• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 201 الي 225


[ 201 ]
وما عليك أن لا يزكى وتتلهى وتعرض عمن يجتهد في التزكي وهو يخشى. وقوله: " وما عليك أن لا يزكى " قيل: " ما " نافية والمعنى وليس عليك بأس أن لا يتزكى حتى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الاعراض والتلهي عمن أسلم والاقبال عليه. وقيل: " ما " للاستفهام الانكاري والمعنى وأي شئ يلزمك إن لم يتطهر من الكفر والفجور فإنما أنت رسول ليس عليك إلا البلاغ. وقيل: المعنى ولا تبالي بعدم تطهره من دنس الكفر والفجور وهذا المعنى أنسب لسياق العتاب ثم الذي قبله ثم الذي قبله. قوله تعالى: " وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى " السعي الاسراع في المشي فمعنى قوله: " وأما من جاءك يسعى " بحسب ما يفيده المقام: وأما من جاءك مسرعا ليتذكر ويتزكى بما يتعلم من معارف الدين. وقوله: " وهو يخشى " أي يخشى الله والخشية آية التذكر بالقرآن قال تعالى: " ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى " طه: 3، وقال: " سيذكر من يخشى " الاعلى: 10. وقوله: " فأنت عنه تلهى " أي تتلهى وتتشاغل بغيره وتقديم ضمير " أنت " في قوله: " فأنت له تصدى " وقوله: " فأنت عنه تلهى " وكذا الضميرين " له " و " عنه " في الآيتين لتسجيل العتاب وتثبيته. قوله تعالى: " كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره " " كلا " ردع عما عوتب عليه من العبوس والتولي والتصدي لمن استغنى والتلهي عمن يخشى. والضمير في " إنها تذكرة " للآيات القرآنية أو للقرآن وتأنيث الضمير لتأنيث الخبر والمعنى إن الآيات القرآنية أو القرآن تذكرة أي موعظة يتعظ بها من اتعظ أو مذكر يذكر حق الاعتقاد والعمل. وقوله: " فمن شاء ذكره " جملة معترضة والضمير للقرآن أو ما يذكر به القرآن من المعارف، والمعنى فمن شاء ذكر القرآن أو ذكر ما يذكر به القرآن وهو الانتقال إلى ما تهدي إليه الفطرة مما تحفظه في لوحها من حق الاعتقاد والعمل. وفي التعبير بهذا التعبير " فمن شاء ذكره " تلويح إلى أن لا إكراه في الدعوة إلى التذكر فلا نفع فيها يعود إلى الداعي وإنما المنتفع بها المتذكر فليختر ما يختاره.
________________________________________
[ 202 ]
قوله تعالى: " في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة " قال في المجمع: الصحف جمع صحيفة، والعرب تسمى كل مكتوب فيه صحيفة كما تسميه كتابا رقا كان أو غيره انتهى. و " في صحف " خبر بعد خبر لان وظاهره أنه مكتوب في صحف متعددة بأيدي ملائكة الوحي، وهذا يضعف القول بأن المراد بالصحف اللوح المحفوظ ولم يرد في كلامه تعالى إطلاق الصحف ولا الكتب ولا الالواح بصيغة الجمع على اللوح المحفوظ، ونظيره في الضعف القول بأن المراد بالصحف كتب الانبياء الماضين لعدم ملاءمته لظهور قوله: " بأيدي سفري " الخ في أنه صفة لصحف. وقوله: " مكرمة " أي معظمة، وقوله: " مرفوعة " أي قدرا عند الله، وقوله: " مطهرة " أي من قذارة الباطل ولغو القول والشك والتناقض قال تعالى: " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " حم السجدة: 42، وقال: " إنه لقول فصل وما هو بالهزل " الطارق: 14 وقال: " ذلك الكتاب لا ريب فيه " البقرة: 2، وقال: " ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا " النساء: 82. قوله تعالى: " بأيدي سفرة كرام بررة " صفة بعد صفة لصحف، والسفرة هم السفراء جمع سفير بمعنى الرسول و " كرام " صفة لهم باعتبار ذواتهم و " بررة " صفة لهم باعتبار عملهم وهو الاحسان في الفعل. ومعنى الآيات أن القرآن تذكرة مكتوبة في صحف متعددة معظمة مرفوعة قدرا مطهرا من كل دنس وقذارة بأيدي سفراء من الملائكة كرام على ربهم بطهارة ذواتهم بررة عنده تعالى بحسن أعمالهم. ويظهر من الآيات أن للوحي ملائكة يتصدون لحمل الصحف وإيحاء ما فيها من القرآن فهم أعوان جبريل وتحت أمره ونسبة إلقاء الوحي إليهم لا تنافي نسبته إلى جبريل في مثل قوله: " نزل به الروح الامين على قلبك " الشعراء: 194 وقد قال تعالى في صفته: " إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين " التكوير: 21 فهو مطاع من الملائكة من يصدر عن أمره ويأتي بما يريده والايحاء الذي هو فعل أعوانه فعله كما أن فعله وفعلهم جميعا فعل الله وذلك نظير كون التوفي الذي هو فعل أعوان ملك الموت فعله، وفعله وفعلهم جميعا فعل الله تعالى، وقد تقدمت الاشارة إلى هذا البحث مرارا. وقيل: المراد بالسفرة الكتاب من الملائكة والذي تقدم من المعنى أجلى. وقيل: المراد بهم القراء يكتبونها ويقرؤنها وهو كما ترى.
________________________________________
[ 203 ]
(بحث روائي) في المجمع: قيل: نزلت الآيات في عبد الله بن أم مكتوم وهو عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤي. وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وآاله وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب وأبيا وامية بن خلف يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقطعه كلامه وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والعبيد فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين كان يكلمهم فنزلت الآيات. وكان رسول الله بعد ذلك يكرمه، وإذا رآه قال: مرحبا بمن عاتبني فيه ربي، ويقول له: هل لك من حاجة ؟ واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين. أقول: روى السيوطي في الدر المنثور القصة عن عائشة وانس وابن عباس على اختلاف يسير وما أورده الطبرسي محصل الروايات. وليست الآيات ظاهرة الدلالة على أن المراد بها هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل خبر محض لم يصرح بالمخبر عنه بل فيها ما يدل على أن المعني بها غيره لان العبوس ليس من صفات النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الاعداء المباينين فضلا عن المؤمنين المسترشدين. ثم الوصف بأنه يتصدى للاغنياء ويتلهى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة كما عن المرتضى رحمه الله. وقد عظم الله خلقه صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال - وهو قبل نزول هذه السورة -: " وإنك لعلى خلق عظيم " والآية واقعة في سورة " ن " التي اتفقت الروايات المبينة لترتيب نزول السور على أنها نزلت بعد سورة أقرء باسم ربك، فكيف يعقل أن يعظم الله خلقه في أول بعثته ويطلق القول في ذلك ثم يعود فيعاتبه على بعض ما ظهر من أعماله الخلقية ويذمه بمثل التصدي للاغنياء وإن كفروا والتلهي عن الفقراء وإن آمنوا واسترشدوا. وقال تعالى أيضا: " وأنذر عشيرتك الاقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " الشعراء: 215 فأمره بخفض الجناح للمؤمنين والسورة من السور المكية والآية في سياق قوله: " وأنذر عشيرتك الاقربين " النازل في أوائل الدعوة.
