• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 176 الي 200



[ 176 ]
أهل الكتاب خيرا كثيرا. قال: وما ذاك ؟ قلت: قول الله عز وجل: " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون - إلى قوله - اولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا " قال: فقال: آتاكم الله كما آتاهم ثم تلا: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به " يعني إماما تأتمون به. وفي المجمع عن سعيد بن جبير بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه فقدم عليه ودعاه فاستجاب له وآمن به فلما كان عند انصرافه قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا: ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به. فقدموا مع جعفر فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: يا نبي الله إن لنا أموالا ونحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فأنزل الله فيهم: " الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون - إلى قوله - ومما رزقناهم ينفقون " فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين. فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن به قوله: " اولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا " فخروا على المسلمين فقالوا: يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابنا وكتابكم فله أجران، ومن آمن منا بكتابنا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا ؟ فنزل قوله: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله " الآية، فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة ثم قال: " لئلا يعلم أهل الكتاب ". (سورة المجادلة مدنية، وهي اثنتان وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير _ 1. الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا
________________________________________
[ 177 ]
اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور _ 2. والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير _ 3. فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم _ 4. إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم وقد أنزلنا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين _ 5. يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شئ شهيد _ 6. (بيان) تتعرض السورة لمعان متنوعة من حكم وأدب وصفة فشطر منها في حكم الظهار والنجوى وأدب الجلوس في المجالس وشطر منها يصف حال الذين يحادون الله ورسوله، والذين يوادون أعداء الدين ويصف الذين يتحرزون من موادتهم من المؤمنين ويعدهم وعدا جميلا في الدنيا والآخرة. والسورة مدنية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما " الخ، قال في المجمع: الاشتكاء إظهار ما بالانسان من مكروه، والشكاية إظهار ما يصنعه به غيره من المكروه. قال: والتحاور التراجع وهي المحاورة يقال: حاوره محاورة أي راجعه الكلام وتحاورا. انتهى.
________________________________________
[ 178 ]
الآيات الاربع أو الست نزلت في الظهار وكان من أقسام الطلاق عند العرب الجاهلي كان الرجل يقول لامرأته: أنت مني كظهر أمي فتنفصل عنه وتحرم عليه مؤبدة وقد ظاهر بعض الانصار من امرأته ثم ندم عليه فجاءت امرأته إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسائله فيه لعلها تجد طريقا إلى رجوعه إليها وتجادله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك وتشتكي إلى الله فنزلت الآيات. والمراد بالسمع في قوله: " قد سمع الله " استجابة الدعوة وقضاء الحاجة من باب الكناية وهو شائع، والدليل عليه قوله: " تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله " الظاهر في أنها كانت تتوخى طريقا إلى أن لا تنفصل عن زوجها، وأما قوله: " والله يسمع تحاوركما " فالسمع فيه بمعناه المعروف. والمعنى: قد استجاب الله للمرأة التي تجادلك في زوجها - وقد ظاهر منها - وتشتكي غمها وما حل بها من سوء الحال إلى الله والله يسمع تراجعكما في الكلام إن الله سميع للاصوات بصير بالمبصرات. قوله تعالى: " الذين يظاهرون من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم " الخ، نفي لحكم الظهار المعروف عندهم وإلغاء لتأثيره بالطلاق والتحريم الابدي بنفي أمومة الزوجة للزوج بالظهار فإن سنة الجاهلية كانت تلحق الزوجة بالام بسبب الظهار فتحرم على زوجها حرمة الام على ولدها حرمة مؤبدة. فقوله: " ما هن أمهاتهم " أي بحسب اعتبار الشرع بأن يلحقن شرعا بهن بسبب الظهار فيحرمن عليهم أبدا ثم أكده بقوله: " إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم " أي ليس أمهات أزواجهن إلا النساء اللاتي ولدنهم. ثم أكد ذلك ثانيا بقوله: " وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا " بما فيه من سياق التأكيد أي وإن هؤلاء الازواج المظاهرين ليقولون بالظهار منكرا من القول ينكره الشرع حيث لم يعتبره ولم يسنه، وكذبا باعتبار أنه لا يوافق الشرع كما لا يطابق الخارج الواقع في الكون فأفادت الآية أن الظهار لا يفيد طلاقا وهذا لا ينافي وجوب الكفارة عليه لو أراد المواقعة بعد الظهار فالزوجية على حالها وإن حرمت المواقعة قبل الكفارة. وقوله: " وإن الله لعفو غفور " لا يخلو من دلالة على كونه ذنبا مغفورا لكن ذكر الكفارة في الآية التالية مع تذييلها بقوله: " وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم " ربما دل على أن المغفرة مشروطة بالكفارة.
