• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 301 الي 325


[ 301 ]
وقوله: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) ضمير (منهم) للذين معه، و (من) للتبعيض على ما هو الظاهر المتبادر من مثل هذا النظم ويفيد الكلام اشتراط المغفرة والاجر العظيم بالايمان حدوثا وبقاء وعمل الصالحات فلو كان منهم من لم يؤمن أصلا كالمنافقين الذين لم يعرفوا بالنفاق كما يشير إليه قوله تعالى: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم) التوبة: 101، أو آمن أولا ثم أشرك وكفر كما في قوله: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى - إلى أن قال - ولو نشاء لاريناكهم فلعرفتهم بسيماهم) سورة محمد: 30. أو آمن ولم يعمل الصالحات كما يستفاد من آيات الافك (1) وآية التبين في نبأ الفاسق وأمثال ذلك لم يشمله وعد المغفرة والاجر العظيم. ونظير هذا الاشتراط ما تقدم في قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما)، ويؤيده أيضا ما فهمه ابن عباس من قوله تعالى: (فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم) حيث فسره بقوله: إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء، وقد تقدمت الرواية. ونظير الاية أيضا في الاشتراط قوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض - إلى أن قال - ومن كفر بعد ذلك فاولئك هم الفاسقون) النور: 55. وقيل: إن (من) في الاية بيانية لا تبعيضية فتفيد شمول الوعد لجميع الذين معه. وهو مدفوع - كما قيل - بأن (من) البيانية لا تدخل على الضمير مطلقا في
________________________________________
(1) فمن أهل الافك من هو صاحبي بدري وقد قال تعالى: (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والاخرة ولهم غذاب عظيم) الثورة 23، ومن نزل فيه: (إن جاءكم فاسق بنبأ فبينوا) الحجرات: 6، وهو الوليد بن عقبة صحابي وقد سماه الله فاسقا وقد قال تعالى: (فان الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) التوبة: 96. (*)
________________________________________
[ 302 ]
كلامهم، والاستشهاد لذلك بقوله تعالى: (لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم) مبني على إرجاع ضمير (تزيلوا) إلى المؤمنين وضمير (منهم) للذين كفروا، وقد تقدم في تفسير الاية أن الضميرين جميعا راجعان إلى مجموع المؤمنين والكافرين من أهل مكة فتكون (من) تبعيضية لا بيانية. وبعد ذلك كله لو كانت العدة بالمغفرة أو نفس المغفرة شملتهم شمولا مطلقا من غير اشتراط بالايمان والعمل الصالح وكانوا مغفورين - آمنوا أو أشركوا وأصلحوا أو فسقوا - لزمته لزوما بينا لغوية جميع التكاليف الدينية في حقهم وارتفاعها عنهم وهذا مما يدفعه الكتاب والسنة فهذا الاشتراط ثابت في نفسه وإن لم يتعرض له في اللفظ، وقد قال تعالى في أنبيائه: (ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون) الانعام: 88، فأثبته في أنبيائه وهم معصومون فكيف فيمن هو دونهم. فان قيل: اشتراط الوعد بالمغفرة والاجر العظيم بالايمان والعمل الصالح اشتراط عقلي كما ذكر ولا سبيل إلى إنكاره لكن سياق قوله: (وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم) يشهد باتصافهم بالايمان وعمل الصالحات وأنهم واجدون للشرط. وخاصة بالنظر إلى تأخير (منهم) عن قوله: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) حيث يدل على أن عمل الصالحات لا ينفك عنهم بخلاف قوله في آية النور: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم) النور: 55، كما ذكره بعضهم، ويؤيده أيضا قوله في مدحهم (تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا) حيث يدل على الاستمرار. قلنا: أما تأخير (منهم) في الاية فليس للدلالة على كون العمل الصالح لا ينفك عنهم بل لان موضوع الحكم هو مجموع (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ولا يترتب على مجرد الايمان من دون العمل الصالح أثر المغفرة والاجر ثم قوله: (منهم) متعلق بمجموع الموضوع فمن حقه أن يذكر بعد تمام الموضوع وهو (الذين آمنوا وعملوا الصالحات)، وأما تقدم الضمير في قوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم) فلانه مسوق سوق البشرى للمؤمنين والانسب لها التسريع في خطاب من بشر بها لينشط بذلك وينبسط لتلقي البشرى.
________________________________________
[ 303 ]
وأما دلالة قوله: (تراهم ركعا سجدا) الخ، على الاستمرار فإنما يدل عليه في ما مضى إلى أن ينتهي إلى الحال، وأما في المستقبل فلا ومصب إشكال لغوية الاحكام إنما هو المستقبل دون الماضي إذ مغفرة الذنوب الماضية لا تزاحم تعلق التكليف بل تؤكده بخلاف تعلق المغفرة المطلقة بما سيأتي فإنه لا يجامع بقاء التكليف المولوي على اعتباره فيرتفع بذلك التكاليف وهو مقطوع البطلان. على أن ارتفاع التكاليف يستلزم ارتفاع المعصية ويرتفع بارتفاعها موضوع المغفرة فوجود المغفرة كذلك يستلزم عدمها.
________________________________________
[ 304 ]
(سورة الحجرات مدنية، وهي ثمان عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم. يا أيها الدين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم - 1. يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون - 2. إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم - 3. إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون - 4. ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم - 5. يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين - 6. واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم ولكن الله حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون - 7. فضلا من الله ونعمة والله عليم
________________________________________
[ 305 ]
حكيم - 8. وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين - 9. إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون - 10. (بيان) تتضمن السورة مسائل من شرائع الدين بها تتم الحياة السعيدة للفرد ويستقر النظام الصالح الطيب في المجتمع منها ما هو أدب جميل للعبد مع الله سبحانه ومع رسوله كما في الايات الخمس في مفتتح السورة، ومنها ما يتعلق بالانسان مع أمثاله من حيث وقوعهم في المجتمع الحيوي، ومنها ما يتعلق بتفاضل الافراد وهو من أهم ما ينتظم به الاجتماع المدني ويهدي الانسان إلى الحياة السعيدة والعيش الطيب الهنيئ ويتميز به دين الحق من غيره من السنن الاجتماعية القانونية وغيرها وتختتم السورة بالاشارة إلى حقيقة الايمان والاسلام وامتنانه تعالى بما يفيضه من نور الايمان. والسورة مدنية بشهادة مضامين آياتها سوى ما قيل في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) الاية وسيجئ. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم) بين يدي الشئ أمامه وهو استعمال شائع مجازي أو استعاري وإضافته إلى الله ورسوله معا لا إلى الرسول دليل على أنه أمر مشترك بينه تعالى وبين رسوله وهو مقام الحكم الذي يختص بالله سبحانه وبرسوله بإذنه كما قال تعالى: (إن
________________________________________
[ 306 ]
