• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 151 الي 175


[ 151 ]
ألم نهلك الاولين - 16. ثم نتبعهم الآخرين - 17. كذلك نفعل بالمجرمين - 18. ويل يومئذ للمكذبين - 19. ألم نخلقكم من ماء مهين - 20. فجعلناه في قرار مكين - 21. إلى قدر معلوم - 22. فقدرنا فنعم القادرون - 23. ويل يومئذ للمكذبين - 24. ألم نجعل الارض كفاتا - 25. أحياء وأمواتا - 26. وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا - 27. ويل يومئذ للمكذبين - 28. إنطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون - 29. إنطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب - 30. لا ظليل ولا يغني من اللهب - 31. إنها ترمى بشرر كالقصر - 32. كأنه جمالت صفر - 33. ويل يومئذ للمكذبين - 34. هذا يوم لا ينطقون - 35. ولا يؤذن لهم فيعتذرون - 36. ويل يومئذ للمكذبين - 37. هذا يوم الفصل جمعناكم والاولين - 38. فإن كان لكم كيد فكيدون - 39. ويل يومئذ للمكذبين - 40. إن المتقين في ظلال وعيون - 41. وفواكه مما يشتهون - 42. كلوا واشربوا هنيئا بكا كنتم تعملون - 43. إنا كذلك نجزي المحسنين - 44. ويل يومئذ للمكذبين - 45. كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون - 46. ويل يومئذ للمكذبين - 47.
________________________________________
[ 152 ]
وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون - 48. ويل يومئذ للمكذبين - 49. فبأي حديث بعده يؤمنون - 50. (بيان) حجج دالة على توحد الربوبية تقضي بوجود يوم الفصل الذي فيه جزاء المكذبين به، وإشارة إلى ما فيه من الجزاء المعد لهم الذي كانوا يكذبون به، وإلى ما فيه من النعمة والكرامة للمتقين، وتختتم بتوبيخهم وذمهم على استكبارهم عن عبادته تعالى والايمان بكلامه. قوله تعالى: " ألم نهلك الاولين ثم نتبعهم الآخرين كذلك نفعل بالمجرمين " الاستفهام للانكار، والمراد بالاولين أمثال قوم نوح وعاد وثمود من الامم القديمة عهدا، وبالآخرين الملحقون بعهم من الامم الغابرة، والاتباع جعل الشئ إثر الشئ. وقوله: " ثم نتبعهم " برفع نتبع على الاستيناف وليس بمعطوف على " نهلك " وإلا جرام. والمعنى قد أهلكنا المكذبين من الامم الاولين ثم إنا نهلك الامم الآخرين على إثرهم. وقوله: " كذلك نفعل بالمجرمين " في موضع التعليل لما تقدمه ولذا أورد بالفصل من غير عطف كأن قائلا قال: لماذا اهلكوا ؟ فقيل: كذلك نفعل بالمجرمين. والآيات - كما ترى - إنذار وإرجاع للبيان إلى الاصل المضروب في السورة أعني قوله: " ويل يومئذ للمكذبين " وهي بعينها حجة على توحد الربوبية فإن أهلاك المجرمين من الانسان تصرف في العالم الانساني وتدبير، وإذ ليس المهلك إلا الله - وقد اعترف به المشركون - فهو الرب لا رب سواه ولا إله غيره. على أنها تدل على وجود يوم الفصل لان أهل إهلاك قوم لاجرامهم لا يتم إلا بعد توجه تكليف إليهم يعصونه ولا معنى للتكليف إلا مع مجازاة المطيع بالثواب والعاصي بالعقاب فهناك يوم يفصل فيه القضاء فيثاب فيه المطيع ويعاقب فيه العاصي وليس هو الثواب والعقاب الدنيويين لانهما لا يستوعبان في هذه الدار فهناك يوم يجازى فيه كل بما عمل، وهو يوم الفصل ذلك يوم مجموع له الناس.
________________________________________
[ 153 ]
قوله تعالى: " ألم نخلقكم من ماء مهين - إلى قوله - فنعم القادرون " الاستفهام للانكار، والماء المهين الحقير قليل الغناء والمراد به النطفة، والمراد بالقرار المكين الرحم وبقوله: " قدر معلوم مدة الحمل. وقوله: " فقدرنا " من القدر بمعنى التقدير، والفاء لتفريع القدر على الخلق أي خلقناكم فقدرنا ما سيجري عليكم من الحوادث وما يستقبلكم من الاوصاف والاحوال من طول العمر وقصره وهيئة وجمال وصحة ومرض ورزق إلى غير ذلك. واحتمل أن يكون " قدرنا " من القدرة مقابل العجز والمراد فقدرنا على جميع ذلك، وما تقدم أوجه. والمعنى: قد خلقناكم من ماء حقير هو النطفة فجعلنا ذلك الماء في قرار مكين هي الرحم إلى مدة معلومة هي مده الحمل فقدرنا جميع ما يتعلق بوجودكم من الحوادث والصفات والاحوال فنعم المقدرون نحن. ويجري في كون مضمون هذه الآيات حجة على توحد الربوبية نظير البيان السابق في الآيات المتقدمة، وكذا في كونه حجة على تحقق يوم الفصل فإن الربوبية تستوجب خضوع المربوبين لساحتها وهو الدين المتضمن للتكليف، ولا يتم التكليف إلا بجعل جزاء على الطاعة والعصيان، واليوم الذي يجازى فيه بالاعمال هو يوم الفصل. قوله تعالى: " ألم نجعل الارض كفاتا أحياء وأمواتا - إلى قوله - فراتا " الكفت والكفات بمعنى الضم والجمع أي ألم نجعل الارض كفاتا يجمع العباد أحياء وأمواتا، وقيل: الكفات جمع كفت بمعنى الوعاء، والمعنى ألم نجعل الارض أوعية تجمع الاحياء والاموات. وقوله: " وجعلنا فيها رواسي شامخات " الرواسي الثابتات من الجبال، والشامخات العاليات، وكأن في ذكر الرواسي توطئة لقوله: " وأسقيناكم ماء فراتا " لان الانهار والعيون الطبيعية تنفجر من الجبال فتجري على السهول، والفرات الماء العذب. ويجري في حجية الآيات نظير البيان السابق في الآيات المتقدمة. قوله تعالى: " انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون " حكاية لما يقال لهم يوم الفصل والقائل هو الله سبحانه بقرينة قوله في آخر الآيات: " إن كان لكم كيد فكيدون " والمراد بما كانوا
________________________________________
[ 154 ]