________________________________________
[ 179 ]
قوله تعالى: " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا " الخ، الكلام في معنى الشرط ولذلك دخلت الفاء في الخبر لانه في معنى الجزاء والمحصل: أن الذين ظاهروا منهن ثم أرادوا العود لما قالوا فعليهم تحرير رقبة. وفي قوله: " من قبل أن يتماسا " دلالة على أن الحكم في الآية لمن ظاهر ثم أراد الرجوع إلى ما كان عليه قبل الظهار وهو قرينة على أن المراد بقوله: " يعودون لما قالوا " إرادة العود إلى نقض ما أبرموه بالظهار. والمعنى: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يريدون أن يعودوا إلى ما تكلموا به من كلمة الظهار فينقضوها بالمواقعة فعليهم تحرير رقبة من قبل أن يتماسا. وقيل: المراد بعودهم لما قالوا ندمهم على الظهار، وفيه أن الندم عليه يصلح أن يكون محصل المعنى لا أن يكون معنى الكلمة " يعودون لما قالوا ". وقيل: المراد بعودهم لما قالوا رجوعهم إلى ما تلفظوا به من كلمة الظهار بأن يتلفظوا بها ثانيا وفيه أن لازمه ترتب الكفارة دائما على الظهار الثاني دون الاول والآية لا تفيد ذلك والسنة إنما اعتبرت تحقق الظهار دون تعدده. ثم ذيل الآية بقوله: " ذلكم توعظون به والله تعملون خبير " إيذانا بأن ما أمر به من الكفارة توصية منه بها عن خبرة بعملهم ذاك، فالكفارة هي التي ترتفع بها ما لحقهم من تبعة العمل. قوله تعالى: " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا " إلى آخر الآية خصلة ثانية من الكفارة مترتبة على الخصلة الاولى لمن لا يتمكن منها وهي صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، وقيد ثانيا بقوله: " من قبل أن يتماسا " لدفع توهم اختصاص القيد بالخصلة الاولى. وقوله: " فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " بيان للخصلة الثالثة فمن لم يطق صيام شهرين متتابعين فعليه إطعام ستين مسكينا وتفصيل الكلام في ذلك كله في الفقه. وقوله: " ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله " أي ما جعلناه من الحكم وافترضناه من الكفارة فأبقينا علقة الزوجية ووضعنا الكفارة لمن أراد أن يرجع إلى المواقعة جزاء بما أتى بسنة من سنن الجاهلية كل ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وترفضوا أباطيل السنن. وقوله: " وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم " حد الشئ ما ينتهي إليه ولا
________________________________________
[ 180 ]
يتعداه وأصله المنع، والمراد أن ما افترضناه من الخصال أو ما نضعها من الاحكام حدود الله فلا تتعدوها بالمخالفة وللكافرين بما حكمنا به في الظهار أو بما شرعناه من الاحكام بالمخالفة والمحادة عذاب أليم. والظاهر أن المراد بالكفر رد الحكم والاخذ بالظهار بما أنه سنة مؤثرة مقبولة، ويؤيده قوله: " ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله " أي تذعنوا بأن حكم الله حق وأن رسوله صادق أمين في تبليغه، وقد أكده بقوله: " وتلك حدود الله " الخ، ويمكن أن يكون المراد بالكفر الكفر في مقام العمل وهو العصيان. قوله تعالى: " إن الذين يحادون الله ورسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم " الخ، المحادة الممانعة والمخالفة، والكبت الاذلال والاخزاء. والآية والتي تتلوها وإن أمكن أن تكونا استئنافا ويبين أمر محادة الله ورسوله من حيث تبعتها وأثرها لكن ظاهر السياق أن تكونا مسوقتين لتعليل ذيل الآية السابقة الذي معناه النهي عن محادة الله ورسوله، والمعنى: إنما أمرناكم بالايمان بالله ورسوله ونهيناكم عن تعدي حدود الله والكفر بها لان الذين يحادون الله ورسوله بالمخالفة أذلوا وأخزوا كما أذل وأخزي الذين من قبلهم. ثم أكده بقوله: " وقد بينا آيات بينات وللكافرين عذاب مهين " أي لا ريب في كونها منا وفي أن رسولنا صادق أمين في تبليغها، وللكافرين بها الرادين لها عذاب مهين مخز. قوله تعالى: " يوم يبعثهم الله فينبئهم بما عملوا " ظرف لقوله: " وللكافرين عذاب أليم " أي لهم أليم العذاب في يوم يبعثهم الله وهو يوم الحساب والجزاء فيخبرهم بحقيقة جميع ما عملوا في الدنيا. وقوله: " أحصاه الله ونسوه " الاحصاء الاحاطة بعدد الشئ من غير أن يفوت منه شئ، قال الراغب: الاحصاء التحصيل بالعدد يقال: أحصيت كذا، وذلك من لفظ الحصا، واستعمال ذلك فيه من حيث إنهم كانوا يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الاصابع. انتهى. وقوله: " إن الله على كل شئ شهيد " تعليل لقوله: " أحصاه الله " وقد مر تفسير شهادة الله على كل شئ في آخر سورة حم السجدة.
________________________________________
[ 181 ]
(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن ماجة وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شئ إني لاسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو اليك فما برحت حتى نزل جبرئيل بهذه الآيات " قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها " وهو أوس ابن الصامت. أقول: والروايات من طرق أهل السنة في هذا المعنى كثيرة جدا، واختلفت في اسم المرأة واسم أبيها واسم زوجها واسم أبيه والاعرف أن اسمها خولة بنت ثعلبة واسم زوجها أوس بن الصامت الانصاري وأورد القمي إجمال القصة في رواية، وله رواية أخرى ستوافيك. وفي المجمع في قوله تعالى: " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا " فأما ما ذهب إليه أئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام فهو أن المراد بالعود إرادة الوطئ ونقض القول الذي قاله فإن الوطئ لا يجوز له إلا بعد الكفارة، ولا يبطل حكم قوله الاول إلا بعد الكفارة. وفي تفسير القمي حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله عن الحسن بن محبوب عن أبي ولاد عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن امرأة من المسلمات أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إن فلانا زوجي وقد نثرت له بطني وأعنته على دنياه وآخرته لم تر مني مكروها أشكوه اليك. قال: فيم تشكونيه ؟ قالت: إنه قال: أنت علي حرام كظهر أمي وقد أخرجني من منزلي فانظر في أمري. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنزل الله تبارك وتعالى كتابا أقضى فيه بينك وبين زوجك وأنا أكره أن أكون من المتكلفين، فجعلت تبكي وتشتكي ما بها إلى الله عز وجل وإلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانصرفت. قال: فسمع الله تبارك وتعالى مجادلتها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في زوجها وما شكت إليه، وأنزل الله في ذلك قرآنا " بسم الله الرحمن الرحيم، قد سمع الله قول التي تجادلك في
________________________________________
[ 182 ]
زوجها - إلى قوله - وإن الله لعفو غفور ". قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى المرأة فأتته فقال لها: جيئي بزوجك، فأتته فقال له: أقلت لامرأتك هذه: أنت حرام علي كظهر امي ؟ فقال: قد قلت لها ذلك. فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قد أنزل الله تبارك وتعالى فيك وفي امرأتك قرآنا وقرأ: " بسم الله الرحمن الرحيم قد سمع الله قول التي تجادلك - إلى قوله - إن الله لعفو غفور "، فضم اليك امرأتك فإنك قد قلت منكرا من القول وزورا، وقد عفى الله عنك وغفر لك ولا تعد. قال: فانصرف الرجل وهو نادم على ما قال لامرأته، وكره الله عز وجل ذلك للمؤمنين بعد وأنزل الله: " الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا " يعني لما قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر امي. قال: فمن قالها بعد ما عفى الله وغفر للرجل الاول فإن عليه " تحرير رقبة من قبل أن يتماسا " يعني مجامعتها " ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " قال: فجعل الله عقوبة من ظاهر بعد النهي هذا. ثم قال: " ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله " قال: هذا حد الظهار. الحديث. أقول: الآية بما لها من السياق وخاصة ما في آخرها من ذكر العفو والمغفرة أقرب انطباقا على ما سيق من القصة في هذه الرواية، ولا بأس بها من حيث السند أيضا غير أنها لا تلائم ظاهر ما في الآية من قوله: " الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا ". ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الارض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيمة إن الله بكل شئ عليم _ 7. ألم تر إلى الذين نهوا
________________________________________
[ 183 ]
عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه ويتناجون بالاثم والعدوان ومعصيت الرسول وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير _ 8. يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم والعدوان ومعصيت الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون _ 9. إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون _ 10. يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم وإذا قيل انشزوا فانشزوا يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير _ 11. يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم _ 12. ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وأطيعوا الله ورسوله والله خبير بما تعملون _ 13.
