• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 301 الي 325


[ 301 ]
خاسرة وتركهم معاملة رابحة، وهو معنى حسن غير أنه لا يلائم معنى باب التفاعل الظاهر في فعل البعض في البعض. وما نقله عن بعضهم وجه ثان لا يخلو من دقة، ويؤيده مثل قوله تعالى: " فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين " الم السجدة: 17، وقوله: " لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد " ق: 35، وقوله: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " الزمر: 47. ومقتضى هذا الوجه عموم التغابن لجميع أهل الجمع من مؤمن وكافر أما المؤمن فلما أنه لم يعمل لآخرته أكثر مماعمل، وأما الكافر فلانه لم يعمل أصلا، والوجه المشترك بينهما أنهما لم يقدرا اليوم حق قدره. ويرد على هذا الوجه ما يرد على سابقه. وهناك وجه ثالث وهو أن يعتبر التغابن بين أهل الضلال متبوعيهم وتابعيهم فالمتبوعون وهم المستكبرون يغبنون تابعيهم وهم الضعفاء حيث يأمرونهم بأخذ الدنيا وترك الآخرة فيضلون، والتابعون يغبنون المتبوعين حيث يعينونهم في استكبارهم باتباعهم فيضلون، فكل من الفريقين غابن لغيره ومغبون من غيره. وهناك وجه رابع وردت به الرواية وهو أن لكل عبد منزلا في الجنة لو أطاع الله لدخله، ومنزلا في النار لو عصى الله لدخله ويوم القيامة يعطى منازل أهل النار في الجنة لاهل الجنة، ويعطى منازل أهل الجنة في النار لاهل النار فيكون أهل الجنة وهم المؤمنون غابنين لاهل النار وهم الكفار والكفار هم المغبونون. وقال بعض المفسرين بعد إيراد هذا الوجه: وقد فسر التغابن قوله ذيلا: " ومن يؤمن بالله - إلى قوله - وبئس المصير " انتهى. وليس بظاهر ذاك الظهور. وقوله: " ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا - إلى قوله - وبئس المصير " تقدم تفسيره مرارا. (بحث روائي) في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا. وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة.
________________________________________
[ 302 ]
اقول: وفي هذا المعنى روايات كثيرة من طرق العامة والخاصة وقد تقدم بعضها في تفسير أول سورة المؤمنون. وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام قال: يوم التلاق يوم يلتقي أهل السماء والارض، ويوم التناد يوم ينادي أهل النار أهل الجنة " أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله " ويوم التغابن يوم يغبن أهل الجنة أهل النار، ويوم الحسرة يوم يؤتى بالموت فيذبح. أقول: وفي ذيل آيات صدر السورة المبحوث عنها عدة من الروايات توجه الآيات بشؤون الولاية كالذي ورد أن الايمان والكفر هما الايمان والكفر بالولاية يوم أخذ الميثاق، وما ورد أن المراد بالبينات الائمة، وما ورد أن المراد بالنور الامام وهي جميعا ناظرة إلى بطن الآيات وليست بمفسرة البتة. ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شئ عليم - 11. وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين - 12. ألله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون - 13. يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم - 14. إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم - 15. فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لانفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون - 16. إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم
________________________________________
[ 303 ]
ويغفر لكم والله شكور حليم - 17. عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم - 18. (بيان) شروع فيما هو الغرض من السورة بعد ما مر من التمهيد والتوطئة وهو الندب إلى الانفاق في سبيل الله والصبر على ما يصيبهم من المصائب في خلال المجاهدة في الله سبحانه. وقدم ذكر المصيبة والاشارة إلى الصبر عليها ليصفو المقام لما سيندب إليه من الانفاق وينقطع العذر. قوله تعالى: " ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شئ عليم " المصيبة صفة شاع استعمالها في الحوادث السوء التي تصحب الضر، والاذن الاعلام بالرخصة وعدم المانع ويلازم علم الآذن بما أذن فيه، وليس هو العلم كما قيل. فظهر بما تقدم أولا أن إذنه تعالى في عمل سبب من الاسباب هو التخلية بينه وبين مسببيه برفع الموانع التي تتخلل بينه وبين مسببه فلا تدعه يفعل فيه ما يقتضيه بسببيته كالنار تقتضي إحراق القطن مثلا لولا الفصل بينهما والرطوبة فرفع الفصل بينهما والرطوبة من القطن مع العلم بذلك إذن في عمل النار في القطن بما تقتضيه ذاتها أعني الاحراق. وقد كان استعمال الاذن في العرف العام مختصا بما إذا كان المأذون له من العقلاء لمكان أخذ معنى الاعلام في مفهومه فيقال: أذنت لفلان أن يفعل كذا ولايقال: أذنت للنار أن تحرق، ولا أذنت للفرس أن يعدو، لكن القرآن الكريم يستعمله فيما يعم العقلاء وغيرهم بالتحليل كقوله: " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله " النساء: 64، وقوله: " والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه " الاعراف: 58، ولا يبعد أن يكون هذا التعميم مبنيا على ما يفيده القرآن من سريان العلم والادراك في الموجودات كما قدمناه في تفسير قوله: " قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ " حم السجدة: 21. وكيف كان فلا يتم عمل من عامل ولا تأثير من مؤثر إلا بإذن من الله سبحانه فما كان من الاسباب غير تام له موانع لو تحققت منعت من تأثيره فإذنه تعالى له في أن يؤثر رفعه
________________________________________
[ 304 ]