________________________________________
[ 204 ]
وكذا قوله: " لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين " الحجر: 88 وفي سياق الآية قوله: " فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين " الحجر: 94 النازل في أول الدعوة العلنية فكيف يتصور منه صلى الله عليه وآله وسلم العبوس والاعراض عن المؤمنين وقد أمر باحترام إيمانهم وخفض الجناح وأن لا يمد عينيه إلى دنيا أهل الدنيا. على أن قبح ترجيح غنى الغني - وليس ملاكا لشئ من الفضل على كمال الفقير وصلاحه بالعبوس والاعراض عن الفقير والاقبال على الغني لغناه قبح عقلي مناف لكريم الخلق الانساني لا يحتاج في لزوم التجنب عنه إلى نهي لفظي. وبهذا وما تقدمه يظهر الجواب عما قيل: إن الله سبحانه لم ينهه صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الفعل إلا في هذا الوقت فلا يكون معصية منه إلا بعده وأما قبل النهي فلا. وذلك أن دعوى أنه تعالى لم ينهه إلا في هذا الوقت تحكم ممنوع، ولو سلم فالعقل حاكم بقبحه ومعه ينافى صدوره كريم الخلق وقد عظم الله خلقه صلى الله عليه وآله وسلم قبل ذلك إذ قال: " وإنك لعلى خلق عظيم " وأطلق القول، والخلق ملكة لا تتخلف عن الفعل المناسب لها. وعن الصادق عليه السلام - على ما في المجمع - أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فجاء ابن أم مكتوم فلما رآه تقذر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه. وفي المجمع وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا رآى عبد الله بن أم مكتوم قال: مرحبا مرحبا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا، وكان يصنع به من اللطف حتى كان يكف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما يفعل به. اقول: الكلام فيه كالكلام فيما تقدمه، ومعنى قوله: حتى أنه كان يكف " الخ " أنه كان يكف عن الحضور عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكثرة صنيعه صلى الله عليه وآله وسلم به انفعالا منه وخجلا. قتل الانسان ما أكفره - 17. من أي شئ خلقه - 18. من نطفة خلقه فقدره - 19. ثم السبيل يسره - 20. ثم أماته فأقبره - 21. ثم إذا
________________________________________
[ 205 ]
شآء أنشره - 22. كلا لما يقض ما أمره - 23. فلينظر الانسان إلى طعامه - 24. أنا صببنا الماء صبا - 25. ثم شققنا الارض شقا - 26. فأنبتنا فيها حبا - 27. وعنبا وقضبا - 28. وزيتونا ونخلا - 29. وحدائق غلبا - 30. وفاكهة وأبا - 31. متاعا لكم ولانعامكم - 32. فإذا جاءت الصاخة - 33. يوم يفر المرء من أخيه 34. وأمه وأبيه - 35. وصاحبته وبنيه - 36. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه - 37. وجوه يومئذ مسفرة - 38. ضاحكة مستبشرة - 39. ووجوه يومئذ عليها غبرة - 40. ترهقها قترة - 41. أولئك هم الكفر، الفجر، - 42. (بيان) دعاء على الانسان وتعجيب من مبالغته في الكفر بربوبية ربه وإشارة إلى أمره حدوثا وبقاء فإنه لا يملك لنفسه شيئا من خلق وتدبير بل الله سبحانه هو الذي خلقه من نطفة مهينة فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره فهو سبحانه ربه الخالق له المدبر لامره مطلقا وهو في مدى وجوده لا يقضي ما أمره به ربه ولا يهتدي بهداه. ولو نظر الانسان إلى طعامه فقط وهو مظهر واحد من مظاهر تدبيره وغرفة من بحار رحمته رأى من وسيع التدبير ولطيف الصنع ما يبهر عقله ويدهش لبه ووراء ذلك نعم لا تعد - وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها -. فستره تدبير ربه وتركه شكر نعمته عجيب وإن الانسان لظلوم كفار وسيرون تبعة شكرهم وكفرهم من السرور والاستبشار أو الكآبة وسواد الوجه والآيات - كما ترى لا تأبى الاتصال بما قبلها سياقا واحدا وإن قال بعضهم أنها نزلت لسبب آخر كما سيجئ.
________________________________________
[ 206 ]
قوله تعالى: " قتل الانسان ما أكفره " دعاء على الانسان لما أن في طبعه التوغل في اتباع الهوى ونيسان ربوبية ربه والاستكبار عن اتباع أوامره. وقوله " ما أكفره " تعجيب من مبالغة في الكفر وستر الحق الصريح وهو يرى أنه مدبر بتدبير الله لا يملك شيئا من تدبير أمره غيره تعالى. فالمراد بالكفر مطلق ستر الحق وينطبق على إنكار الربوبية وترك العبادة ويؤيده ما في ذيل الآية من الاشارة إلى جهات من التدبير الربوبي المتناسبة مع الكفر بمعنى ستر الحق وترك العبادة، وقد فسر بعضهم الكفر بترك الشكر وكفران النعمة وهو وإن كان معنى صحيحا في نفسه لكن الانسب بالنظر إلى السياق هو المعنى المتقدم. قال في الكشاف: " قتل الانسان " دعاء عليه وهي من أشنع دعواتهم لان القتل قصارى شدائد الدنيا وفظائعها و " ما أكفره " تعجب من إفراطه في كفران نعمة الله ولا ترى اسلوبا أغلظ منه، ولا أخشن مسا، ولا أدل على سخط، ولا أبعد شوطا في المذمة مع تقارب طرفيه، ولا أجمع للائمة على قصر متنه، انتهى. وقيل جملة " ما أكفره " استفهامية والمعنى ما هو الذي جعله كافرا، والوجه المتقدم أبلغ. قوله تعالى: " من أي شئ خلقه " معناه على ما يعطيه المقام من أي شئ خلق الله الانسان حتى يحق له أن يطغى ويستكبر عن الايمان والطاعة، وحذف فاعل قوله: " خلقه " وما بعده من الافعال للاشعار بظهوره فمن المعلوم بالفطرة - وقد اعترف به المشركون - أن لا خالق إلا الله تعالى. والاستفهام بداعي تأكيد ما في قوله: " ما أكفره " من العجب - والعجب إنما هو في الحوادث التي لا يظهر لها سبب - فافيد أولا: أن من العجب إفراط الانسان في كفره ثم سئل ثانيا: هل في خلقته إذ خلقه الله ما يوجب له الافراط في الكفر فاجيب بنفيه وأن لا حجة له يحتج بها ولا عذر يعتذر به فإنه مخلوق من ماء مهين لا يملك شيئا من خلقته ولا من تدبير أمره في حياته ومماته ونشره، وبالجملة الاستفهام توطئة للجواب الذي في قوله: " من نطفة خلقه " الخ. قوله تعالى: " من نطفة خلقه فقدره " تنكير " نطفة " للتحقير أي من نطفة مهينة حقيرة خلقه فلا يحق له وأصله هذا الاصل أن يطغى بكفره ويستكبر عن الطاعة. وقوله " فقدره " أي أعطاه القدر في ذاته وصفاته وأفعاله فليس له أن يتعدى الطور
________________________________________
[ 207 ]
