• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 351 الي 375


[ 351 ]
قوله تعالى: " ثم ارجع البصر كرتين ينقلب اليك البصر خاسئا وهو خسير " الخاسئ من خسأ البصر إذا انقبض عن مهانة كما قال الراغب، وقال أيضا: الخاسر المعيا لا نكشاف قواه، ويقال للمعيا: حاسر ومحسور: أما الحاسر فتصور أنه بنفسه قد حسر قوته، وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره، وقوله عز وجل: " ينقلب اليك البصر خاسئا وهو حسير " يصح أن يكون بمعنى حاسر وأن يكون بمعنى محسور. انتهى. وقوله: " كرتين " الكرة الرجعة والمراد بالتثنية التكثير والتكرير، والمعنى: ثم ارجع البصر رجعة أي رجعات كثيرة ينقلب اليك البصر منقبضة مهينة والحال أنه كليل معينا لم يجد فطورا. فقد أشير في الآيتين إلى أن النظام الجاري في الكون نظام واحد متصل الاجزاء مرتبط الابعاض. قوله تعالى: " ولقد زينا السماء الدينا بمصابيح " إلى آخر الآية، المصابيح جمع مصباح وهو السراج سمي الكواكب مصابيح لانارتها وإضاءتها وقد كلام في ذلك في تفسير سورة حم السجدة. وقوله: " وجعلناها رجوما للشياطين " أي وجعلنا الكواكب التي زينا بها السماء رجوما يرجم بها من استرق السمع من الشياطين كما قال تعالى: " إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين " الحجر: 18، وقال: " إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب " الصافات: 10. قيل: إن الجملة دليل أن المراد بالكواكب المزينة بها السماء مجموع الكواكب الاصلية والشهب السماوية فإن الكواكب الاصلية لا تزول عن مستقرها والكواكب والنجم يطلقان على الشهب كما يطلقان على الاجرام الاصلية. وقيل: تنفصل من الكواكب شهب تكون رجوما للشياطين أما الكواكب أنفسها فليست تزول إلا أن يريد الله إفناءها. وهذا الوجة أوفق للانظار العلمية الحاضرة، وقد تقدم بعض الكلام في معنى رمي الشياطين بالشهب. وقوله: " وأعتدنا لهم عذاب السعير " أي وهيأنا للشياطين وهم أشرار الجن عذاب النار المسعرة المشتعلة.
________________________________________
[ 352 ]
قوله تعالى: " وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير " لما أورد بعض آيات ربوبيته تعالى عقبها بالوعيد على من كفر بربوبيته على ما هو شأن هذه السورة من تداخل الحجج والوعيد والانذار. والمراد بالذين كفروا بربوبيته أعم من الوثنيين النافين لربوبيته لغير أربابهم القائلين بأنه تعالى رب الارباب فقط، والنافين لها مطلقا والمثبتين لربوبيته مع التفريق بينه وبين رسله كاليهود والنصارى حيث آمنوا ببعض رسله وكفروا ببعض. والآية مع ذلك متصلة بقوله: " الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور " لما فيها من الاشارة إلى البعث والجزاء متصلة بما قبلها كالتعميم بعد التخصيص. قوله تعالى: " إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ " قال الراغب: الشهيق طول الزفير وهو رد النفس والزفير مده انتهى، والفوران كما في المجمع ارتفاع الغليان، والتميز: التقطع والتفرق، والغيظ: شدة الغضب، والمعنى: إذا طرح الكفار في جهنم سمعوا لها شهيقا - أي تجذبهم إلى داخلها كما يجذب الهواء بالشهيق إلى داخل الصدر - وهي تغلي بهم فترفعهم وتخفضهم تكاد تتلاشى من شدة الغضب. قوله تعالى: " كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير " لفوج - كما قاله الراغب - الجماعة المارة المسرعة، وفي قوله: " كلما ألقي فيها فوج " إشارة إلى أن الكفار يلقون في النار جماعة جماعة كما يشير إليه قوله: " وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا " الزمر: 71، وإنما يلقون كذلك بلحوق التابعين لمتبوعيهم في الضلال كما قال تعالى: " ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم " الانفال: 37، وقد تقدم بعض توضيحه في ذيل الآية من سورة الانفال. والخزنة جمع خازن وهو الحافظ على الشئ المدخر والمراد بهم الملائكة الموكلون على النار المدبرون لانواع عذابها قال تعالى: " عليها ملائكة غلاظ شداد " التحريم: 6، وقال: " وما أدراك ما سقر - إلى أن قال - عليها تسعة عشر وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة " المدثر: 31. والمعنى: كلما طرح في جهنم جماعة من جماعات الكفار المسوقين إليها سألهم الملائكة الموكلون على النار الحافظون لها - توبيخا - ألم يأتكم نذير ؟ وهو النبي المنذر.
________________________________________
[ 353 ]
قوله تعالى: " قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا " إلى آخر الآية حكاية جوابهم لسؤال الخزنة، وفيه تصديق أنهم قد جاءهم نذير فنسبوه إلى الكذب واعتراف. وقوله: " ما نزل الله من شئ " بيان لتكذيبهم، وكذا قوله: " إن أنتم إلا في ضلال كبير " وقيل: قوله: " إن أنتم " الخ، كلام الملائكة يخاطبون به الكفار بعد جوابهم عن سؤالهم بما أجابوا، وهو بعيد من السياق، وكذا احتمال كونه من كلام الرسل الذين كذبوهم تحكيه الملائكة لاولئك الكفار. قوله تعالى: " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " يطلق السمع ويراد به إدراك الصوت والقول بالجارحة وربما يراد به ما هو الغاية منه عند العقلاء وهو الالتزام بمقتضاه من الفعل والترك، ويطلق العقل على تمييز الخير من الشر والنافع من الضار، وربما يراد به ما هو الغاية منه وهو الالتزام بمقتضاه من طلب الخير والنافع واجتناب الشر والضر، قال تعالى: " لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالانعام بل هم أضل " الاعراف: 179. وأكثر ما ينتفع بالسمع عامة الناس لقصورهم عن تعقل دقائق الامور وإدراك حقيقتها والاهتداء إلى مصالحها ومفاسدها وإنما ينتفع بالعقل الخاصة. فقوله: " لو كنا نسمع أو نعقل " أريد بالسمع استجابة دعوة الرسل والالتزام بمقتضى قولهم وهم النصحاء الامناء، وبالعقل الالتزام بمقتضى ما يدعون إليه من الحق بتعقله والاهتداء العقلي إلى أنه حق ومن الواجب أن يخضع الانسان للحق. وإنما قدم السمع على العقل لان استعماله من شأن عامة الناس وهم الاكثرون والعقل شأن الخاصة وهم آحاد قليلون. والمعنى: لو كنا في الدنيا نطيع الرسل في نصائحهم ومواعظهم أو عقلنا حجة الحق ما كنا اليوم في أصحاب السعير وهم مصاحبو النار المخلدون فيها. وقيل: إنما جمع بين السمع والعقل لان مدار التكليف على أدلة السمع والعقل. قوله تعالى: " فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير " كانوا إنما قالوا: " لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " ندامة على ما فرطوا في جنب الله وفوتوا على
