• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 201 الي 225


[ 201 ]
(بيان) تشير السورة إلى قصة إجلاء بني النضير من اليهود لما نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين، وإلى وعد المنافقين لهم بالنصر والملازمة ثم غدرهم وما يلحق بذلك من حكم فيئهم. ومن غرر الآيات فيها الآيات السبع في آخرها يأمر الله سبحانه عباده فيها بالاستعداد للقائه من طريق المراقبة والمحاسبة، ويذكر عظمة قوله وجلالة قدره بوصف عظمة قائله عز من قائل بما له من الاسماء الحسنى والصفات العليا. والسورة مدنية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " سبح لله ما في السماوات وما في الارض وهو العزيز الحكيم " افتتاح مطابق لما في مختتم السورة من قوله: " يسبح له ما في السماوات والارض وهو العزيز الحكيم ". وإنما افتتح بالتنزيه لما وقع في السورة من الاشارة إلى خيانة اليهود ونقضهم العهد ثم وعد المنافقين لهم بالنصر غدرا كمثل الذين كانوا من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم، وبالنظر إلى ما أذاقهم الله من وبال كيدهم، وكون ذلك على ما يقتضيه الحكمة والمصلحة ذيل الآية بقوله: " وهو العزيز الحكيم ". قوله تعالى: " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر " تأييد لما ذكر في الآية السابقة من تنزهه تعالى وعزته وحكمته، والمراد بإخراج الذين كفروا من أهل الكتاب إجلاء بني النضير حي من أحياء اليهود كانوا يسكنون خارج المدينة وكان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم عهد أن لا يكونوا له ولا عليه ثم نقضوا العهد فأجلاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وستأتي قصتهم في البحث الروائي التالي إن شاء الله. والحشر إخراج الجماعة بإزعاج، و " لاول الحشر " من إضافة الصفة إلى الموصوف، واللام بمعنى في كقوله: " أقم الصلاة لدلوك الشمس " أسرى: 78. والمعنى: الله الذي أخرج بني النضير من اليهود من ديارهم في أول إخراجهم من جزيرة العرب. ثم أشار تعالى إلى أهمية إخراجهم بقوله: " ما ظننتم أن يخرجوا " لما كنتم تشاهدون فيهم من القوة والشدة والمنعة " وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله " فلن يغلبهم الله وهم متحصنون فيها وعد حصونهم بحسب ظنهم مانعة من الله لا من المسلمين لما أن إخراجهم
________________________________________
[ 202 ]
منها منسوب في الآية السابقة إليه تعالى وكذا إلقاء الرعب في قلوبهم في ذيل الآية، وفي الكلام دلالة على أنه كانت لهم حصون متعددة. ثم ذكر فساد ظنهم وخبطهم في مزعمتهم بقوله: " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " والمراد به نفوذ إرادته تعالى فيهم لا من طريق احتسبوه وهو طريق الحصون والابواب بل من طريق باطنهم وهو طريق القلوب " وقذف في قلوبهم الرعب " والرعب الخوف الذي يملا القلب " يخربون بيوتهم بأيديهم " لئلا تقع في أيدي المؤمنين بعد خروجهم وهذه من قوة سلطانه تعالى عليهم حيث أجرى ما أراده بأيدي أنفسهم " وأيدي المؤمنين " حيث أمرهم بذلك ووفقهم لامتثال أمره وإنفاذ إرادته " فاعتبروا " وخذوا بالعظة " يا أولي الابصار " بما تشاهدون من صنع الله العزيز الحكيم بهم قبال مشاقتهم له ولرسوله. وقيل: كانوا يخربون البيوت ليهربوا ويخربها المؤمنون ليصلوا. وقيل: المراد بتخريب البيوت اختلال نظام حياتهم فقد خربوا بيوتهم بأيديهم حيث نقضوا الموادعة، وبأيدي المؤمنين حيث بعثوهم على قتالهم. وفيه أن ظاهر قوله: " يخربون بيوتهم " الخ أنه بيان لقوله: " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " الخ، من حيث أثره فهو متأخر عن نقض الموادعة. قوله تعالى: " ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار " الجلاء ترك الوطن وكتابة الجلاء عليهم قضاؤه في حقهم، والمراد بعذابهم في الدنيا عذاب الاستئصال أو القتل والسبي. والمعنى: ولولا أن قضى الله عليهم الخروج من ديارهم وترك وطنهم لعذبهم في الدنيا بعذاب الاستئصال أو القتل والسبي كما فعل ببني قريظة ولهم في الآخرة عذاب النار. قوله تعالى: " ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب " المشاقة المخالفة بالعناد، والاشارة بذلك إلى ما ذكر من إخراجهم واستحقاقهم العذاب لو لم يكتب عليهم الجلاء، وفي تخصيص مشاقتهم بالله في قوله: " ومن يشاق الله " بعد تعميمه لله ورسوله في قوله: " شاقوا الله ورسوله " تلويح إلى أن مشاقة الرسول مشاقة الله والباقي ظاهر. قوله تعالى: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين " ذكر الراغب أن اللينة النخلة الناعمة من دون اختصاص منه بنوع منها دون
________________________________________
[ 203 ]
نوع، رووا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقطع نخيلهم فلما قطع بعضها نادوه: يا محمد قد كنت تنهى عن الفساد في الارض فما بال النخيل تقطع فنزلت الآية فاجيب عن قولهم بأن ما قطعوا من نخلة أو تركوها قائمة على أصولها فبإذن الله ولله في حكمه هذا غايات حقة وحكم بالغة منها إخزاء الفاسقين وهم بنو النضير. فقوله: " وليخزي الفاسقين " اللام فيه للتعليل وهو معطوف على محذوف والتقدير: القطع والترك بإذن الله ليفعل كذا وكذا وليخزي الفاسقين فهو كقوله: " وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والارض وليكون من الموقنين " الانعام: 75. قوله تعالى: " وما أفاء الله على رسوله منهم فما أو جفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء " الخ، الافادة الارجاع من الفئ بمعنى الرجوع، وضمير " منهم " لبني النضير والمراد من أموالهم. وإيجاف الدابة تسييرها بإزعاج وإسراع والخيل الفرس، والركاب الابل و " من خيل ولا ركاب " مفعول " فما أو جفتم " و " من " زائدة للاستغراق. والمعنى: والذي أرجعه الله إلى رسوله من أموال بني النضير - خصه به وملكه وحده إياه - فلم تسيروا عليه فرسا ولا إبلا بالركوب حتى يكون لكم فيه حق بل مشيتم إلى