به يكذبون: جهنم، والانطلاق الانتقال من مكان إلى مكان من غير مكث، والمعنى يقال لهم: انتقلوا من المحشر من غير مكث إلى النار التي كنتم تكذبون به. قوله تعالى: " انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب " ذكروا أن المراد بهذا الظل ظل دخان نار جهنم قال تعالى: " وظل من يحموم " الواقعة: 43. وذكروا أن في ذكر انشعابه إلى ثلاث شعب إشارة إلى عظم الدخان فان الدخان العظيم يتفرق تفرق الذوائب. قوله تعالى: " لا ظليل ولا يغني من اللهب " الظل الظليل هو المانع من الحر والاذى بستره على المستظل فكون الظل غير ظليل كونه لا يمنع ذلك، واللهب ما يعلو على النار من أحمر وأصفر وأخضر. قوله تعالى: " إنها ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر " ضمير " إنها " للنار المعلومة من السياق، والشرر ما يتطاير من النار، والقصر معروف، والجمالة جمع جمل وهو البعير. والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " الاشارة إلى يوم الفصل، والمراد بالاذن الاذن في النطق أو في الاعتذار. وقوله: " فيعتذرون " معطوف على " يؤذن " منتظم معه في سلك النفي، والمعنى هذا اليوم يوم لا ينطقون فيه أي أهل المحشر من الناس ولا يؤذن لهم في النطق أو في الاعتذار فلا يعتذرون، ولا ينافي نفي النطق ههنا اثباته في آيات أخر لان اليوم ذو مواقف كثيرة مختلفة يسألون في بعضها فينطقون ويختم على أفواههم في آخر فلا ينطقون. وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: " يوم يأت لا تكلم نفس الا بإذنه " هود: 105 فليراجع. قوله تعالى: " هذا يوم الفصل جمعناكم والاولين فإن كان لكم كيد فكيدون " سمي يوم الفصل لما أن الله تعالى يفصل ويميز فيه بين أهل الحق وأهل الباطل بالقضاء بينهم قال تعالى: " ان ربك هو يفصل بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " السجدة: 25، وقال: " ان ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " يونس: 93. والخطاب في قوله: " جمعناكم والاولين " لمكذبي هذه الامة بما أنهم من الآخرين ولذا قوبلوا بالاولين قال تعالى: " ذلك يوم مجموع له الناس " هود: 103 وقال " وحشرناهم
________________________________________
[ 155 ]
فلم نغادر منهم أحدا " الكهف: 67. وقوله: " فإن كان لكم كيد فكيدون " أي ان كانت لكم حيلة تحتالون بي في دفع عذابي عن أنفسكم فاحتالوا، وهذا خطاب تعجيزي منبئ عن انسلاب القوة والقدرة عنهم يومئذ بالكلية بظهور أن لا قوة الا لله عز اسمه قال تعالى: " ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا وأن الله شديد العذاب إذ تبرء الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب " البقرة: 166. والآية أعني قوله: " ان كان لكم كيد فكيدون " أوسع مدلولا من قوله: " يا معشر الجن والانس ان استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والارض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان " الرحمن: 33 لاختصاصه بنفي القدرة على الفرار بخلاف الآية التي نحن فيها وفي قوله: " فكيدون " التفات من التكلم مع الغير إلى التكلم وحده والنكتة فيه أن متعلق هذا الامر التعجيزي إنما هو الكيد لمن له القوة والقدرة فحسب وهو الله وحده ولو قيل: فكيدونا فات الاشعار بالتوحد. قوله تعالى: " إن المتقين في ظلال وعيون وفواكه مما يشتهون - إلى - قوله - المحسنين " الظلال والعيون ظلال الجنة وعيونها التي يتنعمون بالاستظلال بها وشربها، والفواكه جمع فاكهة وهي الثمرة. وقوله: " كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون " مفاده الاذن والاباحة، وكأن الاكل والشرب كناية عن مطلق التنعم بنعم الجنة والتصرف فيها وإن لم يكن بالاكل والشرب وهو شائع كما يطلق أكل المال على مطلق التصرف فيه. وقوله: " انا كذلك نجزي المحسنين " تسجيل لسعادتهم. قوله تعالى: " كلوا وتمتعوا قليلا إنكم مجرمون " الخطاب من قبيل قولهم: إفعل ما شئت فانه لا ينفعك، وهذا النوع من الامر إياس للمخاطب أن ينتفع بما يأتي به من الفعل للحصول على ما يريده، ومنه قوله: " فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " طه: 72، وقوله: " اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير " حم السجدة: 60. فقوله: " كلوا وتمتعوا قليلا " أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا إياس لهم من أن ينتفعوا بمثل الاكل والتمتع في دفع العذاب عن أنفسهم فليأكلوا وليتمتعوا قليلا فليس يدفع عنهم شيئا.
________________________________________
[ 156 ]
وإنما ذكر الاكل والتمتع لان منكري المعاد لا يرون من السعادة إلا سعادة الحياة الدنيا ولا يرون لها من السعادة إلا الفوز بالاكل والتمتع كالحيوان العجم قال تعالى: " والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوى لهم " سورة محمد: 12. وقوله: " إنكم مجرمون " تعليل لما يستفاد من الجملة السابقة المشتملة على الامر أي لا ينفعكم الاكل والتمتع قليلا لانكم مجرمون بتكذيبكم بيوم الفصل وجزاء المكذبين به النار لا محالة. قوله تعالى: " وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون " المراد بالركوع الصلاة كما قيل ولعل ذلك باعتبار اشتمالها على الركوع. وقيل: المراد بالركوع المأمور به الخشوع والخضوع والتواضع له تعالى باستجابة دعوته وقبول كلامه واتباع دينه، وعبادته. وقيل: المراد بالركوع ما يؤمرون بالسجود يوم القيامة كما يشير إليه قوله تعالى " ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون " القلم: 42 والوجهان لا يخلوان من بعد. ووجه اتصال الآية بما قبلها أن الكلام كان مسوقا لتهديد المكذبين بيوم الفصل وبيان تبعة تكذيبهم به وتمم ذلك في هذه الآية بأنهم لا يعبدون الله إذا دعوا إلى عبادته كما ينكرون ذلك اليوم فلا معنى للعبادة مع نفي الجزاء، وليكون كالتوطئة لقوله الآتي: " فبأي حديث بعده يؤمنون ". ونسب إلى الزمخشري أن الآية متصلة بقوله في الآية السابقة: " للمكذبين " كأنه قيل: ويل يومئذ للذين كذبوا والذين إذا قيل لهم اركعوا لا يركعون. وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: " وإذا قيل لهم " الخ وجهه الاعراض عن مخاطبتهم بعد تركهم وأنفسهم يفعلون ما يشاؤن بقوله: " كلوا وتمتعوا ". قوله تعالى: " فبأي حديث بعده يؤمنون " أي إذا لم يؤمنوا بالقرآن وهو آية معجزة إلهية، وقد بين لهم أن الله لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأن أمامهم يوم الفصل بأوضح البيان وساطع البرهان فبأي كلام بعد القرآن يؤمنون. وهذا إيئاس من إيمانهم بالله ورسوله واليوم الآخر وكالتنبيه على أن رفع اليد عن دعوتهم إلى الايمان بإلقاء قوله: " كلوا وتمتعوا " إليهم في محله فليسوا بمؤمنين ولا فائدة في دعوتهم غير أن فيها إتماما للحجة.