________________________________________
[ 354 ]
أنفسهم من الخير فاعترفوا بأن ما أتوا به كان تبعته دخول النار وكان عليهم أن لا يأتوا به، وهذا هو الذنب فقد اعترفوا بذنبهم. وإنما أفرد الذنب بناء على إرادة معنى المصدر منه وهو في الاصل مصدر. وقوله: " فسحقا لاصحاب السعير " السحق تفتيت الشئ كما ذكره الراغب وهو دعاء عليهم. قوله تعالى: " إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير " لما ذكر حال الكفار وما يجازون به على كفرهم قابله بحال المؤمنين بالغيب لتمام التقسيم وذكر من وصفهم الخشية لان المقام مقام الانذار والوعيد. وعد خشيتهم خشية بالغيب لكون ما آمنوا به محجوبا عنهم تحت حجب الغيب. قوله تعالى: " وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور " رفع شبهة يمكن أن تختلج في قلوبهم مبنية على الاستبعاد وذلك أنه تعالى ساق الكلام في بيان ربوبيته لكل شئ المستتبعة للبعث والجزاء وذكر ملكه وقدرته المطلقين وخلقه وتدبيره ولم يذكر علمه المحيط بهم وبأحوالهم وأعمالهم وهو مما لا يتم البعث والجزاء بدونه. وكان من الممكن أن يتوهموا أن الاعمال على كثرتها الخارجة عن الاحصاء لا يتأتى ضبطها وخاصة ما تكنه الصدور منها فإن الانسان يقيس الاشياء بنفسه ويزنها بزنة نفسه وهو غير قادر على إحصاء جزئيات الاعمال التي هي حركات مختلفة متقضية وخاصة أعمال القلوب المستكنة في زواياها. فدفعه بأن إظهار القول وإخفاءه سواء بالنسبة إليه تعالى فإنه عليم بذات الصدور، والسياق يشهد أن المراد استواء خفايا الاعمال وجلاياها بالنسبة إليه، وإنما ذكر إسرار القول وجهره من حيث ظهور معنى الخفاء والظهور فيه بالجهر والاسرار. قوله تعالى: " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير " استفهام إنكاري مأخوذ حجة على علمه تعالى بأعمال الخلق ظاهرها وباطنها وسرها وجهرها وذلك أن أعمال الخلق - ومن جملتها أعمال الانسان الاختيارية - وإن نسبت إلى فواعلها لكن الله سبحانه هو الذي يريدها ويوجدها من طريق اختيار الانسان واقتضاء سائر الاسباب فهو الخالق لاعيان الاشياء والمقدر لها آثارها كيفما كانت والرابط بينها وبين آثارها الموصل لها إلى آثارها، قال تعالى: " الله خالق كل شئ وهو على كل شئ وكيل " الزمر: 62، وقال:
________________________________________
[ 355 ]
الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى " الاعلى: 3، فهو سبحانه محيط بعين من خلقه وأثره ومن أثره أعماله الظاهرة والباطنة وما أسره وما جهر به وكيف يحيط به ولا يعلمه. وفي الآية إشارة إلى أن أحوال الاشياء وأعمالها غير خارجة عن خلقها لانه تعالى استدل بعلمه بمن خلق على علمه بخصوصيات أحواله وأعماله ولولا كون الاحوال والاعمال غير خارجة عن وجود موضوعاتها لم يتم الاستدلال. على أن الاحوال والاعمال من مقتضيات موضوعاتها والذي ينتسب إليه وجود الشئ ينتسب إليه آثار وجوده. وقوله: " وهو اللطيف الخبير " أي النافذ في بواطن الاشياء المطلع على جزئيات وجودها وآثارها، والجملة حالية تعلل ما قبلها والاسمان الكريمان من الاسماء الحسنى ذيلت بهما الآية لتأكيد مضمونها. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: " ليبلوكم أيكم أحسن عملا " قال: ليس يعني أكثركم عملا ولكن أصوبكم عملا، وإنما الاصابة خشية الله والنية الصادقة والخشية. ثم قال: الابقاء على العمل حتى يخلص أشد من العمل. ألا والعمل الخالص الذي لا تريد أن يحمدك عليه أحد إلا الله، والنية أفضل من العمل ألا وإن النية هي العمل. ثم تلا قوله: " قل كل يعمل على شاكلته " يعني على نيتة. وفي المجمع قال أبو قتادة: سألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قوله تعالى: " أيكم أحسن عملا " ما عنى به ؟ فقال: يقول: أيكم أحسن عقلا. ثم قال: أتمكم عقلا وأشدكم لله خوفا، وأحسنكم فيما أمر الله به ونهى عنه نظرا وإن كان أقلكم تطوعا. وفيه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: أنه تلا قوله تعالى: " تبارك الذي بيده الملك - إلى قوله - أيكم أحسن عملا " ثم قال: أيكم أحسن عقلا، وأورع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " الذي خلق سبع سماوات طباقا " قال: بعضها طبق لبعض.
________________________________________
[ 356 ]
وفيه في قوله تعالى: " من تفاوت " قال: من فساد. وفيه في قوله تعالى: " ثم ارجع البصر " قال: انظر في ملكوت السماوات والارض. وفيه في قوله تعالى: " بمصابيح " قال: بالنجوم. وفيه في قوله تعالى: " سمعوا لها شهيقا " قال: وقعا. وفيه في قوله تعالى: " تكاد تميز من الغيظ " قال: على أعداء الله. وفيه في قوله تعالى: " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير " قال: قد سمعوا وعقلوا ولكنهم لم يطيعوا ولم يقبلوا، والدليل على أنهم قد سمعوا وعقلوا ولم يقبلوا، قوله: " فاعترفوا بذنبهم فسحقا لاصحاب السعير ". أقول: يعني عليه السلام أنه يدل على أن المراد من عدم السمع والعقل عدم الاطاعة والقبول بعد السمع والعقل أنه تعالى سمى قولهم ذلك اعترافا بالذنب، ولا يعد فعل ذنبا من فاعله إلا بعد العلم بجهة مساءته بسمع أو عقل. هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور _ 15. ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الارض فإذا هي تمور _ 16. أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير _ 17. ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير _ 18. أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شئ بصير _ 19. أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور _ 20. أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل
________________________________________
[ 357 ]