الموانع، وما كان منها تاما لا مانع له يمنعه فإذنه له عدم جعله له شيئا من الموانع فتأثيره يصاحب الاذن من غير انفكاك. وثانيا: أن المصائب وهي الحوادث التي تصيب الانسان فتؤثر فيه آثارا سيئة مكروهة إنما تقع بإذن من الله سبحانه كما أن الحسنات كذلك لاستيعاب إذنه تعالى صدور كل أثر من كل مؤثر. وثالثا: أن هذا الاذن إذن تكويني غير الاذن التشريعي الذي هو رفع الحظر عن الفعل فإصابة المصيبة تصاحب إذنا من الله في وقوعها وإن كانت من الظلم الممنوع فإن كون الظلم ممنوعا غير مأذون فيه إنما هو من جهة التشريع دون التكوين. ولذا كانت بعض المصائب غير جائزة الصبر عليها ولا مأذونا في تحملها ويجب على الانسان أن يقاومها ما استطاع كالمظالم المتعلقة بالاعراض والنفوس. ومن هنا يظهر أن المصائب التي ندب إلى الصبر عندها هي التي لم يؤمر المصاب عندها بالذب والامتناع عن تحملها كالمصائب العامة الكونية من موت ومرض مما لا شأن لاختيار الانسان فيها، وأما ما للاختيار فيها دخل كالمظالم المتعلقة نوع تعلق بالاختيار من المظالم المتوجهة إلى الاعراض فلانسان أن يتوقاها ما استطاع. وقوله: " ومن يؤمن بالله يهد قلبه " كان ظاهر سياق قوله: " ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله " يفيد أن لله سبحانه في الحوادث التي تسوء الانسان علما ومشية فليست تصيبه مصيبة إلا بعد علمه تعالى ومشيته فليس لسبب من الاسباب الكونية أن يستقل بنفسه فيما يؤثره فإنما هو نظام الخلقة لارب يملكه إلا خالقه فلا تحدث حادثة ولا تقع واقعة إلابعلم منه ومشية فلم يكن ليخطئه ما أصابه ولم يكن ليصيبه ما أخطأه. وهذه هي الحقيقة التي بينها بلسان آخر في قوله: " ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير " الحديد: 22. فالله سبحانه رب العالمين ولازم ربوبيته العامة أنه وحده يملك كل شئ لا مالك بالحقيقة سواه، والنظام الجاري في الوجود مجموع من أنحاء تصرفاته في خلقه فلا يتحرك متحرك ولا يسكن ساكن إلا عن إذن منه، ولا يفعل فاعل ولا يقبل قابل إلا عن علم سابق منه ومشية لا يخطئ علمه ومشيته ولا يرد قضاؤه. فالاذعان بكونه تعالى هو الله يستعقب اهتداء النفس إلى هذه الحقائق واطمئنان
________________________________________
[ 305 ]
القلب وسكونه وعدم اضطرابه وقلقه من جهه تعلقه بالاسباب الظاهرية وإسناده المصائب والنوائب المرة إليها دون الله سبحانه. وهذا معنى قوله تعالى: " ومن يؤمن بالله يهد قلبه ". وقيل: معنى الجملة: ومن يؤمن بتوحيد الله ويصبر لامر الله يهد قلبه للاسترجاع حتى يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وفيه إدخال الصبر في معنى الايمان. وقيل: المعنى: ومن يؤمن بالله يهد قلبه إلى ما عليه أن يفعل فإن ابتلى صبر وإن أعطي شكر وإن ظلم غفر، وهذا الوجه قريب مما قدمناه. وقوله: " والله بكل شئ عليم " تأكيد للاستثناء المتقدم، ويمكن أن يكون إشارة إلى ما يفيده قوله: " ما أصاب من مصيبة في الارض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها " الحديد: 22. قوله تعالى: " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين " ظاهر تكرار " أطيعوا " دون أن يقال: أطيعوا الله والرسول اختلاف المراد بالاطاعة، فالمراد بإطاعة الله تعالى الانقياد له فيما شرعه لهم من شرائع الدين والمراد بإطاعة الرسول الانقياد له وامتثال ما يأمر به بحسب ولايته للامة على ما جعلها الله له. وقوله: " فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين " التولي الاعراض، والبلاغ التبليغ، والمعنى: فإن أعرضتم عن إطاعه الله فيما شرع من الدين أو عن إطاعة الرسول فيما أمركم به بما أنه ولي أمركم، فلم يكرهكم رسولنا على الطاعة فإنه لم يؤمر بذلك، وإنما أمر بالتبليغ وقد بلغ. ومن هنا يظهر أن أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما وراء الاحكام والشرائع من تبليغ رسالة الله فأمره ونهيه فيما توليه من أمر الله ونهيه، وطاعته فيهما من طاعة الله تعالى كما يدل عليه إطلاق قوله تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلاليطاع بإذن الله " النساء: 64. الظاهر في أن طاعة الرسول فيما يأمر وينهى مطلقا مأذون فيه بإذن الله، وإذنه في طاعته يستلزم علمه ومشيته لطاعته، وإرادة طاعه الامر والنهي إرادة لنفس الامر والنهي فأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونهيه من أمر الله ونهيه وإن كان فيما وراء الاحكام والشرائع المجعولة له تعالى. ولما تقدم من رجوع طاعة الرسول إلى طاعة الله التفت من الغيبة إلى الخطاب في قوله:
________________________________________
[ 306 ]
" رسولنا " وفيه مع ذلك شئ من شائبة التهديد. قوله تعالى: " الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون " في مقام التعليل لوجوب إطاعة الله على ما تقدم أن طاعه الرسول من طاعة الله، توضيح ذلك أن الطاعة بمعنى الانقياد والائتمار للامر والانتهاء عن النهي من شؤن العبودية حيث لا أثر لملك المولى رقبة عبده إلا مالكيته لارادته وعمله فلا يريد إلا ما يريد المولى أن يريده ولا يعمل إلا ما يريد المولى أن يعمله فالطاعة نحو من العبودية كما يشير إليه قوله: " ألم أعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان " يس: 60، يعاتبهم بعبادة الشيطان وإنما أطاعوه. فطاعة المطيع بالنسبة إلى المطاع نوع عبادة له، وإذ لا معبود إلا الله فلا طاعة إلا لله عز اسمه أو من أمر بطاعته فالمعنى: أطيعوا الله سبحانه إذ لا طاعة إلا لمعبود ولا معبود بالحق إلا الله فيجب عليكم أن تعبدوه ولا تشركوا به بطاعة غيره وعبادته كالشيطان وهوى النفس وهذا معنى كون الجملة في مقام التعليل. وبما مر يظهر وجه تخصيص صفة الالوهية التي تفيد معنى المعبودية، بالذكر دون صفة الربوبية فلم يقل: الله لا رب غيره. وقوله: " وعلى الله فليتوكل المؤمنون " تأكيد لمعنى الجملة السابقة أعني قوله: " الله لا إله إلا هو ". توضيحه: أن التوكيل إقامة الانسان غيره مقام نفسه في إدارة أموره ولازم ذلك قيام إرادته مقام إرادة موكله وفعله مقام فعله فينطبق بوجه على الاطاعة فإن المطيع يجعل إرادته وعمله تبعا لارادة المطاع فتقوم إرادة المطاع مقام إرادته ويعود عمله متعلقا لارادة المطاع صادرا منها اعتبارا فترجع الاطاعة توكيلا بوجه كما ان التوكيل إطاعة بوجه. فإطاعة العبد لربه إتباع إرادته لارادة ربه والاتيان بالفعل على هذا النمط وبعبارة اخرى إيثار إرادته وما يتعلق بها من العمل على إرادة نفسه وما يتعلق بها من العمل. فطاعته تعالى فيما شرع لعباده وما يتعلق بها نوع تعلق من التوكل عليه، وطاعته واجبة لمن عرفه وآمن به فعلى الله فليتوكل المؤمنون وإياه فليطيعوا، وأما من لم يعرفه ولم يؤمن به فلا تتحقق منه طاعة. وقد بان بما تقدم أن الايمان والعمل الصالح نوع من التوكل على الله تعالى. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " الخ
________________________________________
[ 307 ]
" من " في " أزواجكم " للتبعيض، وسياق الخطاب بلفظ " يا أيها الذين آمنوا " وتعليق العداوة بهم يفيد التعليل أي أنهم يعادونهم بما أنهم مؤمنون، والعداوة من جهة الايمان لا تتحقق إلا باهتمامهم أن يصرفوهم عن أصل الايمان أو عن الاعمال الصالحة كالانفاق في سبيل الله والهجرة من دار الكفر أو أن يحملوهم على الكفر أو المعاصي الموبقة كالبخل عن الانفاق في سبيل الله شفقة على الاولاد والازواج والغصب واكتساب المال من غير طريق حله. فالله سبحانه يعد بعض الاولاد والازواج عدوا للمؤمنين في إيمانهم حيث يحملونهم على ترك الايمان بالله أو ترك بعض الاعمال الصالحة أو اقتراف بعض الكبائر الموبقة وربما أطاعوهم في بعض ذلك شفقة عليهم وحبا لهم فأمرهم الله بالحذر منهم. وقوله: " وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم " قال الراغب: العفو القصد لتناول الشئ يقال: عفاه واعتفاه أي قصده متناولا ما عنده - إلى أن قال - وعفوت عنه قصدت إزالة ذنبه صارفا عنه، وقال: الصفح ترك التثريب وهو أبلغ من العفو، ولذلك قال تعالى: " فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره " وقد يعفو الانسان ولا يصفح، وقال: الغفر إلباس ما يصونه عن الدنس، ومنه قيل: اغفر ثوبك في الوعاء واصبغ ثوبك فإنه أغفر للوسخ، والغفران والمغفرة من الله هو أن يصون العبد من أن يمسه العذاب قال: " غفرانك ربنا " " ومغفرة من ربكم " " ومن يغفر الذنوب إلا الله " انتهى. ففي قوله: " فاعفوا واصفحوا واغفروا " ندب إلى كمال الاغماض عن الاولاد والازواج. إذا ظهر منهم شئ من آثار المعاداة المذكورة - مع الحذر من أن يفتتن بهم -. وفي قوله: " فإن الله غفور رحيم " إن كان المراد خصوص مغفرته ورحمته للمخاطبين أن يعفوا ويصفحوا ويغفروا كان وعدا جميلا لهم تجاه عملهم الصالح كما في قوله تعالى: " وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم " النور: 22. وإن أريد مغفرته ورحمته العامتان من غير تقييد بمورد الخطاب أفاد أن المغفرة والرحمة من صفات الله سبحانه فإن عفوا وصفحوا وغفروا فقد اتصفوا بصفات الله وتخلقوا بأخلاقه. قوله تعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم الفتنة ما يبتلى ويمتحن
________________________________________
[ 308 ]
به، وكون الاموال والبنين فتنة إنما هو لكونهما زينة الحياة تنجذب اليهما النفس انجذابا فتفتتن وتلهو بهما عما يهمها من أمر آخرته وطاعة ربه، قال تعالى: " المال والبنون زينة الحياة الدنيا " الكهف: 46. والجملة كناية عن النهي عن التلهي بهما والتفريط في جنب الله باللي اليهما ويؤكده قوله: " والله عنده أجر عظيم ". قوله تعالى: " فاتقوا الله ما استطعتم " الخ، أي مبلغ استطاعتكم - على ما يفيده السياق فإن السياق سياق الدعوة والندب إلى السمع والطاعة والانفاق والمجاهدة في الله - والجملة تفريع على قوله: " إنما أموالكم " الخ، فالمعنى: اتقوه مبلغ استطاعتكم ولا تدعوا من الاتقاء شيئا تسعه طاقتكم وجهدكم فتجري الآية مجرى قوله: " اتقوا الله حق تقاته " آل عمران: 102، وليست الآية ناظرة إلى نفي التكليف بالاتقاء فيما وراء الاستطاعة وفوق الطاقة كما في قوله: " ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به " البقرة: 286. وقد بان مما مر: أولا: أن لا منافاة بين الآيتين أعني قوله: " فاتقوا الله ما استطعتم " وقوله: " اتقوا الله حق تقاته " وأن الاختلاف بينهما كالاختلاف بالكمية والكيفية، فقوله: " فاتقوا الله ما استطعتم " أمر باستيعاب جميع الموارد التي تسعها الاستطاعة بالتقوى، وقوله: " اتقوا الله حق تقاته " أمر بالتلبس في كل من موارد التقوى بحق التقوى دون شبحها وصورتها. وثانيا: فساد قول بعضهم: إن قوله: " فاتقوا الله ما استطعتم " ناسخ لقوله: " اتقوا الله حق تقاته " وهو ظاهر. وقوله: " واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لانفسكم " توضيح وتأكيد لقوله: " فاتقوا الله ما استطعتم " والسمع الاستجابة والقبول وهو في مقام الالتزام القلبي، والطاعة الانقياد وهو في مقام العمل، والانفاق المراد به بذل المال في سبيل الله. و " خيرا لانفسكم " منصوب بمحذوف - على ما في الكشاف - والتقدير آمنوا خيرا لانفسكم، ويحتمل أن يكون " أنفقوا " مضمنا معنى قدموا أو ما يقرب منه بقرينة المقام، وفي قوله: " لانفسكم " دون أن يقال: خيرا لكم زيادة تطييب لنفوسهم أي إن الانفاق خير لكم لا ينتفع به إلا أنفسكم لما فيه من بسط أيديكم وسعة قدرتكم على رفع حوائج مجتمعكم.