________________________________________
[ 184 ]
(بيان) آيات في النجوى وبعض آداب المجالسة. قوله تعالى: " ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الارض " الاستفهام إنكاري، والمراد بالرؤية العلم اليقيني على سبيل الاستعارة، والجملة تقدمة يعلل بها ما يتلوها من كونه تعالى مع أهل النجوى مشاركا لهم في نجواهم. قوله تعالى: " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم " إلى آخر الآية النجوى مصدر بمعنى التناجي وهو المسارة، وضمائر الافراد لله سبحانه، والمراد بقوله: " رابعهم " و " سادسهم " جاعل الثلاثة أربعة وجاعل الخمسة ستة بمشاركته لهم في العلم بما يتناجون فيه ومعيته لهم في الاطلاع على ما يسارون فيه كما يشهد به ما احتف بالكلام من قوله في أول الآية: " ألم تر أن الله يعلم " الخ، وفي آخرها من قوله: " إن الله بكل شئ عليم ". وقوله: " ولا أدنى من ذلك ولا أكثر " أي ولا أقل مما ذكر من العدد ولا أكثر مما ذكر، وبهاتين الكلمتين يشمل الكلام عدد أهل النجوى أيا ما كان أما الادنى من ذلك فالادنى من الثلاثة الاثنان والادنى من الخمسة الاربعة، وأما الاكثر فالاكثر من خمسة الستة فما فوقها. ومن لطف سياق الآية ترتب ما أشير إليه من مراتب العدد: الثلاثة والاربعة والخمسة والستة من غير تكرار فلم يقل: من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا أربعة إلا هو خامسهم وهكذا. وقوله: " إلا هو معهم أينما كانوا " المراد به المعية من حيث العلم بما يتناجون به والمشاركة لهم فيه. وبذلك يظهر أن المراد بكونه تعالى رابع الثلاثة المتناجين وسادس الخمسة المتناجين معيته لهم في العلم ومشاركته لهم في الاطلاع على ما يسارون لا مماثلته لهم في تتميم العدد فإن كلا منهم شخص واحد جسماني يكون بانضمامه إلى مثله عدد الاثنين وإلى مثليه الثلاثة والله سبحانه منزه عن الجسمية برئ من المادية. وذلك أن مقتضى السياق أن المستثنى من قوله: " ما يكون من نجوى " الخ، معنى
________________________________________
[ 185 ]
واحد وهو أن الله لا يخفى عليه نجوى فقوله: " إلا هو رابعهم " إلا هو سادسهم " في معنى قوله: " إلا هو معهم " وهو المعية العلمية أي أنه يشاركهم في العلم ويقارنهم فيه أو المعية الوجودية بمعنى أنه كلما فرض قوم يتناجون فالله سبحانه هناك سميع عليم. وفي قوله: " أينما كانوا " تعميم من حيث المكان إذ لما كانت معيته تعالى لهم من حيث العلم لا بالاقتران الجسماني لم يتفاوت الحال ولم يختلف باختلاف الامكنة بالقرب والبعد فالله سبحانه لا يخلو منه مكان وليس في مكان. وبما تقدم يظهر أيضا أن - ما تفيده الآية من معيته تعالى لاصحاب النجوى وكونه رابع الثلاثة منهم وسادس الخمسة منهم لا ينافي ما تقدم تفصيلا في ذيل قوله تعالى: " لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة " المائدة: 73، من أن وحدته تعالى ليست وحدة عددية بل وحدة أحدية يستحيل معها فرض غير معه يكون ثانيا له فالمراد بكونه معهم ورابعا للثلاثة منهم وسادسا للخمسة منهم أنه عالم بما يتناجون به وظاهر مكشوف له ما يخفونه من غيرهم لا أن له وجودا محدودا يقبل العد يمكن أن يفرض له ثان وثالث وهكذا. وقوله: " ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة " أي يخبرهم بحقيقة ما عملوا من عمل ومنه نجواهم ومسارتهم. وقوله: " أن الله بكل شئ عليم " تعليل لقوله: " ثم ينبئهم " الخ، وتأكيد لما تقدم من علمه بما في السماوات وما في الارض، وكونه مع أصحاب النجوى. والآية تصلح أن تكون توطئة وتمهيدا لمضمون الآيات التالية ولا يخلو ذيلها من لحن شديد يرتبط بما في الآيات التالية من الذم والتهديد. قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه " إلى آخر الآية سياق الآيات يدل على أن قوما من المنافقين والذين في قلوبهم مرض من المؤمنين كانوا قد أشاعوا بينهم النجوى محادة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين يتناجون بينهم بالاثم والعدوان ومعصية الرسول وليؤذوا بذلك المؤمنين ويحزنون وكانوا يصرون على ذلك من غير أن ينتهوا بنهي فنزلت الآيات. فقوله: " ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه " ذم وتوبيخ غيابي لهم، وقد خاطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولم يخاطبهم أنفسهم مبالغة في تحقير أمرهم وإبعادا لهم
________________________________________
[ 186 ]