الحكم إلا لله) يوسف: 40، وقال: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) النساء: 64. ومن الشاهد على ذلك تصدير النهي بقوله: (يا أيها الذين آمنوا) وتذييله بقوله: (واتقوا الله إن الله سميع عليم) الظاهر في أن المراد بما بين يدي الله ورسوله هو المقام الذي يربط المؤمنين المتقين بالله ورسوله وهو مقام الحكم الذي يأخذون منه أحكامهم الاعتقادية والعملية. وبذلك يظهر أن المراد بقوله: (لا تقدموا) تقديم شئ ما من الحكم قبال حكم الله ورسوله إما بالاستباق إلى قول قبل أن يأخذوا القول فيه من الله ورسوله أو إلى فعل قبل أن يتلقوا الامر به من الله ورسوله لكن تذييله تعالى النهي بقوله: (إن الله سميع عليم) يناسب تقديم القول دون تقديم الفعل ودون الاعم الشامل للقول والفعل وإلا لقيل: إن الله سميع بصير ليحاذي بالسميع القول وبالبصير الفعل كما يأتي تعالى في كثير من موارد الفعل بمثل قوله: (والله بما تعملون بصير) الحديد: 4، فمحصل المعنى: أن لا تحكموا فيما لله ولرسوله فيه حكم إلا بعد حكم الله ورسوله أي لا تحكموا إلا بحكم الله ورسوله ولتكن عليكم سمة الاتباع والاقتفاء. لكن بالنظر إلى أن كل فعل وترك من الانسان لا يخلو من حكم له فيه وكذلك العزم والارادة إلى فعل أو ترك يدخل الافعال والتروك وكذا إرادتها والعزم عليها في حكم الاتباع، ويفيد النهي عن التقديم بين يدي الله ورسوله النهي عن المبادرة والاقدام إلى قول لم يسمع من الله ورسوله، وإلى فعل أو ترك أو عزم وإرادة بالنسبة إلى شئ منهما قبل تلقي الحكم من الله ورسوله فتكون الاية قريبة المعنى من قوله تعالى في صفة الملائكة: (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) الانبياء: 27. وهذا الاتباع المندوب إليه بقوله: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) هو الدخول في ولاية الله والوقوف في موقف العبودية والسير في مسيرها بجعل العبد مشيته تابعة لمشية الله في مرحلة التشريع كما أنها تابعة لها في مرحلة التكوين قال تعالى: (وما تشاؤن إلا أن يشاء الله) الانسان: 30، وقال: (والله ولي المؤمنين) آل عمران: 68، وقال: (والله ولي المتقين) الجاثية: 19. وللقوم في قوله تعالى: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) وجوه:
________________________________________
[ 307 ]
منها: أن التقديم بمعنى التقدم فهو لازم ومعنى (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) لا تعجلوا بالامر والنهي دون الله ورسوله ولا تقطعوا بالامر والنهي دون الله ورسوله، وربما قيل: إن التقديم في الاية بمعناه المعروف لكنه مستعمل بالاعراض عن متعلقاته كقوله: (يحيي ويميت) الحديد: 2، فيؤل المعنى إلى مجرد كون شئ قدام شئ فيرجع إلى معنى التقدم. واللفظ مطلق يشمل التقدم في قول أو فعل حتى التقدم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المشية والجلسة، والتقدم بالطاعات الموقتة قبل وقتها وغير ذلك. ومنها: أن المراد النهي عن التكلم قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي إذا كنتم في مجلسه وسئل عن شئ فلا تسبقوه بالجواب حتى يجيب هو أولا. ومنها: أن المعنى: لا تسبقوه بقول أو فعل حتى يأمركم به. ومنها: أن المعنى: لا تقدموا أقوالكم وأفعالكم على قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله ولا تمكنوا أحدا يمشي أمامه. والظاهر أن تفسير (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) بالنهي عن التقديم بين يدى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقط في هذه الوجوه الثلاثة الاخيرة مبني على حملهم ذكر الله تعالى مع رسوله في الاية على نوع من التشريف كقوله: أعجبني زيد وكرمه فيكون ذكره تعالى للاشارة إلى أن السبقة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أي حال في معنى السبقة على الله سبحانه. ولعل التأمل فيما قدمناه من الوجه يكفيك في المنع عن المصير إلى شئ من هذه الوجوه. وقوله: (واتقوا الله إن الله سميع عليم) أمر بالتقوى في موقف الاتباع والعبودية ولا ظرف للانسان إلا ظرف العبودية ولذلك أطلق التقوى. وفي قوله: (إن الله سميع عليم) تعليل للنهي والتقوى فيه أي اتقوه بالانتهاء عن هذا النهي فلا تقدموا قولا بلسانكم ولا في سركم لان الله سميع يسمع أقوالكم عليم يعلم ظاهركم وباطنكم وعلانيتكم وسركم. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) الخ، وذلك بأن تكون أصواتهم عند مخاطبته وتكليمه صلى الله عليه وآله وسلم أرفع من صوته وأجهر لان في
________________________________________
[ 308 ]
ذلك كما قيل أحد شيئين: إما نوع استخفاف به وهو الكفر، وإما إساءة الادب بالنسبة إلى مقامه وهو خلاف التعظيم والتوقير المأمور به. وقوله: (ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض) فإن من التعظيم عند التخاطب أن يكون صوت المتكلم أخفض من صوت مخاطبه فمطلق الجهر بالخطاب فاقد لمعنى التعظيم فخطاب العظماء بالجهر فيه كخطاب عامة الناس لا يخلو من إساءة الادب والوقاحة. وقوله: (أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) أي لئلا تحبط أو كراهة أن تحبط أعمالكم، وهو متعلق بالنهيين جميعا أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت فوق صوته والجهر له بالقول كجهر بعضكم لبعض لئلا تبطل أعمالكم بذلك من حيث لا تشعرون فإن فيهما الحبط، وقد تقدم القول في الحبط في الجزء الثاني من الكتاب. وجوز بعضهم كون (أن تحبط) الخ، تعليلا للمنهي عنه وهو الرفع والجهر، والمعنى: فعلكم ذلك لاجل الحبوط منهي عنه، والفرق بين تعليله للنهي وتعليله للمنهي عنه أن الفعل المنهي عنه معلل على الاول والفعل المعلل منهي عنه على الثاني، وفيه تكلف ظاهر. وظاهر الاية أن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والجهر له بالقول معصيتان موجبتان للحبط فيكون من المعاصي غير الكفر ما يوجب الحبط. وقد توجه الاية بأن المراد بالحبط فقدان نفس العمل للثواب لا إبطال العمل ثواب سائر الاعمال كما في الكفر، قال في مجمع البيان: وقال أصحابنا: إن المعنى في قوله: (أن تحبط أعمالكم) أنه ينحبط ثواب ذلك العمل لانهم لو أوقعوه على وجه تعظيم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتوقيره لاستحقوا الثواب فلما أوقعوه على خلاف ذلك الوجه استحقوا العقاب وفاتهم ذلك الثواب فانحبط عملهم فلا تعلق لاهل الوعيد بهذه الاية. ولانه تعالى علق الاحباط في هذه الاية بنفس العمل وهم يعلقونه بالمستحق على العمل وذلك خلاف الظاهر. انتهى. وفيه أن الحبط المتعلق بالكفر الذي لا ريب في تعلقه بثواب الاعمال أيضا متعلق في كلامه بنفس الاعمال كما في هذه الاية فلتحمل هذه على ما حملت عليه ذلك من غير فرق، وكونه خلاف الظاهر ممنوع فإن بطلان العمل بطلان أثره المترتب عليه.
________________________________________
[ 309 ]
وقد توجه الاية أيضا بالبناء على اختصاص الحبط بالكفر بأن رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والجهر له بالقول ليسا بمحبطين من حيث أنفسهما بل من حيث إدائهما أحيانا إلى إيذائه صلى الله عليه وآله وسلم وإيذاؤه كفر والكفر محبط للعمل. قال بعضهم: المراد في الاية النهي عن رفع الصوت مطلقا ومعلوم أن ملاكه التحذر مما يتوقع فيه من إيذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو كفر محبط للعمل بالاتفاق. فورد النهي عما هو مظنة أذاه - سواء وجد هذا المعنى أو لا - حماية للحومة وحسما للمادة. ثم لما كان هذا المنهي عنه منقسما إلى ما يبلغ حد الكفر وهو المؤذى له عليه الصلاة والسلام وإلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ، ولا دليل يميز أحد القسمين من الاخر ولو فرض وجوده لم يلتفت إليه في كثير من الاحيان، لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا مخافة أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الاذى. وإلى التباس أحد القسمين بالاخر الاشارة بقوله تعالى: (أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) وإلا فلو كان رفع الصوت والجهر بالقول منهيا عنهما مطلقا سواء بلغا حد الاذى أو لم يكن موقع لقوله تعالى: (وأنتم لا تشعرون) إذ الامر منحصر بين أن يكون رفع الصوت أو الجهر بالقول بالغا حد الاذى فيكون كفرا محبطا قطعا أو غير بالغ فيكون أيضا ذنبا محبطا قطعا فالا حباط محقق على أي تقدير فلا موقع لادعام الكلام بعدم الشعور مع أن الشعور ثابت مطلقا للعلم به بعد النهي. انتهى ملخصا. وفيه أن ظهور قوله: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا جهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض) في النهي المقدمي أخذا بالاحتياط مما لا ريب فيه لكن كلا من الفعلين مما يدرك كونه عملا سيئا عقلا قبل ورود النهي بقوله: (يا أيها الدين آمنوا) وهم وإن أمكن أن يسامحوا في بعض اليسئات بحسبانه هينا لكنهم لا يرضون ببطلان إيمانهم وأعمالهم الصالحة من أصله. فنبه سبحانه بقول: (أن تبحط أعمالكم وأنتم لا تشعرون) على أنكم لا تشعرون بما لذلك من الاثر الهائل العظيم فإنما هو إحباط الاعمال فلا تقربوا شيئا منها أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون.