________________________________________
[ 309 ]
وقوله: " ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون " تقدم تفسيره في تفسير سورة الحشر. قوله تعالى: " إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم " المراد بإقراض الله الانفاق في سبيله سماه الله إقراضا لله وسمى المال المنفق قرضا حسنا حثا وترغيبا لهم فيه. وقوله: " يضاعفه لكم ويغفر لكم " إشارة إلى حسن جزائه في الدنيا والآخرة. والشكور والحليم وعالم الغيب والشهادة والعزيز والحكيم خمسة من أسماء الله الحسنى تقدم شرحها، ووجه مناسبتها لما أمر به في الآية من السمع والطاعة والانفاق ظاهر. (بحث روائي) في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم " وذلك أن الرجل إذا أراد الهجرة تعلق به ابنه وامرأته وقالوا: ننشدك الله أن تذهب عنا فنضيع بعدك فمنهم من يطيع أهله فيقيم فحذرهم الله أبناءهم ونساءهم ونهاهم عن طاعتهم، ومنهم من يمضي ويذرهم ويقول: أما والله لئن لم تهاجروا معي ثم جمع الله بيني وبينكم في دار الهجرة لا أنفعكم بشئ أبدا. فلما جمع الله بينه وبينهم أمر الله أن يتوق بحسن وصله فقال: " وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم ". أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن ابن عباس. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " عن ابن مردويه عن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبى أوفى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال. أقول: وروى مثله أيضا عنه عن كعب بن عياض عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفيه أخرج ابن أبى شيبة وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وابن مردويه عن بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخطب فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المنبر فحملهما واحدا من ذا الشق
________________________________________
[ 310 ]
وواحدا من ذا الشق ثم صعد المنبر فقال: صدق الله قال: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة "، إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت اليهما. أقول: والرواية لا تخلو من شئ وأنى تنال الفتنة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو سيد الانبياء المخلصين معصوم مؤيد بروح القدس. وأفظع لحنا من هذا الحديث ما رواة عن ابن مردويه عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بينما هو يخطب الناس على المنبر خرج الحسين بن علي فوطأ في ثوب كان عليه فسقط فبكى فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المنبر. فلما رأى الناس أسرعوا إلى الحسين يتعاطونه يعطيه بعضهم بعضا حتى وقع في يد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: قاتل الله الشيطان إن الولد لفتنة، والذي نفسي بيده ما دريت أني نزلت عن منبري. ومثله ما عن ابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير قال: سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكاء حسن أو حسين فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الولد فتنة لقد قمت إليه وما أعقل. فالوجه طرح الروايات إلا أن تؤول. وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع حدثنا سفيان بن مرة الهمداني عن عبد خير سألت علي بن أبي طالب عن قوله تعالى: " اتقوا الله حق تقاته " قال: والله ما عمل بها غير أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. نحن ذكرنا الله فلا ننساه ونحن شكرناه فلن نكفره، ونحن أطعناه فلم نعصه. فلما نزلت هذه قالت الصحابة: لا نطيق ذلك فأنزل الله: " فاتقوا الله ما استطعتم " الحديث. وفي تفسير القمي حدثني أبي عن الفضل بن أبي مرة قال: رأيت أبا عبد الله عليه السلام يطوف من أول الليل إلى الصباح وهو يقول: اللهم وقني شح نفسي فقلت: جعلت فداك ما رأيتك تدعو بغير هذا الدعاء فقال: وأي شئ أشد من شح النفس ؟ إن الله يقول: " ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون ".
________________________________________
[ 311 ]
(سورة الطلاق مدنية، وهي اثنتا عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم. يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا - 1. فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا - 2. ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شئ قدرا - 3. واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا - 4. ذلك أمر الله أنزله إليكم ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له اجرا - 5. أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن فإن أرضعن لكم
________________________________________
[ 312 ]
فآتوهن أجورهن وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى - 6. لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا - 7. (بيان) تتضمن السورة بيان كليات من أحكام الطلاق تعقبه عظة وإنذار وتبشير، والسورة مدنية بشهادة سياقها. قوله تعالى: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة " إلى آخر الآية، بدئ الخطاب بنداء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لانه الرسول إلى الامة وإمامهم فيصلح لخطابه أن يشمله وأتباعه من أمته وهذا شائع في الاستعمال يخص مقدم القوم وسيدهم بالنداء ويخاطب بما يعمه وقومه فلا موجب لقول بعضهم: إن التقدير يا أيها النبي قل لامتك: إذا طلقتم النساء " الخ ". وقوله: " إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن " أي إذا أردتم أن تطلقوا النساء وأشرفتم على ذلك إذ لا معنى لتحقق الطلاق بعد وقوع الطلاق فهو كقوله: " إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا " الآية المائدة: 6. والعدة قعود المراة عن الزوج حتى تنقضي المدة المرتبة شرعا، والمراد بتطليقهن لعدتهن تطليقهن لزمان عدتهن بحيث يأخذ زمان العدة من يوم تحقق التطليقة وذلك بأن تكون التطليقة في طهر لا مواقعة فيه حتى تنقضي أقراؤها. وقوله: " وأحصوا العدة " أي عدوا الاقراء التى تعتد بها، وهو الاحتفاظ عليها لان للمراة فيها حق النفقة والسكنى على زوجها وللزوج فيها حق الرجوع. وقوله: " واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن " ظاهر السياق كون " لا تخرجوهن " الخ، بدلا من " اتقوا الله ربكم " ويفيد ذلك تأكيد النهي في " لا تخرجوهن " والمراد
________________________________________
[ 313 ]