عن شرف المخاطبة. والمعنى: ألم تنظر إلى الذين نهوا عن التناجي بينهم بما يغم المؤمنين ويحزنهم ثم يعودون إلى التناجي الذي نهوا عنه عودة بعد عودة، وفي التعبير بقوله " يعودون " دلالة على الاستمرار، وفي العدول عن ضمير النجوى إلى الموصول والصلة حيث قيل: " يعودون لما نهوا عنه " ولم يقل " يعودون إليها دلالة على سبب الذم والتوبيخ ومساءة العود لانها أمر منهي عنه. وقوله: " يتناجون بالاثم والعدوان ومعصية الرسول المقابلة بين الامور الثلاثة: الاثم والعدوان ومعصية الرسول تفيد أن المراد بالاثم هو العمل الذى له أثر سيئ لا يتعدى نفس عامله كشرب الخمر والميسر وترك الصلاة مما يتعلق من المعاصي بحقوق الله، والعدوان هو العمل الذي فيه تجاوز إلى الغير مما يتضرر به الناس ويتأذون مما يتعلق من المعاصي بحقوق الناس، والقسمان أعني الاثم والعدوان جميعا من معصية الله، ومعصية الرسول مخالفته في الامور التي هي جائزة في نفسها لا أمر ولا نهي من الله فيها لكن الرسول أمر بها أو نهى عنها لمصلحة الامة بما له ولاية أمورهم والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما نهاهم عن النجوى وإن لم يشتمل على معصية. كان ما تقدم من قوله: " الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه " ذما وتوبيخا لهم على نفس نجواهم بما أنها منهي عنها مع الغض عن كونها بمعصية أو غيرها: وهذا الفصل أعنى قوله: " ويتناجون بالاثم والعدوان ومعصية الرسول " ذم وتوبيخ لهم بما يشتمل عليه تناجيهم من المعصية بأنواعها وهؤلاء القوم هم المنافقون ومرضى القلوب كانوا يكثرون من النجوى بينهم ليغتم بها المؤمنون ويحزنوا ويتأذوا. وقيل: المنافقون واليهود كان يناجي بعضهم بعضا ليحزنوا المؤمنين ويلقوا بينهم الوحشة والفزع ويوهنوا عزمهم لكن في شمول قوله: " الذين نهوا عن النجوى ثم يعودون لما نهوا عنه " لليهود خفاء. وقوله: " وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله " فإن الله حياه بالتسليم وشرع له ذلك تحية من عند الله مباركة طيبة وهم كانوا يحيونه بغيره. قالوا: هؤلاء هم اليهود كانوا إذا أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قالوا: السام عليك - والسام هو الموت - وهم يوهمون أنهم يقولون: السلام عليك، ولا يخلو من شئ فإن الضمير في " جاؤك " و " حيوك " للموصول
________________________________________
[ 187 ]
في قوله: " الذين نهوا عن النجوى " وقد عرفت أن في شموله لليهود خفاء. وقوله: " ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول " معطوف على " حيوك " أو حال وظاهره أن ذلك منهم من حديث النفس مضمرين ذلك في قلوبهم، وهو تحضيض بداعي الطعن والتهكم فيكون من المنافقين إنكارا لرسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على طريق الكناية والمعنى: أنهم يحيونك بما لم يحيك به الله وهم يحدثون أنفسهم بدلالة قولهم ذلك - ولولا يعذبهم الله به - على أنك لست برسول من الله ولو كنت رسوله لعذبهم بقولهم. وقيل: المراد بقوله: " ويقولون في أنفسهم " يقولون فيما بينهم بتحديث بعض منهم لبعض ولا يخلو من بعد. وقد رد الله عليهم احتجاجهم بقولهم: " لولا يعذبنا الله بما نقول " بقوله: " حسبهم جهنم يصلونها وبئس المصير " أي إنهم مخطئون في نفيهم العذاب فهم معذبون بما أعد لهم من العذاب وهو جهنم التي يدخلونها ويقاسون حرها وكفى بها عذابا لهم. وكأن المنافقين ومن يلحق بهم لما لم ينتهوا بهذه المناهي والتشديدات نزل قوله تعالى: " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا، ملعونين أين ما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا " الآيات الاحزاب: 61. قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالاثم والعدوان ومعصية الرسول " الخ، لا يخلو سياق الآيات من دلالة على أن الآية نزلت في رفع الخطر وقد خوطب فيها المؤمنون فاجيز لهم النجوى واشترط عليهم أن لا يكون تناجيا بالاثم والعدوان ومعصية الرسول وأن يكون تناجيا بالبر والتقوى والبر وهو التوسع في فعل الخير يقابل العدوان، والتقوى مقابل الاثم ثم أكد الكلام بالامر بمطلق التقوى بإنذارهم بالحشر بقوله: " واتقوا الله الذي إليه تحشرون ". قوله تعالى: " إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله " الخ، المراد بالنجوى - على ما يفيده السياق - هو النجوى الدائرة في تلك الايام بين المنافقين ومرضى القلوب وهي من الشيطان فإنه الذي يزينها في قلوبهم ليتوسل بها إلى حزنهم ويشوش قلوبهم ليوهمهم أنها في نائبة حلت بهم وبلية أصابتهم. ثم طيب الله سبحانه قلوب المؤمنين بتذكيرهم أن الامر إلى الله سبحانه وأن الشيطان
________________________________________
[ 188 ]
أو التناجي لا يضرهم شيئا إلا بإذن الله فليتوكلوا عليه ولا يخافوا ضره وقد نص سبحانه في قوله: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه " الطلاق: 3 أنه يكفي من توكل عليه، واستنهضهم على التوكل بأنه من لوازم إيمان المؤمن فإن يكونوا مؤمنين فليتوكلوا عليه فهو يكفيهم. وهذا معنى قوله: " وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون ". قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم " الخ، التفسح الاتساع وكذا الفسح، والمجالس جمع مجلس اسم مكان، والاتساع في المجلس أن يتسع الجالس ليسع المكان غيره وفسح الله له أن يوسع له في الجنة. والاية تتضمن أدبا من آداب المعاشرة، ويستفاد من سياقها أنهم كانوا يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيجلسون ركاما لا يدع لغيرهم من الواردين مكانا يجلس فيه فادبوا بقوله: " إذا قيل لكم تفسحوا " الخ، والحكم عام وإن كان مورد النزول مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم توسعوا في المجالس ليسع المكان معكم غيركم فتوسعوا وسع الله لكم في الجنة. وقوله: " وإذا قيل انشزوا فانشزوا " يتضمن أدبا آخر، والنشوز - كما قيل - الارتفاع عن