لجوا في عتو ونفور _ 21. أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم _ 22. (بيان) في الآيات كرة بعد كرة بآيات التدبير الدالة على ربوبيته تعالى مقرونة بالانذار والتخويف أعنى قوله: " هو الذي جعل لكم الارض ذلولا " الآية، وقوله: " أولم يروا إلى الطير " الآية بعد قوله: " الذي خلق الموت والحياة " الآية، وقوله: " الذي خلق سبع سماوات " الآية، وقوله: " ولقد زينا " الآية. قوله تعالى: " هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور " الذلول من المراكب ما يسهل ركوبه من غير أن يضطرب ويجمح والمناكب جمع منكب وهو مجتمع ما بين العضد والكتف واستعير لسطح الارض، قال الراغب: واستعارته للارض كاستعارة الظهر لها في قوله: " ما ترك على ظهرها من دابة " وتسمية الارض ذلولا وجعل ظهورها مناكب لها يستقر عليها ويمشي فيها باعتبار انقيادها لانواع التصرفات الانسانية من غير امتناع، وقد وجه كونها ذلولا ذا مناكب بوجوه مختلفة تؤل جميعها إلى ما ذكرنا. والامر في قوله: " وكلوا من رزقه " للاباحة والنشور والنشر إحياء الميت بعد موته وأصله من نشر الصحيفة والثوب إذا بسطهما بعد طيهما. والمعنى: هو الذي جعل الارض مطاوعة منقادة لكم يمكنكم أن تستقروا على ظهورها وتمشوا فيها تأكلون من رزقه الذي قدره لكم بأنواع الطلب والتصرف فيها. وقوله: " وإليه النشور " أي ويرجع إليه نشر الاموات بإخراجهم من الارض وإحيائهم للحساب والجزاء، واختصاص رجوع النشر به كناية عن اختصاص الحكم بالنشور به والاحياء يوم القيامة فهو ربكم المدبر لامر حياتكم الدنيا بالاقرار على الارض والهداية إلى مآرب الحياة، وله الحكم بالنشور للحساب والجزاء. وفي عد الارض ذلولا والبشر على مناكبها تلويح ظاهر إلى ما أدت إليه الابحاث العلمية
________________________________________
[ 358 ]
أخيرا من كون الارض كرة سيارة. قوله تعالى: " ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الارض فإذا هي تمور " إنذار وتخويف بعد إقامة الحجة وتوبيخ على مساهلتهم في أمر الربوبية وإهمالهم أمر الشكر على نعم ربهم بالخضوع لربوبيته ورفض ما اختلقوه من الانداد. والمراد بمن في السماء الملائكة المقيمون فيها الموكلون على حوادث الكون وإرجاع ضمير الافراد إلى " من " باعتبار لفظه وخسف الارض بقوم كذا شقها وتغييبهم في بطنها والمور على ما في المجمع التردد في الذهاب والمجئ مثل الموج. والمعنى: ءأمنتم في كفركم بربوبيته تعالى الملائكة المقيمين في السماء الموكلين بامور العالم أن يشقوا الارض ويغيبوكم فيها بأمر الله فإذا الارض تضطرب ذهابا ومجيئا بزلزالها. وقيل: المراد بمن في السماء هو الله سبحانه والمراد بكونه في السماء كون سلطانه وتدبيره وأمره فيها لاستحالة أن يكون تعالى في مكان أو جهة أو محاطا بعالم من العوالم، وهذا المعنى وإن كان لا بأس به لكنه خلاف الظاهر. قوله تعالى: " أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير " الحاصب الريح التي تأتي بالحصاة والحجارة، والمعنى: ءأمنتم من في السماء أن يرسل عليكم ريحا ذات حصاة وحجارة كما أرسلها على قوم لوط قال تعالى: " إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط " القمر: 34. وقوله: " فستعلمون كيف نذير " النذير مصدر بمعنى الانذار والجملة متفرعة على ما يفهم من سابق الكلام من كفرهم بربوبيته تعالى وأمنهم من عذابه والمعنى ظاهر. وقيل: النذير صفة بمعنى المنذر والمراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو سخيف. قوله تعالى: " ولقد كذب الذين من قبلهم فكيف كان نكير " المراد بالنكير العقوبة وتغيير النعمة أو الانكار، والآية كالشاهد يستشهد به على صدق ما في قوله: " فستعلمون كيف نذير " من الوعيد والتهديد. والمعنى: ولقد كذب الذين من قبلهم من الامم الهالكة رسلي وجحدوا بربوبيتي فكيف كان عقوبتي وتغييري النعمة عليهم أو كيف كان إنكاري ذلك عليهم حيث أهلكتهم واستأصلتهم. وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: " من قبلهم " إشعارا بسقوطهم
________________________________________
[ 359 ]
- لجهالتهم وإهمالهم في التدبر في آيات الربوبية وعدم مخافتهم من سخط ربهم - عن تشريف الخطاب فأعرض عن مخاطبتهم فيما يلقى إليهم من المعارف إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم. قوله تعالى: " أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمان إنه بكل شئ بصير " المراد بكون الطير فوقهم طيرانه في الهواء، وصفيف الطير بسطه جناحه حال الطيران وقبضه قبض جناحه حاله، والجمع في " صافات ويقبضن " لكون المراد بالطير استغراق الجنس. وقوله: " ما يمسكهن إلا الرحمان " كالجواب لسؤال مقدر كأن سائلا يسأل فيقول: ما هو المراد بإلفات نظرهم إلى صفيف الطير وقبضه فوقهم ؟ فاجيب بقوله: " ما يمسكهن إلا الرحمان ". وقرار الطير حال الطيران في الهواء من غير سقوط وإن كان مستندا إلى أسباب طبيعية كقرار الانسان على بسيط الارض والسمك في الماء وسائر الامور الطبيعية المستندة إلى علل طبيعية تنتهي إليه تعالى لكن لما كان بعض الحوادث غير ظاهر السبب للانسان في بادي النظر سهل له إذا نظر إليه أن ينتقل إلى أن الله سبحانه هو السبب الاعلى الذي ينتهي إليه حدوثه ووجوده، ولذا نبههم الله سبحانه في كلامه بإرجاع نظرهم إليها ودلالتهم على وحدانيته في الربوبية. وقد ورد في كلامه تعالى شئ كثير من هذا القبيل كامساك السماوات بغير عمد وإمساك الارض وحفظ السفن على الماء واختلاف الاثمار والالوان والالسنة وغيرها مما كان سببه الطبيعي القريب خفيا في الجملة يسهل للذهن الساذج الانتقال إلى استناده إليه تعالى ثم إذا تنبه لوجود أسبابه القريبة بنوع من المجاهدة الفكرية وجد الحاجة بعينها في أسبابه حتى تنتهي إليه تعالى وأن إلى ربك المنتهى. قال في الكشاف: " فإن قلت: لم قيل: ويقبضن ولم يقل: وقابضات ؟ قلت: لان الاصل في الطيران هو صف الاجنحة لان الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والاصل في السباحة هو مد الاطراف وبسطها وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فجئ بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة كما يكون من السابح. انتهى. وهو مبني على أن تكون الآية هي مجموع قوله: " صافات ويقبضن " وهو الطيران،
________________________________________
[ 360 ]