ببيوتهن البيوت التي كن يسكنه قبل الطلاق أضيفت اليهن بعناية السكنى. وقوله: " ولا يخرجن " نهي عن خروجهن أنفسهن كما كان سابقه نهيا عن إخراجهن. وقوله: " إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " أي ظاهرة كالزنا والبذاء وإيذاء أهلها كما في الروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليه السلام. وقوله: وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه " أي الاحكام المذكورة للطلاق حدود الله حد بها أعمالكم ومن يتعد ويتجاوز حدود الله بأن لم يراعها وخالفها فقد ظلم نفسه أي عصى ربه. وقوله: " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " أي أمرا يقضي بتغير الحال وتبدل رأي الزوج في طلاقها بأن يميل إلا الالتيام ويظهر في قلبه محبة حب الرجوع إلى سابق الحال. قوله تعالى: " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف - إلى قوله - واليوم الآخر " المراد من بلوغهن أجلهن اقترابهن من آخر زمان العدة وإشرافهن عليه، والمراد بإمساكهن الرجوع على سبيل الاستعارة، وبمفارقتهن تركهن ليخرجن من العدة ويبن. والمراد بكون الامساك بمعروف حسن الصحبة ورعاية ما جعل الله لهن من الحقوق، وبكون فراقهن بمعروف أيضا استرام الحقوق الشرعية فالتقدير بمعروف من الشرع. وقوله: " وأشهدوا ذوي عدل منكم " أي أشهدوا على الطلاق رجلين منكم صاحبي عدل، وقد مر توضيح معنى العدل في تفسير سورة البقرة. وقوله: " وأقيموا الشهادة لله " تقدم توضيحه في تفسير سورة البقرة. وقوله: " ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر " أي ما مر من الامر بتقوى الله وإقامة الشهادة لله والنهي عن تعدي حدود الله أو مجموع ما مر من الاحكام والبعث إلى التقوى والاخلاص في الشهادة والزجر عن تعدي حدود الله يوعظ به المؤمنون ليركنوا إلى الحق وينقلعوا عن الباطل، وفيه إيهام أن في الاعراض عن هذه الاحكام أو تغييرها خروجا من الايمان. قوله تعالى: " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب - إلى قوله قدرا " أي " ومن يتق الله " ويتورع عن محارمه ولم يتعد حدوده واحترم
________________________________________
[ 314 ]
لشرائعه فعمل بها " يجعل له مخرجا " من مضائق مشكلات الحياة فإن شريعته فطرية يهدى بها الله الانسان إلى ما تستدعيه فطرته وتقضي به حاجته وتضمن سعادته في الدنيا والآخرة " ويرزقه " من الزوج والمال وكل ما يفتقر إليه في طيب عيشه وزكاة حياته " من حيث لا يحتسب " ولا يتوقع فلا يخف " من حيث لا يحتسب " ولا يتوقع فلا يخف لمؤمن أنه إن اتقى الله واحترم حدوده حرم طيب الحياة وابتلي بضنك المعيشة فإن الرزق مضمون والله على ما ضمنه قادر. " ومن يتوكل على الله " باعتزاله عن نفسه فيما تهواه وتأمر به وإيثاره إرادة الله سبحانه على إرادة نفسه والعمل الذي يريده الله على العمل الذي تهواه وتريده نفسه وبعبارة اخرى تدين بدين الله وعمل بأحكامه " فهو حسبه " أي كافية فيما يريده من طيب العيش ويتمناه من السعادة بفطرته لا بواهمته الكاذبة. وذلك أنه تعالى هو السبب الاعلى الذي تنتهي إليه الاسباب فإذا أراد شيئا فعله وبلغ ما أراده من غير أن تتغير إرادته فهو القائل: " ما يبدل القول لدي " ق: 29، أو يحول بينه وبين ما أراده مانع فهو القائل: " والله يحكم لا معقب لحكمه " الرعد: 41، وأما الاسباب الاخر التي يتشبث بها الانسان في رفع حوائجه فإنما تملك من السببية ما ملكها الله سبحانه وهو المالك لما ملكها والقادر على ما عليه أقدرها ولها من الفعل مقدار ما أذن الله فيه. فالله كاف لمن توكل عليه لا غيره " إن الله بالغ أمره " يبلغ حيث أراد، وهو القائل: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون " " قد جعل الله لكل شئ قدرا " فما من شئ إلا له قدر مقدور وحد محدود والله سبحانه لا يحده حد ولا يحيط به شئ وهو المحيط بكل شئ. هذا هو معنى الآية بالنظر إلى وقوعها في سياق آيات الطلاق وانطباقها على المورد. وأما بالنظر إلى إطلاقها في نفسها مع الغض عن السياق الذي وقعت فيه فقوله: " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " مفاده أن من اتقى الله بحقيقة معنى تقواه ولا يتم ذلك إلا بمعرفته تعالى بأسمائه وصفاته ثم تورعه واتقاؤه بالاجتناب عن المحرمات وتحرز ترك الواجبات خالصا لوجهه الكريم، ولازمه أن لا يريد إلا ما يريده الله من فعل أو ترك، ولازمه أن يستهلك إرادته في إرادة الله فلا يصدر عنه فعل إلا عن إرادة من الله.
________________________________________
[ 315 ]
ولارم ذلك أن يرى نفسه وما يترتب عليها من سمة أو فعل ملكا طلقا لله سبحانه يتصرف فيها بما يشاء وهو ولاية الله يتولى أمر عبده فلا يبقى له من الملك بحقيقة معناه شئ إلا ما ملكه الله سبحانه وهو المالك لما ملكه والملك لله عز اسمه. وعند ذلك ينجيه الله من مضيق الوهم وسجن الشرك بالتعلق بالاسباب الظاهرية " ويجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " أما الرزق المادي فإنه كان يرى ذلك من عطايا سعيه والاسباب الظاهرية التي كان يطمئن إليها وما كان يعلم من الاسباب إلا قليلا من كثير كقبس من نار يضئ للانسان في الليلة الظلماء موضع قدمه وهو غافل عما وراءه، لكن الله سبحانه محيط بالاسباب وهو الناظم لها ينظمها كيف يشاء ويأذن في تأثير ما لا علم له به من خباياها. وأما الرزق المعنوي الذي هو حقيقة الرزق الذي يعيش به النفس الانسانية وتبقى فهو مما لم يكن يحتسبه ولا يحتسب طريق وروده عليه. وبالجملة هو سبحانه يتولى أمره ويخرجه من مهبط الهلاك ويرزقه من حيث لا يحتسب، ولا يفقد من كماله والنعم التي كان يرجو نيلها بسعيه شيئا لانه توكل على الله وفوض إلى ربه ما كان لنفسه " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " دون سائر الاسباب الظاهرية التي تخطئ تارة وتصيب أخرى " إن الله بالغ أمره " لان الامور محدودة محاطة له تعالى و " قد جعل الله لكل شئ قدرا " فهو غير خارج عن قدره الذي قدره به. وهذا نصيب الصالحين من الاولياء من هذه الآية. وأما من هو دونهم من المؤمنين المتوسطين من أهل التقوى النازلة درجاتهم من حيث المعرفة والعمل فلهم من ولاية الله ما يلائم حالهم في إخلاص الايمان والعمل الصالح وقد قال تعالى وأطلق: " والله ولي المؤمنين " آل عمران: 68، وقال وأطلق: " والله ولي المتقين " الجاثية: 19. وتدينهم بدين الحق وهي سنة الحياة وورودهم وصدورهم في الامور عن إرادته تعالى هو تقوى الله والتوكل عليه بوضع إرادته تعالى موضع إرادة أنفسهم فينالون من سعادة الحياه بحسبه ويجعل الله لهم مخرجا ويرزقهم من حيث لا يحتسبون، وحسبهم ربهم فهو بالغ أمره وقد جعل لكل شئ قدرا. وعليهم من حرمان السعادة قدر ما دب من الشرك في إيمانهم وعملهم وقد قال تعالى:
________________________________________
[ 316 ]
" وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " يوسف: 106، وقال وأطلق: " إن الله لا يغفر أن يشرك به " النساء: 48. وقال: " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا " طه: 82، أي لمن تاب من الشرك وقال وأطلق: " واستغفروا الله إن الله غفور رحيم " المزمل: 20. فلا يرقى المؤمن إلى درجة من درجات ولاية الله إلا بالتوبة من خفي الشرك الذي دونها. والآية من غرر الآيات القرآنية وللمفسرين في جملها كلمات متشتتة أضربنا عنها. قوله تعالى: " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر " المراد بالارتياب الشك في يأسهن من المحيض أهو لكبر أم لعارض، فالمعنى: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم وشككتم في أمر يأسهن أهو لبلوغ سنهن سن اليأس أم لعارض فعدتهن ثلاثة أشهر. وقوله: " واللائي لم يحضن " عطف على قوله: " واللائي يئسن " الخ، والمعنى: واللائي لم يحضن وهو في سن من تحيض فعدتهن ثلاثة أشهر. وقوله: " وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن " أي منتهى زمان عدتهن وضع الحمل. وقوله: " ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرا " أي يسهل عليه ما يستقبله من الشدائد والمشاق، وقيل: المراد أنه يسهل عليه امور الدنيا والآخرة إما بفرج عاجل أو عوض آجل. قوله تعالى: " ذلك أمر الله أنزله اليكم " أي ما بينه في الآيات المتقدمة حكم الله أنزله اليكم، وفي قوله: " ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا " دلالة على أن اتباع الاوامر من التقوى كاجتناب المحرمات ولعله باعتبار أن امتثال الامر يلازم اجتناب تركه. وتكفير السيئات سترها بالمغفرة، والمراد بالسيئات المعاصي الصغيرة فيبقى للتقوى كبائر المعاصي، ويكون مجموع قوله: " ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا " في معنى قوله: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا
________________________________________
[ 317 ]
كريما " النساء: 31، ومن الآيتين يظهر أن المراد بالمحارم في قوله عليه السلام في تعريف التقوى: أنها الورع عن محارم الله المعاصي الكبيرة. ويظهر أيضا أن مخالفة ما أنزله الله من الامر في الطلاق والعدة من الكبائر إذ التقوى المذكورة في الآية تشمل ما ذكر من أمر الطلاق والعدة لا محالة فهو غير السيئات المكفرة وإلا اختل معنى الآية. قوله تعالى: " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم " إلى آخر الآية، قال في المفردات: وقوله تعالى: " من وجدكم " أي تمكنكم وقدر غناكم، ويعبر عن الغنى بالوجدان والجدة، وقد حكي فيه الوجد والوجد والوجد - بالحركات الثلاث في الواو - انتهى. وضمير " هن " للمطلقات على ما يؤيده السياق، والمعنى: أسكنوا المطلقات من حيث سكنتم من المساكن على قدر تمكنكم وغناكم على الموسر قدره وعلى المعسر قدره. وقوله: " ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن " أي لا توجهوا اليهن ضررا يشق عليهن تحمله من حيث السكنى والكسوة والنفقة لتوردوا الضيق والحرج عليهن. وقوله: " وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " معناه ظاهر. وقوله: " فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " فلهن عليكم أجر الرضاعة وهو من نفقة الولد التي على الوالد. وقوله: " وائتمروا بينكم بمعروف " الائتمار بشئ تشاور القوم فيه بحيث يأمر بعضهم فيه بعضا، وهو خطاب للرجل والمرأة أي تشاوروا في أمر الولد وتوافقوا في معروف من العادة بحيث لا يتضرر الرجل بزيادة الاجر الذي ينفقه ولا المرأه بنقيصته ولا الولد بنقص مدة الرضاع إلى غير ذلك. وقوله: " وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى " أي وإن أراد كل منكم من الآخر ما فيه عسر واختلفتم فسترضع الولد امرأة أخرى أجنبية غير والدته أي فليسترضع الوالد غير والد الصبي. قوله تعالى: " لينفق ذو سعة من سعته " الانفاق من سعة هو التوسعة في الانفاق وهو أمر لاهل السعة بأن يوسعوا على نسائهم المطلقات المرضعات أولادهم. وقوله: " ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله " قدر الرزق ضيقه، والايتاء
________________________________________
[ 318 ]
الاعطاء، والمعنى: ومن ضاق عليه رزقه وكان فقيرا لا يتمكن من التوسع في الانفاق فلينفق على قدر ما أعطاه الله من المال أي فلينفق على قدر تمكنه. وقوله: " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها " أي لا يكلف الله نفسا إلا بقدر ما أعطاها من القدرة فالجملة تنفي الحرج من التكاليف الالهية ومنها إنفاق المطلقة. وقوله: " سيجعل الله بعد عسر يسرا " فيه بشرى وتسلية. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: نزلت سورة النساء القصرى بعد التي في البقرة بسبع سنين. أقول: سورة النساء القصرى هي سورة الطلاق. وفيه أخرج مالك والشافعي وعبد الرزاق في المصنف وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر وأبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء، وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن ". أقول: قوله: " في قبل عدتهن " قراءة ابن عمر وما في المصحف " لعدتهن ". وفيه أخرج ابن المنذر عن ابن سيرين في قوله: " لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " قال: في حفصة بنت عمر طلقها النبي صلى الله عليه وسلم واحدة فنزلت " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء - إلى قوله - يحدث بعد ذلك أمرا " قال: فراجعها. وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: كل طلاق لا يكون على السنة أو على العدة فليس بشئ. قال زرارة فقلت لابي جعفر عليه السلام: فسر لي طلاق السنة وطلاق العدة فقال: أما طلاق السنة فإذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فينتظر بها حتى تطمث وتطهر فإذا خرجت من طمثها طلقها تطليقة من غير جماع
________________________________________
[ 319 ]
ويشهد شاهدين على ذلك ثم يدعها حتى تطمث طمثين فتنقضي عدتها بثلاث حيض وقد بانت منه ويكون خاطبا من الخطاب إن شاءت تزوجته وإن شاءت لم تتزوجه، وعليه نفقتها والسكنى ما دامت في مدتها، وهما يتوارثان حتى تنقضي العدة. قال: وأما طلاق العدة الذي قال الله تعالى: " فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة " فإذا أراد الرجل منكم أن يطلق امرأته طلاق العدة فلينتظر بها حتى تحيض وتخرج من حيضتها ثم يطلقها تطليقة من غير جماع ويشهد شاهدين عدلين ويراجعها من يومه ذلك إن أحب أو بعد ذلك بأيام قبل أن تحيض ويشهد على رجعتها ويواقعها وتكون معه حتى تحيض فإذا حاضت وخرجت من حيضها طلقها تطليقة اخرى من غير جماع ويشهد على ذلك ثم يراجعها أيضا متى شاء قبل أن تحيض ويشهد على رجعتها ويواقعها وتكون معه إلى أن تحيض الحيضة الثالثة فإذا خرجت من حيضتها الثالثة طلقها التطليقة الثالثة بغير جماع ويشهد على ذلك فإذا فعل ذلك فقد بانت منه ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره. قيل له: فإن كانت ممن لا تحيض ؟ قال: مثل هذه تطلق طلاق السنة. وفي قرب الاسناد بإسناده عن صفوان قال: سمعت يعني أبا عبد الله وجاء رجل فسأله فقال: إني طلقت امرأتي ثلاثا في مجلس فقال: ليس بشئ. ثم قال: أما تقرأ كتاب الله تعالى " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة ". ثم قال: ألا تدري " لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " ثم قال: كلما خالف كتاب الله والسنة فهو يرد إلى كتاب الله والسنة. وفي تفسير القمي في معنى قوله: " لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " قال: لا يحل لرجل أن يخرج امرأته إذا طلقها - وكان له عليها رجعة - من بيته وهي لا تحل لها أن تخرج من بيته إلا أن يأتين بفاحشة مبينة. ومعنى الفاحشة أن تزني أو تسرق على الرجل، ومن الفاحشة أيضا السلاطة على زوجها فإن فعلت شيئا من ذلك حل له أن يخرجها. وفي الكافي بإسناده عن وهب بن حفص عن أحدهما عليهما السلام في المطلقة تعتد في بيتها، وتظهر له زينتها لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا.