الشئ بالذهاب عنه، والنشوز عن المجلس أن يقوم الانسان عن مجلسه ليجلس فيه غيره إعظاما له وتواضعا لفضله. والمعنى: وإذا قيل لكم قوموا ليجلس مكانكم من هو أفضل منكم في علم أو تقوى فقوموا. وقوله: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " لا ريب في أن لازم رفعه تعالى درجة عبد من عباده مزيد قربه منه تعالى، وهذا قرينة عقلية على أن المراد بهؤلاء الذين أوتوا العلم العلماء من المؤمنين فتدل الآية على انقسام المؤمنين إلى طائفتين: مؤمن ومؤمن عالم، والمؤمن العالم أفضل وقد قال تعالى: " هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون " الزمر: 9. ويتبين بذلك أن ما ذكر من رفع الدرجات في الآية مخصوص بالذين أوتوا العلم ويبقى لسائر المؤمنين من الرفع الرفع درجة واحدة ويكون التقدير يرفع الله الذين آمنوا منكم درجة ويرفع الذين أوتوا العلم منكم درجات. وفي الآية من تعظيم أمر العلماء ورفع قدرهم ما لا يخفى. وأكد الحكم بتذييل الآية
________________________________________
[ 189 ]
بقوله: " والله بما تعملون خبير ". قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " الخ، أي إذا أردتم أن تناجوا الرسول فتصدقوا قبلها. وقوله: " ذلك خير لكم وأطهر " تعليل للتشريع نظير قوله: " وأن تصوموا خير لكم " البقرة: 184، ولا شك أن المراد بكونها خيرا لهم وأطهر أنها خير لنفوسهم وأطهر لقلوبهم ولعل الوجه في ذلك أن الاغنياء منهم كانوا يكثرون من مناجاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يظهرون بذلك نوعا من التقرب إليه والاختصاص به وكان الفقراء منهم يحزنون بذلك وينكسر قلوبهم فامروا أن يتصدقوا بين يدي نجواهم على فقرائهم بما فيها من ارتباط النفوس وإثارة الرحمة والشفقة والمودة وصلة القلوب بزوال الغيظ والحنق. وفي قوله: " ذلك " التفات إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين خطابين للمؤمنين وفيه تجليل لطيف له صلى الله عليه وآله وسلم حيث إن حكم الصدقة مرتبط بنجواه صلى الله عليه وآله وسلم والالتفات إليه فيما يرجع إليه من الكلام مزيد عناية به. وقوله: " فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم " أي فإن لم تجدوا شيئا تتصدقون به فلا يجب عليكم تقديمها وقد رخص الله لكم في نجواه وعفى عنكم إنه غفور رحيم فقوله: فإن الله غفور رحيم " من وضع السبب موضع المسبب. وفيه دلالة على رفع الوجوب عن المعدمين كما أنه قرينة على إرادة الوجوب في قوله: " فقدموا " الخ، ووجوبه على الموسرين. قوله تعالى: " ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات " الخ، الآية ناسخة لحكم الصدقة المذكور في الآية السابقة، وفيه عتاب شديد لصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين حيث إنهم تركوا مناجاته صلى الله عليه وآله وسلم خوفا من بذل المال بالصدقة فلم يناجه أحد منهم إلا علي عليه السلام فإنه ناجاه عشر نجوات كلما ناجاه قدم بين يدي نجواه صدقة ثم نزلت الآية ونسخت الحكم. والاشفاق الخشية، وقوله: " أن تقدموا " الخ، مفعوله والمعنى: أخشيتم التصدق وبذل المال للنجوى، واحتمل أن يكون المفعول محذوفا والتقدير أخشيتم الفقر لاجل بذل المال. قال بعضهم: جمع الصدقات لما أن الخوف لم يكن في الحقيقة من تقديم صدقة واحدة
________________________________________
[ 190 ]
لانه ليس مظنة الفقر بل من استمرار الامر وتقديم صدقات. وقوله: " فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة " الخ، أي فإذ لم تفعلوا ما كلفتم به ورجع الله اليكم العفو والمغفرة فأثبتوا على امتثال سائر التكاليف من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. ففي قوله: " وتاب الله عليكم " دلالة على كون ذلك منهم ذنبا ومعصية غير أنه تعالى غفر لهم ذلك. وفي كون قوله: " فأقيموا الصلاة " الخ، متفرعا على قوله: " فإذ لم تفعلوا " الخ، دلالة على نسخ حكم الصدقة قبل النجوى. وفي قوله: " وأطيعوا الله ورسوله " تعميم لحكم الطاعة لسائر التكاليف بإيجاب الطاعة المطلقة، وفي قوله: " والله خبير بما تعملون " نوع تشديد يتأكد به حكم وجوب طاعة الله ورسوله. (بحث روائي) في المجمع وقرأ حمزة ورويس عن يعقوب " ينتجون " والباقون " يتناجون " ويشهد لقراءة حمزة قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في علي عليه السلام - لما قال له بعض أصحابه: أتناجيه دوننا - ؟ ما أنا انتجيته بل الله انتجاه. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والبزار وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان بسند جيد عن ابن عمر أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سام عليك يريدون بذلك شتمه ثم يقولون في أنفسهم: " لولا يعذبنا الله بما نقول " فنزلت هذه الآية " وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله ". وفيه أخرج عبد الرزاق وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سام عليك فنزلت. أقول: وهذه الرواية أقرب إلى التصديق من سابقتها لما تقدم في تفسير الآية، وفي رواية القمي في تفسيره أنهم كانوا يحيونه بقولهم: أنعم صباحا وأنعم مساء، وهو تحية أهل الجاهلية.