الذي قدر له ويتجاوز الحد الذى عين له فقد أحاط به التدبير الربوبي من كل جانب ليس له أن يستقل بنيل ما لم يقدر له. قوله تعالى: " ثم السبيل يسره " ظاهر السياق المقصود به نفي العذر من الانسان في كفره واستكباره أن المراد بالسبيل - وقد أطلق - السبيل إلى طاعة الله وامتثال أو امره وإن شئت فقل: السبيل إلى الخير والسعادة. فتكون الآية في معنى دفع الدخل فإنه إذا قيل: " من نطفة خلقه فقدره " أمكن أن يتوهم السامع أن الخلق والتقدير إذا كانا محيطين بالانسان من كل جهة كانت أفعال الانسان لذاته وصفاته مقدرة مكتوبة ومتعلقة لمشية الربوبية التي لا تتخلف فتكون أفعال الانسان ضرورية الثبوت واجبة التحقق والانسان مجبرا عليها فاقدا للاختيار فلا صنع للانسان في كفره إذا كفر ولا في فسقه إذا فسق ولم يقض ما أمره الله به وإنما ذلك بتقديره تعالى وإرادته فلا ذم ولا لائمة على الانسان ولا دعوة دينية تتعلق به لان ذلك كله فرع للاختيار ولا اختيار. فدفع الشبهة بقوله: " ثم السبيل يسره " ومحصله أن الخلق والتقدير لا ينافيان كون الانسان مختارا فيما أمر به من الايمان والطاعة له طريق إلى السعادة التي خلق لها فكل مسير لما خلق له وذلك أن التقدير واقع على الافعال الانسانية من طريق اختياره، والارادة الربوبية متعلقة بأن يفعل الانسان بإرادته واختياره كذا وكذا فالفعل صادر عن الانسان باختياره وهو بما أنه اختياري متعلق للتقدير. فالانسان مختار في فعله مسؤول عنه وإن كان متعلقا للقدر، وقد تقدم البحث عن هذا المعنى كرارا في ذيل الآيات المناسبة له في هذا الكتاب. وقيل: المراد بتيسير السبيل تسهيل خروج الانسان من بطن امه والمعنى ثم سهل للانسان سبيل الخروج وهو جنين مخلوق من نطفة. وقيل: المراد الهداية إلى الدين وتبين طريق الخير والشر كما قال: " وهديناه النجدين " البلد: 10 والوجه المتقدم أوجه. قوله تعالى: " ثم أماته فأقبره " الاماتة إيقاع الموت على الانسان، والمراد بالاقبار دفنه في القبر وإخفاؤه في بطن الارض وهذا بالبناء على الغالب الذي جرى عليه ديدن الناس وبهذه المناسبة نسب إليه تعالى لانه تعالى هو الذي هداهم إلى ذلك وألهمهم إياه
________________________________________
[ 208 ]
فللفعل نسبة إليه كما له نسبة إلى الناس. وقيل: المراد بالاقبار جعله ذا قبر ومعنى جعله ذا قبر أمره تعالى بدفنه تكرمة له لتتوارى جيفته فلا يتأذى بها الناس ولا يتنفروا. والوجه المتقدم أنسب لسياق الآيات المسرود لتذكير تدبيره تعالى التكويني للانسان دون التدبير التشريعي الذي عليه بناء هذا الوجه. قوله تعالى: " ثم إذا شاء أنشره " في المجمع: الانشار الاحياء للتصرف بعد الموت كنشر الثوب بعد الطي. انتهى، فالمراد به البعث إذا شاء الله، وفيه إشارة إلى كونه بغتة لا يعلمه غيره تعالى. قوله تعالى: " كلا لما يقض ما أمره " الذي يعطيه السياق أن " كلا " ردع عن معنى سؤال يستدعيه السياق ويلوح إليه قوله: " لما يقض ما أمره " كأنه لما أشير إلى أن الانسان مخلوق مدبر له تعالى من أول وجوده إلى آخره من خلق وتقدير وتيسير للسبيل وإماتة وإقبار وإنشار وكل ذلك نعمة منه تعالى سئل فقيل: فماذا صنع الانسان والحال هذه الحال وهل خضع للربوبية أو هل شكر النعمة فاجيب وقيل: كلا، ثم أوضح فقيل: لما يقض ما أمره الله به بل كفر وعصى. فقد ظهر مما تقدم أن ضمير " يقض " للانسان والمراد بقضائه إتيانه بما أمر الله به، وقيل: الضمير لله تعالى والمعنى لما يقض الله لهذا الكافر أن يأتي بما أمره به من الايمان والطاعة بل إنما أمره بما أمر إتماما للحجة، وهو بعيد. وظهر أيضا أن ما في الآيات من الذم واللائمة إنما هو للانسان بما في طبعه من الافراط في الكفر كما في قوله: " إن الانسان لظلوم كفار " إبراهيم: 34 فينطبق على من تلبس بالكفر وأفرط فيه بالعناد ومنه يظهر عدم استقامة ما نقل عن بعضهم أن الآية على العموم في الكافر والمسلم لم يعبده أحد حق عبادته. وذلك أن الضمير للانسان المذكور في صدر الآيات بما في طبعه من داعية الافراط في الكفر وينطبق على من تلبس به بالفعل. قوله تعالى: " فلينظر الانسان إلى طعامه " متفرع على ما تقدم تفرع التفصيل على الاجمال ففيه توجيه نظر الانسان إلى طعامه الذي يقتات به ويستمد منه لبقائه وهو واحد مما لا يحصى مما هيأه التدبير الربوبي لرفع حوائجه في الحياة حتى يتأمله فيشاهد سعة
________________________________________
[ 209 ]
التدبير الربوبي التي تدهش لبه وتحير عقله، وتعلق العناية الالهية - على دقتها وإحاطتها - بصلاح حاله واستقامة أمره. والمراد بالانسان - كما قيل - غير الانسان المتقدم المذكور في قوله: " قتل الانسان ما أكفره " فإن المراد به خصوص الانسان المبالغ في الكفر بخلاف الانسان المذكور في هذه الآية المأمور بالنظر فإنه عام شامل لكل إنسان، ولذلك أظهر ولم يضمر. قوله تعالى: " أنا صببنا الماء صبا - إلى قوله - ولانعامكم " القراءة الدائرة " أنا " بفتح الهمزة وهو بيان تفصيلي لتدبيره تعالى طعام الانسان نعم هو مرحلة ابتدائية من التفصيل وأما القول المستوفي لبيان خصوصيات النظام الذي هيأ له هذه الامور والنظام الوسيع الجاري في كل من هذه الامور والروابط الكونية التي بين كل واحد منها وبين الانسان فمما لا يسعه نطاق البيان عادة. وبالجملة قوله: " أنا صببنا الماء صبا " الصب اراقة الماء من العلو، والمراد بصب الماء إنزال الامطار على الارض لانبات النبات، ولا يبعد أن يشمل إجراء العيون والانهار فإن ما في بطن الارض من ذخائر الماء إنما يتكون من الامطار. وقوله: " ثم شققنا الارض شقا " ظاهره شق الارض بالنبات الخارج منها ولذا عطف على صب الماء بثم وعطف عليه إنبات الحب بالفاء. وقوله: " فأنبتنا فيها حبا " ضمير " فيها " للارض، والمراد بالحب جنس الحب الذي يقتات به الانسان كالحنطة والشعير ونحوهما وكذا في العنب والقضب وغيرهما. وقوله: " وعنبا وقضبا " العنب معروف، ويطلق على شجر الكرم ولعله المراد في الآية ونظيره الزيتون. والقضب هو الغض الرطب من البقول الذي يأكله الانسان يقضب أي يقطع مرة بعد أخرى، وقيل: هو ما يقطع من النبات فتعلف به الدواب. وقوله: " وزيتونا ونخلا " معروفان. وقوله: " وحدائق غلبا " الحدائق جمع حديقة وهي على ما فسر البستان المحوط والغلب جمع غلباء يقال: شجرة غلباء أي عظيمة غليظة فالحدائق الغلب البساتين المشتملة على أشجار عظام غلاظ.