________________________________________
[ 157 ]
(بحث روائي) في تفسير القمي، وقوله: " ألم نخلقكم من ماء مهين " قال: منتن " فجعلناه في قرار مكين " قال: في الرحم وأما قوله: " إلى قدر معلوم " يقول: منتهى الاجل. أقول: وفي اصول الكافي في رواية عن أبي الحسن الماضي عليه السلام تطبيق قوله: " ألم نهلك الاولين " على مكذبي الرسل في طاعة الاوصياء، وقوله: " ثم نتبعهم الآخرين " على من أجرم إلى آل محمد عليهم السلام. وعلى اضطراب في متن الخبر، وهو من الجري دون التفسير. وفيه: وقوله " ألم نجعل الارض كفاتا أحياء وأمواتا " قال الكفات المساكن وقال: نظر أمير المؤمنين عليه السلام في رجوعه من صفين إلى المقابر فقال: هذه كفات الاموات أي مساكنهم ثم نظر إلى بيوت الكوفة فقال: هذه كفات الاحياء. ثم تلا قوله: " ألم نجعل الارض كفاتا أحياء وأمواتا ". أقول: وروى في المعاني بإسناده عن حماد عن أبي عبد الله عليه السلام أنه نظر إلى المقابر. وذكر مثل الحديث السابق. وفيه: وقوله " وجعلنا قيها رواسي شامخات " قال: جبال مرتفعة. وفيه: وقوله " انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب " قال فيه ثلاث شعب من النار وقوله: " إنها ترمي بشرر كالقصر " قال: شر النار مثل القصور والجبال. وفيه: وقوله " إن المتقين في ظلال وعيون " قال: في ظلال من نور أنور من الشمس. وفي المجمع في قوله: " وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون " قال مقاتل: نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة فقالوا: لا ننحني. والرواية لا نحني فإن ذلك سبة علينا. فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا خير في دين ليس فيه ركوع وسجود. أقول: وفي انطباق القصة - وقد وقعت بعد الهجرة - على الآية خفاء. وفي تفسير القمي في الآية السابقة قال: وإذا قيل لهم " تولوا الامام لم يتولوه ". أقول: وهو من الجرى دون التفسير.
________________________________________
[ 158 ]
(سورة النبأ مكية وهي أربعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم عم يتساءلون - 1. عن النبإ العظيم - 2. الذي هم فيه مختلفون - 3. كلا سيعلمون - 4. ثم كلا سيعلمون - 5. ألم نجعل الارض مهادا - 6. والجبال أوتادا - 7. وخلقناكم أزواجا - 8. وجعلنا نومكم سباتا - 9. وجعلنا الليل لباسا - 10. وجعلنا النهار معاشا - 11. وبنينا فوقكم سبعا شدادا - 12. وجعلنا سراجا وهاجا - 13. وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا - 14. لنخرج به حبا ونباتا - 15. وجنات ألفافا - 16. (بيان) تتضمن السورة الاخبار بمجئ يوم الفصل وصفته والاحتجاج على أنه حق لا ريب فيه، فقد افتتحت بذكر تساؤلهم عن نبإه ثم ذكر في سياق الجواب ولحن التهديد أنهم سيعلمون ثم احتج على ثبوته بالاشارة إلى النظام المشهود في الكون بما فيه من التدبير الحكيم الدال بأوضح الدلالة على أن وراء هذه النشأة المتغيرة الدائرة نشأة ثابتة باقية، وأن عقيب هذه الدار التي فيها عمل ولا جزاء دارا فيها جزاء ولا عمل فهناك يوم يفصح عنه هذا النظام. ثم تصف اليوم بما يقع فيه من إحضار الناس وحضورهم وانقلاب الطاغين إلى عذاب أليم والمتقين إلى نعيم مقيم ويختم الكلام بكلمة في الانذار، والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " عم يتساءلون " " عم " أصله عما وما استفهامية تحذف الالف منها
________________________________________
[ 159 ]
اطرادا إذا دخل عليها حرف الجر نحو لم ومم وعلى م وإلى م، والتساؤل سؤال القوم بعضهم بعضا عن أمر أو سؤال بعضهم بعد بعض عن أمر وإن كان المسؤول غيرهم، فهم كان يسأل بعضهم بعضا عن أمر أو كان بعضهم بعد بعض يسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أمر وحيث كان سياق السورة سياق جواب يغلب فيه الانذار والوعيد تأيد به أن المتسائلين هم كفار مكة من المشركين النافين للنبوة والمعاد دون المؤمنين ودون الكفار والمؤمنين جميعا. فالتساؤل من المشركين والاخبار عنه في صورة الاستفهام للاشعار بهوانه وحقارته لظهور الجواب عنه ظهورا ما كان ينبغي معه أن يتساءلوا عنه. قوله تعالى: " عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون " جواب عن الاستفهام السابق أي يتسائلون عن النبأ العظيم، ولا يخفى ما في توصيف النبأ المتسائل عنه بالعظيم من تعظيمه وتفخيم أمره. والمراد بالنبإ العظيم نبؤ البعث والقيامة الذي يهتم به القرآن العظيم في سوره المكية ولا سيما في العتائق النازلة في أوائل البعثة كل الاهتمام. ويؤيد ذلك سياق آيات السورة بما فيه من الاقتصار على ذكر صفه يوم الفصل وما تقدم عليها من الحجة على أنه حق واقع. وقيل: المراد به نبؤ القرآن العظيم، ويدفعه كون السياق بحسب مصبه أجنبيا عنه وإن كان الكلام لا يخلو من إشارة إليه استلزاما. وقيل: النبؤ العظيم ما كانوا يختلفون فيه من إثبات الصانع وصفاته والملائكة والرسل والبعث والجنة والنار وغيرها، وكأن القائل به اعتبر فيه ما في السورة من الاشارة إلى حقية جميع ذلك مما تتضمنه الدعوة الحقة الاسلامية. ويدفعه أن الاشارة إلى ذلك كله من لوازم صفة البعث المتضمنة لجزاء الاعتقاد الحق والعمل الصالح والكفر والاجرام، وقد دخل فيما في السورة من صفة يوم الفصل تبعا وبالقصد الثاني. على أن المراد بهؤلاء المتسائلين - كما تقدم - المشركون وهم يثبتون الصانع والملائكة وينفون ما وراء ذلك مما ذكر. وقوله: " الذي هم فيه مختلفون " إنما اختلفوا في نحو إنكاره وهم متفقون في نفيه
________________________________________
[ 160 ]
فمنهم من كان يرى استحالته فينكره كما هو ظاهر قولهم على ما حكاه الله: " هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لقي خلق جديد " سبأ: 7، ومنهم من كان يستبعده فينكره وهو قوله: " أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم نرابا وعظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون " المؤمنون: 36، ومنهم من كان يشك فيه فينكره قال تعالى: " بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها " النمل 66، ومنهم من كان يوقن به لكنه لا يؤمن عنادا فينكره كما كان لا يؤمن بالتوحيد والنبوة وسائر فروع الدين بعد تمام الحجة عنادا قال تعالى: " بل لجوا في عتو ونفور " الملك: 21. والمحصل من سياق الآيات الثلاث وما يتلوها أنهم لما سمعوا ما ينذرهم به القرآن من أمر البعث والجزاء يوم الفصل ثقل عليهم ذلك فغدوا يسأل بعضهم بعضا عن شأن هذا النبإ العجيب الذي لم يكن مما قرع أسماعهم حتى اليوم، وربما راجعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم والؤمنين وسألوهم عن صفة اليوم وأنه متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وربما كانوا يراجعون في بعض ما قرع سمعهم من حقائق القرآن واحتوته دعوته الجديدة أهل الكتاب وخاصة اليهود ويستمدونهم في فهمه. وقد أشار تعالى في هذه السورة إلى قصة تساؤلهم في صورة السؤل والجواب فقال: " عم يتساءلون " وهو سؤال عما يتساءلون عنه. ثم قال: " عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون " وهو جواب السؤال عما يتساءلون عنه. ثم قال: كلا سيعلمون " الخ، وهو جواب عن تساؤلهم. وللمفسرين في مفردات الآيات الثلاث وتقرير معانيها وجوه كثيرة تركناها لعدم ملاءمتها السياق والذي أوردناه هو الذي يعطيه السياق. قوله تعالى: " كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون " ردع عن تساؤلهم عنه بانين ذلك على الاختلاف في النفي أي ليرتدعوا عن التساؤل لانه سينكشف لهم الامر بوقوع هذا النبأ فيعلمونه، وفي هذا التعبير تهديد كما في قوله: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " الشعراء: 227. وقوله: " ثم كلا سيعلمون " تأكيد للردع والتهديد السابقين ولحن التهديد هو القرينة على أن المتسائلين هم المشركون النافون للبعث ولجزاء دون المؤمنين ودون المشركين والمؤمنين جميعا.