________________________________________
[ 191 ]
وفي المجمع في قوله تعالى: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " وقد ورد أيضا في الحديث أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: فضل العالم على الشهيد درجة، وفضل الشهيد على العابد درجة، وفضل النبي على العالم درجة، وفضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على سائر خلقه، وفضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم. رواه جابر بن عبد الله. أقول: وذيل الرواية لا يخلو من شئ فإن ظاهر رجوع الضمير في " أدناهم " إلى الناس اعتبار مراتب في الناس فمنهم الاعلى ومنهم المتوسط، وإذا كان فضل العالم على سائر الناس وفيهم الاعلى رتبة كفضل النبي على أدنى الناس كان العالم أفضل من النبي وهو كما ترى. اللهم إلا أن يكون الادنى بمعنى الاقرب والمراد بأدناهم أقربهم من النبي وهو العالم كما يلوح من قوله: وفضل النبي على العالم درجة، فيكون المفاد أن فضل العالم على سائر الناس كفضلي على أقربهم مني وهو العالم. وفي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن راهويه وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه عن علي قال: إن في كتاب الله لآية ما عمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها بعدي آية النجوى " يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدمت بين يدي نجواي درهما ثم نسخت فلم يعمل بها أحد فنزلت " ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات " الآية. وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل: " إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة " قال: قدم علي بن أبي طالب عليه السلام بين يدي نجواه صدقة ثم نسخها بقوله: " ءأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات ". أقول: وفي هذا المعنى روايات أخر من طرق الفريقين. ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا
________________________________________
[ 192 ]
منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون - 14. أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون - 15. اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين - 16. لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون - 17. يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ ألا إنهم هم الكاذبون - 18. إستحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون - 19. إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الاذلين - 20. كتب الله لاغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز - 21. لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الايمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون - 22. (بيان) تذكر الآيات قوما من المنافقين يتولون اليهود ويوادونهم وهم يحادون الله ورسوله وتذمهم على ذلك وتهددهم بالعذاب والشقوة تهديدا شديدا، وتقطع بالآخرة أن الايمان
________________________________________
[ 193 ]
بالله واليوم الآخر يمنع عن موادة من يحاد الله ورسوله كائنا من كان، وتمدح المؤمنين المتبرئين من أعداء الله وتعدهم إيمانا مستقرا وروحا من الله وجنة ورضوانا. قوله تعالى: " ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم " الخ، القوم المغضوب عليهم هم اليهود، قال تعالى: " من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت " المائدة: 60. وقوله: " ما هم منكم ولا منهم " ضمير " هم " للمنافقين وضمير " منهم " لليهود، والمعنى: أن هؤلاء المنافقين لتذبذبهم بين الكفر والايمان ليسوا منكم ولا من اليهود، قال تعالى: " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء " النساء: 143. وهذه صفتهم بحسب ظاهر حالهم وأما بحسب الحقيقة فهم ملحقون بمن تولوهم، قال تعالى: " ومن يتولهم منكم فإنه منهم " المائدة: 51، فلا منافاة بين قوله: " ما هم منكم ولا منهم " وقوله: " فإنه منهم ". واحتمل بعضهم أن ضمير " هم " للقوم وهم اليهود وضمير " منهم " للموصول وهم المنافقون، والمعنى: تولوا اليهود الذين ليسوا منكم وأنتم مؤمنون ولا من هؤلاء المنافقين أنفسهم بل أجنبيون برآء من الطائفتين، وفيه نوع من الذم، وهو بعيد. وقوله: " ويحلفون على الكذب وهم يعلمون " أي يحلفون لكم على الكذب أنهم منكم مؤمنون أمثالكم وهم يعلمون أنهم كاذبون في حلفهم. قوله تعالى: " أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون " الاعداد التهيئة، وقوله: إنهم ساء " الخ، تعليل للاعداد، وفي قوله: " كانوا يعملون " دلالة على أنهم كانوا مستمرين في عملهم مداومين عليه. والمعنى: هيأ الله لهم عذابا شديدا لاستمرارهم على عملهم السيئ. قوله تعالى: " اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين " الايمان جمع يمين وهو الحلف، والجنة السترة التي يتقى بها الشر كالترس، والمهين اسم فاعل من الاهانة بمعنى الاذلال والاخزاء. والمعنى: اتخذوا أيمانهم سترة يدفعون بها عن نفوسهم التهمة والظنة كلما ظهر منهم أمر يريب المؤمنين فصرفوا أنفسهم وغيرهم عن سبيل الله وهو الاسلام فلهم - لاجل ذلك -
________________________________________
[ 194 ]
عذاب مذل مخز. قوله تعالى: " لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " أي إن الذي دعاهم إلى ما هم عليه متاع الحياة الدنيا الذي هو الاموال والاولاد لكنهم في حاجة إلى التخلص من عذاب خالد لا يقضيها لهم إلا الله سبحانه فهم في فقر إليه لا يغنيهم عنه أموالهم ولا أولادهم شيئا فليؤمنوا به وليعبدوه. قوله تعالى: " يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شئ " الخ، ظرف لما تقدم من قوله: " أعد الله لهم عذابا شديدا " أو لقوله: " أولئك أصحاب النار "، وقوله: " فيحلفون له كما يحلفون لكم " أي يحلفون لله يوم البعث كما يحلفون لكم في الدنيا. وقد قدمنا في تفسير قوله تعالى: " ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين " الانعام: 23 أن حلفهم على الكذب يوم القيامة مع ظهور حقائق الامور يومئذ من ظهور ملكاتهم هناك لرسوخها في نفوسهم في الدنيا فقد اعتادوا فيها على إظهار الباطل على الحق بالايمان الكاذبة وكما يعيشون يموتون وكما يموتون يبعثون. ومن هذا القبيل سؤالهم الرد إلى الدنيا يومئذ، والخروج من النار وخصامهم في النار وغير ذلك مما يقصه القرآن الكريم، وهم يشاهدون مشاهدة عيان أن لا سبيل إلى شئ من ذلك واليوم يوم جزاء لايوم عمل. وأما قوله: " ويحسبون أنهم على شئ " أي مستقرون على شئ يصلح أن يستقر عليه ويتمكن فيه فيمكنهم الستر على الحق والمنع عن ظهور كذبهم بمثل الانكار والحلف الكاذب. فيمكن أن يكون قيدا لقوله: " كما يحلفون لكم " فيكون إشارة إلى وصفهم في الدنيا وأنهم يحسبون أن حلفهم لكم ينفعهم ويرضيكم، ويكون قوله: " ألا إنهم هم الكاذبون " قضاء منه تعالى في حقهم بأنهم كاذبون فلا يصغى إلى ما يهذون به ولا يعتنى بما يحلفون به. ويمكن أن يكون قيدا لقوله: " فيحلفون له " فيكون من قبيل ظهور الملكات يومئذ كما تقدم في معنى حلفهم آنفا، ويكون قوله: " ألا إنهم هم الكاذبون " حكما منه تعالى بكذبهم يوم القيامة أو مطلقا.