________________________________________
[ 210 ]
وقوله: " وفاكهة وأبا " قيل: الفاكهة مطلق الثمار، وقيل: ما عدا العنب والرمان. قيل: ان ذكر ما يدخل في الفاكهة أولا كالزيتون والنخل للاعتناء بشأنه والاب الكلاء والمرعى. وقوله: " متاعا لكم ولانعامكم " مفعول له أي أنبتنا ما أنبتنا مما تطعمونه ليكون تمتيعا لكم وللانعام التي خصصتموها بأنفسكم. والالتفات عن الغيبة إلى الخطاب في الآية لتأكيد الامتنان بالتدبير أو بإنعام النعمة. قوله تعالى: " فإذا جاءت الصاخة " إشارة إلى ما ينتهي إليه ما ذكر من التدبير العام الربوبي للانسان بما أن فيه أمرا ربوبيا إلهيا بالعبودية يقضيه الانسان أولا يقضيه وهو يوم القيامة الذي يوفي فيه الانسان جزاء أعماله. والصاخة: الصيحة الشديدة التي تصم الاسماع من شدتها، والمراد بها نفخة الصور. قوله تعالى: " يوم يفر المرء من أخيه وامه وأبيه وصاحبته وبنيه " إشارة إلى شدة اليوم فالذين عدوا من أقرباء الانسان وأخصائه هم الذين كان يأوى إليهم ويأنس بهم ويتخذهم أعضادا وأنصارا يلوذ بهم في الدنيا لكنه يفر منهم يوم القيامة لما أن الشدة أحاطت به بحيث لا تدعه يشتغل بغيره ويعتني بما سواه كائنا من كان فالبلبلة إذا عظمت واشتدت وأطلت على الانسان جذبته إلى نفسها وصرفته عن كل شئ. والدليل على هذا المعنى قوله بعد: " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " أي يكفيه من أن يشتغل بغيره. وقيل: في سبب فرار الانسان من أقربائه وأخصائه يومئذ وجوه أخر لا دليل عليها أغمضنا عن إيرادها. قوله تعالى: " وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة " بيان لانقسام الناس يومئذ إلى قسمين: أهل السعادة وأهل الشقاء، وإشارة إلى أنهم يعرفون بسيماهم في وجوههم وإسفار الوجه إشراقه وإضاءته فرحا وسرورا واستبشاره تهلله بمشاهدة ما فيه البشرى. قوله تعالى: " ووجوه يومئذ عليها غبرة " هي الغبار والكدورة وهي سيماءالهم والغم. قوله تعالى: " ترهقها قترة " أي يعلوها ويغشاها سواد وظلمة، وقد بين حال الطائفتين في الآيات الاربع ببيان حال وجوههما لان الوجه مرآة القلب في سروره ومساءته. قوله تعالى: " اولئك هم الكفرة الفجرة " أي الجامعون بين الكفر اعتقادا ولفجور
________________________________________
[ 211 ]
وهو المعصية الشنيعة عملا أو الكافرون بنعمة الله الفاجرون، وهذا تعريف للطائفة الثانية وهم أهل الشقاء ولم يأت بمثله في الطائفة الاولى وهم أهل السعادة لان الكلام مسوق للانذار والاعتناء بشأن أهل الشقاء. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله: " قتل الانسان ما أكفره " قال: نزلت في عتبة بن أبي لهب حين قال: كفرت برب النجم إذا هوى فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فأخذه الاسد بطريق الشام. وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث طويل: " قتل الانسان ما أكفره " أي لعن الانسان. وفي تفسير القمي " ثم السبيل يسره " قال: يسر له طريق الخير. أقول: المراد به جعله مختارا في فعله يسهل به سلوكه سبيل السعادة ووصوله اتلى الكمال الذي خلق له. فالخبر منطبق على ما قدمناه من الوجه في تفسير الآية. وفيه في قوله: " وقضبا " قال: القضب القت. وفيه في قوله: " وفاكهة وأبا " قال: الاب الحشيش للبهائم. وفي الدر المنثور أخرج أبو عبيد في فضائله عن ابراهيم التيمي قال: سئل أبو بكر الصديق عن قوله " وأبا " فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم. وفيه أخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان والخطيب والحاكم وصححه عن أنس أن عمر قرء على المنبر " فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا - إلى قوله - وأبا " قال: كل هذا قد عرفناه فما الاب ؟ ثم رفض عصا كانت في يده فقال: هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك أن لا تدري ما الاب ؟ اتبعوا ما بين لكم هداه من الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه. وفيه أخرج عبد بن حميد عن عبد الرحمان بن يزيد أن رجلا سأل عمر عن قوله " وأبا " فلما رآهم يقولون أقبل عليهم بالدرة.
________________________________________
[ 212 ]
اقول: هو مبني على منعهم عن البحث عن معارف الكتاب حتى تفسير ألفاظه. وفي إرشاد المفيد وروي أن أبا بكر سئل عن قول الله تعالى: " وفاكهة وأبا " فلم يعرف معنى الاب من القرآن فقال: أي سماء تظلني أم أي أرض تقلني أم كيف أصنع إن قلت في كتاب الله ما لا أعلم ؟ أما الفاكهة فنعرفها وأما الاب فالله أعلم. فبلغ أمير المؤمنين عليه السلام مقاله في ذلك فقال: سبحان الله أما علم أن الاب هو الكلاء والمرعى ؟ وان قوله تعالى: " وفاكهة وأبا " اعتداد من الله بانعامه على خلقه فيما غذاهم به وخلقه لهم ولانعامهم مما تحيى به انفسهم وتقوم به اجسادهم. وفي المجمع وروي عن عطاء بن يسار عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يبعث الناس حفاة عراة غرلا (1) يلجمهم العرق ويبلغ شحمة الاذن قالت: قلت: يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض إذا جاء ؟ قال: شفل الناس عن ذلك وتلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ". وفي تفسير القمي قوله: " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " قال: شغل يشغله عن غيره. (سورة التكوير مكية وهي تسعة وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم إذا الشمس كورت - 1. وإذا النجوم انكدرات - 2. وإذا الجبال سيرت - 3. وإذا العشار عطلت - 4. وإذا الوحوش حشرت - 5. وإذا البحار سجرت - 6. وإذا النفوس زوجت - 7. وإذا الموؤدة سئلت - 8. بأي ذنب قتلت - 9. وإذا الصحف نشرت - 10. وإذا السماء كشطت - 11. وإذا الجحيم سعرت - 12. وإذا الجنة أزلفت - 13. علمت نفس ما أحضرت - 14.
________________________________________
(1) الغرل بالغين المعجمة جمع أغرل وهو الاقلف غير المختوم.
________________________________________
[ 213 ]
(بيان) تذكر السورة يوم القيامة بذكر بعض أشراطها وما يقع فيها وتصفه بأنه يوم ينكشف فيه للانسان ما عمله من عمل ثم تصف القرآن بأنه مما ألقاه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم رسول سماوي وهو ملك الوحي وليس يإلقاء شيطاني ولا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مجنون يمسه الشيطان. ويشبه أن تكون السورة من السور العتائق النازلة في أوائل البعثة كما يشهد به ما فيها من تنزيهه صلى الله عليه وآله وسلم مما رموه به من الجنون وقد أتهموه به في أوائل الدعوة وقد اشتملت على تنزيهه منه سورة " ن " وهي من العتائق. والسورة مكية بلا كلام. قوله تعالى: " إذا الشمس كورت " التكوير اللف على طوق الادارة كلف العمامة على الرأس، ولعل المراد بتكوير الشمس انظلام جرمها على نحو الاحاطة استعارة. قوله تعالى: " وإذا النجوم انكدرت " انكدار الطائر من الهواء انقضاضه نحو الارض، وعليه فالمراد سقوط النجوم كما يفيده قوله: " وإذا الكواكب انتثرت " الانفطار: 2 ويمكن أن يكون من الانكدار بمعنى التغير وقبول الكدورة فيكون المراد به ذهاب ضوئها. قوله تعالى: " وإذا الجبال سيرت " بما يصيبها من زلزلت الساعة التسيير فتندك وتكون هباء منبثا وتصير سرابا على ما ذكره سبحانه في مواضع من كلامه. قوله تعالى: " وإذا العشار عطلت " قيل: " العشار جمع عشراء كالنفاس جمع نفساء وهي الناقة الحامل التي أتت عليها عشرة أشهر فتسمى عشراء حتى تضع حملها وربما سميت عشراء بعد الوضع أيضا وهي من أنفس المال عند العرب. وتعطيل العشار تركها مهملة لا راعي لها ولا حافظ يحفظها وكأن في الجملة إشارة على نحو الكناية إلى أن نفائس الاموال التي يتنافس فيها الانسان تبقى اليوم ولا صاحب لها يتملكها ويتصرف فيها لانهم مشغولون بأنفسهم عن كل شئ كما قال: " لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " عبس: 37. قوله تعالى: " وإذا الوحوش حشرت " الوحوش جمع وحش وهو من الحيوان مالا يتأنس بالانسان كالسباع وغيرها.