ويمكن أن يستفاد أن الآية عدم سقوطهن وهن صافات، وآية أخرى أنهن ربما يقبضن ولا يسقطن حينما يقبضن. ولا يخفى ما في ذكر طيران الطير في الهواء بعد ذكر جعل الارض ذلولا والانسان على مناكبها من اللطف. قوله تعالى: " أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمان إن الكافرون إلا في غرور " توبيخ وتقريع لهم في اتخاذهم آلهة من دون الله لينصروهم ولذا التفت عن الغيبة إلى الخطاب فخاطبهم ليشتد عليهم التقريع. وقوله: " أمن هذا الذي " الخ، معناه بل من الذي يشار إليه فيقال: هذا جند لكم ينصركم من دون الرحمان إن أرادكم بسوء أو عذاب ؟ فليس دون الله من ينصركم عليه، وفيه إشارة إلى خطأهم في اتخاذ بعض خلق الله آلهة لينصروهم في النوائب وهم مملوكون لله لا يملكون لانفسهم نفعا وضرا ولا لغيرهم. وإذ لم يكن لهم جواب أجاب تعالى بقوله: " إن الكافرون إلا في غرور " أي أحاط بهم الغرور وغشيهم فخيل إليهم ما يدعون من ألوهية آلهتهم. قوله تعالى: " أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور " أي بل من الذي يشار إليه بأن هذا هو الذي يرزقكم إن أمسك الله رزقه فينوب مقامه فيرزقكم ؟ ثم أجاب سبحانه بقوله: " بل لجوا في عتو ونفور " أي إن الحق قد تبين لهم لكنهم لا يخضعون للحق بتصديقه ثم اتباعه بل تمادوا في ابتعادهم من الحق ونفورهم منه، ولجوا في ذلك. قوله تعالى: " أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم " إكباب الشئ على وجهه إسقاطه عليه، وقال في الكشاف: معنى أكب دخل في الكب وصار ذا كب. استفهام إنكاري عن استواء الحالين تعريضا لهم بعد ضرب حجاب الغيبة عليهم وتحريمهم من تشريف الحضور والخطاب بعد استقرار اللجاج فيهم، والمراد أنهم بلجاجهم في عتو عجيب ونفور من الحق كمن يسلك سبيلا وهو مكب على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع وانخفاض ومزالق ومعاثر فليس هذا السائر كمن يمشي سويا على صراط مستقيم فيرى موضع قدمه وما يواجهه من الطريق على استقامة، وما يقصده من الغاية
________________________________________
[ 361 ]
وهؤلاء الكفار سائرون سبيل الحياة وهم يعاندون الحق على علم به فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه والعمل بما عليهم أن يعملوا به ولا يخضعون للحق حتى يكونوا على بصيرة من الامر ويسلكوا سبيل الحياة وهم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك. وقد ظهر أن ما في الآية مثل عام يمثل حال الكافر الجاهل اللجوج المتمادي على جهله والمؤمن المستبصر الباحث عن الحق. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن سعد عن أبي جعفر عليه السلام قال: القلب أربعة: قلب فيه نفاق وإيمان، وقلب منكوس، وقلب مطبوع، وقلب أزهر. فقلت: ما الازهر، قال: فيه كهيئة السراج. فأما المطبوع فقلب المنافق، وأما الازهر فقلب المؤمن إن أعطاه شكر وإن ابتلاه صبر، وأما المنكوس فقلب المشرك ثم قرأ هذه الآية " أفمن يمشي مكبا على وجهه " أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم " فأما القلب الذي فيه إيمان ونفاق فقوم كانوا بالطائف فإن أدرك أحدهم أجله على نفاقه هلك وإن أدركه على إيمانه نجى. أقول: ورواه في تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن الفضيل عن سعد الخفاف عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن القلوب أربعة، وساق الحديث إلى آخره إلا أن فيه: وقلب أزهر أنور. وقوله: " فهم قوم كانوا بالطائف " المراد به الطائف الشيطاني الذي ربما يمس الانسان قال تعالى: " إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون "، الاعراف: 201، فالمعنى أنهم يعيشون مع طائف شيطاني يمسهم حينا بعد حين فإن أدركهم الاجل والطائف معهم هلكوا وإن أدركهم وهم في حال الايمان نجوا. واعلم أن هناك روايات تطبق قوله: " أفمن يمشي مكبا على وجهه " الآية على من حاد عن ولاية علي عليه السلام ومن يتبعه ويواليه، وهي من الجري والله أعلم.
________________________________________
[ 362 ]
قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون _ 23. قل هو الذي ذرأكم في الارض وإليه تحشرون _ 24. ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين _ 25. قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين _ 26. فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا وقيل هذا الذي كنتم به تدعون _ 27. قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم _ 28. قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين _ 29. قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين _ 30. (بيان) آيات أخر يذكرهم الله تعالى بها دالة على وحدانيته تعالى في الخلق والتدبير مقرونة بالانذار والتخويف، جارية على غرض السورة وهو التذكرة بالوحدانية مع الانذار غير أنه تعالى لما أشار إلى لجاجهم وعنادهم للحق في قوله السابق: " بل لجوا في عتو ونفور " غير السياق بالاعراض عن خطابهم والالتفات إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمره أن يتصدى خطابهم ويقرع أسماعهم آياته في الخلق والتدبير الدالة على توحده في الربوبية وإنذارهم بعذاب الله، وذلك قوله: " قل هو الذي أنشأكم " الخ، " قل هو الذي ذرأكم " الخ، " قل إنما العلم " الخ، " قل أرأيتم إن أهلكني الله " الخ، " قل هو الرحمن " الخ، " قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا " الخ.
________________________________________
[ 363 ]
قوله تعالى: " قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون " الانشاء إحداث الشئ ابتداء وتربيته. ما في ذيل الآية من لحن العتاب في قوله: " قليلا ما تشكرون " وقد تكرر نظيره في غير موضع من كلامه كما في سورة المؤمنون (1) والم السجدة (2) يدل على أن إنشاءه تعالى الانسان وتجهيزه بجهاز الحس والفكر من أعظم نعمه تعالى التي لا يقدر قدرها. وليس المراد بإنشائه مجرد خلقه كيفما كان بل خلقه وإحداثه من دون سابقة في مادته كما أشار إليه في قوله يصف خلقه طورا بعد طور: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة - إلى أن قال - ثم أنشأناه خلقا آخر " المؤمنون: 14، فصيرورة المضغة إنسانا سميعا بصيرا متفكرا بتركيب النفس الانسانية عليها خلق آخر لا يسانخ أنواع الخلقة المادية الواردة على مادة الانسان من أخذها من الارض ثم جعلها نطفة ثم علقة ثم مضغة فإنما هي أطوار مادية متعاقبة بخلاف صيرورتها إنسانا ذا شعور فلا سابقة لها تماثلها أو تشابهها فهو الانشاء. ومثله قوله: " ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون " الروم: 20 (انظر إلى موضع إذا الفجائية). فقوله: " هو الذي أنشأكم " إشارة إلى خلق الانسان. وقوله: " وجعل لكم السمع والابصار والافئدة " إشارة إلى تجهيزه بجهاز الحس والفكر، والجعل إنشائي كجعل نفس الانسان كما يشير إليه قوله: " وهو الذي أنشأ لكم السمع والابصار والافئدة قليلا ما تشكرون " المؤمنون: 78. فالانسان بخصوصية إنشائه وكونه بحيث يسمع ويبصر يمتاز من الجماد والنبات - والاقتصار بالسمع والبصر من سائر الحواس كاللمس والذوق والشم لكونهما العمدة ولا يبعد أن يكون المراد بالسمع والبصر مطلق الحواس الظاهرة من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل - وبالفؤاد وهو النفس المتفكرة يمتاز من سائر الحيوان.
________________________________________
(1) الآية 78. (2) الآية 9.