________________________________________
[ 310 ]
فقوله: (وأنتم لا تشعرون) ناظر إلى حالم قبل النهي حيث كانوا يشعرون بكون الفعل سيئة لكنهم ما كانوا يعلمون بعظمة مساءته لهذا الحد، وأما بعد صدور البيان الالهي فهم شاعرون بالاحباط. فالاية من وجه نظيرة قوله تعالى في آيات الافك: (وتحسبونه هينا وهو عند فالاية من وجه نظيرة قوله تعالى في آيات الافك: (وتحسبونه هينا وهو عند الله عظيم) النور: 15، وقوله في آيات القيامة: (وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون) الزمر: 47. قوله تعالى: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى) الخ، غض الصوت خلاف رفعه، ومعنى الامتحان الابتلاء والاختبار وإنما يكون لتحصيل العلم بحال الشئ المجهول قبل ذلك، وإذ يستحيل ذلك في حقه تعالى فالمراد به هنا التمرين والتعويد - كما قيل - أو حمل المحنة والمشقة على القلب ليعتاد بالتقوى. والاية مسوقة للوعد الجميل على غض الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد توصيفهم بأن قلوبهم ممتحنة للتقوى والذي امتحنهم لذلك هو الله سبحانه، وفيه تأكيد وتقوية لمضمون الاية السابقة وتشويق للانتهاء بما فيها من النهي. وفي التعبير عنه صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الاية برسول الله بعد التعبير عنه في الاية السابقة بالنبي إشارة إلى ملاك الحكم فإن الرسول بما هو رسول ليس له من الامر شئ فما له فلمرسله، وتعظيمه وتوقيره تعظيم لمرسله وتوقير له فغض الصوت عند رسول الله تعظيم وتكبير لله سبحانه، والمداومة والاستمرار على ذلك - كما يستفاد من قوله: (يغضون) المفيد للاستمرار - كاشف عن تخلقهم بالتقوى وامتحانه تعالى قلوبهم للتقوى. وقوله: (لهم مغفرة وأجر عظيم) وعد جميل لهم بإزاء ما في قلوبهم من تقوى الله، والعاقبة للتقوى. قوله تعالى: (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون) سياق الاية يؤدي أنه واقع وأنهم كانوا قوما من الجفاة ينادونه صلى الله عليه وآله وسلم من وراء حجرات بيته من غير رعاية لمقتضى الادب وواجب التعظيم والتوقير فذمهم الله سبحانه حيث وصف أثرهم بأنهم لا يعقلون كالبهائم من الحيوان.
________________________________________
[ 311 ]
قوله تعالى: (ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم) أي ولو أنهم صبروا عن ندائك فلم ينادونك حتى تخرج إليهم لكان خيرا لما فيه من حسن الادب ورعاية التعظيم والتوقير لمقام الرسالة، وكان ذلك مقربا لهم إلى مغفرة الله ورحمته لانه غفور رحيم. فقوله: (والله غفور رحيم كالناظر إلى ما ذكر من الصبر ويمكن أن يكون ناظرا إلى كون أكثرهم لا يعقلون والمعنى: أن ما صدر عنهم من الجهالة وسوء الادب معفو عنه لانه لم يكن عن تعقل وفهم منهم بل عن قصور في ذلك والله غفور رحيم. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) الخ، الفاسق - كما قيل - الخارج عن الطاعة إلى المعصية، والنبأ الخبر العظيم الشأن، والتبين الاستبانة والابانة - على ما في الصحاح - بمعنى واحد وهي تتعدى ولا تتعدى فإذا تعدت كانت بمعنى الايضاح والاظهار يقال: تبينت الامر واستبنته وأبنته أي أو ضحته وأظهرته، وإذا لزمت كانت بمعنى الاتضاح والظهور يقال: أبان الامر واستبان وتبين أي اتضح وظهر. ومعنى الاية: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بخبر ذي شأن فتبينوا خبره بالبحث والفحص للوقوف على حقيقته حذر أن تصيبوا قوما بجهالة فتصيروا نادمين على ما فعلتم بهم. وقد أمضى الله سبحانه في هذه الاية أصل العمل بالخبر وهو من الاصول العقلائية التي يبتني عليه أساس الحياة الاجتماعية الانسانية، وأمر بالتبين في خبر الفاسق وهو في معنى النهي عن العمل بخبره، وحقيقته الكشف عن عدم اعتبار حجيته وهذا أيضا كالامضاء لما بني عليه العقلاء من عدم حجية الخبر الذي لا يوثق بمن يخبر به وعدم ترتيب الاثر على خبره. بيان ذلك: أن حياة الانسان حياة علمية يبني فيها سلوكه طريق الحياة على ما يشاهده من الخير والشر والنافع والضار والرأي الذي يأخذ به فيه، ولا يتيسر له ذلك إلا فيما هو بمرأى منه ومشهد، وما غاب عنه مما تتعلق به حياته ومعاشه أكثر مما يحضره وأكثر فاضطر إلى تتميم ما عنده من العلم بما هو عند غيره من العلم الحاصل بالمشاهدة والنظر، ولا طريق إليه إلا السمع وهو الخبر.
________________________________________
[ 312 ]
فالركون إلى الخبر بمعنى ترتيب الاثر عليه عملا ومعاملة مضمونه معاملة العلم الحاصل للانسان من طريق المشاهدة والنظر في الجملة مما يتوقف عليه حياة الانسان الاجتماعية توقفا ابتدائيا، وعليه بناء العقلاء ومدار العمل. فالخبر إن كان متواترا أو محفوفا بقرائن قطعية توجب قطعية مضمونه كان حجة معتبرة من غير توقف فيها فإن لم يكن متواترا ولا محفوفا بما يفيد قطعية مضمونه وهو المسمى بخبر الواحد اصطلاحا كان المعتبر منه عندهم ما هو الموثوق به بحسب نوعه وإن لم يفده بحسب شخصه، وكل ذلك لانهم لا يعملون إلا بما يرونه علما وهو العلم الحقيقي أو الوثوق والظن الاطمئناني المعدود علما عادة. إذا تمهد هذا فقوله تعالى في تعليل الامر بالتبين في خبر الفاسق: (أن تصيبوا قوما بجهالة) الخ، يفيد أن المأمور به هو رفع الجهالة وحصول العلم بمضمون الخبر عند ما يراد العمل به وترتيب الاثر عليه ففي الاية إثبات ما أثبته العقلاء ونفي ما نفوه في هذا الباب، وهو إمضاء لا تأسيس. قوله تعالى: (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم) الخ، العنت الاثم والهلاك، والطوع والطاعة الانقياد لكن أكثر ما يقال الطاعة في الائتمار لما أمر والارتسام لما رسم على ما ذكره الراغب لكن ربما يعكس الامر فيسمى جري المتبوع على ما يريده التابع ويهواه طاعة من المتبوع للتابع ومنه قوله تعالى في الاية: (لو يطيعكم) حيث سمى عمل الرسول على ما يراه ويهواه المؤمنون طاعة منه لهم. والاية على ما يفيده السياق من تتمة الكلام في الاية السابقة تعمم ما فيها من الحكم وتؤكد ما فيها من التعليل فمضمون الاية السابقة الحكم بوجوب التبين في خبر الفاسق وتعليله بوجوب التحرز عن بناء العمل على الجهالة، ومضمون هذه الاية تنبيه المؤمنين على أن الله سبحانه أوردهم شرع الرشد ولذلك حبب إليهم الايمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان فعليهم أن لا يغفلوا عن أن فيهم رسول الله وهو مؤيد من عند الله وعلى بينه من ربه لا يسلك إلا سبيل الرشد دون الغي فعليهم أن يطيعوا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيما يأمرهم به ويريدوا ما أراده ويختاروا ما اختاره، ولا يصروا على أن يطيعهم في آرائهم وأهوائهم فإنه لو يطيعهم في كثير من الامر جهدوا وهلكوا.