________________________________________
[ 214 ]
وظاهر الآية من حيث وقوعها في سياق الآيات الواصفة ليوم القيامة أن الوحوش محشورة كالانسان، ويؤيده قوله تعالى: " وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم كا فرطنا في الكتاب من شئ ثم إلى ربهم يحشرون " الانعام: 38. وأما تفصيل حالها بعد الحشر وما يؤول إليه أمرها فلم يرد في كلامه تعالى ولا فيما يعتمد عليه من الاخبار ما يكشف عن ذلك نعم ربما استفيد من قوله في آية الانعام: " أمم أمثالكم "، وقوله: " ما فرطنا في الكتاب من شئ " بعض ما يتضح به الحال في الجملة لا يخفى على الناقد المتدبر، وربما قيل: إن حشر الوحوش من أشراط الساعة لا مما يقع يوم القيامة والمراد به خروجها من غاباتها وأكنانها. قوله تعالى: " وإذا البحار سجرت " فسر التسجير بإضرام النار وفسر بالملا والمعنى على الاول وإذا البحار أضرمت نارا، وعلى الثاني وإذا البحار ملئت. قوله تعالى: " وإذا النفوس زوجت " أما نفوس السعداء فبنساء الجنة قال تعالى: " لهم فيها أزواج مطهرة " النساء: 57، وقال: " وزوجناهم بحور عين " الدخان: 54 وأما نفوس الاشقياء فبقرناء الشياطين قال تعالى: " احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون " الصافات: 22، وقال: " ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين " الزخرف: 36. قوله تعالى: " وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت " الموؤدة البنت التي تدفن حية وكانت العرب تئد البنات خوفا من لحوق العار بهم من أجلهن كما يشير إليه قوله تعالى: " وإذا بشر أحدهم بالانثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب " النحل: 59. والمسؤول بالحقيقة عن قتل الموؤدة أبوها الوائد لها لينتصف منه وينتقم لكن عد المسؤول في الآية هي الموؤدة نفسها فسئلت عن سبب قتلها لنوع من التعريض والتوبيخ لقاتلها وتوطئة لان تسأل الله الانتصاف لها من قاتلها حتى يسأل عن قتلها فيؤخذ لها منه، فالكلام نظير قوله تعالى في عيسى عليه السلام: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وامي إلهين من دون الله " المائدة: 116. وقيل: إسناد المسؤولية إلى الموؤدة من المجاز العقلي والمراد كونها مسؤلا عنها نظير قوله تعالى: " إن العهد كان مسؤلا " أسرى: 34.
________________________________________
[ 215 ]
قوله تعالى: " وإذا الصحف نشرت " أي للحساب، والصحف كتب الاعمال. قوله تعالى: " وإذا السماء كشطت " في المجمع الكشط القلع عن شدة التزاق فينطبق على طيها كما في قوله: " والسماوات مطويات بيمينه " الزمر: 67، وقوله: " ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا " الفرقان: 25 وغير ذلك من الآيات المفصحة عن هذا المعنى. قوله تعالى: " وإذا الجحيم سعرت " التسعير تهييج النار حتى تتأجج. قوله تعالى: " وإذا الجنة أزلفت " الازلاف التقريب والمراد تقريبها من أهلها للدخول. قوله تعالى: " علمت نفس ما أحضرت " جواب إذا، والمراد بالنفس الجنس والمراد بما أحضرت عملها الذي عملته يقال: أحضرت الشئ أي وجدته حاضرا كما يقال: أحمدته أي وجدته محمودا. فالآية في معنى قوله تعالى: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء " آل عمران: 30. (بحث روائي) في تفسير القمي: " إذا الشمس كورت " قال: تصير سوداء مظلمة " وإذا النجوم انكدرت " قال: يذهب ضوؤها " وإذا الجبال سيرت " قال: تسير كما قال " تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ". قوله: " وإذا العشار عطلت " قال الابل تتعطل إذا مات الخلق فلا يكون من يحلبها، قوله: " وإذا البحار سجرت " قال: تتحول البحار التي حول الدنيا كلها نيرانا " وإذا النفوس زوجت " قال: من الحور العين. وفيه في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " وإذا النفوس زوجت " قال: أما أهل الجنة فزوجوا الخيرات الحسان، وأما أهل النار فمع كل إنسان منهم شيطان يعني قرنت نفوس الكافرين والمنافقين بالشياطين فهم قرناؤهم. أقول: الظاهر أن قوله: يعنى " الخ " من كلام الراوي. وفي الدر المنثور أخرج ابن ابي حاتم والديلمي عن أبي مريم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله: " إذا الشمس كورت " قال: كورت في جهنم " وإذا النجوم انكدرت " قال: انكدرت في جهنم، وكل من عبد من دون الله فهو في جهنم إلا ما كان من عيسى بن مريم وامه ولو
________________________________________
[ 216 ]
رضيا أن يعبدا لدخلاها. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وإذا الصحف نشرت " قال: صحف الاعمال قوله: " وإذا السماء كشطت " قال: أبطلت. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " وإذا النفوس زوجت " قال: هما الرجلان يعملان العمل يدخلان الجنة والنار. فلا أقسم بالخنس - 15. الجوار الكنس - 16. والليل إذا عسعس - 17. والصبح إذا تنفس - 18. إنه لقول رسول كريم - 19. ذي قوة عند ذي العرش مكين - 20. مطاع ثم أمين - 21. وما صاحبكم بمجنون - 22. ولقد رآه بالافق المبين - 23. وما هو على الغيب بضنين - 24. وما هو بقول شيطان رجيم - 25. فأين تذهبون - 26. إن هو إلا ذكر للعالمين - 27. لمن شآء منكم أن يستقيم - 28. وما تشاؤن إلا أن يشاء الله رب العالمين - 29. (بيان) تنزيه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من الجنون - وقد اتهموه به - ولما يأتي به - من القرآن - من مداخلة الشيطان، وأنه كلامه تعالى يلقيه إليه ملك الوحي الذي لا يخون في رسالته، وأنه ذكر للعالمين هاد بإذن الله لمن اهتدى منهم. قوله تعالى: " فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس " الخنس جمع خانس كطلب جمع طالب، والخنوس الانقباض والتأخر والاستتار، والجواري جمع جارية، والجري السير السريع مستعار من جري الماء، والكنس جمع كانس والكنوس دخول الوحش كالظبي
________________________________________
[ 217 ]