________________________________________
[ 364 ]
وقوله: قليلا ما تشكرون " أي تشكرون قليلا على هذه النعمة - أو النعم - العظمى فما زائدة وقليلا مفعول مطلق تقديره تشكرون شكرا قليلا، وقيل: ما مصدرية والمعنى: قليلا شكركم. قوله تعالى: " قل هو الذي ذرأكم في الارض واليه تحشرون " الذرء الخلق والمراد بذرئهم في الارض خلقهم متعلقين بالارض فلا يتم لهم كمالهم إلا بأعمال متعلقة بالمادة الارضية بما زينها الله تعالى بما تنجذب إليه النفس الانسانية في حياتها المعجلة ليمتاز به الصالح من الطالح قال تعالى: " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا " الكهف: 8. وقوله: " واليه تحشرون " إشارة إلى البعث والجزاء ووعد جازم. قوله تعالى: " ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين " المراد بهذا الوعد الحشر الموعود، وهو استعجال منهم استهزاء. قوله تعالى: " قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين " جواب عن قولهم: " متى هذا الوعد " الخ، ومحصله أن العلم به عند الله لا يعلم به إلا هو كما قال: " لا يجليها لوقتها إلا هو " الاعراف: 187، وليس لي إلا أني نذير مبين أمرت أن أخبركم أنكم إليه تحشرون وأما أنه متى هو فليس لي بذلك علم. هذا على ما يفيده وقوع الآية في سياق الجواب عن السؤال عن وقت الحشر، وعلى هذا تكون اللام في العلم للعهد، والمراد العلم بوقت الحشر، وأما لو كانت للجنس على ما تفيده جملة " إنما العلم عند الله " في نفسها فالمعنى: إنما حقيقة العلم عند الله ولا يحاط بشئ منه إلا بإذنه كما قال: " ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء " البقرة: 255، ولم يشأ أن أعلم من ذلك إلا أنه سيقع وأنذركم به وأما أنه متى يقع فلا علم لي به. قوله تعالى: " فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا " الخ، الزلفة القرب والمراد به القريب أو هو من باب زيد عدل، وضمير " رأوه " للوعد وقيل للعذاب والمعنى: فلما رأوا الوعد المذكور قريبا قد أشرف عليهم ساء ذلك وجوه الذين كفروا به فظهر في سيماهم أثر الخيبة والخسران. وقوله: " وقيل هذا الذي كنتم به تدعون " قيل تدعون وتدعون بمعنى واحد
________________________________________
[ 365 ]
كتدخرون وتدخرون والمعنى: وقيل لهم: هذا هو الوعد الذي كنتم تسألونه وتستعجلون به بقولكم: متى هذا الوعد، وظاهر السياق أن القائل هم الملائكة بأمر من الله، وقيل القائل من الكفار يقوله بعضهم لبعض. قوله تعالى: " قل أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا فمن يجير الكافرين من عذاب أليم " " إن " شرطية شرطها قوله: " أهلكني الله " وجزاؤها قوله: " فمن يجير " الخ، والمعنى: قل لهم أخبروني إن أهلكني الله ومن معي من المؤمنين أو رحمنا فلم يهلكنا فمن الذي يجير ويعيد الكافرين - وهم أنتم كفرتم بالله فاستحققتم أليم العذاب - من عذاب أليم يهددهم تهديدا قاطعا أي إن هلاكي ومن معي وبقاؤنا برحمة ربي لا ينفعكم شيئا في العذاب الذي سيصيبكم قطعا بكفركم بالله. قيل: إن كفار مكة كانوا يدعون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك فأمر صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول لهم إن أهلكنا الله تعالى أو أبقانا فأمرنا إلى الله ونرجو الخير من رحمته وأما أنتم فما تصنعون ؟ من يجيركم من أليم العذاب على كفركم بالله ؟ قوله تعالى: " قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين " الضمير للذي يدعو إلى توحيده وهم يدعونه عليه، والمعنى: قل الذي أدعوكم إلى توحيده وتدعونه علي وعلى من معي هو الرحمن الذي عمت نعمته كل شئ آمنا به وعليه توكلنا من غير أن نميل ونعتمد على شئ دونه فستعلمون أيها الكفار من هو في ضلال مبين ؟ نحن أم أنتم ؟ قال في الكشاف: فإن قيل: لم أخر مفعول " آمنا " وقدم مفعول " توكلنا " ؟ قلت: لوقوع آمنا تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم كأنه قيل: آمنا ولم نكفر كما كفرتم، ثم قال: وعليه توكلنا خصوصا لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم. قوله تعالى: " قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين " الغور ذهاب الماء ونضوبه في الارض والمراد به الغائر، والمعين الظاهر الجاري من الماء، والمعنى: أخبروني إن صار ماؤكم غائرا ناضبا في الارض فمن يأتيكم بماء ظاهر جار. وهناك روايات تطبق الآيات على ولاية علي عليه السلام ومحادته، وهي من الجري وليست بمفسرة.
________________________________________
[ 366 ]
(سورة القلم مكية، وهي اثنتان وخمسون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. ن والقلم وما يسطرون _ 1. ما أنت بنعمة ربك بمجنون _ 2. وإن لك لاجرا غير ممنون _ 3. وإنك لعلى خلق عظيم _ 4. فستبصر ويبصرون _ 5. بأيكم المفتون _ 6. إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين _ 7. فلا تطع المكذبين _ 8. ودوا لو تدهن فيدهنون _ 9. ولا تطع كل حلاف مهين _ 10. هماز مشاء بنميم _ 11. مناع للخير معتد أثيم _ 12. عتل بعد ذلك زنيم _ 13. أن كان ذا مال وبنين _ 14. إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الاولين _ 15. سنسمه على الخرطوم _ 16. إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين _ 17. ولا يستثنون _ 18. فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون _ 19. فأصبحت كالصريم _ 20. فتنادوا مصبحين _ 21. أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين _ 22. فانطلقواوهم يتخافتون _ 23. أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين _ 24. وغدوا على حرد قادرين _ 25. فلما رأوها قالوا إنا لضالون _ 26. بل نحن
________________________________________
[ 367 ]
محرومون _ 27. قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون _ 28. قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين _ 29. فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون _ 30. قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين _ 31. عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون _ 32. كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون _ 33. (بيان) السورة تعزي النبي صلى الله عليه وآله وسلم إثر ما رماه المشركون بالجنوب وتطيب نفسه بالوعد الجميل والشكر على خلقه العظيم وتنهاه نهيا بالغا عن طاعتهم ومداهنتهم، وتأمره أمرا أكيدا بالصبر لحكم ربه. وسياق آياتها على الجملة سياق مكي، ونقل عن ابن عباس وقتادة أن صدرها إلى قوله: سنسمه على الخرطوم - ستة عشرة آية - مكي، وما بعده إلى قوله: " لو كانوا يعلمون - سبع عشرة آية - مدني، وما بعده إلى قوله: " يكتبون - خمس عشرة آية - مكي، وما بعده إلى آخر السورة - أربع آيات مدني. ولا يخلو من وجه بالنسبة إلى الآيات السبع عشرة " إنا بلوناهم - إلى قوله - لو كانوا يعلمون " فإنها أشبه بالمدنية منها بالمكية. قوله تعالى: " ن " تقدم الكلام في الحروف المقطعة التي في أوائل السور في تفسير سورة الشورى. قوله تعالى: " والقلم وما يسطرون " القلم معروف، والسطر بالفتح فالسكون وربما يستعمل بفتحتين - كما في المفردات - الصف من الكتابة، ومن الشجر المغروس ومن القوم الوقوف وسطر فلان كذا كتب سطرا سطرا. أقسم سبحانه بالقلم وما يسطرون به وظاهر السياق أن المراد بذلك مطلق القلم