حصونهم مشاة لقربها من المدينة، ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير وقد سلط النبي صلى الله عليه وآله وسلم على بني النضير فله فيئهم يفعل فيه ما يشاء. قوله تعالى: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " الخ، ظاهره أنه بيان لموارد مصرف الفيئ المذكور في الآية السابقة مع تعميم الفيئ لفيئ أهل القرى أعم من بني النضير وغيرهم. وقوله: " فلله وللرسول " أي منه ما يختص بالله والمراد به صرفه وإنفاقه في سبيل الله على ما يراه الرسول ومنه ما يأخذه الرسول لنفسه ولا يصغى إلى قول من قال: إن ذكره تعالى مع أصحاب السهام لمجرد التبرك. وقوله: " ولذي القربى " الخ، المراد بذي القربى قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا معنى لحمله على قرابة عامة المؤمنين وهو ظاهر، والمراد باليتامى الفقراء منهم كما يشعر به السياق وإنما أفرد وقدم على " المساكين " مع شموله له اعتناء بأمر اليتامى. وقد ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أن المراد بذي القربى أهل البيت واليتامى
________________________________________
[ 204 ]
والمساكين وابن السبيل منهم. وقوله: " كيلا يكون دولة بين الاغنياء منكم " أي إنما حكمنا في الفئ بما حكمنا كيلا يكون دولة بين الاغنياء منكم والدولة ما يتداول بين الناس ويدور يدا بيد. وقوله: " وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " أي ما أعطاكم الرسول من الفئ فخذوه كما أعطى منه المهاجرين ونفرا من الانصار، وما نهاكم عنه ومنعكم فانتهوا ولا تطلبوا، وفيه إشعار بأنهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقسم الفئ بينهم جميعا فأرجعه إلى نبيه وجعل موارد مصرفه ما ذكره في الآية وجعل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينفقه فيها على ما يرى. والآية مع الغض عن السياق عامة تشمل كل ما آتاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حكم فأمر به أو نهى عنه. وقوله: " واتقوا الله إن الله شديد العقاب " تحذير لهم عن مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تأكيدا لقوله: " وما آتاكم الرسول " الخ. قوله تعالى: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا " الخ، قيل: إن قوله: " للفقراء " بدل من قوله: " ذي القربى " وما بعده وذكر " الله " لمجرد التبرك فيكون الفئ مختصا بالرسول والفقراء من المهاجرين، وقد وردت الرواية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم فئ بني النضير بين المهاجرين ولم يعط منه الانصار شيئا إلا رجلين من فقرائهم أو ثلاثة. وقيل: إنه بدل من اليتامى والمساكين وابن السبيل فيكون ذوو السهام هم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذا القربى غنيهم وفقيرهم والفقراء من المهاجرين يتاماهم ومساكينهم وأبناء السبيل منهم، ولعل هذا مراد من قال: إن قوله: " للفقراء المهاجرين " بيان المساكين في الآية السابقة. والانسب لما تقدم نقله عن أئمة أهل البيت عليه السلام أن يكون قوله: " للفقراء المهاجرين " الخ، بيان مصداق لصرف سبيل الله الذي أشير إليه بقوله: " فلله " لا بأن يكون الفقراء المهاجرون أحد السهماء في الفئ بل بأن يكون صرفه فيهم وإعطاؤهم إياه صرفا له في سبيل الله. ومحصل المعنى على هذا: أن الله سبحانه أفاء الفئ وأرجعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فله أن يتصرف فيه كيف يشاء ثم دله على موارد صرفه وهي سبيل الله والرسول وذو القربى
________________________________________
[ 205 ]
ويتاماهم ومساكينهم وابن السبيل منهم ثم أشار إلى مصداق الصرف في السبيل أو بعض مصاديقه وهم الفقراء المهاجرون الخ، ينفق منه الرسول لهم على ما يرى. وعلى هذا ينبغي أن يحمل ما ورد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسم فئ بني النضير بين المهاجرين ولم يعط الانصار شيئا إلا ثلاثة من فقرائهم: أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة فقد صرف فيهم بما أنه صرف في سبيل الله لا بما أنهم سهماء في الفئ. وكيف كان فقوله: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم " المراد بهم من هاجر من المسلمين من مكة إلى المدينة قبل الفتح وهم الذين أخرجهم كفار مكة بالاضطرار إلى الخروج فتركوا ديارهم وأموالهم وهاجروا إلى مدينة الرسول. وقوله: " يبتغون فضلا من الله ورضوانا " الفضل الرزق أي يطلبون من الله رزقا في الدنيا ورضوانا في الآخره. وقوله: " وينصرون الله ورسوله " أي ينصرونه ورسوله بأموالهم وأنفسهم، وقوله: " اولئك هم الصادقون " تصديق لصدقهم في أمرهم وهم على هذه الصفات. قوله تعالى: " والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم " الخ، قيل: إنه استئناف مسوق لمدح الانصار لتطيب بذلك قلوبهم إذ لم يشركوا في الفئ، " والذين تبوؤا " - والمراد بهم الانصار - مبتدأ خبره " يحبون " الخ، والمراد بتبوي الدار وهو تعميرها بناء مجتمع ديني يأوي إليه المؤمنون على طريق الكناية، والايمان معطوف على " الدار " وتبوي الايمان وتعميره رفع نواقصه من حيث العمل بحيث يستطاع العمل بما يدعو إليه من الطاعات والقربات من غير حجر ومنع كما كان بمكة. واحتمل أن يعطف " الايمان " على تبوؤا وقد حذف الفعل العامل فيه، والتقدير: وآثروا الايمان. وقيل: إن قوله: " والذين تبوؤا " الخ، معطوف على قوله: " المهاجرين " وعلى هذا يشارك الانصار المهاجرين في الفيئ، والاشكال عليه بأن المروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قسمه بين المهاجرين ولم يعط الانصار منه شيئا إلا ثلاثة من فقرائهم مدفوع بأن الرواية من شواهد العطف دون الاستئناف إذ لو لم يجز إعطاؤه للانصار لم يجز لا - للثلاثة ولا للواحد فإعطاء بعضهم منه دليل على مشاركتهم لهم غير أن الامر لما كان راجعا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان له أن يصرفه كيف يشاء فرجع أن يقسمه بينهم على تلك الوتيرة.