________________________________________
[ 195 ]
قوله تعالى: " استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون " الاستحواذ الاستيلاء والغلبة، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " إن الذين يحادون الله ورسوله اولئك في الاذلين " تعليل لكونهم هم الخاسرين أي إنما كانوا خاسرين لانهم يحادون الله ورسوله بالمخالفة والمعاندة والمحادون لله ورسوله في جملة الاذلين من خلق الله تعالى. قيل: إنما كانوا في الاذلين لان ذلة أحد المتخاصمين على مقدار عزة الآخر وإذ كانت العزة لله جميعا فلا يبقى لمن حاده إلا الذلة محضا. قوله تعالى: " كتب الله لاغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز " الكتابة هي القضاء منه تعالى. وظاهر إطلاق الغلبة شمولها للغلبة من حيث الحجة ومن حيث التأييد الغيبي ومن حيث طبيعة الايمان بالله ورسوله: أما من حيث الحجة فإن الانسان مفطور على صلاحية إدراك الحق والخضوع له فلو بين له الحق من السبيل التي يألفها لم يلبث دون أن يعقله وإذا عقله اعترفت له فطرته وخضعت له طويته وإن لم يخضع له عملا اتباعا لهوى أو أي مانع يمنعه عن ذلك. وأما الغلبة من حيث التأييد الغيبي والقضاء للحق على الباطل فيكفي فيها أنواع العذاب التي أنزلها الله تعالى على مكذبي الامم الماضين كقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وعلى آل فرعون وغيرهم ممن يشير تعالى إليهم بقوله: " ثم أرسلنا رسلنا تترى كلما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون " المؤمنون: 44، وعلى ذلك جرت السنة الالهية وقد أجمل ذكرها في قوله: " ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " يونس: 47. وأما الغلبة من حيث طبيعة الايمان بالله ورسوله فإن إيمان المؤمن يدعوه إلى الدفاع والذب عن الحق والمقاومة تجاه الباطل مطلقا وهو يرى أنه إن قتل فاز وإن قتل فاز فثباته على الدفاع غير مقيد بقيد ولا محدود بحد وهذا بخلاف من يدافع لا عن الحق بما هو حق بل عن شئ من المقاصد الدنيوية فإنه إنما يدافع لاجل نفسه فلو شاهد نفسه مشرفة على هلكة أو راكبة مخاطرة تولى منهزما فهو إنما يدافع على شرط وإلى حد وهو سلامة النفس وعدم الاشراف على الهلكة ومن الضروري أن العزيمة المطلقة تغلب العزيمة المقيدة
________________________________________
[ 196 ]
بقيد المحدودة بحد ومن الشاهد عليه غزوات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما أدت إليه من الفتح والظفر في عين أنها كانت سجالا لكن لم تنته إلا إلى تقدم المسلمين وغلبتهم. ولم تقف الفتوحات الاسلامية ولا تفرقت جموع المسلمين أيادي سبأ إلا بفساد نياتهم وتبديل سيرة التقوى والاخلاص لله وبسط الدين الحق من بسط السلطة وتوسعة المملكة " ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (1) وقد اشترط الله عليهم حين أكمل دينهم وأمنهم من عدوهم أن يخشوه إذ قال: " اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشوني ". ويكفي في تسجيل هذه الغلبة قوله تعالى فيما يخاطب المؤمنين: " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين " آل عمران: 139. قوله تعالى: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم " الخ، نفي وجدان قوم على هذه الصفة كناية عن أن الايمان الصادق بالله واليوم الآخر لا يجامع موادة أهل المحادة والمعاندة من الكفار ولو قارن أي سبب من أسباب المودة كالابوة والبنوة والاخوة وسائر أقسام القرابة فبين الايمان وموادة أهل المحادة تضاد لا يجتمعان لذلك. وقد بان أن قوله: " ولو كانوا آباءهم " الخ، إشارة إلى أسباب المودة مطلقا وقد خصت مودة النسب بالذكر لكونه أقوى أسباب المودة من حيث ثباته وعدم تغيره. وقوله: " اولئك كتب في قلوبهم الايمان " الاشارة إلى القوم بما ذكر لهم من الصفة، والكتابة الاثبات بحيث لا يتغير ولا يزول والضمير لله وفيه نص على أنهم مؤمنون حقا. وقوله: " وأيدهم بروح منه " التأييد التقوية، وضمير الفاعل في " أيدهم " لله تعالى وكذا ضمير " منه " و " من " ابتدائية، والمعنى: وقواهم الله بروح من عنده تعالى، وقيل: الضمير للايمان، والمعنى: وقواهم الله بروح من جنس الايمان يحيي بها قلوبهم، ولا بأس به. وقيل: المراد بالروح جبرائيل، وقيل: القرآن، وقيل: المراد بها الحجة والبرهان، وهذه وجوه ضعيفة لا شاهد لها من جهة اللفظ.
________________________________________
(1) الانفال: 53.