________________________________________
[ 368 ]
ومطلق ما يسطرون به وهو المكتوب فإن القلم وما يسطر به من الكتابة من أعظم النعم الالهية التي اهتدى إليها الانسان يتلو الكلام في ضبط الحوادث الغائبة عن الانظار والمعاني المستكنة في الضمائر، وبه يتيسر للانسان أن يستحضر كل ما ضرب مرور الزمان أو بعد المكان دونه حجابا. وقد امتن الله سبحانه على الانسان بهدايته اليهما وتعليمهما له فقال في الكلام " خلق الانسان علمه البيان " الرحمان: 4، وقال في القلم: " علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم العلق: 5. فإقسامه تعالى بالقلم وما يسطرون إقسام بالنعمة، وقد أقسم تعالى في كلامه بكثير من خلقه بما أنه رحمة ونعمة كالسماء والارض والشمس والقمر والليل والنهار إلى غير ذلك حتى التين والزيتون. وقيل: " ما " في قوله: " وما يسطرون " مصدرية والمراد به الكتابة. وقيل: المراد بالقلم القلم الاعلى الذي في الحديث أنه أول ما خلق الله وبما يسطرون ما يسطره الحفظة والكرام الكاتبون واحتمل أيضا أن يكون الجمع في " يسطرون " للتعظيم لا للتكثير وهو كما ترى، واحتمل أن يكون المراد ما يسطرون فيه وهو اللوح المحفوظ واحتمل أن يكون المراد بالقلم وما يسطرون أصحاب القلم ومسطوراتهم وهي احتمالات واهية. قوله تعالى: " ما أنت بنعمة ربك بمجنون " مقسم عليه والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والباء في " بنعمة " للسببية أو المصاحبة أي ما أنت بمجنون بسبب النعمة - أو مع النعمة - التي أنعمها عليك ربك. والسياق يؤيد أن المراد بهذه النعمة النبوة فإن دليل النبوة يدفع عن النبي كل اختلال عقلي حتى تستقيم الهداية الالهية اللازمة في نظام الحياة الانسانية، والآية ترد ما رموه به من الجنون كما يحكى عنهم في آخر السورة " ويقولون إنه لمجنون ". وقيل: المراد بالنعمة فصاحته صلى الله عليه وآله وسلم وعقله الكامل وسيرته المرضية وبراءته من كل عيب واتصافه بكل مكرمة فظهور هذه الصفات فيه صلى الله عليه وآله وسلم ينافي حصول الجنون فيه وما قدمناه أقطع حجة والآية وما يتلوها كما ترى تعزية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطييب لنفسه الشريفة وتأييد له كما أن فيها تكذيبا لقولهم.
________________________________________
[ 369 ]
قوله تعالى: " وإن لك لاجر غير ممنون " الممنون من المن بمعنى القطع يقال: منه لسير منا إذا قطعه وأضعفه لا من المنة بمعنى تثقيل النعمة قولا. والمراد بالاجر أجر الرسالة عند الله سبحانه، وفيه تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن له على تحمل رسالة الله أجرا غير مقطوع وليس يذهب سدى. وربما أخذ المن بمعنى ذكر المنعم إنعامه على المنعم عليه بحيث يثقل عليه ويكدر عيشه بتقريب أن ما يعطيه الله أجر في مقابل عمله فهو يستحقه عليه تعالى فلا منة عليه وهو غير سديد فإن كل عامل مملوك لله سبحانه بحقيقة معنى الملك بذاته وصفاته وأعماله فما يعطيه العبد من ذلك فهو موهبة وعطية وما يملكه العبد من ذلك فإنما يملكه بتمليك الله وهو المالك لما ملكه من قبل ومن بعد فهو تفضل منه تعالى ولئن سمى ما يعطيه بإزاء العمل أجرا وسمى ما بينه وبين عبده من مبادلة العمل والاجر معاملة فذلك تفضل آخر فلله سبحانه المنة على جميع خلقه والرسول ومن دونه فيه سواء. قوله تعالى: " وإنك لعلى خلق عظيم " الخلق هو الملكة النفسانية التي تصدر عنها الافعال بسهولة وينقسم إلى الفضيلة وهي الممدوحة كالعفة والشجاعة، والرذيلة وهي المذمومة كالشره والجبن لكنه إذا أطلق فهم منه الخلق الحسن. قال الراغب: والخلق - بفتح الخاء - والخلق - بضم الخاء - في الاصل واحد كالشرب والشرب والصرم والصرم لكن خص الخلق - بالفتح - بالهيئات والاشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخلق - بالضم - بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة قال تعالى: " وإنك لعلى خلق عظيم " انتهى. والآية وإن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه صلى الله عليه وآله وسلم وتعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق والصبر على أذى الناس وجفاء أجلافهم والعفو والاغماض وسعة البذل والرفق والمداراة والتواضع وغير ذلك، وقد أوردنا في آخر الجزء السادس من الكتاب ما روي في جوامع أخلاقه صلى الله عليه وآله وسلم. ومما تقدم يظهر أن ما قيل: إن المراد بالخلق الدين وهو الاسلام غير مستقيم إلا بالرجوع إلى ما تقدم.
________________________________________
[ 370 ]
قوله تعالى: " فستبصر ويبصرون بأيكم المفتون " تقريع على محصل ما تقدم أي فإذا لم تكن مجنونا بل متلبسا بالنبوة ومتخلقا بالخلق ولك عظيم الاجر من ربك فسيظهر أمر دعوتك وينكشف على الابصار والبصائر من المفتون بالجنون أنت أو المكذبون الرامون لك بالجنون. وقيل: المراد ظهور عاقبة أمر الدعوة له ولهم في الدنيا أو في الآخرة ؟ الآية تقبل الحمل على كل منها. ولكل قائل، ولا مانع من الجمع فإن الله تعالى أظهر نبيه عليهم ودينه على دينهم، ورفع ذكره صلى الله عليه وآله وسلم ومحا أثرهم في الدنيا وسيذوقون وبال أمرهم غدا ويعلمون (1) أن الله هو الحق المبين يوم هم (2) على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون. وقوله: " بأيكم المفتون " الباء زائدة للصلة، والمفتون اسم مفعول من الفتنة بمعنى الابتلاء يريد به المبتلى بالجنون وفقدان العقل، والمعنى فستبصر ويبصرون أيكم المفتون المبتلى بالجنون ؟ أنت أم هم ؟ وقيل: المفتون مصدر على زنة مفعول كمعقول وميسور ومعسور في قولهم: ليس له معقول، وخذ ميسوره، ودع معسوره، والباء في " بأيكم " بمعنى في والمعنى: فستبصر ويبصرون في أي الفريقين الفتنة. قوله تعالى: " إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين لما أفيد بما تقدم من القول أن هناك ضلالا واهتداء، وأشير إلى أن الرامين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجنون هم المفتونون الضالون وسيظهر أمرهم وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهتد وكان ذلك ببيان من الله سبحانه أكد ذلك بأن الله أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين لان السبيل سبيله وهو أعلم بمن هو في سبيله ومن ليس فيه وإليه أمر الهداية. قوله تعالى: " فلا تطع المكذبين " تفريع على المحصل من معنى الآيات السابقة وفي المكذبين معنى العهد والمراد بالطاعة مطلق الموافقة عملا أو قولا، والمعنى: فإذا كان هؤلاء المكذبون لك مفتونين ضالين فلا تطعهم.