والطير كناسه أي بيته الذي اتخذه لنفسه واستقراره فيه. وتعقب قوله: " فلا أقسم بالخنس " الخ بقوله: " والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس " يؤيد كون المراد بالخنس الجوار الكنس الكواكب كلها أو بعضها لكن صفات حركة بعضها أشد مناسبة وأوضح انطباقا على ما ذكر من الصفات المقسم بها: الخنوس والجري والكنوس وهي السيارات الخمس المتحيرة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد فإن لها في حركاتها على ما تشاهد استقامة ورجعة وإقامة فهي تسير وتجري حركة متشابهة زمانا وهي الاستقامة وتنقبض وتتأخر وتخنس زمانا وهي الرجعة وتقف عن الحركة استقامة ورجعة زمانا كأنها الوحش تكنس في كناسها وهي الاقامة. وقيل: المراد بها مطلق الكواكب وخنوسها استتارها في النهار تحت ضوء الشمس وجريها سيرها المشهود في الليل وكنوسها غروبها في مغربها وتواريها. وقيل: المراد بها بقر الوحش أو الظبي ولا يبعد أن يكون ذكر بقر الوحش أو الظبي من باب المثال والمراد مطلق الوحوش. وكيف كان فأقرب الاقوال أولها والثاني بعيد والثالث أبعد. قوله تعالى: " والليل إذا عسعس " عطف على الخنس، و " إذا عسعس " قيد لليل، والعسعسة تطلق على إقبال الليل وعلى إدباره قال الراغب: " والليل إذا عسعس " أي أقبل وأدبر وذلك في مبدء الليل ومنتهاه فالعسعسة والعساس رقة الظلام وذلك في طرفي الليل. انتهى والانسب لاتصال الجملة بقوله: " والصبح إذا تنفس " أن يراد بها إدبار الليل. وقيل: المراد بها إقبال الليل: وهو بعيد لما عرفت. قوله تعالى: " والصبح إذا تنفس " عطف على الخنس، و " إذا تنفس " قيد للصبح، وعد الصبح متنفسا بسبب انبساط ضوئه على الافق ودفعه الظلمة التي غشيته نوع من الاستعارة بتشبيه الصبح وقد طلع بعد غشيان الظلام للآفاق بمن أحاطت به متاعب أعمال شاقة ثم وجد خلاء من الزمان فاستراح فيه وتنفس فعد إضاءته للافق تنفسا منه كذا يستفاد من بعضهم. وذكر الزمخشري فيه وجها آخر فقال في الكشاف: فإن قلت: ما معنى تنفس الصبح ؟ قلت: إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم فجعل ذلك نفسا له على المجاز. انتهى والوجه المتقدم أقرب إلى الذهن.
________________________________________
[ 218 ]
قوله تعالى: " إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين " جواب القسم، وضمير " إنه " للقرآن أو لما تقدم من آيات السورة بما أنها قرآن بدليل قوله: " لقول رسول " الخ والمراد بالرسول جبريل كما قال تعالى: " من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله " البقرة: 97. وفي إضافة القول إليه بما أنه رسول دلالة على أن القول لله سبحانه، ونسبته إلى جبريل نسبة الرسالة إلى الرسول وقد وصفه الله بصفات ست مدحه بها. فقوله: " رسول " يدل على رسالته وإلقائه وحي القرآن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله: " كريم " أي ذي كرامة وعزة عند الله بإعزازه، وقوله: " ذي قوة " أي ذي قدرة وشدة بالغة، وقوله: " عند ذي العرش مكين " أي صاحب مكانة عند الله والمكانة القرب والمنزلة، وقوله: " مطاع ثم " أي مطاع عند الله فهناك ملائكة يأمرهم فيطيعونه، ومن هنا يظهر أن له أعوانا من الملائكة يأمرهم فيأتمرون بأمره، وقوله: " أمين " أي لا يخون فيما امر به يبلغ ما حمله من الوحي والرسالة من غير أي تصرف فيه وقيل: المراد بالرسول الجاري عليه الصفات هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهو كما ترى ولا تلائمه الآيات التالية. قوله تعالى: " وما صاحبكم بمجنون " عطف على قوله: " إنه لقول " الخ ورد لرميهم له صلى الله عليه وآله وسلم بالجنون. وفي التعبير عنه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " صاحبكم " تكذيب لهم في رميهم له بالجنون وتنزيه لساحته - كما قيل - ففيه إيماء إلى أنه صاحبكم لبث بينكم معاشرا لكم طول عمره وأنتم أعرف به قد وجدتموه على كمال من العقل ورزانة من الرأي وصدق من القول ومن هذه صفته لا يرمى بالجنون. وتوصيف جبريل بما مر من صفات المدح دون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا دلالة فيه على أفضليته من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لان الكلام مسوق لبيان أن القرآن كلام الله سبحانه منزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من عنده سبحانه من طريق الوحي لا من أوهام الجنون بالقاء من شيطان والذي يفيد في هذا الغرض بيان سلامة طريق الانزال وتجليل المنزل - اسم فاعل - بذكر أوصافه الكريمة والمبالغة في تنزيهه عن الخطأ والخيانة، وأما المنزل عليه فلا يتعلق به غرض إلا بمقدار الاشارة إلى دفع ما يرتاب فيه من صفته وقد افيد بنفي الجنون الذي رموه به
________________________________________
[ 219 ]
والتعبير عنه بقوله: " صاحبكم " كما تقدم توضيحه، كذا قيل. وفي مطاوي كلامه تعالى من نعوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم الكريمة مالا يرتاب معه في أفضليته صلى الله عليه وآله وسلم على جميع الملائكة، وقد أسجد الله الملائكة كلهم أجمعين للانسان الذي هو خليفته في الارض. قوله تعالى: " ولقد رآه بالافق المبين " ضمير الفاعل في " رآه " للصاحب وضمير المفعول للرسول الكريم وهو جبريل. والافق المبين الناحية الظاهرة، والظاهر أنه الذي أشار إليه بقوله: " وهو بالافق الاعلى " النجم: 7. والمعنى واقسم لقد رآى النبي صلى الله عليه وآله وسلم جبريل حالكون جبريل كائنا في الافق المبين وهو الافق الاعلى من سائر الآفاق بما يناسب عالم الملائكة. وقيل: المعنى لقد رآى صلى الله عليه وآله وسلم جبريل على صورته الاصلية حيث تطلع الشمس وهو الافق الاعلى من ناحية المشرق. وفيه أن لا دليل من اللفظ يدل عليه وخاصة في تعلق الرؤية بصورته الاصلية ورؤيته في أي مثال تمثل به رؤيته، وكأنه مأخوذ مما ورد في بعض الروايات أنه رآه في أول البعثة وهو بين السماء والارض جالس على كرسي، وهو محمول على التمثل. قوله تعالى: " وما هو على الغيب بضنين " الضمير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمراد بالغيب الوحي النازل عليه، والضنين صفة مشبهة من الضن بمعنى البخل يعني أنه صلى الله عليه وآله وسلم لا يبخل بشئ مما يوحي إليه فلا يكتمه ولا يحسبه ولا يغيره بتبديل بعضه أو كله شيئا آخر بل يعلم الناس كما علمه الله ويبلغهم ما امر بتبليغه. قوله تعالى: " وما هو بقول شيطان رجيم " نفي لاستناد القرآن إلى إلقاء شيطان بما هو أعم من طريق الجنون فإن الشيطان بمعنى الشرير والشيطان الرجيم كما اطلق في كلامه تعالى على إبليس وذريته كذلك اطلق على أشرار سائر الجن قال تعالى: " قال فاخرج منها فإنك رجيم " ص: 77، وقال: " وحفظناها من كل شيطان رجيم " الحجر: 17. فالمعنى أن القرآن ليس بتسويل من إبليس وجنوده ولا بإلقاء من أشرار الجن كما يلقونه على المجانين. قوله تعالى: " فأين تذهبون " أوضح سبحانه في الآيات السبع المتقدمة ما هو الحق في