________________________________________
[ 206 ]
والانسب لما من كون " للفقراء " الخ، بيانا لمصاديق سهم السبيل هو عطف " والذين تبوؤا " الخ، وكذا قوله الآتي: " والذين جاؤا من بعدهم " على قوله: " المهاجرين " الخ، دون الاستئناف. بل ما ورد من إعطائه صلى الله عليه وآله وسلم للثلاثة يؤيد هذا الوجه بعينه إذ لو كان السهيم فيه الفقراء المهاجرين فحسب لم يعط الانصار ولا لثلاثة منهم، ولو كان للفقراء من الانصار كالمهاجرين فيه سهم - وظاهر الآية أن جمعا منهم كانوا فقراء بهم خصاصة والتاريخ يؤيده - لاعطى غير الثلاثة من فقراء الانصار كما أعطى فقراء المهاجرين واستوعبهم. فقوله: " والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم " ضمير " من قبلهم " للمهاجرين والمراد من قبل مجيئهم وهجرتهم إلى المدينة. وقوله: " يحبون من هاجر إليهم " أي يحبون من هاجر إليهم لاجل هجرتهم من دار الكفر إلى دار الايمان ومجتمع المسلمين. وقوله: " ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا " ضميرا " يجدون " و " صدورهم " للانصار، وضمير " أوتوا " للمهاجرين، والمراد بالحاجة ما يحتاج إليه و " من " تبعيضية وقيل: بيانية والمعنى: لا يخطر ببالهم شئ مما أعطيه المهاجرون فلا يضيق نفوسهم من تقسيم الفئ بين المهاجرين دونهم ولا يحسدون. وقيل: المراد بالحاجة ما يؤدي إليه الحاجة وهو الغيظ. وقوله: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة " إيثار الشئ اختياره وتقديمه على غيره، والخصاصة الفقر والحاجة، قال الراغب: خصاص البيت فرجه وعبر عن الفقر الذي لم يسد بالخصاصة كما عبر عنه بالخلة انتهى. والمعنى: ويقدمون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم فقر وحاجة، وهذه الخصيصة أغزر وأبلغ في مدحهم من الخصيصة السابقة فالكلام في معنى الاضراب كأنه قيل: إنهم لا يطمحون النظر فيما بأيدي المهاجرين بل يقدمونهم على أنفسهم فيما بأيديهم أنفسهم في عين الفقر والحاجة. وقوله: " ومن يوق شح نفسه فاولئك هم المفلحون " قال الراغب: الشح بخل مع حرص فيما كان عادة انتهى. و " يوق " فعل مضارع مجهول من الوقاية بمعنى الحفظ، والمعنى: ومن يحفظ - أي يحفظه الله - من ضيق نفسه من بذل ما بيده من المال أو من
________________________________________
[ 207 ]
وقوع مال في يد غيره فاولئك هم المفلحون. قوله تعالى: " والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان " استئناف أو عطف نظير ما تقدم في قوله: " والذين تبوؤا الدار والايمان يحبون " وعلى الاستئناف فالموصول مبتدأ خبره قوله: " يقولون ربنا " الخ. والمراد بمجيئهم بعد المهاجرين والانصار إيمانهم بعد انقطاع الهجرة بالفتح وقيل: المراد أنهم خلفوهم. وقولهم: " ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان " دعاء لانفسهم والسابقين من المؤمنين بالمغفرة، وفي تعبيرهم عنهم بإخواننا إشارة إلى أنهم يعدونهم من أنفسهم كما قال الله تعالى: " بعضكم من بعض " النساء: 25، فهم يحبونهم كما يحبون أنفسهم ويحبون لهم ما يحبون لانفسهم. ولذلك عقبوه بقولهم: " ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم " فسألوا أن لا يجعل الله في قلوبهم غلا للذين آمنوا والغل العداوة. وفي قوله: " للذين آمنوا " تعميم لعامة المؤمنين منهم وممن سبقهم وتلويح إلى أنه لا بغية لهم إلا الايمان. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم " الآية، قال: سبب ذلك أنه كان بالمدينة ثلاثة أبطن من اليهود: بني النضير وقريظة وقينقاع، وكان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عهد ومدة فنقضوا عهدهم. وكان سبب ذلك بني النضير في نقض عهدهم أنه أتاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستسلفهم دية رجلين قتلهما رجل من أصحابه غيلة، يعني يستقرض، وكان بينهم كعب بن الاشرف فلما دخل على كعب قال: مرحبا يا أبا القاسم وأهلا وقام كأنه يصنع له الطعام وحدث نفسه أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتبع أصحابه، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك. فرجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وقال لمحمد بن مسلمة الانصاري: إذهب إلى بني النضير فأخبرهم أن الله عز وجل قد أخبرني بما هممتم به من الغدر فإما أن تخرجوا من
________________________________________
[ 208 ]
بلدنا وإما أن تأذنوا بحرب، فقالوا: نخرج من بلادك. فبعث إليهم عبد الله بن أبي: لا تخرجوا وتقيموا وتنابذوا محمدا الحرب فإني أنصركم أنا وقومي وحلفائي فإن خرجتم خرجت معكم وإن قاتلتم قاتلت معكم، فأقاموا وأصلحوا بينهم حصونهم وتهيؤا للقتال وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنا لا نخرج فاصنع ما أنت صانع. فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكبر وكبر أصحابه وقال لامير المؤمنين: تقدم على بني النضير فأخذ أمير المؤمنين الراية وتقدم، وجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأحاط بحصنهم وغدر بهم عبد الله بن أبي. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا ظهر بمقدم بيوتهم حصنوا ما يليهم وخربوا ما يليه، وكان الرجل منهم ممن كان له بيت حسن خربه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمر بقطع نخلهم فجزعوا من ذلك وقالوا: يا محمد إن الله يأمرك بالفساد ؟ إن كان لك هذا فخذه وإن كان لنا فلا تقطعه. فلما كان بعد ذلك قالوا: يا محمد نخرج من بلادك فأعطنا مالنا، فقال: لا ولكن تخرجون ولكم ما حملت الابل، فلم يقبلوا ذلك فبقوا أياما ثم قالوا: نخرج ولنا ما حملت الابل، فقال: لا ولكن تخرجون ولا يحمل أحد منكم شيئا، فمن وجدنا معه شيئا من ذلك قتلناه. فخرجوا على ذلك ووقع منهم قوم إلى فدك ووادي القرى وخرج قوم منهم إلى الشام. فأنزل الله فيهم " هو الذي أخرج الذين كفروا - إلى قوله - فإن الله شديد العقاب " وأنزل الله عليه فيما عابوه من قطع النخل " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على اصولها " فبإذن الله - إلى قوله - ربنا إنك رؤف رحيم ". وأنزل الله عليه في عبد الله بن أبي وأصحابه " ألم تر إلى الذين نافقوا - إلى قوله - ثم لا ينصرون " وفي المجمع عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ فأعطوه ما أراد منهم فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم وأن يخرجهم من أرضهم وأوطانهم وأن يسيرهم إلى أذرعات بالشام وجعل لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء. فخرجوا إلى أذرعات بالشام وأريحا إلا أهل بيتين منهم آل أبي الحقيق وآل حيي بن أخطب فإنهم لحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة.
________________________________________
[ 209 ]
وفيه عن محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعثه إلى بني النضير وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاث ليال. وفيه عن محمد بن إسحاق: كان إجلاء بني النضير مرجع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أحد، وكان فتح قريظة مرجعه من الاحزاب، وكان الزهري يذهب إلى أن إجلاء بني النضير كان قبل أحد على رأس ستة أشهر من وقعة بدر. وفيه عن ابن عباس: نزل قوله تعالى: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى " الآية في أموال كفار أهل القرى وهم قريظة وبنو النضير وهما بالمدينة، وفدك وهي من المدينة على ثلاثة أميال، وخيبر وقرى عرينة وينبع جعلها الله لرسوله يحكم فيها ما أراد وأخبر أنها كلها له فقال أناس: فهلا قسمها فنزلت الآية. وفيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بني النضير للانصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم يقسم لكم شئ من الغنيمة فقال الانصار: بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فنزلت: " ويؤثرون على أنفسهم " الآية. أقول: وروي في إيثارهم ونزول الآية فيه قصص أخرى، والظاهر أن ذلك من قبيل تطبيق الآية على القصة، وقد روى المعاني السابقة في الدر المنثور بطرق كثيرة مختلفة. وفي التوحيد عن علي عليه السلام وقد سئل عما اشتبه على السائل من الآيات قال في قوله تعالى: " فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا " يعني أرسل عليهم عذابا. وفي التهذيب بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: " ما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه " الآية قال الفئ ما كان من أموال لم يكن فيها هراقة دم أو قتل والانفال مثل ذلك وهو بمنزلته. وفي المجمع روى المنهال بن عمر عن علي بن الحسين عليه السلام قلت: قوله: " ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل " قال: هم قربانا ومساكيننا وأبناء سبيلنا. أقول: وروى هذا المعنى في التهذيب عن سليم بن قيس عن أمير المؤمنين عليه السلام، وقال في المجمع بعد نقل الرواية السابقة: وقال جميع الفقهاء: هم يتامى الناس عامة وكذلك المساكين وأبناء السبيل وقد روي ذلك أيضا عنهم عليه السلام.