________________________________________
[ 161 ]
قوله تعالى: " ألم نجعل الارض مهادا " الآية إلى تمام إحدى عشرة آية مسوق سوق الاحتجاج على ثبوت البعث والجزاء وتحقق هذا النبإ العظيم ولازم ثبوته صحة ما في قوله: " سيعلمون " من الاخبار بأنهم سيشاهدونه فيعلمون. تقرير الحجة: أن العالم المشهود بأرضه وسمائه وليله ونهاره والبشر المتناسلين والنظام الجاري فيها والتدبير المتقن الدقيق لامورها من المحال أن يكون لعبا باطلا لا غاية لها ثابتة باقية فمن الضروري أن يستعقب هذا النظام المتحول المتغير الدائر إلى عالم ذي نظام ثابت باق، وأن يظهر فيه أثر الصلاح الذي تدعو إليه الفطرة الانسانية والفساد الذي ترتدع عنه، ولم يظهر في هذا العالم المشهود أعني سعادة المتقين وشقاء المفسدين، ومن المحال أن يودع الله الفطرة دعوة غريزية أو ردعا غريزيا بالنسبة إلى ما لا أثر له في الخارج ولا حظ له من الوقوع فهناك يوم يلقاه الانسان ويجزى فيه على عمله إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا. فالآيات في معنى قوله تعالى " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار " ص: 28. وبهذا البيان يثبت أن هناك يوما يلقاه الانسان ويجزى فيه بما عمل إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا فليس للمشركين أن يختلفوا فيه فيشك فيه بعضهم ويستبعده طائفة، ويحيله قوم، ولا يؤمن به مع العلم به عنادا آخرون، فاليوم ضروري الوقوع والجزاء لا ريب فيه. ويظهر من بعضهم أن الآيات مسوقة لاثبات القدرة وأن العود يماثل البدء والقادر على الابداء قادر على الاعادة، وهذه الحجة وإن كانت تامة وقد وقعت في كلامه تعالى لكنها حجة على الامكان دون الوقوع والسياق فيما نحن فيه سياق الوقوع دون الامكان فالانسب في تقريرها ما تقدم. وكيف كان فقوله: " ألم نجعل الارض مهادا " الاستفهام للانكار، والمهاد الوطاء والقرار الذي يتصرف فيه، ويطلق على البساط الذي يجلس عليه والمعنى قد جعلنا الارض قرارا لكم تستقرون عليها وتتصرفون فيها.
________________________________________
[ 162 ]
قوله تعالى: " والجبال أوتادا " الاوتاد جمع وتد وهو المسمار إلا أنه أغلظ منه كما في المجمع، ولعل عد الجبال أوتادا مبني على أن عمدة جبال الارض من عمل البركانات بشق الارض فتخرج منه مواد أرضية مذابة تنتصب على فم الشقة متراكمة كهيئة الوتد المنصوب على الارض تسكن به فورة البركان الذي تحته فيرتفع به ما في الارض من الاضطراب والميدان. وعن بعضهم: أن المراد بجعل الجبال أوتادا انتظام معاش أهل الارض بما أودع فيها من المنافع ولولاها لمادت الارض بهم أي لما تهيأت لانتفاعهم. وفيه أنه صرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة موجبة. قوله تعالى: " وخلقناكم أزواجا " أي زوجا زوجا من ذكر وأنثى لتجري بينكم سنة التناسل فيدوم بقاء النوع إلى ما شاء الله. وقيل: المراد به الاشكال أي كل منكم شكل للآخر. وقيل: المراد به الاصناف أي أصنافا مختلفة كالابيض والاسود والاحمر والاصفر إلى غير ذلك، وقيل: المراد به خلق كل منهم من منيين مني الرجل ومني المرأة، وهذه وجوه ضعيفة. قيل: الالتفات في الآية من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في الالزام والتبكيت. قوله تعالى: " وجعلنا نومكم سباتا " السبات الراحة والدعة فإن في المنام سكوتا وراحة للقوى الحيوانية البدنية مما اعتراها في اليقظة من التعب والكلال بواسطة تصرفات النفس فيها. وقيل: السبات بمعنى القطع وفي النوم قطع التصرفات النفسانية في البدن، وهو قريب من سابقه. وقيل: المراد بالسبات الموت، وقد عد سبحانه النوم من الموت حيث قال: " وهو الذي يتوفاكم بالليل " الانعام: 60 وهو بعيد، وأما الآية فإنه تعالى عد النوم توفيا ولم يعده موتا بل القرآن يصرح بخلافه قال تعالى: " الله يتوفى الانفس حين موتها والتي لم تمت في منامها " الزمر: 42. قوله تعالى: " وجعلنا الليل لباسا " أي ساترا يستر الاشياء بما فيه من الظلمة الساترة للمبصرات كما يستر اللباس البدن وهذا سبب إلهي يدعو إلى ترك التقلب والحركة والميل إلى السكن والدعة والرجوع إلى الاهل والمنزل.
________________________________________
[ 163 ]
وعن بعضهم: أن المراد بكون الليل لباسا كونه كاللباس للنهار يسهل إخراجه منه وهو كما ترى. قوله تعالى: " وجعلنا النهار معاشا " العيش هو الحياة - على ما ذكره الراغب - غير أن العيش يختص بحياة الحيوان فلا يقال: عيشه تعالى وعيش الملائكة ويقال حياته تعالى وحياة الملائكة، والمعاش مصدر ميمي واسم زمان واسم مكان، وهو في الآية بأحد المعنيين الاخيرين، والمعنى وجعلنا النهار زمانا لحياتكم أو موضعا لحياتكم تبتغون فيه من فضل ربكم، وقيل: المراد به المعنى المصدري بحذف مضاف، والتقدير وجعلنا النهار طلب معاش أي مبتغي معاش. قوله تعالى: " وبنينا فوقكم سبعا شدادا " أي سبع سماوات شديدة في بنائها. قوله تعالى: " وجعلنا سراجا وهاجا " الوهاج شديد النور والحرارة والمراد بالسراج الوهاج: الشمس. قوله تعالى: " وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا " المعصرات السحب الماطرة وقيل: الرياح التي تعصر السحب لتمطر والثجاج الكثير الصب للماء، والاولى على هذا المعنى أن تكون " من " بمعنى الباء. قوله تعالى: " لنخرج به حبا ونباتا " أي حبا ونباتا يقتات بهما الانسان وسائر الحيوان. قوله تعالى: " وجنات ألفافا " معطوف على قوله: " حبا " وجنات ألفاف أي ملتفة أشجارها بعضها ببعض. قيل: إن الالفاف جمع لا واحد له من لفظه. (بحث روائي) في بعض الاخبار أن النبأ العظيم علي عليه السلام وهو من البطن. عن الخصال عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله أسرع إليك الشيب. قال: شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون.