________________________________________
[ 220 ]
أمر القرآن دافعا عنه ارتيابهم فيه بما يرمون به الجائي به من الجنون وغيره على إيجاز متون الآيات فبين أولا أنه كلام الله واتكاء هذه الحقيقة على آيات التحدي، وثانيا أن نزوله برسالة ملك سماوي جليل القدر عظيم المنزلة وهو أمين الوحي جبريل لا حاجز بينه وبين الله ولا بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا صارف من نفسه أو غيره يصرفه عن أخذه ولا حفظه ولا تبليغه، وثالثا أن الذي انزل عليه وهو يتلوه لكم وهو صاحبكم الذي لا يخفى عليكم حاله ليس بمجنون كما يبهتونه به وقد رآى الملك الحامل للوحي وأخذ عنه وليس بكاتم لما يوحى إليه ولا بمغير، ورابعا أنه ليس بتسويل من إبليس وجنوده ولا بإلقاء من بعض أشرار الجن. ونتيجة هذا البيان أن القرآن كتاب هدى يهتدي به من أراد الاستقامة على الحق وهو قوله: " إن هو إلا ذكر للعالمين " الخ. فقوله: " فأين تذهبون " توطئة وتمهيد لذكر نتيجة البيان السابق، وهو استضلال لهم فيما يرونه في أمر القرآن الكريم أنه من طواري الجنون أو من تسويلات الشيطان الباطلة. فالاستفهام في الآية توبيخي والمعنى إذا كان الامر على هذا فأين تذهبون وتتركون الحق وراءكم ؟ قوله تعالى: " إن هو الا ذكر للعالمين " أي تذكرة لجماعات الناس كائنين من كانوا يمكنهم بها أن يتبصروا للحق، وقد تقدم بعض الكلام في نظيرة الآية. قوله تعالى: " لمن شاء منكم أن يستقيم " بدل من قوله: " للعالمين " مسوق لبيان أن فعلية الانتفاع بهذا الذكر مشروط بأن يشاؤا الاستقامة على الحق وهو التلبس بالثبات على العبودية والطاعة. قوله تعالى: " وما تشاؤن الا أن يشاء الله رب العالمين " تقدم الكلام في معناه في نظائر الآية. والآية بحسب ما يفيده السياق في معنى دفع الدخل فإن من الممكن أن يتوهموا من قوله: " لمن شاء منكم أن يستقيم " أن لهم الاستقلال في مشية الاستقامة أن شاؤا استقاموا وأن لم يشاؤا لم يستقيموا، فلله إليهم حاجة في الاستقامة التي يريدها منهم. فدفع ذلك بأن مشيتهم متوقفة على مشية الله سبحانه فلا يشاؤن الاستقامة الا أن يشاء الله أن يشاؤها، فأفعال الانسان الارادية مرادة لله تعالى من طريق ارادته وهو أن
________________________________________
[ 221 ]
يريد الله أن يفعل الانسان فعلا كذا وكذا عن ارادته. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور والفاريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه من طرق عن علي في قوله: " فلا أقسم بالخنس " قال: هي الكواكب تكنس بالليل وتخنس بالنهار فلا ترى. وفي تفسير القمي في قوله: " فلا أقسم بالخنس " قال: أي واقسم بالخنس وهو اسم النجوم. " الجوار الكنس " قال: النجوم تكنس بالنهار فلا تبين. وفي المجمع " بالخنس " وهي النجوم تخنس بالنهار وتبدو بالليل " والجوار " صفة لها لانها تجري في أفلاكها " الكنس " من صفتها أيضا لانها تكنس أي تتوارى في بروجها كما تتوارى الظباء في كناسها. وهي خمسة أنجم: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد عن علي " والليل إذا عسعس " أي إذا أدبر بظلامه عن علي. وفي تفسير القمي " والليل إذا عسعس " قال: إذا أظلم و " الصبح إذا تنفس " قال: إذا ارتفع. وفي الدر المنثور أخرج ابن عساكر عن معاوية بن قرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: ما أحسن ما أثنى عليك ربك: ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين فما كانت قوتك ؟ وما كانت أمانتك ؟ قال: أما قوتي فاني بعثت إلى مدائن لوط وهي أربع مدائن، وفي كل مدينة أربع مائة الف مقاتل سوى الذراري فحملتهم من الارض السفلى حتى سمع أهل السماء أصوات الدجاج ونباح الكلاب ثم هويت بهم فقتلتهم، وأما أمانتي فلم اؤمر بشئ فعدوته إلى غيره. أقول: والرواية لا تخلو من شئ وقد ضعفوا ابن عساكر وخاصة فيما تفرد به. وفي الخصال عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من قال في كل يوم من شعبان سبعين مرة: أستغفر الله الذي لا اله الا هو الرحمن الرحيم الحي القيوم وأتوب إليه، كتب في الافق المبين. قال: قلت: وما الافق المبين ؟ قال: قاع بين يدي العرش فيه أنهار تطرد وفيه من القدحان عدد النجوم. وفي تفسير القمي في حديث أسنده إلى أبي عبد الله عليه السلام قوله: وما هو بقول شيطان
________________________________________
[ 222 ]
رجيم " قال: يعني الكهنة الذين كانوا في قريش فنسب كلامهم إلى كلام الشياطين الذين كانوا معهم يتكلمون على ألسنتهم فقال: " وما هو بقول شيطان رجيم " مثل اولئك. (سورة الانفطار مكية وهي تسع عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم إذا السماء انفطرت - 1. وإذا الكواكب انتثرت - 2. وإذا البحار فجرت - 3. وإذا القبور بعثرت - 4. علمت نفس ما قدمت وأخرت - 5. يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم - 6. الذي خلقك فسواك فعدلك - 7. في أي صورة ما شاء ركبك - 8. كلا بل تكذبون بالدين - 9. وأن عليكم لحافظين - 10. كراما كاتبين - 11. يعلمون ما تفعلون - 12. إن الابرار لفي نعيم - 13. وإن الفجار لفي جحيم - 14. يصلونها يوم الدين - 15. وما هم عنها بغائبين - 16. وما أدراك ما يوم الدين - 17. ثم ما أدراك ما يوم الدين - 18. يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله - 19. (بيان) تحد السورة يوم القيامة ببعض أشراطه الملازمة له المتصلة به وتصفه بما يقع فيه وهو ذكر الانسان ما قدم وما أخر من أعماله الحسنة والسيئة - على أنها محفوظة عليه بواسطة حفظة الملائكة الموكلين عليه - وجزاؤه بعمله إن كان برا فبنعيم وإن كان فاجرا مكذبا بيوم الدين فبجحيم يصلاها مخلدا فيها.