________________________________________
[ 210 ]
وفي الكافي بإسناده عن زرارة أنه سمع أبا جعفر وأبا عبد الله عليهما السلام يقولان: إن الله عز وجل فوض إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أمر خلقه لينظر كيف طاعتهم ثم تلى (1) هذه الآية " ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ". أقول: والروايات عنهم عليهم السلام في هذا المعنى كثيرة والمراد بتفويضه أمر خلقه كما يظهر من الروايات إمضاؤه تعالى ما شرعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم وافتراض طاعته في ذلك، وولايته أمر الناس وأما التفويض بمعنى سلبه تعالى ذلك عن نفسه وتقليده صلى الله عليه وآله وسلم لذلك فمستحيل. وفيه بإسناده عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث: الايمان بعضه من بعض وهو دار وكذلك الاسلام دار والكفر دار. وفي المحاسن بإسناده عن أبي عبيدة عن أبي جعفر عليه السلام في حديث قال: يا زياد ويحك وهل الدين إلا الحب. ألا ترى إلى قول الله: " إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم " أو لا ترون إلى قول الله لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: " حبب اليكم الايمان وزينة في قلوبكم " وقال: يحبون من هاجر إليهم " وقال: الدين هو الحب والحب هو الدين. وفي المجمع وفي الحديث: لا يجتمع الشح والايمان في قلب رجل مسلم، ولا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف رجل مسلم. وفي الفقيه روى الفضل بن أبي قرة السمندي قال: قال لي أبو عبد الله عليه السلام: أتدري من الشحيح ؟ قلت: هو البخيل. قال: الشح أشد من البخل إن البخيل يبخل بما في يده والشحيح يشح بما في أيدي الناس وعلى ما في يده حتى لا يرى في أيدي الناس شيئا إلا تمنى أن يكون له بالحل والحرام، ولا يقنع بما رزقه الله عز وجل. ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا
________________________________________
(1) تليا، ظ.
________________________________________
[ 211 ]
وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون _ 11. لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون _ 12. لانتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون _ 13. لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون _ 14. كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم _ 15. كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين _ 16. فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين _ 17. (بيان) إشارة إلى حال المنافقين ووعدهم لبني النضير بالنصر إن قوتلوا والخروج معهم إن أخرجوا وتكذيبهم فيما وعدوا. قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب " الخ، الاخوان كالاخوة جمع أخ والاخوة الاشتراك في الانتساب إلى أب ويتوسع فيه فيستعمل في المشتركين في اعتقاد أو صداقة ونحو ذلك، ويكثر استعمال الاخوة في المشتركين في النسبة إلى أب واستعمال الاخوان في المشتركين في اعتقاد ونحوه على ما قيل. والاستفهام في الآية للتعجيب، والمراد بالذين نافقوا عبد الله بن أبي وأصحابه، والمراد بإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب بنو النضير على ما يؤيده السياق فإن مفاد الآيات
________________________________________
[ 212 ]
أنهم كانوا قوما من أهل الكتاب دار أمرهم بين الخروج والقتال بعد قوم آخر كذلك وليس إلا بني النضير بعد بني قينقاع. وقوله: " لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم " مقول قول المنافقين، واللام في " لئن أخرجتم " للقسم أي نقسم لئن أخرجكم المسلمون من دياركم لنخرجن من ديارنا معكم ملازمين لكم ولا نطيع فيكم أي في شأنكم أحدا يشير علينا بمفارقتكم أبدا، وإن قاتلكم المسلمون لننصرنكم عليهم. وقوله: " والله يشهد إنهم لكاذبون " تكذيب لوعد المنافقين، وتصريح بأنهم لا يفون بوعدهم. قوله تعالى: " لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم " تكذيب تفصيلي لوعدهم بعد تكذيبه الاجمالي بقوله: " والله يشهد إنهم لكاذبون " وقد كرر فيه لام القسم، والمعنى: أقسم لئن أخرج بنو النضير لا يخرج معهم المنافقون، وأقسم لئن قوتلوا لا ينصرونهم. قوله تعالى: " ولئن نصروهم ليولن الادبار ثم لا ينصرون " إشارة إلى أن نصرهم على تقدير وقوعه منهم - ولن يقع أبدا - لا يدوم ولا ينفعهم بل يولون الادبار فرارا ثم لا ينصرون بل يهلكون من غير أن ينصرهم أحد. قوله تعالى: " لانتم أشد رهبة في صدورهم من الله " الخ، ضمائر الجمع للمنافقين، والرهبة الخشية، والآية في مقام التعليل لقوله: " ولئن نصروهم ليولن الادبار " أي ذلك لانهم يرهبونكم أشد من رهبتهم لله فلا يقاومونكم لو قاتلتم ولا يثبتون لكم. وعلل ذلك بقوله: " ذلك بأنهم قوم لا يفقهون " والاشارة بذلك إلى كون رهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله أي رهبتهم لكم كذلك لانهم قوم لا يفهمون حق الفهم ولو فقهوا حقيقة الامر بان لهم أن الامر إلى الله تعالى وليس لغيره من الامر شئ سواء في ذلك المسلمون وغيرهم، ولا يقوى غيره تعالى على عمل خير أو شر أو نافع أو ضار إلا بحول منه تعالى وقوة فلا ينبغي أن يرهب إلا هو عز وجل. قوله تعالى: " لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر " بيان لاثر رهبتهم وجبنهم جميعا والمعنى: لا يقاتلكم بنو النضير والمنافقون جميعا بأن يبرزوا بل في قرى حصينة محكمة أو من وراء جدر من غير بروز.