________________________________________
[ 164 ]
في تفسير القمي في قوله تعالى: " ألم نجعل الارض مهادا " قال: يمهد فيها الانسان " والجبال أوتادا " أي أوتاد الارض. وفي نهج البلاغة قال عليه السلام ووتد بالصخور ميدان أرضه. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وجعلنا الليل لباسا " قال: يلبس على النهار. أقول: ولعل المراد به أنه يخفي ما يظهره النهار ويستر ما يكشفه. وفيه في قوله تعالى: " وجعلنا سراجا وهاجا " قال: الشمس المضيئة " وأنزلنا من المعصرات " قال: من السحاب " ماء ثجاجا " قال: صبا على صب. وعن تفسير العياشي عن أبي عبد الله عليه السلام " عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون " بالياء يمطرون. ثم قال: أما سمعت قوله: " وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ". أقول: المراد أن " يعصرون " بضم الياء بصيغة المجهول والمراد به أنهم يمطرون واستشهاده عليه السلام بقوله: " وأنزلنا من المعصرات " دليل على أنه عليه السلام أخذ المعصرات بمعنى الممطرات من أعصرت السحابة إذا أمطرت. وروى العياشي مثل الحديث عن علي بن معمر عن أبيه عن أبي عبد الله عليه السلام وروى القمي في تفسيره مثله عن أمير المؤمنين عليه السلام. إن يوم الفصل كان ميقاتا - 17. يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا - 18. وفتحت السماء فكانت أبوابا - 19. وسيرت الجبال فكانت سرابا - 20. إن جهنم كانت مرصادا - 21. للطاغين مآبا - 22. لابثين فيها أحقابا - 23. لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا - 24. إلا حميما وغساقا - 25. جزاء وفاقا - 26. إنهم كانوا لا يرجون حسابا - 27. وكذبوا بآياتنا كذابا - 28. وكل شئ أحصيناه كتابا - 29.
________________________________________
[ 165 ]
فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا - 30. إن للمتقين مفازا - 31. حدائق وأعنابا - 32. وكواعب أترابا - 33. وكأسا دهاقا - 34. لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا - 35. جزاء من ربك عطاء حسابا - 36. رب السموات والارض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا - 37. يوم يقوم الروح والملئكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا - 38. ذلك اليوم الحق فمن شآء اتخذ إلى ربه مآبا - 39. إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا - 40. (بيان) تصف الآيات يوم الفصل الذي أخبر به إجمالا بقوله: " كلا سيعلمون " ثم تصف ما يجري فيه على الطاغين والمتقين، وتختتم بكلمة في الانذار وهي كالنتيجة. قوله تعالى: " إن يوم الفصل كان ميقاتا " قال في المجمع: الميقات منتهى المقدار المضروب لحدوث أمر من الامور وهو من الوقت كما أن الميعاد من الوعد والمقدار من القدر، انتهى. شروع في وصف ما تضمنه النبأ العظيم الذي أخبر بوقوعه وهددهم به في قوله: " كلا سيعلمون " ثم أقام الحجة عليه بقوله: " ألم نجعل الارض مهادا " الخ، وقد سماه يوم الفصل ونبه به على أنه يوم يفصل فيه القضاء بين الناس فينال كل طائفة ما يستحقه بعمله فهو ميقات وحد مضروب لفصل القضاء بينهم والتعبير بلفظ " كان " للدلالة على ثبوته وتعينه في العلم الالهي على ما ينطق به الحجة السابقة الذكر، ولذا أكد الجملة بإن.
________________________________________
[ 166 ]
والمعنى: إن يوم فصل القضاء الذي نبؤه نبأ عظيم كان في علم الله يوم خلق السماوات والارض وحكم فيها النظام الجاري حدا مضروبا ينتهي إليه هذا العالم فإنه تعالى كان يعلم أن هذه النشأة التي أنشأها لا تتم إلا بالانتهاء إلى يوم يفصل فيه القضاء بينهم. قوله تعالى: " يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا " قد تقدم الكلام في معنى نفخ الصور كرارا، والافواج جمع فوج وهي الجماعة المارة المسرعة على ما ذكره الراغب. وفي قوله: " فتأتون أفواجا " جري على الخطاب السابق الملتفت إليه قضاء لحق الوعيد الذي يتضمنه قوله: " كلا سيعلمون " وكان الآية ناظرة إلى قوله تعالى: " يوم ندعوا كل أناس بإمامهم " أسرى: 71. قوله تعالى: " وفتحت السماء فكانت أبوابا " فاتصل به عالم الانسان بعالم الملائكة. وقيل: التقدير فكانت ذات أبواب، وقيل: صار فيها طرق ولم يكن كذلك من قبل، ولا يخلو الوجهان من تحكم فليتدبر. قوله تعالى: " وسيرت الجبال فكانت سرابا " السراب هو الموهوم من الماء اللامع في المفاوز ويطلق على كل ما يتوهم ذا حقيقة ولا حقيقة له على طريق الاستعارة. ولعل المراد بالسراب في الآية هو المعنى الثاني. بيان ذلك: أن تسيير الجبال ودكها ينتهي بالطبع إلى تفرق أجزائها وزوال شكلها كما وقع في مواضع من كلامه تعالى عند وصف زلزلة الساعة وآثارها إذ قال: " وتسير الجبال سيرا " الطور: 10 وقال: " وحملت الارض والجبال فدكتا دكة واحدة " الحاقة: 14، وقال: " وكانت الجبال كثيبا مهيلا " المزمل 14، وقال: " وتكون الجبال كالعهن المنفوش " القارعة: 5، وقال: " وبست الجبال بسا " الواقعة: 5، وقال: " وإذا الجبال نسفت " المرسلات: 10. فتسيير الجبال ودكها ينتهي بها إلى بسها ونسفها وصيرورتها كثيبا مهيلا وكالعهن المنفوش كما ذكره الله تعالى وأما صيرورتها سرابا بمعنى ما يتوهم ماء لامعا فلا نسبة بين التسيير وبين السراب بهذا المعنى. نعم ينتهي تسييرها إلى انعدامها وبطلان كينونتها وحقيقتها بمعنى كونها جبلا فالجبال الراسيات التي كانت ترى حقائق ذوات كينونة قوية لا تحركه العواصف تتبدل بالتسيير
________________________________________
[ 167 ]
سرابا باطلا لا حقيقة له، ونظيره من كلامه تعالى قوله في أقوام أهلكهم وقطع دابرهم، " فجعلناهم أحاديث " سبأ: 19، وقوله: " فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث " المؤمنون: 44، وقوله في الاصنام " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " النجم: 23. فالآية بوجه كقوله تعالى " وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب " النمل: 88 - بناء على كونه ناظرا إلى صفة زلزلة الساعة -. قوله تعالى: " إن جهنم كانت مرصادا " قال في المفردات: الرصد الاستعداد للترقب - إلى أن قال - والمرصد موضع الرصد قال تعالى: " واقعدوا لهم كل مرصد " والمرصاد نحوه لكن يقال للمكان الذي اختص بالرصد قال تعالى: " إن جهنم كانت مرصادا " تنبيها على أن عليها مجاز الناس، وعلى هذا قوله تعالى: " وإن منكم إلا واردها ". انتهى. قوله تعالى: " للطاغين مآبا " الطاغون الملتبسون بالطغيان وهو الخروج عن الحد، والمآب اسم مكان من الاوب بمعنى الرجوع، والعناية في عدها مآبا للطاغين أنهم هيئوها مأوى لانفسهم وهم في الدنيا ثم إذا انقطعوا عن الدنيا آبوا ورجعوا إليها. قوله تعالى: " لابثين فيها أحقابا " الاحقاب الازمنة الكثيرة والدهور الطويلة من غير تحديد. وهو جمع اختلفوا في واحدة فقيل: واحده حقب بالضم فالسكون أو بضمتين، وقد وقع في قوله تعالى: " أو أمضى حقبا " الكهف: 60، وقيل: حقب بالفتح فالسكون وواحد الحقب حقبة بالكسر فالسكون قال الراغب: والحق أن الحقبة مدة من الزمان مبهمة. انتهى. وحد بعضهم الحقب بثمانين سنة أو ببضع وثمانين سنة وزاد آخرون أن السنة منها ثلاثمائة وستون يوما كل يوم يعدل ألف سنة، وعن بعضهم أن الحقب أربعون سنة وعن آخرين أنه سبعون ألف سنة إلى غير ذلك ولا دليل من الكتاب يدل على شئ من هذه التحديدات ولم يثبت من اللغة شئ منها. وظاهر الآية أن المراد يالطاغين المعاندون من الكفار ويؤيده قوله ذيلا: " إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا ".