________________________________________
(1) النور: 35. (2) الذاريات: 14.
________________________________________
[ 371 ]
قوله تعالى: " ودوا لو تدهن فيدهنون " الادهان من الدهن يراد به التليين أي ود وأحب هؤلاء المكذبون أن تلينهم بالاقتراب منهم في دينك فيلينوك بالاقتراب منك في دينهم، ومحصله أنهم ودوا أن تصالحهم ويصالحوك على أن يتسامح كل منكم بعض المسامحة في دين الآخر كما قيل: إنهم عرضوا عليه أن يكف عن ذكر آلهتهم فيكفوا عنه وعن ربه. وبما تقدم ظهر أن متعلق مودتهم مجموع " لو تدهن فيدهنون " وأن الفاء في " فيدهنون " للتفريع لا للسببية. قوله تعالى: " ولا تطع كل حلاف مهين - إلى قوله - زنيم " الحلاف كثير الحلف، ولازم كثرة الحلف والاقسام في كل يسير وخطير وحق وباطل أن لا يحترم الحالف شيئا مما يقسم به، وإذا كان حلفه بالله فهو لا يستشعر عظمة الله عز اسمه وكفى به رذيلة. والمهين من المهانة بمعنى الحقارة والمراد به حقارة الرأي، وقيل: هو المكثار في الشر، وقيل: هو الكذاب. والهماز مبالغة من الهمز والمراد به العياب والطعان، وقيل: الطعان بالعين والاشارة وقيل: كثير الاغتياب. والمشاء بنميم النميم: السعاية والافساد، والمشاء به هو نقال الحديث من قوم إلى قوم على وجه الافساد بينهم. والمناع للخير كثير المنع لفعل الخير أو للخير الذي ينال أهله. والمعتدي من الاعتداء وهو المجاوزة للحد ظلما. والاثيم هو الذي كثر إثمه حتى استقر فيه من غير زوال والاثم هو العمل السيئ الذي يبطئ الخير. والعتل بضمتين هو الفظ الغليظ الطبع، وفسر بالفاحش السيئ الخلق، وبالجافي الشديد الخصومة بالباطل، وبالاكول المنوع للغير، وبالذي يعتل الناس ويجرهم إلى حبس أو عذاب. والزنيم هو الذي لا أصل له، وقيل: هو الدعي الملحق بقوم وليس منهم، وقيل: هو المعروف باللؤم، وقيل: هو الذي له علامة في الشر يعرف بها وإذا ذكر الشر سبق هو إلى الذهن، والمعاني متقاربة.
________________________________________
[ 372 ]
فهذه صفات تسع رذيلة وصف الله بها بعض أعداء الدين ممن كان يدعو النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الطاعة والمداهنة، وهي جماع الرذائل. وقوله: " عتل بعد ذلك زنيم " معناه أنه بعدما ذكر من مثالبه ورذائله عتل زنيم قيل: وفيه دلالة على أن هاتين الرذيلتين أشد معايبه. والظاهر أن فيه إشارة إلى أن له خبائث من الصفات لا ينبغي معها أن يطاع في أمر الحق ولو أغمض عن تلك الصفات فإنه فظ خشن الطبع لا أصل له لا ينبغي أن يعبأ بمثله في مجتمع بشري فليطرد ولا يطع في قول ولا يتبع في فعل. قوله تعالى: " أن كان ذا مال وبنين " الظاهر أنه بتقدير لام التعليل وهو متعلق بفعل محصل من مجموع الصفات الرذيلة المذكورة أي هو يفعل كذا وكذا لان كان ذا مال وبنين فبطر بذلك وكفر بنعمة الله وتلبس بكل رذيلة خبيثة بدل أن يشكر الله على نعمته ويصلح نفسه، فالآية في إفادة الذم والتهكم تجري مجرى قوله: " ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ". وقيل: إنه متعلق بقوله السابق " لا تطع "، والمعنى: لا تطعه لكونه ذا مال وبنين أي لا يحملك كونه ذا مال وبنين على طاعته، والمعنى المتقدم أقرب وأوسع. قيل: ولا يجوز تعلقه بقوله: " قال " في الشرطية التالية لان ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله عند النحاة. قوله تعالى: " إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الاولين " الاساطير جمع اسطورة وهي القصة الخرافية، والآية تجري مجرى التعليل لقوله السابق: " لا تطع ". قوله تعالى: " سنسمه على الخرطوم " الوسم والسمة وضع العلامة، والخرطوم الانف، وقيل: إن في إطلاق الخرطوم على أنفه وإنما يطلق في الفيل والخنزير تهكما، وفي الآية وعيد على عداوته الشديدة لله ورسوله وما نزله على رسوله. والظاهر أن الوسم على الانف أريد به نهاية إذلاله بذلة ظاهرة يعرفه بها كل من رآه فإن الانف مما يظهر فيه العزة والذلة كما يقال: شمخ فلان بأنفه وحمي فلان أنفه وأرغمت أنفه وجدع أنفه. والظاهر أن الوسم على الخرطوم مما سيقع يوم القيامة لا في الدنيا وإن تكلف بعضهم في توجيه حمله على فضاحته في الدنيا.