________________________________________
[ 313 ]
فقوله: (واعلموا أن فيكم رسول الله) عطف على قوله في الاية السابقة: (فتبينوا) وتقديم الخبر للدلالة على الحصر، والاشارة إلى ما هو لازمه فإن اختصاصهم بكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم لازمه أن يتعلقوا بالرشد ويتجنبوا الغي ويرجعوا الامور إليه ويطيعوه ويتبعوا أثره ولا يتعلقوا بما تستدعيه منهم أهواؤهم. فالمعنى: ولا تنسوا أن فيكم رسول الله، وهو كناية عن أنه يجب عليهم أن يرجعوا الامور ويسيروا فيما يواجهونه من الحوادث على ما يراه ويأمر به من غير أن يتبعوا أهواء أنفسهم. وقوله: (لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم) أي جهدتم وهلكتم، والجملة كالجواب لسؤال مقدر كان سائلا يسأل فيقول: لماذا نرجع إليه ولا يرجع الينا ولا يوافقنا ؟ فاجيب بأنه (لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم). وقوله: (ولكن الله حبب اليكم الايمان وزينه في قلوبكم) استدراك عما يدل عليه الجملة السابقة: (لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم) من أنهم مشرفون بالطبع على الهلاك والغي فاستدرك أن الله سبحانه أصلح ذلك بما أنعم عليهم من تحبيب الايمان وتكريه الكفر والفسوق والعصيان. والمراد بتحبيب الايمان إليهم جعله محبوبا عندهم وبتزيينه في قلوبهم تحليته بجمال يجذب قلوبهم إلى نفسه فيتعلقون به ويعرضون عما يلهيهم عنه. وقوله: (وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان) عطف على (حبب) وتكريه الكفر وما يتبعه إليهم جعلها مكروهة عندهم تتنفر عنها نفوسهم، والفرق بين الفسوق والعصيان - على ما قيل - أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة إلى المعصية، والعصيان نفس المعصية وإن شئت فقل: جميع المعاصي، وقيل: المراد بالفسوق الكذب بقرينة الاية السابقة والعصيان سائر المعاصي. وقوله: (أولئك هم الراشدون) بيان أن حب الايمان والانجذاب إليه وكراهة الكفر والفسوق والعصيان هو سبب الرشد الذي يطلبه الانسان بفطرته ويتنفر عن الغي الذي يقابله فعلى المؤمنين أن يلزموا الايمان ويتجنبوا الكفر والفسوق والعصيان حتى يرشدوا ويتبعوا الرسول ولا يتبعوا أهواءهم.
________________________________________
[ 314 ]
ولما كان حب الايمان والانجذاب إليه وكراهة الكفر ونحوه صفة بعض من كان الرسول فيهم دون الجميع كما يصرح به الاية السابقة، وقد وصف بذلك جماعتهم تحفظا على وحدتهم وتشويقا لمن لم يتصف بذلك منهم غير السياق والتفت عن خطابهم إلى خطاب النبي صلى الله عليه واله وسلم فقال: (أولئك هم الراشدون) والاشارة إلى من اتصف بحب الايمان وكراهة الكفر والفسوق والعصيان، ليكون مدحا للمتصفين بذلك وتشويقا لغيرهم. واعلم أن في قوله: (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الامر لعنتم) إشعارا بأن قوما من المؤمنين كانوا مصرين على قبول نبإ الفاسق الذي تشير إليه الاية السابقة، وهو الوليد بن عقبة أرسله النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى بني المصطلق لاخذ زكواتهم فجاء إليهم فلما رآهم هابهم ورجع إلى المدينة وأخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهم ارتدوا فعزم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قتالهم فنزلت الاية فانصرف وفي القوم بعض من يصر على أن يغزوهم. وسيجئ القصة في البحث الروائي التالي. قوله تعالى: (فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم) تعليل لما تقدم من فعله تعالى بالمؤمنين من تحبيب الايمان وتزيينه وتكريه الكفر والفسوق والعصيان أي إن ذلك منه تعالى مجرد عطية ونعمة لا إلى بدل يصل إليه منهم لكن ليس فعلا جزافيا فإنه تعالى عليهم بمورد عطيته ونعمته حكيم لا يفعل ما يفعل جزافا كما قال: (وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شئ عليما) الفتح: 26. قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) إلى آخر الاية الاقتتال والتقاتل بمعنى واحد كالاستباق والتسابق، ورجوع ضمير الجمع في (اقتتلوا) إلى الطائفتين باعتبار المعنى فإن كلا من الطائفتين جماعة ومجموعهما جماعة كما أن رجوع ضمير التثنية اليهما باعتبار المعنى. ونقل عن بعضهم في وجه التفرقة بين الضمرين: أنهم أولا في حال القتال مختلطون فلذا جمع أولا ضميرهم، وفي حال الصلح متميزون متفارقون فلذا ثنى الضمير. وقوله: (فإن بغت إحداهما على الاخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله) البغي الظلم والتعدي بغير حق، والفيئ الرجوع، والمراد بأمر الله ما أمر به
________________________________________
[ 315 ]
الله، والمعنى: فإن تعدت إحدى الطائفتين على الاخرى بغير حق فقاتلوا الطائفة المتعدية حتى ترجع إلى ما أمر به الله وتنقاد لحكمه. وقوله: (فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل) أي فإن رجعت الطائفة المتعدية إلى أمر الله فأصلحوا بينهما لكن لا إصلاحا بوضع السلاح وترك القتال فحسب بل إصلاحا متلبسا بالعدل بإجراء أحكام الله فيما تعدت به المتعدية من دم أو عرض أو مال أو أي حق آخر ضيعته. وقوله: (وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) الاقساط إعطاء كل ما يستحقه من القسط والسهم وهو العدل فعطف قوله: (وأقسطوا) على قوله: (أصلحوا بينهما بالعدل) من عطف المطلق على المقيد للتأكيد، وقوله: (إن الله يحب المقسطين) تعليل يفيد تأكيدا على تأكيد كأنه قيل: أصلحوا بينهما بالعدل واعدلوا دائما وفي جميع الامور لان الله يحب العادلين لعدالتهم. قوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) استئناف مؤكد لما تقدم من الاصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين من المؤمنين، وقصر النسبة بين المؤمنين في نسبة الاخوة مقدمة ممهدة لتعليل ما في قوله: (فأصلحوا بين أخويكم من حكم الصلح فيفيد أن الطائفتين المتقاتلتين لوجود الاخوة بينهما يجب أن يستقر بينهما الصلح، والمصلحون لكونهم إخوة للمتقاتلتين يجب أن يسعوا في إصلاح ما بينهما. وقوله: (فأصلحوا بين أخويكم) ولم يقل: فأصلحوا بين الاخوين من أوجز الكلام وألطفه حيث يفيد أن المتقاتلتين بينهما اخوة فمن الواجب أن يستقر بينهما الصلح وسائر المؤمنين إخوان للمتقاتلتين فيجب عليهم أن يسعوا في الاصلاح بينهما. وقوله: (واتقوا الله لعلكم ترحمون) موعظة للمتقاتلتين والمصلحين جميعا. (كلام في معنى الاخوة) واعلم أن قوله: (إنما المؤمنون إخوة) جعل تشريعي لنسبة الاخوة بين المؤمنين لها آثار شرعية وحقوق مجعولة، وقد تقدم في بعض المباحث المتقدمة أن من الابوة والبنوة والاخوة وسائر أنواع القرابة ما هو اعتباري مجعول يعتبره الشرائع والقوانين
________________________________________
[ 316 ]
لترتيب آثار خاصة عليه كالوراثة والانفاق وحرمة الازدواج وغير ذلك، ومنها ما هو طبيعي بالانتهاء إلى صلب واحد أو رحم واحدة أو هما. والاعتباري من القرابة غير الطبيعي منها فربما يجتمعان كالاخوين المتولدين بين الرجل والمرأة عن نكاح مشروع، وربما يختلفان كالولد الطبيعي المتولد من زنا فإنه ليس ولدا في الاسلام ولا يلحق بمولده وإن كان ولدا طبيعيا، وكالداعي الذي هو ولد في بعض القوانين وليس بولد طبيعي. واعتبار المعنى الاعتباري وإن كان لغرض ترتيب آثار حقيقته عليه كما يؤخذ أحد القوم رأسا لهم ليكون نسبتة إليهم نسبة الرأس إلى البدن فيدبر أمر المجتمع ويحكم بينهم وفيهم كما يحكم الرأس على البدن. لكن لما كان الاعتبار لمصلحة مقتضية كان تابعا للمصلحة فإن اقتضت ترتيب جميع آثار الحقيقة ترتبت عليه جميعا وإن اقتضت بعضها كان المترتب على الموضوع الاعتباري ذلك البعض كما أن القراءة مثلا جزء من الصلاة والجزء الحقيقي ينتفي بانتفائه الكل مطلقا لكن القراءة لا ينتفي بانتفائها الصلاة إذا كان ذلك سهوا وإنما تبطل الصلاة إذا تركت عمدا. ولذلك أيضا ربما اختلفت آثار معنى اعتباري بحسب الموارده المختلفة كجزئية الركوع حيث تبطل الصلاة بزيادته ونقيصته عمدا وسهوا بخلاف جزئية القراءة كما تقدم فمن الجائز أن يختلف الاثار المترتبة على معنى اعتباري بحسب الموارد المختلفة لكن لا تترتب الاثار الاعتبارية إلا على موضوع اعتباري كالانسان يتصرف في ماله لكن لا بما أنه إنسان بل بما أنه مالك والاخ يرث أخاه في الاسلام لا لانه أخ طبيعي يشارك الميت في الوالد أو الوالدة أو فيهما - فولد الزنا كذلك ولا يرث أخاه الطبيعي - بل يرثه لانه أخ في الشريعة الاسلامية. والاخوة من هذا القبيل فمنها اخوة طبيعية لا أثر لها في الشرائع والقوانين وهي اشتراك إنسانين في أب أو أم أو فيهما، ومنها اخوة اعتبارية لها آثار اعتبارية وهي في الاسلام اخوة نسبية لها آثار في النكاح والارث، واخوة رضاعية لها آثار في النكاح دون الارث، واخوة دينية لها آثار اجتماعية ولا أثر لها في النكاح والارث،