________________________________________
[ 168 ]
وقد فسروا " أحقابا " في الآية بالحقب بعد الحقب فالمعنى حالكون الطاغين لابثين في جهنم حقبا بعد حقب بلا تحديد ولا نهاية فلا تنافي الآية ما نص عليه القرآن من خلود الكفار في النار. وقيل: إن قوله: " لا يذوقون فيها " الخ صفة " أحقابا " والمعنى لابثين فيها أحقابا هي على هذه الصفة وهي أنهم لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا، ثم يكونون على غير هذه الصفة إلى غير النهاية. وهو حسن لو ساعد السياق. قوله تعالى: " لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا " ظاهر المقابلة بين البرد والشراب أن المراد بالبرد مطلق ما يايتبرد به غير الشراب كالظل الذي يستراح إليه بالاستظلال فالمراد بالذوق مطلق النيل والمس. قوله تعالى: " إلا حميما وغساقا " الحميم الماء الحار شديد الحر، والغساق صديد أهل النار. قوله تعالى: " جزاء وفاقا - إلى قوله - كتابا " المصدر بمعنى اسم الفاعل والمعنى يجزون جزاء موافقا لما عملوا أو بتقدير مضاف أي جزاء ذا وفاق أو اطلاق الوفاق على الجزاء للمبالغة كزيد عدل. وقوله: " إنهم كانوا لا يرجون حسابا وكذبوا بآياتنا كذابا " أي تكذيبا عجبيا يصرون عليه، تعليل يوضح موافقة جزائهم لعملهم، وذلك أنهم لم يرجوا الجساب يوم الفصل فأيسوا من الحياة الآخرة وكذبوا بالآيات الدالة عليها فأنكروا التوحيد والنبوة وتعدوا في أعمالهم طور العبودية فنسوا الله تعالى فنسيهم وحرم عليهم سعادة الدار الآخرة فلم يبق لهم إلا الشقاء ولا يجدون فيها إلا ما يكرهون، ولا يواجهون إلا ما يتعذبون به وهو قوله: " فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ". وفي الآية أعني قوله: " جزاء وفاقا " دلالة على المطابقة التامة بين الجزاء والعمل فالانسان لا يريد بعمله إلا الجزاء الذي بإزائه والتلبس بالجزاء تلبس بالعمل بالحقيقة قال تعالى: " يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون " التحريم: 7. وقوله: " وكل شئ أحصيناه كتابا " أي كل شئ ومنه الاعمال ضبطناه وبيناه في
________________________________________
[ 169 ]
كتاب جليل القدر فالآية في معنى قوله تعالى: " وكل شئ أحصيناه في إمام مبين " يس: 12. أو المراد وكل شئ حفظناه حالكونه مكتوبا أي في اللوح المحفوظ أو في صحائف الاعمال، وجوز أن يكون الاحصاء بمعنى الكتابة أو الكتاب بمعنى الاحصاء فإن الاحصاء والكتابة بتشاركان في معنى الضبط والمعنى كل شئ أحصيناه إحصاء أو كل شئ كتبناه كتابا. والآية على أي حال متمم للتعليل السابق، والمعنى الجزاء وموافق لاعمالهم لانهم كانوا على حال كذا وكذا وقد حفظناها عليهم فجزيناهم بها جزاء وفاقا. قوله تعالى: " فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا " تفريع على ما تقدم من تفصيل عذابهم مسوق لايئاسهم من أن يرجوا نجاة من الشقوة وراحة ينالونها. والالتفات إلى خطابهم بقوله: " فذوقوا " تقدير لحضورهم ليخاطبوا بالتوبيخ والتقريع بلا واسطة. والمراد بقوله: " فلن نزيدكم إلا عذابا " أن ما تذوقونه بعد عذاب ذقتموه عذاب آخر فهو عذاب بعد عذاب وعذاب على عذاب فلا تزالون يضاف عذاب جديد إلى عذابكم القديم فاقنطوا من أن تنالوا شيئا مما تطلبون وتحبون. والآية لا تخلو من ظهور في كون المراد بقوله: " لابثين فيها أحقابا " الخلود دون الانقطاع. قوله تعالى: " إن للمتقين مفازا - إلى قوله - كذابا " الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة - على ما قاله الراغب ففيه معنى النجاة والتخلص من الشر والحصول على الخير، والمفاز مصدر ميمي أو اسم مكان من الفوز والآية تحتمل الوجهين جميعا. وقوله: " حدائق وأعنابا " الحدائق جمع حديقة وهي البستان المحوط، والاعناب جمع عنب وهو ثمر شجرة الكرم وربما يطلق على نفس الشجرة. وقوله: " وكواعب " جمع كاعب وهي الفتاة التي تكعب ثدياها واستدار مع ارتفاع يسير، والترائب جمع ترب وهي المماثلة لغيرها من اللذات. وقوله: " وكأسا دهاقا " أي ممتلئة شرابا مصدر بمعنى اسم الفاعل.
