاستفهام والواو للعطف والمعنى وهل في طاعتهم لنبيهم قضاء من الله وقدر قد سبق ؟ وقوله: فلم يعملون إذا، أي فما معنى عملهم واستناد الفعل إليهم ؟ وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: من كان الله الخ معناه أن وجوب صدور الفعل حسنة أو سيئة منهم بالنظر إلى القضاء والقدر السابقين لا ينافي إمكان صدوره بالنظر إلى الانسان واختياره، وقد اتضح ذلك في الابحاث السابقة من الكتاب مرارا. وفيه أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن جويبر عن الضحاك عن ابن عباس: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " قد أفلح من زكاها " الآية أفلحت نفس زكاها الله وخابت نفس خيبها الله من كل خير. أقول: انتساب التزكية والتخييب إليه تعالى بوجه لا ينافي انتسابهما بالطاعة والمعصية إلى الانسان. وإنما ينتسب إلى الله سبحانه من الاضلال ما كان على طريق المجازاة كما قال: " وما يضل به إلا الفاسقين " البقرة: 26.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page