________________________________________
[ 317 ]
وسيجئ قول الصادق عليه السلام: المؤمن أخو المؤمن، عينه ودليله، لا يخونه، ولا يظلمه ولا يغشه، ولا يعده عدة فيخلفه. وقد خفي هذا المعنى على بعض المفسرين فأخذ إطلاق الاخوة في كلامه تعالى على المؤمنين إطلاقا مجازيا من باب الاستعارة بتشبيه الاشتراك في الايمان بالمشاركة في أصل التوالد لان كلا منهما أصل للبقاء إذ التوالد منشأ الحياة، والايمان منشأ البقاء الابدي في الجنان، وقيل: هو من باب التشبيه البليغ من حيث انتسابهم إلى أصل واحد هو الايمان الموجب للبقاء الابدي. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا) روى زرارة عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: ما سلت السيوف، ولا أقيمت الصفوف في صلاة ولا زحوف، ولا جهر بأذان، ولا أنزل الله: (يا أيها الذين آمنوا) حتى أسلم أبناء قبيلة الاوس والخزرج. أقول: وعن ابن عباس أيضا ما نزل يا أيها الذين آمنوا إلا بالمدينة، ولا (يا أيها الناس) إلا بمكة الخبر. وتوقف بعضهم في عموم ذيله، واعلم أن هناك روايات في الدر المنثورو تفسير القمي في سبب نزول قوله: (لا تقدموا بين يدي الله ورسوله) الاية لا تنطبق على الاية ذاك الانطباق تركناها من أراد الوقوف عليها فليراجعهما. وفي الدر المنثور أخرج أحمد والخباري ومسلم وأبو يعلى والبغوي في معجم الصحابة وابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن أنس قال: لما نزلت (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي - إلى قوله - وأتم لا تشعرون) وكان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم حبط عملي أنا من أهل النار، وجلس في بيته حزينا. ففقده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: فقدك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لك ؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه واله وسلم وأجهر له بالقول حبط عملي وأنا من أهل النار فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأخبروه بذلك فقال: لا بل هو من أهل الجنة. فلما كان يوم اليمامة قتل.
________________________________________
[ 318 ]
أقول: قوله: (فلما كان يوم اليمامة قتل) من كلام الراوي يريد أنه استشهد يوم اليمامة فكان ذلك تصديق قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والرواية مروية بطرق مختلفة أخرى باختلاف يسير. وفيه أخرج البخاري في الادب وابن أبي الدنيا والبيهقي عن داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل مغشى من خارج بمسوح الشعر وأظن عرض الباب من باب الحجرة الى باب البيت نحوا من ستة أو سبعة أذرع وأحزر (1) البيت الداخل عشرة أذرع، وأظن سمكه بين الثمان والسبع. أقول: وروى مثل صدره عن ابن سعد عن عطاء الخراساني قال: أدركت حجر أزواج رسول الله صلى الله عليه واله وسلم من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود. الحديث. وفيه أخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وابن مردويه بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدعاني إلى الاسلام فدخلت فيه وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها. قلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الاسلام وأداء الزكاة فمن استجاب لي وترسل إلي يا رسول الله رسولا إبان كذا وكذا لتأتيك ما جمعت من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الا بان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطه من الله ورسوله فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان وقت لي وقتا يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة وليس من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم. وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوليد بن عقبة الى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البعث إلى الحارث. فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث * (هامش) (1) كذا في الاصل ولعله جمع خرير بالخاء العجمة وهو المكان المطمئن. (*)
________________________________________
[ 319 ]
فقالوا: هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم ؟ قالوا: اليك. قال: ولم ؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعث اليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله. قال: لا والذي بعث محمدا بالحق ما رأيته ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي ؟ قال: لا والذى بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله صلى الله عليه واله وسلم خشيت أن يكون كانت سخطة من الله ورسوله فنزل (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا - إلى قوله - حكيم). أقول: نزول الاية في قصة الوليد بن عقبة مستفيض من طرق أهل السنة والشيعة وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: ولا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عز وجل: (إن جاءكم فاسق بنبأ) نزلت في الوليد بن عقبة. وفي المحاسن بإسناده عن زياد الحذاء عن أبي جعفر عليه السلام في حديث له قال: يا زياد ويحك وهل الدين إلا الحب ؟ إلا ترى إلى قول الله: (إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) ؟ أولا ترون إلى قول الله لمحمد صلى الله عليه واله وسلم: (حبب اليكم الايمان وزينه في قلوبكم) ؟ قال: (يحبون من هاجر إليهم) وقال: الحب هو الدين والدين هو الحب. أقول: وروى في الكافي بإسناده عن فضيل بن يسار عن الصادق عليه السلام ما في معناه ولفظه: وهل الايمان إلا الحب والبغض ؟ ثم تلا هذه الاية: (حبب اليكم الايمان) إلى آخر الاية. وفي المجمع وقيل: الفسوق هو الكذب عن ابن عباس وابن زيد وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. أقول: وفي هذا المعنى بعض روايات أخر. في الكافي بإسناده عن علي بن عقبة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المؤمن أخو المؤمن عينه ودليله لا يخونه ولا يظلمه ولا يغشه ولا يعده عدة فيخلفه. أقول: وفي معناه روايات أخر عنه عليه السلام وفي بعضها: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يغتابه.
________________________________________
[ 320 ]
وفي المحاسن بإسناده عن أبي حمزه الثمالي عن أبي جعفر عليه السلام قال: المؤمن أخو المؤمن لابيه وأمه وذلك أن الله تبارك وتعالى خلق المؤمن من طينة جنان السماوات، وأجرى فيهم من ريح روحه فلذلك هو أخوه لابيه وأمه. وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس قال: قيل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق وركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة، فلما انطلق إليهم قال: إليك عني فوالله لقد آذاني ريح حمارك. فقال رجل من الانصار: والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد والايدي والنعال فأنزل فيهم (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما). أقول: وفي بعض الروايات كما في المجمع أن الذي قال ذلك لعبد الله بن أبي بن سلول هو عبد الله بن رواحة وأن التضارب وقع بين رهطه من الاوس ورهط عبد الله بن أبي من الخزرج، وفي انطباق الاية بموضوعها وحكمها على هذه الروايات خفاء. * * * يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون - 11. يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم - 12. يا أيها الناس إنا خلقناكم
________________________________________
[ 321 ]
من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير - 13. قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم - 14. إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون - 15. قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السموات وما في الارض والله بكل شئ عليم - 16. يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين - 17. إن الله يعلم غيب السموات والارض والله بصير بما تعملون - 18. (بيان) قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن) الخ، السخرية الاستهزاء وهو ذكر ما يستحقر ويستهان به الانسان بقول أو إشارة أو فعل تقليدا بحيث يضحك منه بالطبع، والقوم الجماعة وهو في الاصل الرجال دون النساء لقيامهم بالامور المهمة دونهن، وهذا المعنى هو المراد بالقوم في الاية بما قوبل بالنساء.