________________________________________
[ 170 ]
وقوله: " لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا " أي لا يسمعون في الجنة لغوا من القول لا يترتب عليه أثر مطلوب ولا تكذيبا من بعضهم لبعضهم فيما قال فقولهم حق له أثره المطلوب وصدق مطابق للواقع. قوله تعالى: " جزاء من ربك عطاء حسابا " أي فعل بالمتقين ما فعل حالكونه جزاء من ربك عطية محسوبة فقوله: " جزاء " حال وكذا " عطاء " و " حسابا " بمعنى اسم المفعول صفة لعطاء، ويحتمل أن يكون عطاء تمييزا أو مفعولا مطلقا. قيل: إضافة الجزاء إلى الرب مضافا إلى ضميره صلى الله عليه وآله وسلم تشريف له، ولم يضف جزاء الطاغين إليه تعالى تنزها منه تعالى فليس يغشاهم شر إلا من عند أنفسهم قال تعالى: " ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد " الانفال: 51. ووقوع لفظ الحساب في ذيل جزاء الطاغين والمتقين معا لتثبيت ما يلوح إليه يوم الفصل الواقع في أول الكلام. قوله تعالى: " رب السماوات والارض وما بينهما الرحمان " بيان لقوله: " ربك " أريد به أن ربوبيته تعالى عامة لكل شئ وأن الرب الذي يتخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربا ويدعو إليه رب كل شئ لا كما كان يقول المشركون: إن لكل طائفة من الموجودات ربا والله سبحانه رب الارباب أو كما كان يقول بعضهم: إنه رب السماء. وفي توصيف الرب بالرحمن - صيغة مبالغة من الرحمة - إشارة إلى سعة رحمته وأنها سمة ربوبية لا يحرم منها شئ إلا أن يمتنع منها شئ بنفسه لقصوره وسوء اختياره فمن شقوة هؤلاء الطاغين أنهم حرموها على أنفسهم بالخروج عن طور العبودية. قوله تعالى: " لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمان وقال صوابا " وقوع صدر الآية في سياق قوله: " رب السماوات والارض وما بينهما الرحمن " - وشأن الربوبية هو التدبير وشأن الرحمانية بسط الرحمة - دليل على أن المراد بخطابه تعالى تكليمه في بعض ما فعل من الفعل بنحو السؤال عن السبب الداعي إلى الفعل كأن يقال: لم فعلت هذا ؟ ولم لم تفعل كذا ؟ كما يسأل الفاعل منا عن فعله فتكون الجملة " لا يملكون منه خطابا " في معنى قوله تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " الانبياء: 23 وقد تقدم الكلام في معنى الآية.
________________________________________
[ 171 ]
لكن وقوع قوله: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " بعد قوله: " لا يملكون منه خطابا " الظاهر في اختصاص عدم الملك بيوم الفصل مضافا إلى وقوعه في سياق تفصيل جزاء الطاغين والمتقين منه تعالى يوم الفصل يعطي أن يكون المراد به أنهم لا يملكون أن يخاطبوه فيما يقضي ويفعل بهم باعتراض عليه أو شفاعة فيهم لكن الملائكة - وهم عن لا يملكون منه خطابا - منزهون عن وصمة الاعتراض عليه تعالى وقد قال فيهم: " عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " الانبياء: 27 وكذلك الروح الذي هو (1) كلمته وقوله، وقوله (1) حق، وهو تعالى (3) الحق المبين والحق لا يعارض الحق ولا يناقضه. ومن هنا يظهر أن المراد بالخطاب الذي لا يملكونه هو الشفاعة وما يجري مجراها من وسائل التخلص من الشر كالعدل والبيع والخلة والدعاء والسؤال قال تعالى: " من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " البقرة: 254، وقال: " ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة " البقرة: 123، وقال: " يوم يأت لاتكلم نفس إلا بإذنه " هود: 105. وبالجملة قوله: " لا يملكون منه خطابا " ضمير الفاعل في " لا يملكون " لجميع المجموعين ليوم الفصل من الملائكة والروح والانس والجن كما هو المناسب للسياق الحاكي عن ظهور العظمة والكبرياء دون خصوص الملائكة والروح لعدم سبق الذكر ودون خصوص الطاغين كما قيل لكثرة الفصل، والمراد بالخطاب الشفاعة وما يجري مجراها كما تقدم. وقوله: " يوم يقوم الروح والملائكة صفا " ظرف لقوله: " لا يملكون "، وقيل: لقوله: " لا يتكلمون " وهو بعيد مع صلاحية ظرفيته لما سبقه. والمراد بالروح المخلوق الامري الذي يشير إليه قوله تعالى: " قل الروح من أمر ربي " أسرى: 85. وقيل: المراد به اشراف الملائكة، وقيل حفظة الملائكة وقيل: ملك موكل على الارواح. ولا دليل على شئ من هذه الاقوال.
________________________________________
(1) النحل: 40. (2) الانعام: 73. (3) النور: 25.
________________________________________
[ 172 ]
وقيل: المراد به جبريل، وقيل: أرواح الناس وقيامها مع الملائكة صفا انما هو بين النفختين قبل أن تلج الاجساد، وقيل: القرآن والمراد من قيامه ظهور آثاره يومئذ من سعادة المؤمنين به وشقاوة الكافرين. ويدفعها أن هذه الثلاثة وإن أطلق على كل منها الروح في كلامه تعالى لكنه مع التقييد كقوله: " ونفخت فيه من روحي " الحجر: 29، وقوله: " نزل به الروح الامين " الشعراء: 193، وقوله: " قل نزله روح القدس " النحل: 102، وقوله: " فأرسلنا إليها روحنا " مريم: 17، وقوله: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " الشورى: 52 والروح في الآية التي نحن فيها مطلق، على أن في القولين الاخيرين تحكما ظاهرا. و " صفا " حال من الروح والملائكة وهو مصدر أريد به اسم الفاعل أي حالكونهم صافين، وربما استفيد من مقابة الروح للملائكة أن الروح وحده صف والملائكة جميعا صف. وقوله: " لا يتكلمون " بيان لقوله: " لا يملكون منه خطابا " وضمير الفاعل لاهل الجمع من الروح والملائكة والانس والجن على ما يفيده السياق. وقيل: الضمير للروح والملائكة، وقيل: للناس ووقوع " لا يملكون " بما مر من معناه و " لا يتكلمون " في سياق واحد لا يلائم شيئا من القولين. وقوله: " إلا من أذن له الرحمان " بدل من ضمير الفاعل في " لا يتكلمون " أريد به بيان من له أن يتكلم منهم يومئذ باذن الله فالجملة في معنى قوله: " يوم يأت لا تكلم نفس إلا باذنه " هود: 105 على ظاهر إطلاقه. وقوله: " وقال صوابا " أي قال قولا صوابا لا يشوبه خطأ وهو الحق الذي لا يداخله باطل، والجملة في الحقيقة قيد للاذن كأنه قيل: إلا من أذن له الرحمان ولا يأذن إلا لمن قال صوابا فالآية في معنى قوله تعالى: " ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون " الزخرف: 86. وقيل: " إلا من أذن " الخ استثناء ممن يتكلم فيه والمراد بالصواب التوحيد وقول لا إله إلا الله والمعنى لا يتكلمون في حق أحد إلا في حق شخص أذن له الرحمان وقال
________________________________________
[ 173 ]