________________________________________
[ 197 ]
ثم الروح - على ما يتبادر من معناها - هي مبدأ الحياة التي تترشح منها القدرة والشعور فإبقاء قوله: " وأيدهم بروح منه " على ظاهره يفيد أن للمؤمنين وراء الروح البشرية التي يشترك فيها المؤمن والكافر روحا اخرى تفيض عليهم حياة اخرى وتصاحبها قدرة وشعور جديدان، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: " أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام: 122، وقوله: " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة " النحل: 97. وما في الآية من طيب الحياة يلازم طيب أثرها وهو القدرة والشعور المتفرع عليهما الاعمال الصالحة، وهما المعبر عنهما في آية الانعام المذكورة آنفا بالنور ونظيرها قوله: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به " الحديد: 28. وهذه حياة خاصة كريمة لها آثار خاصة ملازمة لسعادة الانسان الابدية وراء الحياة المشتركة بين المؤمن والكافر التي لها آثار مشتركة فلها مبدأ خاص وهو روح الايمان التي تذكرها الآية وراء الروح المشتركة بين المؤمن والكافر. وعلى هذا فلا موجب لما ذكروا أن المراد بالروح نور القلب وهو نور العلم الذي يحصل به الطمأنينة وأن تسميته روحا مجاز مرسل لانه سبب للحياة الطيبة الابدية أو من الاستعارة لانه في ملازمته وجوه العلم الفائض على القلب - والعلم حياة القلب كما أن الجهل موته - يشبه الروح المفيض للحياة. انتهى. وقوله: " ويدخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها " وعد جميل ووصف لحياتهم الآخرة الطيبة. وقوله: " رضي الله عنهم ورضوا عنه " استئناف يعلل قوله: " ويدخلهم جنات " الخ، ورضا الله سبحانه عنهم رحمته لهم لاخلاصهم الايمان له ورضاهم عنه وابتهاجهم بما رزقهم من الحياة الطيبة والجنة. وقوله: " أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون " تشريف لهؤلاء المخلصين في إيمانهم بأنهم حزبه تعالى كما أن أولئك المنافقين الموالين لاعداء الله حزب الشيطان وهؤلاء مفلحون كما أن أولئك خاسرون.
________________________________________
[ 198 ]
وفي قوله: " ألا إن حزب الله " وضع الظاهر موضع الضمير ليجري الكلام مجرى المثل السائر. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: " كتب الله لاغلبن أنا ورسلي " روي أن المسلمين قالوا لما رأوا ما يفتح الله عليهم من القرى: ليفتحن الله علينا الروم وفارس فقال المنافقون: أتظنون أن فارس والروم كبعض القرى التي غلبتم عليها ؟ فأنزل الله هذه الآية. أقول الظاهر أنه من قبيل تطبيق الآية على القصة ونظائره كثيرة، ولذا ورد في قوله تعالى: " لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر " أنه نزل في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم بدر، وفي بعضها أنه نزل في أبي بكر سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصكه أبو بكر صكة سقط على الارض فنزلت الآية. وفي عبد الرحمان بن ثابت بن قيس بن الشماس استأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يزور خاله من المشركين فأذن له فلما قدم قرأ عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن حوله من المسلمين الآية. وهذه روايات لا يلائمها ما في الآيات من الاتصال الظاهر. وفي الدر المنثور أخرج الطيالسي وابن أبي شيبة عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوثق عرى الايمان الحب في الله والبغض في الله. وفي الكافي بإسناده إلى أبان بن تغلب عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما من مؤمن إلا ولقلبه أذنان في جوفه: أذن ينفث فيها الوسواس الخناس وأذن ينفث فيها الملك فيؤيد الله المؤمن بالملك فذلك قوله: " وأيدهم بروح منه ". أقول: ليس معناه تفسير الروح بالملك بل الملك يصاحب الروح ويعمل به، قال تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من أمره " النحل: 2. وفيه بإسناده إلى ابن بكير قال: قلت لابي جعفر عليه السلام: في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا زنا الرجل فارقه روح الايمان. قال: هو قوله: " وأيدهم بروح منه " ذلك الذي يفارقه. وفيه بإسناده إلى محمد بن سنان عن أبي خديجة قال: دخلت على أبي الحسن عليه السلام فقال لي: إن الله تبارك وتعالى أيد المؤمن بروح تحضره في كل وقت يحسن فيه ويتقي
________________________________________
[ 199 ]
وتغيب عنه في كل وقت يذنب فيه ويعتدي فهي معه تهتز سرورا عند إحسانه وتسيخ في الثرى عند إساءته، فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقينا وتربحوا نفيسا ثمينا، رحم الله امرء هم بخير فعمله أو هم بشر فارتدع عنه. ثم قال: نحن نؤيد الروح بالطاعة لله والعمل له. أقول: قد تبين مما تقدم في ذيل الآية أن هذه الروح من مراتب الروح الانساني ينالها المؤمن عندما يستكمل الايمان فليست مفارقة له كما أن الروح النباتية والحيوانية والانسانية المشتركة بين المؤمن والكافر من مراتب روحه غير مفارقة له غير أنها تبتدئ هيئة حسنة في النفس ربما زالت لعروض هيئة سيئة تضادها ثم ترجع إذا زالت الموانع المضادة حتى إذا استقرت ورسخت وتصورت النفس بها ثبتت ولم تتغير. وبذلك يظهر أن المراد بقوله عليه السلام: بروح تحضره، وقوله: فهي معه، حضور صورتها حضور الهيئة العارضة القابلة للزوال، وبقوله: تسيخ في الثرى زوال الهيئة على طريق الاستعارة، وكذا قوله صلى الله عليه وآله وسلم في الرواية السابقة: فارقه روح الايمان. (سورة الحشر مدنية، وهي أربع وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. سبح لله ما في السموات وما في الارض وهو العزيز الحكيم _ 1. هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لاول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الابصار _ 2. ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم
________________________________________
[ 200 ]
في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار _ 3. ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب _ 4. ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين _ 5. وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء والله على كل شئ قدير _ 6. ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الاغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب _ 7. للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون _ 8. والذين تبوؤا الدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون _ 9. والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم _ 10.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page