________________________________________
[ 213 ]
وقوله: " بأسهم بينهم شديد " أي هم فيما بينهم شديدوا البطش غير أنهم إذا برزوا لحربكم وشاهدوكم يجبنون بما ألقى الله في قلوبهم من الرعب. وقوله: " تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى " أي تظن أنهم مجتمعون في ألفة واتحاد والحال أن قلوبهم متفرقة غير متحدة وذلك أقوى عامل في الخزي والخذلان. ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ولو عقلوا لاتحدوا ووحدوا الكلمة. قوله تعالى: " كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب أليم " الوبال العاقبة السيئة وقوله: " قريبا " قائم مقام الظروف منصوب على الظرفية أي في زمان قريب. وقوله: كمثل " الخ، خبر مبتدأ محذوف والتقدير " مثلهم كمثل " الخ، والمعنى: مثلهم أي مثل بني النضير من اليهود في نقضهم العهد ووعد المنافقين لهم بالنصر كذبا ثم الجلاء مثل الذين من قبلهم في زمان قريب وهم بنو قينقاع رهط آخر من يهود المدينة نقضوا العهد بعد غزوة بدر فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أذرعات وقد كان وعدهم المنافقون أن يكلموا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهم ويمنعوه من إجلائهم فغدروا بهم فذاق بنو قينقاع وبال أمرهم ولهم في الآخرة عذاب أليم وقيل: المراد بالذين من قبلهم كفار مكة يوم بدر وما تقدم أنسب للسياق. والمثل على أي حال مثل لبني النضير لا للمنافقين على ما يعطيه السياق. قوله تعالى: " كمثل الشيطان إذ قال للانسان أكفر فلما كفر قال إني برئ منك " الخ، ظاهر السياق أنه مثل للمنافقين في غرورهم بني النضير بوعد النصر ثم خذلانهم عند الحاجة. وظاهر سياق يفيد أن المراد بالشيطان والانسان الجنس والاشارة إلى غرور الشيطان للانسان بدعوته إلى الكفر بتزيين أمتعة الحياة له وتسويل الاعراض عن الحق بمواعيده الكاذبة والاماني السرابية حتى إذا طلعت له طلائع الآخرة وعاين أن ما اغتر به من أماني الحياة الدنيا لم يكن إلا سرابا يغره وخيالا يلعب به تبرأ منه الشيطان ولم يف بما وعده وقال: إني برئ منك إني أخاف الله رب العالمين. وبالجملة مثل المنافقين في دعوتهم بني النضير إلى مخالفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووعدهم النصر ثم الغدر بهم وخلف الوعد كمثل هذا الشيطان في دعوه الانسان إلى الكفر بمواعيده الكاذبة
________________________________________
[ 214 ]
ثم تبريه منه بعد الكفر عند الحاجة. وقيل: المراد بالتمثيل الاشارة إلى قصة برصيصا العابد الذي زين له الشيطان الفجور ففجر بامرأة ثم كفر وسيأتي القصة في البحث الروائي التالي إن شاء الله. وقيل: المثل السابق المذكور في قوله: " كمثل الذين من قبلهم قريبا " مثل كفار مكة يوم بدر - كما تقدم - والمراد بالانسان في هذا المثل أبو جهل وبقول الشيطان له أكفر ما قصه الله تعالى بقوله في القصة: " وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبية وقال إني برئ منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب " الانفال: 48. وعلى هذا الوجه فقول الشيطان: " إني أخاف الله رب العالمين " قول جدي لانه كان يخاف تعذيب الملائكة النازلين لنصرة المؤمنين ببدر وأما على الوجهين الاولين فهو نوع من الاستهزاء والاخزاء. قوله تعالى: " فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها وذلك جزاء الظالمين " الظاهر أن ضمائر التثنية للشيطان والانسان المذكورين في المثل ففي الآية بيان عاقبة الشيطان في غروره الانسان وإضلاله والانسان في اغتراره به وضلاله، وإشارة إلى أن ذلك عاقبة المنافقين في وعدهم لبني النضير وغدرهم بهم وعاقبة بني النضير في اغترارهم بوعدهم الكاذب وإصرارهم على المشاقة والمخالفة، ومعنى الآية ظاهر. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وابن المنذر وأبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أن رهطا من بني عوف بن الحارث منهم عبد الله بن أبي بن سلول ووديعة بن مالك وسويد وداعس بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا وتمنعوا فإنا لا نسلمكم وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن خرجتم خرجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا وقذف الله الرعب في قلوبهم. فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الابل من أموالهم إلا الحلقة ففعل فكان الرجل منهم يهدم بيته فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به
________________________________________
[ 215 ]
فخرجوا إلى خيبر ومنهم من سار إلى الشام. أقول: والرواية تخالف ما في عدة من الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي عرض لهم أن يخرجوا بما تحمله الابل من الاموال فلم يقبلوا ثم رضوا بذلك بعد أيام فلم يقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن يخرجوا بأنفسهم وأهليهم من غير أن يحملوا شيئا فخرجوا كذلك وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكل ثلاثة منهم بعيرا وسقاء. وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس " ألم تر إلى الذين نافقوا " قال: عبد الله بن أبي ابن سلول ورفاعة بن تابوت وعبد الله بن نبتل وأوس بن قيظى. " وإخوانهم " بنو النضير. أقول: المراد به عد بعضهم فلا ينافي ما في الرواية السابقة. وفيه أخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن عبيد بن رفاعة الدارمي يبلغ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان راهب في بني إسرائيل فأخذ الشيطان جارية فحنقها فألقى في قلوب أهلها أن دواءها عند الراهب فاتي بها الراهب فأبي أن يقبلها فلم يزالوا به حتى قبلها فكانت عنده. فأتاه الشيطان فوسوس له وزين له فلم يزل به حتى وقع عليها فلما حملت وسوس له الشيطان فقال: الآن تفتضح يأتيك أهلها فاقتلها فإن أتوك فقل: ماتت فقتلها ودفنها فأتى الشيطان أهلها فوسوس إليهم وألقى في قلوبهم أنه أحبلها ثم قتلها فأتاه أهلها فسألوه فقال: ماتت فأخذوه. فأتاه الشيطان فقال: أنا الذي ألقيت في قلوب أهلها، وأنا الذي أوقعتك في هذا فأطعني تنج واسجد لى سجدتين فسجد له سجدتين فهو الذي قال الله: " كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر " الآية. أقول: والقصة مشهورة رويت مختصرة ومفصلة في روايات كثيرة. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون _ 18. ولا تكونوا كالذين
________________________________________
[ 216 ]
نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون _ 19. لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون _ 20. لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون _ 21. هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم _ 22. هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون _ 23. هو الله الخالق البارئ المصور له الاسماء الحسنى يسبح له ما في السموات والارض وهو العزيز الحكيم _ 24. (بيان) الذي تتضمنه الآيات الكريمة كالنتيجة المأخوذة مما تقدم من آيات السورة فقد أشير فيها إلى مشاقة بني النضير من اليهود ونقضهم العهد وذاك الذي أوقعهم في خسران دنياهم وأخراهم، وتحريض المنافقين لهم على مشاقة الله ورسوله وهو الذي أهلكهم، وحقيقة السبب في ذلك أنهم لم يراقبوا الله في أعمالهم ونسوه فأنساهم أنفسهم فلم يختاروا ما فيه خير أنفسهم وصلاح عاجلهم وآجلهم فتاهوا وهلكوا. فعلى من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر أن يذكر ربه ولا ينساه وينظر فيما يقدمه من العمل ليوم الرجوع إلى ربه فإن ما عمله محفوظ عليه يحاسبه به الله يومئذ فيجازيه عليه جزاء لازما لا يفارقه. وهذا هو الذي يرومه قوله: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد " الآيات فتندب المؤمنين إلى أن يذكروا الله سبحانه ولا ينسوه وينظروا في أعمالهم