ذلك الشخص في الدنيا صوابا أي أقر بالوحدانية وشهد أن لا إله إلا الله فالآية في معنى قوله تعالى: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " الانبياء: 28. ويدفعه أن العناية الكلامية في المقام متعلقة بنفي أصل الخطاب والتكلم يومئذ من كل متكلم لا بنفي التكلم في كل أحد مع تسليم جواز أصل التكلم فالمستثنون هم المتكلمون المأذون لهم في أصل التكلم من دون تعرض لمن يتكلم فيه. (كلام فيما هو الروح في القرآن) تكررت كلمة الروح - والمتبادر منه ما هو مبدء الحياة - في كلامه تعالى ولم يقصرها في الانسان أو في الانسان والحيوان فحسب بل أثبتها في غيرهما كما في قوله: " فأرسلنا إليها روحنا " مريم: 17، وقوله: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " الشورى: 52 إلى غير ذلك فللروح مصداق في الانسان ومصداق في غيره. والذي يصلح أن يكون معرفا لها في كلامه تعالى ما في قوله: " يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى " أسرى: 85 حيث أطلقها اطلاقا وذكر معرفا لها أنها من أمره وقد عرف أمره بقوله: " إنما امره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 83 فبين أنه كلمة الايجاد التي هي الوجود من حيث انتسابه إليه تعالى وقيامه به لا من حيث انتسابه إلى العلل والاسباب الظاهرية. وبهذه العناية عد المسيح عليه السلام كلمة له وروحا منه إذ قال: " وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه " النساء: 171 لما وهبه لمريم عليه السلام من غير الطرق العادية ويقرب منه في العناية قوله تعالى: " إن مثل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " آل عمران: 59. وهو تعالى وإن ذكرها في أغلب كلامه بالاضافة والتقيد كقوله: " ونفخت فيه من روحي " الحجر 29، وقوله: " ونفخ فيه من روحه " السجدة: 9، وقوله: " فأرسلنا إليها روحنا " مريم: 17، وقوله: " وروح منه " النساء: 171 وقوله: " وأيدناه بروح القدس " البقرة 87: إلى غير ذلك إلا أنه أوردها في بعض كلامه مطلقة من غير تقييد كقوله: " تنزل الملائكة والروح فيها باذن ربهم من كل أمر " القدر:
________________________________________
[ 174 ]
4 وظاهر الآية أنها موجود مستقل وخلق سماوي غير الملائكة، ونظير الآية بوجه قوله تعالى: " تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة " المعارج: 4. وأما الروح المتعلقة بالانسان فقد عبر عنها بمثل قوله: " ونفخت فيه من روحي " " ونفخ فيه من روحه " وأتى بكلمة " من " الدالة على المبدئية وسماه نفخا وعبر عن الروح التي خصها بالمؤمنين بمثل قوله: " وأيدهم بروح منه " المجادلة: 22 فأتى بالباء الدالة على السببية وسماه تأييدا وتقوية، وعبر عن الروح التي خصها بالانبياء بمثل قوله: " وأيدناه بروح القدس " البقرة: 87 فأضاف الروح إلى القدس وهو النزاهة والطهارة وسماه أيضا تأييدا. وبانضمام هذه الآيات إلى مثل آية سورة القدر يظهر أن نسبة الروح المضافة التي في هذه الآيات إلى الروح المطلقة المذكورة في سورة القدر نسبة الافاضة إلى المفيض والظل إلى ذي الظل بإذن الله. وكذلك الروح المتعلقة بالملائكة من إفاضات الروح بإذن الله، وإنما لم يعبر في روح الملك بالنفخ والتأييد كالانسان بل سماه روحا كما في قوله تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا " وقوله: " قل نزله روح القدس " النحل: 102، وقوله: " نزل به الروح الامين " الشعراء: 193 لان الملائكة أرواح محضة على اختلاف مراتبهم في القرب والبعد من ربهم، وما يترآى من الاجسام لهم تمثلات كما يشير إليه قوله تعالى: " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا " مريم: 17 وقد تقدم الكلام في معنى التمثل في ذيل الآية بخلاف الانسان المخلوق مؤلفا من جسم ميت وروح حية فيناسبه التعبير بالنفخ كما في قوله " فإذا سويته ونفخت فيه من روحي " الحجر: 29. وكما أوجب اختلاف الروح في خلق الملك والانسان اختلاف التعبير بالنفخ وعدمه كذلك اختلاف الروح من حيث أثرها وهو الحياة شرفا وخسة أوجب اختلاف التعبير بالنفخ والتأييد وعد الروح ذات مراتب مختلفة باختلاف أثر الحياة. فمن الروح الروح المنفوخة في الانسان قال: " ونفخت فيه من روحي ". ومن الروح الروح المؤيد بها المؤمن قال: " أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه " المجادلة: 22 وهي أشرف وجودا وأعلى مرتبة وأقوى أثرا من الروح
________________________________________
[ 175 ]
الانسانية العامة كما يفيده قوله تعالى وهو في معنى هذه الآية: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام: 122 فقد عد المؤمن حيا ذا نور يمشي به وهو أثر الروح والكافر ميتا وهو ذو روح منفوخة فللمؤمن روح ليست للكافر دات أثر ليس فيه. ومن ذلك يظهر أن من مراتب الروح ما هو في الئبات لما فيه من أثر الحياة يدل على ذلك الآيات المتضمنة لاحياء الارض بعد موتها. ومن الروح الروح المؤيد بها الانبياء قال: " وأيدناه بروح القدس " البقرة 87 وسياق الآيات يدل على كون هذه الروح أشرف وأعلى مرتبة من غيرها مما في الانسان. وأما قوله: " يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق " المؤمن: 15، وقوله: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا " الشورى 52 فيقبل الانطباق على روح الايمان وعلى روح القدس والله أعلم. وقد تقدم بعض ما ينفع من الكلام في المقام في ذيل هذه الآيات الكريمة. قوله تعالى: " ذلك اليوم الحق " إشارة إلى يوم الفصل المذكور في السورة الموصوف بما مر من الاوصاف وهو في الحقيقة خاتمة الكلام المنعطفة إلى فاتحة السورة وما بعده أعني قوله: " فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا " الخ فضل تفريع على البيان السابق. والاشارة إليه بالاشارة البعيدة للدلالة على فخامة أمره والمراد بكونه حقا ثبوته حتما مقضيا لا يتخلف عن الوقوع. قوله تعالى: " فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا " أي مرجعا إلى ربه ينال به ثواب المتقين وينجو به من عذاب الطاغين، والجملة كما أشرنا إليه تفريع على ما تقدم من الاخبار بيوم الفصل والاحتجاج عليه ووصفه، والمعنى إذا كان كذلك فمن شاء الرجوع إلى ربه فليرجع. قوله تعالى: " إنا أنذرناكم عذابا قريبا " الخ المراد به عذاب الآخرة، وكونه قريبا لكونه حقا لا ريب في إتيانه وكل ما هو آت قريب. على أن الاعمال التي سيجزى بها الانسان هي معه أقرب ما يكون منه. وقوله: " يوم ينظر المرء ما قدمت يداه " أي ينتظر المرء جزاء أعماله التي قدمتها يداه بالاكتساب، وقيل: المعنى ينظر المرء إلى ما قدمت يداه من الاعمال لحضورها عنده قال


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page