________________________________________
[ 322 ]
وقوله: (عسى أن يكونوا خيرا منهم) و (عسى أن يكن خيرا منهن) حكمة النهي. والمستفاد من السياق أن الملاك رجاء كون المسخور منه خيرا عند الله من الساخر سواء كان الساخر رجلا أو امراة وكذا المسخور منه فتخصيص النهي في اللفظ بسخرية القوم من القوم وسخرية النساء من النساء لمكان الغلبة عادة. وقوله: (ولا تلمزوا أنفسكم) اللمز - على ما قيل - التنبيه على المعايب، وتعليق اللمز بقوله: (أنفسكم) للاشارة إلى أنهم مجتمع واحد بعضهم من بعض فلمز الواحد منهم غيره في الحقيقة لمز نفسه فليجتنب من أن يلمز غيره كما يكره أن يلمزه غيره، ففي قوله: (أنفسكم) إشارة إلى حكمة النهي. وقوله: (ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان) النبز بالتحريك هو اللقب، ويختص - على ما قيل - بما يدل على ذم فالتنابز بالالقاب ذكر بعضهم بعضا بلقب السوء مما يكرهه كالفاسق والسفيه ونحو ذلك. والمراد بالاسم في (بئس الاسم الفسوق) الذكر كما يقال: شاع اسم فلان بالسخاء والجود، وعلى هذا فالمعنى: بئس الذكر ذكر الناس - بعد إيمانهم - بالفسوق فإن الحري بالمؤمن بما هو مؤمن أن يذكر بالخير ولا يطعن فيه بما يسوؤه نحو يا من أبوه كان كذا ويا من أمه كانت كذا. ويمكن أن يكون المراد بالاسم السمة والعلامة والمعنى: بئست السمة أن يوسم الانسان بعد الايمان بالفسوق بأن يذكر بسمة السوء كأن يقال لمن اقترف معصية ثم تاب: يا صاحب المعصية الفلانية، أو المعنى: بئس الاسم أن يسم الانسان نفسه بالفسوق بذكر الناس بما يسوؤهم من الالقاب، وعلى أي معنى كان ففي الجملة إشارة إلى حكمة النهي. وقوله: (ومن لم يتب فاولئك هم الظالمون) أي ومن لم يتب عن هذه المعاصي التي يقترفها بعد ورود النهي فلم يندم عليها ولم يرجع إلى الله سبحانه بتركها فاولئك ظالمون حقا فإنهم لا يرون بها بأسا وقد عدها الله معاصي ونهى عنها. وفي الجملة أعني قوله: (ومن لم يتب) الخ، إشعار بأن هناك من كان يقترف هذه المعاصي من المؤمنين.
________________________________________
[ 323 ]
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم) إلى آخر الاية المراد بالظن المأمور بالاجتناب عنه ظن السوء فإن ظن الخير مندوب إليه كما يستفاد من قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) النور: 12. والمراد بالاجتناب عن الظن الاجتناب عن ترتيب الاثر عليه كأن يظن بأخيه المؤمن سوء فيرميه به ويذكره لغيره ويرتب عليه سائر آثاره، وأما نفس الظن بما هو نوع من الادراك النفساني فهو أمر يفاجئ النفس لا عن اختيار فلا يتعلق به النهي اللهم إلا إذا كان بعض مقدماته اختياريا. وعلى هذا فكون بعض الظن إثما من حيث كون ما يترتب عليه من الاثر إثما كإهانة المظنون به وقذفه وغير ذلك من الاثار السيئة المحرمة، والمراد بكثير من الظن - وقد جيئ به نكرة ليدل على كثرته في نفسه لا بالقياس إلى سائر أفراد الظن - هو بعض الظن الذي هو إثم فهو كثير في نفسه وبعض من مطلق الظن، ولو أريد بكثير من الظن أعم من ذلك كأن يراد ما يعلم أن فيه إثما وما لا يعلم منه ذلك كان الامر بالاجتناب عنه أمرا احتياطيا توقيا من الوقوع في الاثم. وقوله: (ولا تجسسوا) التجسس بالجيم تتبع ما استتر من أمور الناس للاطلاع عليها، ومثله التحسس بالحاء المهملة إلا أن التجسس بالجيم يستعمل في الشر والتحسس بالحاء يستعمل في الخير، ولذا قيل: معنى الاية لا تتبعوا عيوب المسلمين لتهتكوا الامور التي سترها أهلها. وقوله: (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكر هتموه) الغيبة على ما في مجمع البيان ذكر العيب بظهر الغيب على وجه يمنع الحكمة منه، وقد فسرت بتفاسير مختلفة حسب الاختلاف في مصاديقها سعة وضيقا في الفقه، ويؤل الى أن يذكر من الانسان في ظهر الغيب ما يسوؤه لو ذكر به ولذا لم يعدوا من الغيبة ذكر المتجاهر بالفسق بما تجاهر به. والغيبة تفسد أجزاء المجتمع واحدا بعد واحد فتسقطها عن صلاحية التأثير الصالح المرجو من الاجتماع وهو أن يخالط كل صاحبه ويمازجه في أمن وسلامة بأن
________________________________________
[ 324 ]
يعرفه إنسانا عدلا سويا يأنس به ولا يكرهه ولا يستقذره، وأما إذا عرفه بما يكرهه ويعيبه به انقطع عنه بمقدار ذلك وضعفت رابطة الاجتماع فهي كالا كلة التي تأكل جثمان من ابتلي بها عضوا بعد عضو حتى تنتهي إلى بطلان الحياة. والانسان إنما يعقد المجتمع ليعيش فيه بهوية اجتماعية أعني بمنزلة اجتماعية صالحة لان يخالطه ويمازج فيفيد ويستفاد منه، وغيبته بذكر عيبه لغيره تسقطه عن هذه المنزلة وتبطل منه هذه الهوية، وفيه تنقيص واحد من عدد المجتمع الصالح ولا يزال ينتقص بشيوع الغيبة حتى يأتي على آخره فيتبدل الصلاح فسادا ويذهب الانس والامن والاعتماد وينقلب الدواء داء. فهي في الحقيقة إبطال هوية اجتماعية على حين غفلة من صاحبها ومن حيث لا يشعر به، ولو علم بذلك على ما فيه من المخاطرة لتحرز منه وتوقى انهتاك ستره وهو الستر ألقاه الله سبحانه على عيوب الانسان ونواقصه ليتم به ما أراده من طريق الفطرة من تألف أفراد الانسان وتجمعهم وتعاونهم وتعاضدهم، وأين الانسان والنزاهة من كل عيب. وإلى هذه الحقيقة أشار تعالى فيما ذكره من التمثيل بقوله: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) وقد أتى بالاستفهام الانكاري ونسب الحب المنفي إلى أحدهم ولم يقل: بعضكم ونحو ذلك ليكون النفي أوضح استيعابا وشمولا ولذا أكده بقوله بعد: (فكر هتموه) فنسب الكراهة إلى الجميع ولم يقل: فكرهه. وبالجملة محصله أن اغتياب المؤمن بمنزلة أن يأكل الانسان لحم أخيه حال كونه ميتا، وإنما كان لحم أخيه لانه من أفراد المجتمع الاسلامي المؤلف من المؤمنين وإنما المؤمنون إخوة، وإنما كان ميتا لانه لغيبته غافل لا يشعر بما يقال فيه. وفي قوله: (فكر هتموه) ولم يقل: فتكرهونه إشعار بأن الكراهة أمر ثابت محقق منكم في أن تأكلوا إنسانا هو أخوكم وهو ميت فكما أن هذا مكروه لكم فليكن مكروها لكم اغتياب أخيكم المؤمن بظهر الغيب فإنه في معنى أكل أحدكم أخاه ميتا. واعلم أن ما في قوله: (أيحب أحدكم أن يأكل) الخ، من التعليل جار في
________________________________________
[ 325 ]