________________________________________
[ 217 ]
التي على صلاحها وطلاحها يدور رحى حياتهم الآخرة فيراقبوا أعمالهم أن تكون صالحة خالصة لوجهه الكريم مراقبة مستمرة ثم يحاسبوا أنفسهم فيشكروا الله على ما عملوا من حسنة ويوبخوها ويزجروها على ما اقترفت من سيئة ويستغفروا. وذكر الله تعالى بما يليق بساحة عظمته وكبريائه من أسمائه الحسنى وصفاته العليا التي بينها القرآن الكريم في تعليمه هو السبيل الوحيد الذي ينتهي بسالكه إلى كمال العبودية ولا كمال للانسان فوقه. وذلك أن الانسان عبد محض ومملوك طلق لله سبحانه فهو مملوك من كل جهة مفروضة لا استقلال له من جهة كما أنه تعالى مالكه من كل جهة مفروضة له الاستقلال من كل جهة، وكمال الشئ محوضته في نفسه وآثاره فكمال الانسان في أن يرى نفسه مملوكا لله من غير استقلال وأن يتصف من الصفات بصفات العبودية كالخضوع والخشوع والذلة والاستكانة والفقر بالنسبة إلى ساحة العظمة والعزة والغنى وأن تجري أعماله وأفعاله على ما يريده الله لا ما يهواه نفسه من غير غفلة في شئ من هذه المراحل: الذات والصفات والافعال. ولا يتم له النظر إلى ذاته وصفاته وأفعاله بنظرة التبعية المحضة والمملوكية الطلقة إلا مع التوجه الباطني إلى ربه الذي هو على كل شئ شهيد وبكل شئ محيط وهو القائم على كل نفس بما كسبت من غير أن يغفل عنه أو ينساه. وعندئذ يطمئن قلبه كما قال تعالى: " ألا بذكر الله تطمئن القلوب " الرعد: 28، ويعرف الله سبحانه بصفات كماله التي تتضمنها أسماؤه الحسنى، ويظهر منه قبال ذلك صفات عبوديته وجهات نقصه من خضوع وخشوع وذلة وفقر وحاجة. ويتعقب ذلك أعماله الصالحة بدوام الحضور واستمرار الذكر، قال تعالى: " واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون " الاعراف: 206 وقال: " فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل والنهار وهم لا يسأمون " حم السجدة: 38. وإلى ما ذكرنا من معرفته تعالى بصفات كماله ومعرفة النفس بما يقابلها من صفات النقص والحاجة يشير بمقتضى السياق قوله: " لو أنزلنا هذا القرآن " إلى آخر الآيات. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد " إلى آخر
________________________________________
[ 218 ]
الآية، أمر للمؤمنين بتقوى الله وبأمر آخر وهو النظر في الاعمال التي قدموها ليوم الحساب أهي صالحة فليرج بها ثواب الله أو طالحة فليخش عقاب الله عليها ويتدارك بالتوبة والانابة وهو محاسبة النفس. أما التقوى وقد فسر في الحديث بالورع عن محارم الله فحيث تتعلق بالواجبات والمحرمات جميعا كانت هي الاجتناب عن ترك الواجبات وفعل المحرمات. وأما النظر فيما قدمت النفس لغد فهو أمر آخر وراء التقوى نسبته إلى التقوى كنسبة النظر الاصلاحي ثانيا من عامل في عمله أو صانع فيما صنعه لتكميله ورفع نواقصه التي غفل عنها أو أخطأ فيها حين العمل والصنع. فعلى المؤمنين جميعا أن يتقوا الله فيما وجه إليهم من التكاليف فيطيعوه ولا يعصوه ثم ينظروا فيما قدموه من الاعمال التي يعيشون بها في غد بعد ما حوسبوا بها أصالح فيرجى ثوابه أم طالح فيخاف عقابه فيتوبوا إلى الله ويستغفروه. وهذا تكليف عام يشمل كل مؤمن لحاجة الجميع إلى إصلاح العمل وعدم كفاية نظر بعضهم عن نظر الآخرين غير أن القائم به من أهل الايمان في نهاية القلة بحيث يكاد يلحق بالعدم وإلى ذلك يلوح لفظ الآية " ولتنظر نفس ". فقوله: " ولتنظر نفس ما قدمت لغد " خطاب عام لجميع المؤمنين لكن لما كان المشتغل بهذا النظر من بين أهل الايمان بل من بين أهل التقوى منهم في غاية القلة بل يكاد يلحق بالعدم لاشتغالهم بأعراض الدنيا واستغراق أوقاتهم في تدبير المعيشة وإصلاح امور الحياة ألقى الخطاب في صورة الغيبة وعلقه بنفس ما منكرة فقال: " ولتنظر نفس " وفي هذا النوع من الخطاب مع كون التكليف عاما بحسب الطبع عتاب وتقريع للمؤمنين مع التلويح إلى قلة من يصلح لامتثاله منهم. وقوله: " ما قدمت لغد " استفهام من ماهية العمل الذي قدمت لغد وبيان للنظر، ويمكن أن تكون " ما " موصولة وهي وصلتها متعلقا بالنظر. والمراد بغد يوم القيامة وهو يوم حساب الاعمال وإنما عبر عنه بغد للاشارة إلى قربه منهم كقرب الغد من أمسه، قال تعالى: " إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا " المعارج: 7. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله بطاعته في جميع ما يأمركم به وينهاكم عنه، ولتنظر نفس منكم فيما عملته من عمل ولتر ما الذي قدمته من عملها ليوم الحساب أهو
________________________________________
[ 219 ]
عمل صالح أو طالح وهل عملها الصالح صالح مقبول أو مردود. وقوله: " واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون " أمر بالتقوى ثانيا و " إن الله خبير " الخ، تعليل له وتعليل هذه التقوى بكونه تعالى خبيرا بالاعمال يعطي أن المراد بهذه التقوى المأمور بها ثانيا هي التقوى في مقام المحاسبة والنظر فيها من حيث إصلاحها وإخلاصها لله سبحانه وحفظها عما يفسدها، وأما قوله في صدر الآية: " اتقوا الله " فالمراد به التقوى في أصل إتيان الاعمال بقصرها في الطاعات وتجنب المعاصي. ومن هنا تبين أن المراد بالتقوى في الموضعين مختلف فالاولى هي التقوى في أصل إتيان الاعمال، والثانية هي التقوى في الاعمال المأتية من حيث إصلاحها وإخلاصها. وظهر أيضا أن قول بعضهم: إن الاولى للتوبة عما مضى من الذنوب والثانية لاتقاء المعاصي في المستقبل غير سديد ومثله ما قيل: إن الاولى في أداء الواجبات والثانية في ترك المحرمات، ومثله ما قيل: إن الامر الثاني لتأكيد الامر الاول فحسب. قوله تعالى: " ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم " الخ، النسيان زوال صورة المعلوم عن النفس بعد حصولها فيها مع زوال مبدئه ويتوسع فيه مطلق على مطلق الاعراض عن الشئ بعدم ترتيب الاثر عليه قال تعالى: " وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين " الجاثية: 34. والآية بحسب لب معناها كالتأكيد لمضمون الآية السابقة كأنه قيل: قدموا ليوم الحساب والجزاء عملا صالحا تحيى به أنفسكم ولا تنسوه. ثم لما كان سبب نسيان النفس نسيان الله تعالى إذ بنسيانه تعالى تنسى أسماؤه الحسنى وصفاته العليا التي ترتبط بها صفات الانسان الذاتية من الذلة والفقر والحاجة فيتوهم الانسان نفسه مستقلة في الوجود ويخيل إليه أن له لنفسه حياة وقدرة وعلما وسائر ما يتراءى له من الكمال، ونظراؤه في الاستقلال سائر الاسباب الكونية الظاهرية تؤثر فيه وتتأثر عنه. وعند ذلك يعتمد على نفسه وكان عليه أن يعتمد على ربه ويرجو ويخاف الاسباب الظاهرية وكان عليه أن يرجو ويخاف ربه، يطمئن إلى غير ربه وكان عليه أن يطمئن إلى ربه. وبالجملة ينسى ربه والرجوع إليه ويعرض عنه بالاقبال إلى غيره، ويتفرع عليه أن ينسى نفسه فإن الذي يخيل إليه من نفسه أنه موجود مستقل الوجود يملك ما ظهر فيه