________________________________________
[ 223 ]
ثم يستأنف وصف اليوم بأنه يوم لا يملك نفس لنفس شيئا والامر يومئذ لله، وهي من غرر الآيات، والسورة مكية بلا كلام. قوله تعالى: " إذا السماء انفطرت " الفطر الشق والانفطار الانشقاق والآية كقوله: " وانشقت السماء فهي يومئذ واهية " الحاقة: 16. قوله تعالى: " وإذا الكواكب انتثرت " أي تفرقت بتركها مواضعها التي ركزت فيها شبهت الكواكب بلآلي منظومة قطع سلكها فانتثرت وتفرقت. قوله تعالى: " وإذا البحار فجرت " قال في المجمع: التفجير خرق بعض مواضع الماء إلى بعض التكثير، ومنه الفجور لانخراق صاحبه بالخروج إلى كثير من الذنوب، ومنه الفجر لانفجاره بالضياء، انتهى. وإليه يرجع تفسيرهم لتفجير البحار بفتح بعضها في بعض حتى يزول الحائل ويختلط العذب منها والمالح ويعود بحرا واحدا، وهذا المعنى يناسب تفسير قوله: " وإذا البحار سجرت " التكوير: 6 بامتلاء البحار. قوله تعالى: " وإذا القبور بعثرت " قال في المجمع بعثرت الحوض وبحثرته إذا جعلت أسفله أعلاه، والبعثرة والبحثرة إثاره الشئ بقلب باطنه إلى ظاهره، انتهى. فالمعنى وإذا قلب تراب القبور وأثير باطنها إلى ظاهرها لاخراج الموتى وبعثهم للجزاء. قوله تعالى: " علمت نفس ما قدمت وأخرت " المراد بالعلم علمها التفصيلي بأعمالها التي عملتها في الدنيا، وهذا غير ما يحصل لها من العلم بنشر كتاب أعمالها لظاهر قوله تعالى: " بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره " القيامة: 15 وقوله: " يوم يتذكر الانسان ما سعى " النازعات: 35، وقوله: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء " آل عمران: 30. والمراد بالنفس جنسها فتفيد الشمول، والمراد بما قدمت وما أخرت هو ما قدمته مما عملته في حياتها، وبما أخرت ما سنته من سنة حسنة أو سيئة فعملت بها بعد موتها فتكتب صحيفة عملها قال تعالى: " ونكتب ما قدموا وآثارهم " يس: 12 وقيل: المراد بما قدمت وأخرت ما عملته في أول العمر وما عملته في آخره فيكون كناية عن الاستقصاء. وقيل في معنى التقديم والتأخير وجوه أخر لا يعبأ بها مذكورة في مطولات التفاسير من أراد الوقوف عليها فليراجعها.
________________________________________
[ 224 ]
وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: " ليميز الله الخبيث من الطيب " الانفال: 37، كلام لا يخلو من نفع ههنا. قوله تعالى: " يا ايها الانسان ما غرك بربك الكريم - إلى قوله - ركبك " عتاب وتوبيخ للانسان، والمراد بهذا الانسان المكذب ليوم الدين - على ما يفيده السياق المشتمل على قوله: " بل تكذبون بيوم الدين " وفي تكذيب يوم الدين كفر وإنكار لتشريع الدين وفي إنكاره إنكار لربوبية الرب تعالى، وإنما وجه الخطاب إليه بما أنه إنسان ليكون حجة أو كالحجة لثبوت الخصال التي يذكرها من نعمه عليه المختصة من حيث المجموع بالانسان. وقد علق الغرور بصفتي ربوبيته وكرمه تعالى ليكون ذلك حجة في توجه العتاب والتوبيخ فإن تمرد المربوب وتوغله في معصية ربه الذي يدبر أمره ويغشيه نعمه ظاهرة وباطنة كفران لا ترتاب الفطرة السليمة في قبحه ولا في استحقاق العقاب عليه وخاصة إذا كان الرب المنعم كريما لا يريد في نعمه وعطاياه نفعا ينتفع به ولا عضوا يقابله به المنعم عليه، ويسامح في إحسانه ويصفح عما يأتي به المربوب من الخطيئة والاثم بجهالة فإن الكفران حينئذ أقبح وأقبح وتوجه الذم واللائمة أشد وأوضح. فقوله تعالى: " يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم " استفهام توبيخي يوبخ الانسان بكفران خاص لا عذر له يعتذر به عنه وهو كفران نعمة رب كريم. وليس للانسان أن يجيب فيقول: أي رب غرني كرمك فقد قضى الله سبحانه فيما قضى وبلغه بلسان أنبيائه: " لئن شكرتم لازيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد " إبراهيم: 7، وقال: " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى " النازعات: 39، إلى غير ذلك من الآيات الناصة في أن لا مخلص للمعاندين من العذاب وأن الكرم لا يشملهم يوم القيامة قال: " ورحمتي وسعت كل شئ فسأكتبها للذين يتقون " الاعراف: 156 ولو كفى الانسان العاصي قوله: " غرني كرمك " لصرف العذاب عن الكافر المعاند كما يصرفه عن المؤمن العاصي، ولا عذر بعد البيان. ومن هنا يظهر أن لا محل لقول بعضهم: إن توصيف الرب بالكريم من قبيل تلقين الحجة وهو من الكرم أيضا. كيف ؟ والسياق سياق الوعيد والكلام ينتهي إلى مثل قوله: " وإن الفجار لفي
________________________________________
[ 225 ]
جحيم يصلونها يوم الدين وما هم عنها بغائبين ". وقوله: " الذي خلقك فسواك فعدلك " بيان لربوبيته المتلبسة بالكرم فإن من تدبيره خلق الانسان بجمع أجزاء وجوده ثم تسويته بوضع كل عضو فيما يناسبه من الموضع على ما يقتضيه الحكمة ثم عدله بعدل بعض أعضائه وقواه ببعض بجعل التوازن والتعادل بينها فما يضعف عنه عضو يقوى عليه عضو فيتم به فعله كما أن الاكل مثلا بالالتقام وهو للفم، ويضعف الفم عن قطع اللقمة ونهشها وطحنها فيتم ذلك بمختلف الاسنان، ويحتاج ذلك إلى نقل اللقمة من جانب من الفم إلى آخر وقلبها من حال إلى حال فجعل ذلك للسان ثم الفم يحتاج في فعل الاكل إلى وضع الغذاء فيه فتوصل إلى ذلك باليد وتمم عملها بالكف وعملها بالاصابع على اختلاف منافعها وعملها بالانامل، وتحتاج اليد في الاخذ والوضع إلى الانتقال المكاني نحو الغذاء وعدل ذلك بالرجل. وعلى هذا القياس في أعمال سائر الجوارح والقوى وهي الوف والوف لا يحصيها العد، والكل من تدبيره تعالى وهو المفيض لها من غير أن يريد بذلك انتفاعا لنفسه ومن غير أن يمنعه من إفاضتها ما يقابله به الانسان من نسيان الشكرو كفران النعمة فهو تعالى ربه الكريم. وقوله: " في أي صورة ما شاء ركبك " بيان لقوله: " عدلك " ولذا لم يعطف على ما تقدمه والصورة ما ينتقش به الاعيان ويتميز به الشئ من غيره و " ما " زائدة للتأكيد. والمعنى: في أي صورة شاء أن يركبك - ولا يشاء إلا ما تقتضيه الحكمة - ركبك من ذكر وأنثى وأبيض وأسود وطويل وقصير ووسيم ودميم وقوي وضعيف إلى غيرذلك وكذا الاعضاء المشتركة بين أفراد الانسان المميزة لها من غيرها كاليدين والرجلين والعينين والرأس والبدن واستواء القامة ونحوها فكل ذلك من عدل بعض الاجزاء ببعض في التركيب قال تعالى: " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم " التين: 4 والجميع ينتهي إلى تدبير الرب الكريم لا صنع للانسان في شئ من ذلك. قوله تعالى: " كلا بل تكذبون بالدين " " كلا " ردع عن اغترار الانسان بكرم الله وجعل ذلك ذريعة إلى الكفر والمعصية أي لا تغتروا فلا ينفعكم الاغترار. وقوله: " بل تكذبون بالدين " أي بالجزاء. إضراب عما يفهم من قوله: " ما غرك بربك الكريم " من غرور الانسان بربه الكريم على اعتراف منه ولو بالقوة بالجزاء لقضاء


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page