التجسس أيضا كالغيبة، وإنما الفرق أن الغيبة هو إظهار عيب الغير للغير أو التوصل إلى الظهور عليه من طريق نقل الغير، والتجسس هو التوصل إلى العلم بعيب الغير من طريق تتبع آثاره ولذلك لم يبعد أن يكون الجملة أعني قوله: (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) الخ، تعليلا لكل من الجملتين أعني (ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا). واعلم أن في الكلام إشعارا أو دلالة على اقتصار الحرمة في غيبة المسلمين، ومن القرينة عليه قوله في التعليل: (لحم أخيه) فالاخوه إنما هي بين المؤمنين. وقوله: (واتقوا الله إن الله تواب رحيم) ظاهره أنه عطف على قوله: (اجتنبوا كثيرا من الظن) إن كان المراد بالتقوى هو التجنب عن هذه الذنوب التي كانوا يقترفونها بالتوبة إلى الله سبحانه فالمراد بقوله: (إن الله تواب رحيم) أن الله كثير القبول للتوبة رحيم بعباده التائبين إليه اللائذين به. وإن كان هو التجنب عنها والتورع فيها وإن لم يكونوا يقترفونها فالمراد بقوله: (إن الله تواب رحيم) أن الله كثير الرجوع إلى عباده المتقين بالهداية والتوفيق والحفظ عن الوقوع في مهالك الشقوة رحيم بهم. وذلك أن التوبة من الله توبتان: توبة قبل توبة العبد بالرجوع إليه بالتوفيق للتوبة كما قال تعالى: (ثم تاب عليهم ليتوبوا) التوبة: 118، وتوبة بعد توبة العبد بالرجوع إليه بالمغفرة وقبول التوبة كما في قوله: (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه) المائدة: 39. قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الخ، الشعوب جمع شعب بالكسر فالسكون وهو على ما في المجمع الحي العظيم من الناس كربيعة ومضر، والقبائل جمع قبيلة وهي دون الشعب كتميم من مضر. وقيل: الشعوب دون القبائل وسميت بها لتشعبها، قال الراغب: الشعب القبيلة المنشعبة من حي واحد، وجمعه شعوب، قال تعالى: (شعوبا وقبائل) والشعب من الوادي ما اجتمع منه طرف وتفرق طرف فإذا نظرت إليه من الجانب الذي تفرق
________________________________________
[ 326 ]
أخذت في وهمك واحدا يتفرق، وإذا نظرت من جانب الاجتماع أخذت في وهمك اثنين اجتمعا فلذلك قيل: شعبت إذا جمعت، وشعبت إذا فرقت. انتهى. وقيل: الشعوب العجم والقبائل العرب، والظاهر أن ماله إلى أحد القولين السابقين، وسيجئ تمام الكلام فيه (1). ذكر المفسرون أن الاية مسوقة لنفي التفاخر بالانساب، وعليه فالمراد بقوله: (من ذكر وأنثى) آدم وحواء، والمعنى: أنا خلقناكم من أب وأم تشتركون جميعا فيهما من غير فرق بين الابيض والاسود والعربي والعجمي وجعلناكم شعوبا وقبائل مختلفة لا لكرامة لبعضكم على بعض بل لان تتعارفوا فيعرف بعضكم بعضا ويتم بذلك أمر اجتماعكم فيستقيم مواصلاتكم و معاملاتكم فلو فرض ارتفاع المعرفة من بين أفراد المجتمع انفصم عقد الاجتماع و بادت الانسانية فهذا هو الغرض من جعل الشعوب والقبائل لا أن تتفاخروا بالانساب وتتباهوا بالاباء والامهات. وقيل: المراد بالذكر والانثى مطلق الرجل والمرأة، والاية مسوقة لالغاء مطلق التفاضل بالطبقات كالابيض والاسود والعرب والعجم والغني والفقير والمولى والعبد والرجل والمرأة، والمعنى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من رجل وامرأة فكل واحد منكم إنسان مولود من إنسانين لا تفترقون من هذه الجهة، والاختلاف الحاصل بالشعوب والقبائل - وهو اختلاف راجع الى الجعل الالهي - ليس لكرامة وفضيلة وإنما هو لان تتعارفوا فيتم بذلك اجتماعكم. واعترض عليه بأن الاية مسوقة لنفي التفاخر بالانساب وذمه كما يدل عليه قوله: (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) وترتب هذا الغرض على هذا الوجه غير ظاهر، ويمكن أن يناقش فيه أن الاختلاف في الانساب من مصاديق الاختلاف الطبقاتي وبناء هذا الوجه على كون الاية مسوقة لنفي مطلق الاختلاف الطبقاتي وكما يمكن نفي التفاخر بالانساب وذمه استنادا إلى أن الانساب تنتهي الى آدم وحواء والناس جميعا مشتركون فيهما، كذلك يمكن نفيه وذمه استنادا الى أن كل إنسان مولود من إنسانين والناس جميعا مشتركون في ذلك.
________________________________________
(1) في البحث الروائي الاتي. (*)
________________________________________
[ 327 ]
والحق أن قوله: (وجعلناكم شعوبا وقبائل) إن كان ظاهرا في ذم التفاخر بالانساب فأول الوجهين أوجه، وإلا فالثاني لكونه أعم وأشمل. وقوله: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) استئناف مبين لما فيه الكرامة عند الله سبحانه، وذلك أنه نبههم في صدر الاية على أن الناس بما هم ناس يساوي بعضهم بعضا لا اختلاف بينهم ولا فضل لاحدهم على غيره، وأن الاختلاف المترائي في الخلقة من حيث الشعوب والقبائل إنما هو للتوصل به الى تعارفهم ليقوم به الاجتماع المنعقد بينهم إذ لا يتم ائتلاف ولا تعاون وتعاضد من غير تعرف فهذا هو غرض الخلقة من الاختلاف المجعول لا أن تتفاخروا بالانساب وتتفاضلوا بأمثال البياض والسواد فيستعبد بذلك بعضهم بعضا ويستخدم إنسان إنسانا ويستعلي قوم على قوم فينجر الى ظهور الفساد في البر والبحر وهلاك الحرث والنسل فينقلب الدواء داء. ثم نبه سبحانه في ذيل الاية بهذه الجملة أعني قوله: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) على ما فيه الكرامة عنده، وهي حقيقة الكرامة. وذلك أن الانسان مجبول على طلب ما يتميز به من غيره ويختص به من بين أقرانه من شرف وكرامة، وعامة الناس لتعلقهم بالحياة الدنيا يرون الشرف والكرامة في مزايا الحياة المادية من مال وجمال ونسب وحسب وغير ذلك فيبذلون جل جهدهم في طلبها واقتنائها ليتفاخروا بها ويستعلوا على غيرهم. وهذه مزايا وهمية لا تجلب لهم شيئا من الشرف والكرامة دون أن توقعهم في مهابط الهلكة والشقوة، والشرف الحقيقي هو الذي يؤدي الانسان الى سعادته الحقيقية وهو الحياة الطيبة الابدية في جوار رب العزة وهذا الشرف والكرامة هو بتقوى الله سبحانه وهي الوسيلة الوحيدة الى سعادة الدار الاخرة، وتتبعها سعادة الدنيا قال تعالى: (تريدون عرض الدنيا والله يريد الاخرة) الانفال: 67، وقال: (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى) البقرة: 197، وإذا كانت الكرامة بالتقوى فأكرم الناس عند الله أتقاهم كما قال تعالى. وهذه البغية والغاية التي اختارها الله بعلمه غاية للناس لا تزاحم فيها ولا تدافع بين المتلبسين بها على خلاف الغايات والكرامات التي يتخذها الناس بحسب أو هامهم
________________________________________
[ 328 ]