________________________________________
[ 220 ]
من كمالات الوجود واليه تدبير أمره مستمدا مما حوله من الاسباب الكونية وليس هذا هو الانسان بل الانسان موجود متعلق الوجود جهل كله عجز كله ذلة كله فقر كله وهكذا، وما له من الكمال كالوجود والعلم والقدرة والعزة والغنى وهكذا فلربه وإلى ربه انتهاؤه ونظراؤه في ذلك سائر الاسباب الكونية. والحاصل لما كان سبب نسيان النفس نسيان الله تعالى حول النهي عن نسيان النفس في الآية إلى النهي عن نسيانه تعالى لان انقطاع المسبب بانقطاع سببه أبلغ وآكد، ولم يقنع بمجرد النهي الكلي عن نسيانه بأن يقال: ولا تنسوا الله فينسيكم أنفسكم بل جرى بمثل إعطاء الحكم بالمثال ليكون أبلغ في التأثير وأقرب إلى القبول فنهاهم أن يكونوا كالذين نسوا الله مشيرا به إلى من تقدم ذكرهم من يهود بني النضير وبني قينقاع ومن حاله حالهم في مشاقة الله ورسوله. فقال: " ولا تكونوا كالذين نسوا الله " ثم فرع عليه قوله: " فأنساهم أنفسهم " تفريع المسبب على سببه ثم عقبه بقوله: " أولئك هم الفاسقون " فدل على أنهم فاسقون حقا خارجون عن زي العبودية. والآية وإن كانت تنهى عن نسيانه تعالى المتفرع عليه نسيان النفس لكنها بورودها في سياق الآية السابقة تأمر بذكر الله ومراقبته. فقد بان من جميع ما تقدم في الآيتين أن الآية الاولى تأمر بمحاسبة النفس والثانية تأمر بالذكر والمراقبة. قوله تعالى: " لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون " قال الراغب: الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة " انتهى. والسياق يشهد بأن المراد بأصحاب النار هم الناسون لله وبأصحاب الجنة هم الذاكرون لله المراقبون. والآية حجة تامة على وجوب اللحوق بالذاكرين لله المراقبين له دون الناسين، تقريرها أن هناك قبيلين لا ثالث لهما وهما الذاكرون لله والناسون له لا بد للانسان أن يلحق بأحدهما وليسا بمساويين حتى يتساوى اللحوقان ولا يبالي الانسان بأيهما لحق ؟ بل هناك راجح ومرجوح يجب اختيار الراجح على المرجوح والرجحان لقبيل الذاكرين لانهم الفائزون لا غير فالترجيح لجانبهم فمن الواجب لكل نفس أن يختار اللحوق بقبيل الذاكرين.
________________________________________
[ 221 ]
قوله تعالى: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله " الخ، في المجمع: التصدع التفرق بعد التلاؤم ومثله التفطر انتهى. والكلام مسوق سوق المثل مبني على التخييل والدليل عليه قوله في ذيل الآية: " وتلك الامثال نضربها للناس " الخ. والمراد تعظيم أمر القرآن بما يشتمل عليه من حقائق المعارف وأصول الشرائع والعبر والمواعظ والوعد والوعيد وهو كلام الله العظيم، والمعنى: لو كان الجبل مما يجوز أن ينزل عليه القرآن فأنزلناه عليه لرأيته - مع ما فيه من الغلظة والقسوة وكبر الجسم وقوة المقاومة قبال النوازل - متأثرا متفرقا من خشية الله فإذا كان هذا حال الجبل بما هو عليه فالانسان أحق بأن يخشع لله إذا تلاه أو تلي عليه، وما أعجب حال أهل المشاقة والعناد لا تلين قلوبهم له ولا يخشعون ولا يخشون. والالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: " من خشية الله " للدلالة على علة الحكم فإنما يخشع ويتصدع الجبل بنزول القرآن لانه كلام الله عز اسمه. وقوله، " وتلك الامثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون " من وضع الحكم الكلي موضع الجزئي للدلالة على أن الحكم ليس ببدع في مورده بل جار سار في موارد اخرى كثيرة فقوله: " لو أنزلنا هذا القرآن على جبل " الخ، مثل ضربه الله للناس في أمر القرآن لتقريب عظمته وجلالة قدره بما أنه كلام لله تعالى وبما يشتمل عليه من المعارف رجاء أن يتفكر فيه الناس فيتلقوا القرآن بما يليق به من التلقي ويتحققوا بما فيه من الحق الصريح ويهتدوا إلى ما يهدي إليه من طريق العبودية التي لا طريق إلى كمالهم وسعادتهم وراءها، ومن ذلك ما ذكر في الآيات السابقة من المراقبة والمحاسبة. قوله تعالى: " هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم " هذه الآية والآيتان بعدها وإن كانت مسوقة لتعداد قبيل من أسمائه تعالى الحسنى والاشارة إلى تسميته تعالى بكل اسم أحسن وتنزهه بشهادة ما في السماوات والارض لكنها بانضمامها إلى ما مر من الامر بالذكر تفيد أن على الذاكرين أن يذكروه بأسمائه الحسنى فيعرفوا أنفسهم بما يقابلها من أسماء النقص، فافهم ذلك. وبانضمامها إلى الآية السابقة وما فيها من قوله: " من خشية الله " تفيد تعليل خشوع الجبل وتصدعه من خشية الله كأنه قيل: وكيف لا وهو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب
________________________________________
[ 222 ]
والشهادة، إلى آخر الآيات. وقوله: " هو الله الذي لا إله إلا هو " يفيد الموصول والصلة معنى اسم من أسمائه وهو وحدانيته تعالى في ألوهيته ومعبوديته، وقد تقدم بعض ما يتعلق بالتهليل في تفسير قوله تعالى: " وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو " البقرة: 163. وقوله: " عالم الغيب والشهادة " الشهادة هي المشهود الحاضر عند المدرك والغيب خلافها وهما معنيان إضافيان فمن الجائز أن يكون شئ شهادة بالنسبة إلى شئ وغيبا بالنسبة إلى آخر ويدور الامر مدار نوع من الاحاطة بالشئ حسا أو خيالا أو عقلا أو وجودا وهو الشهادة وعدمها وهو الغيب، وكل ما فرض من غيب أو شهادة فهو من حيث هو محاط له تعالى معلوم فهو تعالى عالم الغيب والشهادة وغيره لا علم له بالغيب لمحدودية وجوده وعدم إحاطته إلا ما علمه تعالى كما قال: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول " الجن: 27، وأما هو تعالى فغيب على الاطلاق لا سبيل إلى الاحاطة به لشئ أصلا كما قال: " ولا يحيطون به علما ". وقوله: " هو الرحمن الرحيم " قد تقدم الكلام في معنى الاسمين في تفسير سورة الفاتحة. قوله تعالى: " هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر " الخ، الملك هو المالك لتدبير أمر الناس والحكم فيهم، والقدوس مبالغة في القدس وهو النزاهة والطهارة، والسلام من يلاقيك بالسلامة والعافية من غير شر وضر، والمؤمن الذي يعطي الامن، والمهيمن الفائق المسيطر على الشئ. والعزيز الغالب الذي لا يغلبه شئ أو من عنده ما عند غيره من غير عكس، والجبار مبالغة من جبر الكسر أو الذي تنفذ إرادته ويجبر على ما يشاء، والمتكبر الذي تلبس بالكبرياء وظهر بها. وقوله: " سبحان الله عما يشركون " ثناء عليه تعالى كما في قوله: " وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه " البقرة: 116. قوله تعالى: " هو الله الخالق البارئ المصور " إلى آخر الآية، الخالق هو الموجد للاشياء عن تقدير، والبارئ المنشئ للاشياء ممتازا بعضها من بعض، والمصور المعطي لها صورا يمتاز بها بعضها من بعض، والاسماء الثلاثة تتضمن معنى الايجاد باعتبارات مختلفة وبينها ترتب فالتصوير فرع البرء والبرء فرع الخلق وهو ظاهر.