________________________________________
[ 320 ]
أقول: وفي هذه المعاني ومعاني جمل الآيتين روايات اخرى عن أئمة أهل البيت عليه السلام. وفيه بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أعطي ثلاثا لم يمنع ثلاثا: من أعطي الدعاء أعطي الاجابة، ومن أعطي الشكر أعطي الزيادة، ومن أعطي التوكل أعطي الكفاية. قال: أتلوت كتاب الله عز وجل ؟ " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " وقال: " ولئن شكرتم لازيدنكم " وقال: " ادعوني أستجب لكم ". وفيه بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " قال: في دنياه. وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن سالم بن أبي الجعد قال: نزلت هذه الآية: " ومن يتق الله يجعل له مخرجا " في رجل من أشجع أصابه جهد وبلاء وكان العدو أسروا ابنه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اتق الله واصبر، فرجع ابن له كان أسيرا قد فكه الله فأتاهم وقد أصاب أعنزا فجاء فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي لك. وفيه أخرج أبو يعلى وأبو نعيم والديلمي من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: " ومن يتق الله يجعل له مخرجا " قال: من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة. وفيه أخرج الحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذر قال: جعل رسول الله يتلو هذه الآية " ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب " فجعل يرددها حتى نعست. ثم قال: يا أبا ذر لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم. وفيه أخرج ابن أبي حاتم والطبراني والخطيب عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها. وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله.
________________________________________
[ 321 ]
أقول: وقد تقدم في ذيل الكلام على الآيات معنى هذه الروايات. وفي الكافي بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: عدة المرأة التي لا تحيض والمستحاضة التي لا تطهر ثلاثة أشهر، وعدة التي تحيض ويستقيم حيضها ثلاثة قروء، وسألته عن قول الله عز وجل: " إن ارتبتم " ما الريبة ؟ فقال: ما زاد على شهر فهو ريبة فلتعتد ثلاثة أشهر وليترك الحيض. الحديث. وفيه بإسناده عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: عدة الحامل أن تضع حملها وعليه نفقتها بالمعروف حتى تضع حملها. وفيه بإسناده عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا طلق الرجل المرأه وهي حبلى أنفق عليها حتى تضع حملها فإذا وضعته أعطاها أجرها ولا تضارها إلا أن يجد من هي أرخص أجرا منها فإن رضيت بذلك الاجر فهي أحق بابنها حتى تفطمه. وفي الفقيه بإسناده عن ربعي بن عبد الله والفضيل بن يسار عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عز وجل: " ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله " قال: إن أنفق عليها ما يقيم ظهرها مع الكسوة وإلا فرق بينهما. أقول: ورواه في الكافي بإسناده عن أبي بصير عنه عليه السلام. وفي تفسير القمي في قوله: " وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن " قال: المطلقة الحامل أجلها أن تضع ما في بطنها إن وضعت يوم طلقها زوجها فلها أن تتزوج إذا طهرت، وإن تضع ما في بطنها إلى تسعة أشهر لم تتزوج إلا أن تضع. وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمان بن الحجاج عن أبي الحسن عليه السلام قال: سألته عن الحبلى إذا طلقها زوجها فوضعت سقطا تم أو لم يتم أو وضعته مضغة ؟ قال: كل شئ وضعته يستبين أنه حمل تم أو لم يتم فقد انقضت عدتها. وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن مغيرة قال: قلت للشعبي: ما أصدق أن علي بن أبي طالب كان يقول: عدة المتوفى عنها زوجها آخر الاجلين. قال: بلى فصدق به كأشد ما صدقت بشئ كان علي يقول: إنما قوله: " وأولات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن " في المطلقة.