________________________________________
[ 373 ]
قوله تعالى: " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة - إلى قوله - كالصريم " البلاء الاختبار وإصابة المصيبة، والصرم قطع الثمار من الاشجار، والاستثناء عزل البعض من حكم الكل وأيضا الاستثناء قول إن شاء الله عند القطع بقول وذلك أن الاصل فيه الاستثناء فالاصل في قولك: أخرج غدا إن شاء الله هو أخرج غدا إلا أن يشاء الله أن لا أخرج، والطائف العذاب الذي يأتي بالليل، والصريم الشجر المقطوع ثمره، وقيل: الليل الاسود، وقيل: الرمل المقطوع من سائر الرمل وهو لا ينبت شيئا ولا يفيد فائدة. الآيات أعني قوله: " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة " إلى تمام سبع عشرة آية وعيد لمكذبي النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرامين له بالجنون، وفي التشبيه والتنظير دلالة على أن هؤلاء المكذبين معذبون لا محالة والعذاب الواقع عليهم قائم على ساقه، غير أنهم غافلون وسيعلمون، فهم مولعون اليوم بجمع المال وتكثير البنين مستكبرون بها معتمدون عليها وعلى سائر الاسباب الظاهرية التي توافقهم وتشايع أهواءهم من غير أن يشكروا ربهم على هذه النعم ويسلكوا سبيل الحق ويعبدوا ربهم حتى يأتيهم الاجل ويفاجئهم عذاب الآخرة أو عذاب دنيوي من عنده كما فاجأهم يوم بدر فيروا انقطاع الاسباب عنهم وأن المال والبنين سدى لا ينفعهم شيئا كما شاهد نظير ذلك أصحاب الجنة من جنتهم وسيندمون على صنيعهم ويرغبون إلى ربهم ولا يرد ذلك عذاب الله كما ندم أصحاب الجنة وتلاوموا ورغبوا إلى ربهم فلم ينفعهم ذلك شيئا كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، هذا على تقدير اتصال الآيات بما قبلها ونزولها معها. وأما على ما رووا أن الآيات نزلت في القحط والسنة الذي أصاب أهل مكة وقريشا إثر دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم بقوله: اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فالمراد بالبلاء إصابتهم بالقحط وتناظر قصتهم قصة أصحاب الجنة غير أن في انطباق ما في آخر قصتهم من قوله: " فأقبل بعضهم على بعض " الخ، على قصة أهل مكة خفاء. وكيف كان فالمعنى: " إنا بلوناهم " أصبناهم بالبلية " كما بلونا " وأصبنا بالبلية " أصحاب الجنة " وكانوا قوما من اليمن وجنتهم فيها وسيأتي إن شاء الله قصتهم في البحث الروائي الآتي " إذ " ظرف لبلونا " أقسموا " وحلفوا " ليصرمنها " أي ليقطعن ويقطفن ثمار جنتهم " مصبحين " داخلين في الصباح وكأنهم ائتمروا وتشاوروا ليلا فعزموا على
________________________________________
[ 374 ]
الصرم صبيحة ليلتهم " ولا يستثنون " لم يقولوا إلا أن يشاء الله اعتمادا على أنفسهم واتكاء على ظاهر الاسباب. أو المعنى: قالوا وهم لا يعزلون نصيبا من ثمارهم للفقراء والمساكين. " فطاف عليها " على الجنة " طائف " أي بلاء يطوف عليها ويحيط بها ليلا " من " ناحية " ربك، فأصبحت " وصارت الجنة " كالصريم " وهو الشجر المقطوع ثمره أو المعنى: فصارت الجنة كالليل الاسود لما اسودت بإحراق النار التي أرسلها الله إليها أو المعنى: فصارت الجنة كالقطعة من الرمل لا نبات بها ولا فائدة. قوله تعالى: " فتنادوا مصبحين - إلى قوله - قادرين " التنادي نداء بعض القوم بعضا، والاصباح الدخول في الصباح، وصارمين من الصرم بمعنى قطع الثمار من الشجرة، والمراد به في الآية القاصدون لقطع الثمار، والحرث الزرع والشجر، والخفت الاخفاء والكتمان، والحرد المنع وقادرين من القدر بمعنى التقدير. والمعنى: " فتنادوا " أي فنادى بعض القوم بعضا " مصبحين " أي والحال أنهم داخلون في الصباح " أن أغدوا على حرثكم " تفسير للتنادي أي بكروا مقبلين على جنتكم - فأغدوا أمر بمعنى بكروا مضمن معنى أقبلوا ولذا عدي بعلى ولو كان غير مضمن عدي بإلى كما في الكشاف - " إن كنتم صارمين " أي قاصدين عازمين على الصرم والقطع. " فانطلقوا " وذهبوا إلى جنتهم " وهم يتخافتون " أي والحال أنهم يأتمرون فيما بينهم بطريق المخافتة والمكاتمة " أن لا يدخلنها " أي الجنة " اليوم عليكم مسكين " أي أخفوا ورودكم الجنة للصرم من المساكين حتى لا يدخلوا عليكم فيحملكم ذلك على عزل نصيب من الثمر المصروم لهم " وغدوا " وبكروا إلى الجنة " على حرد " أي على منع للمساكين " قادرين " مقدرين في أنفسهم أنهم سيصرمونها ولا يساهمون المساكين بشئ منها. قوله تعالى: " فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون " أي فلما رأوا الجنة وشاهدوها وقد أصبحت كالصريم بطواف طائف من عند الله قالوا: " إنا لضالون عن الصواب في غدونا إليها بقصد الصرم ومنع المساكين. وقيل: المراد إنا لضالون طريق جنتنا وما هي بها. وقوله: " بل نحن محرومون " إضراب عن سابقه أي ليس مجرد الضلال عن الصواب بل حرمنا الزرع. قوله تعالى: " قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون - إلى قوله - راغبون " أي
________________________________________
[ 375 ]
" قال أوسطهم " أي أعدلهم طريقا وذلك أنه ذكرهم بالحق وإن تبعهم في العمل وقيل: المراد أوسطهم سنا وليس بشئ " ألم أقل لكم " وقد كان قال لهم ذلك وإنما لم يذكر قبل في القصة إيجازا بالتعويل على ذكره ههنا. " لولا تسبحون " المراد بتسبيحهم له تعالى تنزيههم له من الشركاء حيث اعتمدوا على أنفسهم وعلى سائر الاسباب الظاهرية فأقسموا ليصر منها مصبحين ولم يستثنوا لله مشية فعزلوه تعالى عن السببية والتأثير ونسبوا التأثير إلى أنفسهم وسائر الاسباب الظاهرية، وهو إثبات للشريك، ولو قالوا: لنصرمنها مصبحين إلا أن يشاء الله كان معنى ذلك نفي الشركاء وأنهم إن لم يصرموا كان لمشية من الله وإن صرموا كان ذلك بإذن من الله فلله الامر وحده لا شريك له. وقيل: المراد بتسبيحهم لله ذكر الله تعالى وتوبتهم إليه حيث نووا أن يصرموها ويحرموا المساكين منها، وله وجه على تقدير أن يراد بالاستثناء عزل نصيب من الثمار للمساكين. قوله تعالى: " قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين " تسبيح منهم لله سبحانه إثر توبيخ أوسطهم لهم، أي ننزه الله تنزيها من الشركاء الذين أثبتناهم فيما حلفنا عليه فهو ربنا الذي يدبر بمشيته أمورنا لانا كنا ظالمين في إثباتنا الشركاء فهو تسبيح واعتراف بظلمهم على أنفسهم في إثبات الشركاء. وعلى القول الآخر توبة واعتراف بظلمهم على أنفسهم وعلى المساكين. قوله تعالى: " فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون " أي يلوم بعضهم بعضا على ما ارتكبوه من الظلم. قوله تعالى: " قالوا يا ويلنا - إلى قوله - راغبون " الطغيان تجاوز الحد وضمير " منها " للجنة باعتبار ثمارها والمعنى: قالوا يا ويلنا إنا كنا متجاوزين حد العبودية إذ أثبتنا شركاء لربنا ولم نوحده، ونرجو من ربنا أن يبدلنا خيرا من هذه الجنة التي طاف عليها طائف منه لانا راغبون إليه معرضون عن غيره. قوله تعالى: " كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون " العذاب مبتدأ مؤخر، وكذلك خبر مقدم أي إنما يكون العذاب على ما وصفناه في قصة أصحاب الجنة وهو أن الانسان يمتحن بالمال والبنين فيطغى مغترا بذلك فيستغني بنفسه وينسى ربه ويشرك بالاسباب الظاهرية وبنفسه ويجترئ على المعصية وهو غافل عما يحيط به من وبال


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page