________________________________________
[ 223 ]
وإنما صدر الآيتين السابقتين بقوله: " الذي لا له هو " فوصف به " الله " وعقبه بالاسماء بخلاف هذه الآية إذ قال: " هو الله الخالق " الخ. لان الاسماء الكريمة المذكورة في الآيتين السابقتين وهي أحد عشر اسما من لوازم الربوبية ومالكية التدبير التي تتفرع عليها الالوهية والمعبودية بالحق وهي على نحو الاصالة والاستقلال لله سبحانه وحده لا شريك له في ذلك فاتصافه تعالى وحده بها يستوجب اختصاص الالوهية واستحقاق المعبودية به تعالى. فالاسماء الكريمة بمنزلة التعليل لاختصاص الالوهية به تعالى كأنه قيل لا إله إلا هو لانه عالم الغيب والشهادة هو الرحمان الرحيم، ولذا أيضا ذيل هذه الاسماء بقوله ثناء عليه: " سبحان الله عما يشركون " ردا على القول بالشركاء كما يقوله المشركون. وأما قوله: " هو الله الخالق البارئ المصور " فالمذكور فيه من الاسماء يفيد معنى الخلق والايجاد واختصاص ذلك به تعالى لا يستوجب اختصاص الالوهية به كما يدل عليه أن الوثنيين قائلون باختصاص الخلق والايجاد به تعالى وهم مع ذلك يدعون من دونه أربابا وآلهة ويثبتون له شركاء. وأما وقوع اسم الجلالة في صدر الآيات الثلاث جميعا فهو علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال يرتبط به ويجري عليه جميع الاسماء وفي التكرار مزيد تأكيد وتثبيت للمطلوب. وقوله: " له الاسماء الحسنى " إشارة إلى بقية الاسماء الحسنى عن آخرها لكون الاسماء جمعا محلي باللام وهو يفيد العموم. وقوله: " يسبح له ما في السماوات والارض " أي جميع ما في العالم من المخلوقات حتى نفس السماوات والارض وقد تقدم توضيح معنى الجملة مرارا. ثم ختم الآيات بقوله: " وهو العزيز الحكيم " أي الغالب غير المغلوب الذي فعله متقن لا مجازفة فيه فلا يعجزه فيما شرعه ودعا إليه معصية العاصين ولا مشاقة المعاندين ولا يضيع عنده طاعة المطيعين وأجر المحسنين. والعناية إلى ختم الكلام بالاسمين والاشارة بذلك إلى كون القرآن النازل من عنده كلام عزيز حكيم هو الذي دعا إلى تكرار اسمه العزيز وذكره مع الحكيم مع تقدم ذكره بين الاسماء.
________________________________________
[ 224 ]
وقد وصف القرآن أيضا بالعزة والحكمة كما قال: " وإنه لكتاب عزيز " حم السجدة: 41، وقال: " والقرآن الحكيم " يس: 2. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " عالم الغيب والشهادة " عن أبي جعفر عليه السلام قال: الغيب ما لم يكن والشهادة ما قد كان. أقول: وهو تفسير ببعض المصاديق، وقد أوردنا أحاديث عنهم عليه السلام في معنى اسم الجلالة والاسمين الرحمان الرحيم في ذيل تفسير البسملة من سورة الفاتحة. وفي التوحيد بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام في حديث: لم يزل حيا بلا حياة وملكا قادرا قبل أن ينشئ شيئا وملكا جبارا بعد إنشائه للكون. أقول: قوله: لم يزل حيا بلا حياة أي بلا حياة زائدة على الذات، وقوله: لم يزل ملكا قادرا قبل أن ينشئ شيئا إرجاع للملك وهو من صفات الفعل إلى القدرة وهي من صفات الذات ليستقيم تحققه قبل الايجاد. وفي الكافي بإسناده عن هشام الجواليقي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله: " سبحان الله " ما يعني به ؟ قال: تنزيه. وفي نهج البلاغة: والخالق لا بمعنى حركة ونصب. أقول: وقد أوردنا عدة من الروايات في الاسماء الحسنى وإحصائها في البحث عن الاسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب. وفي النبوي المشهور: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا قبل أن توزنوا وتجهزوا للغرض الاكبر. وفي الكافي بإسناده إلى أبي الحسن الماضي عليه السلام قال: ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسنا ازداد لله شكرا وإن عمل سيئا استغفر الله وتاب إليه. أقول: وفيما يقرب من هذا المعنى روايات أخر، وقد أوردنا روايات عنهم عليه السلام في معنى ذكر الله في ذيل تفسير قوله تعالى: " فاذكروني أذكركم " الآية البقرة: 152، وقوله: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا " الاحزاب 21، فليراجعها من شاء.
________________________________________
[ 225 ]
(سورة الممتحنة مدنية، وهي ثلاث عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم. يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل _ 1. إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون _ 2. لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير _ 3. قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآؤا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدأ بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لابيه لاستغفرن لك وما أملك لك من الله من شئ ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير _ 4. ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم _ 5. لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجوا


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page