________________________________________
[ 322 ]
وفيه أخرج عبد الرزاق عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة خرج مع علي إلى اليمن فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، وأمر لها الحارث بن هشام وعباس بن أبي ربيعة بنفقة فاستقلتها فقالا لها والله ما لك نفقة إلا أن تكوني حاملا فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أمرها فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لا نفقة لك فاستأذنته في الانتقال فأذن لها. فأرسل إليها مروان يسألها عن ذلك فحدثته فقال مروان: لم أسمع بهذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها فقالت فاطمة: بيني وبينكم كتاب الله قال الله عز وجل: " ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " حتى بلغ " لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " قالت: هذا لمن كانت له مراجعة فأي أمر يحدث بعد الثلاث ؟ فكيف تقولون: لا نفقة إذا لم تكن حاملا ؟ فعلام تحبسونها ؟ ولكن يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة فإن كانت تحيض فعدتها ثلاث حيض، وإن كانت لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر، وإن كانت حاملا فعدتها أن تضع حملها وإن أراد مراجعتها قبل أن تنقضي عدتها أشهد على ذلك رجلين كما قال الله: " وأشهدوا ذوي عدل منكم " عند الطلاق وعند المراجعة. فإن راجعها فهي عنده على طلقتين وإن لم يراجعها فإذا انقضت عدتها فقد بانت عدتها منه بواحدة وهي أملك لنفسها ثم تتزوج من شاءت هو أو غيره. وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا _ 8. فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا _ 9. أعد الله لهم عذابا شديدا فاتقوا الله يا أولى الالباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا _ 10. رسولا يتلوا عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا
________________________________________
[ 323 ]
الصالحات من الظلمات إلى النور ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا _ 11. ألله الذي خلق سبع سموات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن لتعلموا أن الله على كل شئ قدير وأن الله قد أحاط بكل شئ علما _ 12. (بيان) موعظة وإنذار وتبشير تؤكد التوصية بالتمسك بما شرع الله لهم من الاحكام ومن جملتها ما شرعه من أحكام الطلاق والعدة ولم يوص القرآن الكريم ولا أكد في التوصية في شئ من الاحكام المشرعة كما وصى وأكد في أحكام النساء، وليس إلا لان لها نبأ. قوله تعالى: " وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا " قال الراغب: العتو النبوء عن الطاعة انتهى. فهو قريب المعنى من الاستكبار، وقال: النكر الدهاء والامر الصعب الذي لا يعرف انتهى. والمراد بالنكر في الآية المعنى الثاني، وفي المجمع النكر المنكر الفظيع الذي لم ير مثله انتهى. والمراد بالقرية أهلها على سبيل التجوز كقوله: " واسأل القرية " يوسف: 82، وفي قوله: " عتت عن أمر ربها ورسله " إشارة إلى أنهم كفروا بالله سبحانه بالشرك وكفروا كفرا آخر برسله بتكذيبهم في دعوتهم. على أنهم كفروا بالله تعالى في ترك شرائعه المشرعة وكفروا برسله فيما أمروا به بولايتهم لهم كما مر نظيره في قوله: " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين " التغابن: 12. وشدة الحساب المناقشة فيه والاستقصاء لتوفية الاجر كما هو عليه، والمراد به حساب الدنيا غير حساب الآخرة والدليل على كونه حساب الدنيا قوله تعالى: " وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير " الشورى: 30، وقوله: " ولو أن أهل القرى
________________________________________
[ 324 ]
آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون " الاعراف: 96. فما يصيب الانسان من مصيبة - وهي المصيبة في نظر الدين - هو حاصل محاسبة أعماله والله يعفو عن كثير منها بالمسامحة والمساهلة في المحاسبة غير أنه تعالى يحاسب العاتين المستكبرين عن أمره ورسله حسابا شديدا بالمناقشة والاستقصاء والتثريب فيعذبهم عذابا نكرا. والمعنى: وكم من أهل قرية عتوا واستكبروا عن مر ربهم ورسله فلم يطيعوا الله ورسله فحاسبناها حسابا شديدا ناقشنا فيه واستقصيناه، وعذبناهم عذابا صعبا غير معهود وهو عذاب الاستئصال في الدنيا. وما قيل: إن المراد به عذاب الآخرة، والتعبير بالفعل الماضي للدلالة على تحقق الوقوع غير سديد. وفي قوله: " فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها " التفات من الغيبة إلى التكلم مع الغير، ونكتته الدلالة على العظمة. قوله تعالى: " فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا " المراد بأمرها عتوها واستكبارها، والمعنى: فأصابتهم عقوبة عتوهم وكان عاقبة عتوهم خسارا كأنهم اشتروا العتو بالطاعة فانتهى إلى أن خسروا. قوله تعالى: " أعد الله لهم عذابا شديدا " هذا جزاؤهم في الاخرى كما كان ما في قوله: " فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا فذاقت وبال أمرها " جزاءهم في الدنيا. والفضل في قوله: " أعد الله لهم " الخ، لكونه في مقام دفع الدخل كأنه لما قيل: " وكان عاقبة أمرها خسرا "، قيل: ما المراد بخسرهم ؟ فقيل: " أعد الله لهم عذابا شديدا ". قوله تعالى: " فاتقوا الله يا أولي الالباب الذين آمنوا قد أنزل الله اليكم ذكرا " استنتاج مما تقدم خوطب به المؤمنون ليأخذوا حذرهم ويقوا أنفسهم أن يعتوا عن أمر ربهم ويطغوا عن طاعته فيبتلوا بوبال عتوهم وخسران عاقبتهم كما ابتليت بذلك القرى الهالكة. وقد وصف المؤمنين باولي الالباب فقال: " اتقوا الله يا أولي الالباب الذين آمنوا "
________________________________________
[ 325 ]
استمدادا من عقولهم على ما يريده منهم من التقوى فإنهم لما سمعوا أن قوما عتوا عن أمر ربهم فحوسبوا حسابا شديدا وعذبوا عذابا نكرا وكان عاقبة أمرهم خسرا ثم سمعوا أن ذلك تكرر مرة بعد مرة وأباد قوما بعد قوم، قضت عقولهم بأن العتو والاستكبار عن أمر الله تعرض لشديد حساب الله ومنكر عذابه فتنبههم وتبعثهم إلى التقوى وقد أنزل الله إليهم ذكرا يذكرهم به ما لهم وما عليهم ويهديهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم. قوله تعالى: " رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات " الخ عطف بيان أو بدل من " ذكرا " فالمراد بالذكر الذي أنزله هو الرسول سمي به لانه وسيلة التذكرة بالله وآياته وسبيل الدعوة إلى دين الحق، والمراد بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم على ما يؤيده ظاهر قوله: " يتلو عليكم آيات الله مبينات " الخ. وعلى هذا فالمراد بإنزال الرسول بعثه من عالم الغيب وإظهاره لهم رسولا من عنده بعد ما لم يكونوا يحتسبون كما في قوله: " وأنزلنا الحديد " الحديد: 25. وقد دعى ظهور الانزال في كونه من السماء بعضهم كصاحب الكشاف إلى أن فسر " رسولا " بجبريل ويكون حينئذ معنى تلاوته الآيات عليهم تلاوته على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما أنه متبوع لقومه ووسيلة الابلاغ لهم لكن ظاهر قوله: " يتلو عليكم " الخ، خلاف ذلك. ويحتمل أن يكون " رسولا " منصوبا بفعل محذوف والتقدير أرسل رسولا يتلو عليكم آيات الله، ويكون المراد بالذكر المنزل إليهم القرآن أو ما بين فيه من الاحكام والمعارف. وقوله: " ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور " تقدم تفسيره في نظائره. وقوله: " ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها أبدا " وعد جميل وتبشير. وقوله: " قد أحسن الله له رزقا " وصف لاحسانه تعالى إليهم فيما رزقهم به من الرزق والمراد بالرزق ما رزقهم من الايمان والعمل الصالح في الدنيا والجنة في الآخرة، وقيل المراد به الجنة. قوله تعالى: " الله الذي خلق سبع سماوات ومن الارض مثلهن يتنزل الامر بينهن " الخ، بيان يتأكد به ما تقدم في الآيات من حديث ربوبيته تعالى وبعثه الرسول وإنزاله


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page