غايات يتوجهون إليها ويتباهون بها كالغنى والرئاسة والجمال وانتشار الصيت وكذا الانساب وغيرها. وقوله: (إن الله عليم خبير) فيه تأكيد لمضمون الاية وتلويح إلى أن الذي اختاره الله كرامة للناس كرامة حقيقية اختارها الله بعلمه وخبرته بخلاف ما اختاره الناس كرامة وشرفا لانفسهم فإنها وهمية باطلة فإنها جميعا من زينة الحياة الدنيا قال تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الاخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) العنكبوت: 64. وفي الاية دلالة على أن من الواجب على الناس أن يتبعوا في غايات الحياة أمر ربهم ويختاروا ما يختاره ويهدي إليه وقد اختار لهم التقوى كما أن من الواجب عليهم أن يختاروا من سنن الحياة ما يختاره لهم من الدين. قوله تعالى: (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم) الخ الاية وما يليها إلى آخر السورة متعرضة لحال الاعراب في دعواهم الايمان ومنهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإيمانهم، وسياق نقل قولهم وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم بقوله: (لم تؤمنوا) يدل على أن المراد بالاعراب بعض الاعراب البادين دون جميعهم، ويؤيده قوله: (ومن الاعراب من يؤمن بالله واليوم الاخر) التوبة: 99. وقوله: (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا) أي قالوا لك آمنا وادعوا الايمان قل لم تؤمنوا وكذبهم في دعواهم، وقوله: (ولكن قولوا أسلمنا) استدراك مما يدل عليه سابق الكلام، والتقدير: فلا تقولوا آمنا ولكن قولوا: أسلمنا. وقوله: (ولما يدخل الايمان في قلوبكم) لنفي دخول الايمان في قلوبهم مع انتظار دخوله، ولذلك لم يكن تكرارا لنفي الايمان المدلول عليه بقوله: (لم تؤمنوا). وقد نفي في الاية الايمان عنهم وأوضحه بأنه لم يدخل في قلوبهم بعد وأثبت لهم الاسلام، ويظهر به الفرق بين الايمان والاسلام بأن الايمان معنى قائم بالقلب من قبيل الاعتقاد، والاسلام أمر قائم باللسان والجوارح فإنه الاستسلام والخضوع لسانا بالشهادة على التوحيد والنبوة وعملا بالمتابعة العملية ظاهرا سواء قارن الاعتقاد بحقية
________________________________________
[ 329 ]
ما شهد عليه وعمل به أو لم يقارن، وبظاهر الشهادتين تحقن الدماء وعليه تجري المناكح والمواريث. وقوله: (وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا) الليت النقص يقال: لاته يليته ليتا إذا نقصه، والمراد بالاطاعة الاخلاص فيها بموافقة الباطن للظاهر من غير نفاق، وطاعة الله استجابة ما دعا إليه من اعتقاد وعمل، وطاعة رسوله تصديقه واتباعه فيما يأمر به فيما له الولاية عليه من امور الامة، والمراد بالاعمال جزاؤها المراد بنقص الاعمال نقص جزائها. والمعنى: وإن تطيعوا الله فيما يأمركم به من اتباع دينه اعتقادا، وتطيعوا الرسول فيما يأمركم به لا ينقص من اجور أعمالكم شيئا، وقوله: (إن الله غفور رحيم) تعليل لعدم نقصه تعالى أعمالهم إن أطاعوه ورسوله. قوله تعالى: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون) تعريف تفصيلي للمؤمنين بعد ما عرفوا إجمالا بأنهم الذين دخل الايمان في قلوبهم كما هو لازم قوله: (لم تؤمنوا ولما يدخل الايمان في قلوبكم). فقوله: (إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله) فيه قصر المؤمنين في الذين آمنوا بالله ورسوله الخ، فتفيد تعريفهم بما ذكر من الاوصاف تعريفا جامعا مانعا فمن اتصف بها مؤمن حقا كما أن من فقد شيئا منها ليس بمؤمن حقا. و الايمان بالله ورسوله عقد القلب على توحيده تعالى وحقية ما أرسل به رسوله وعلى صحة الرسالة واتباع الرسول فيما يأمر به. وقوله: (ثم لم يرتابوا) أي لم يشكوا في حقية ما آمنوا به وكان إيمانهم ثابتا مستقرا لا يزلزله شك، والتعبير بثم دون الواو - كما قيل - للدلالة على انتفاء عروض الريب حينا بعد حين كأنه طري جديد دائما فيفيد ثبوت الايمان على استحكامه الاولي ولو قيل: ولم يرتابوا كان من الجائز أن يصدق مع الايمان أولا مقارنا لعدم الارتياب مع السكوت عما بعد. وقوله: (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) المجاهدة بذل الجهد والطاقة
________________________________________
[ 330 ]
وسبيل الله دينه، والمراد بالمجاهدة بالاموال والانفس العمل بما تسعه الاستطاعة وتبلغه الطاقة في التكاليف المالية كالزكاة وغير ذلك من الانفاقات الواجبة، والتكاليف البدنية كالصلاة والصوم والحج وغير ذلك. والمعنى: ويجدون بإتيان التكاليف المالية والبدنية حال كونهم أو حال كون عملهم في دين الله وسبيله. وقوله: (أولئك هم الصادقون) تصديق في إيمانهم إذا كانوا على الصفات المذكورة. قوله تعالى: (قل أتعلمون الله بدينكم والله يعلم ما في السماوات وما في الارض والله بكل شئ عليم) توبيخ للاعراب حيث قالوا: آمنا ولازمه دعوى الصدق في قولهم والاصرار على ذلك، وقيل: لما نزلت الاية السابقة حلفت الاعراب أنهم مؤمنون صادقون في قولهم: آمنا، فنزل: (قل أتعلمون الله بدينكم) الاية، ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا على إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للايمان إن كنتم صادقين) أي يمنون عليك بأن أسلموا وقد أخطأوا في منهم هذا من وجهين أحدهما أن حقيقة النعمة التي فيها المن هو الايمان الذي هو مفتاح سعادة الدنيا والاخرة دون الاسلام الذي له فوائد صورية من حقن الدماء وجواز المناكح والمواريث، وثانيهما أن ليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من أمر الدين إلا أنه رسول مأمور بالتبليغ فلا من عليه لاحد ممن أسلم. فلو كان هناك من لكان لهم على الله سبحانه لان الدين دينه لكن لا من لاحد على الله لان المنتفع بالدين في الدنيا والاخرة هم المؤمنون دون الله الغني على الاطلاق فالمن لله عليهم أن هداهم له. وقد بدل ثانيا الاسلام من الايمان للاشارة إلى أن المن إنما هو بالايمان دون الاسلام الذي إنما ينفعهم في الظاهر فقط. فقد تضمن قوله: (قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن) الخ، الاشارة إلى خطاهم من الجهتين جميعا: إحداهما: خطأهم من جهة توجيه المن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو رسول ليس له من الامر شئ، واليه الاشارة بقوله: (لا تمنوا علي إسلامكم).
________________________________________
[ 331 ]
وثانيهما: أن المن - لو كان هناك من - إنما هو بالايمان دون الاسلام، واليه الاشارة بتبديل الاسلام من الايمان. قوله تعالى: (إن الله يعلم غيب السماوات والارض والله بصير بما تعملون) ختم للسورة وتأكيد يعلل ويؤكد به جميع ما تقدم في السورة من النواهي والاوامر وما بين فيها من الحقائق وما أخبر فيها عن إيمان قوم وعدم إيمان آخرين فالاية تعلل بمضمونها جميع ذلك. والمراد بغيب السماوات والارض ما فيها من الغيب أو الاعم مما فيهما ومن الخارج منهما. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم) قال: نزلت في قوم من بني تميم استهزؤا من بلال وسلمان وعمار وخباب وصهيب وابن فهيرة وسالم مولى أبي حذيفة. وفي المجمع: نزل قوله: (لا يسخر قوم من قوم) في ثابت بن قيس بن شماس وكان في أذنه وقر وكان إذا دخل المسجد تفسحوا له حتى يقعد عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيسمع ما يقول. فدخل المسجد يوما والناس قد فرغوا من الصلاة وأخذوا مكانهم فجعل يتخطى رقاب الناس ويقول: تفسحوا تفسحوا حتى انتهى الى رجل فقال له: أصبت مجلسا فاجلس فجلس خلفه مغضبا فلما انجلت الظلمة قال: من هذا ؟ قال الرجل: أنا فلان فقال ثابت: ابن فلانة ذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية فنكس الرجل رأسه حياء فنزلت الاية. عن ابن عباس. وفيه: وقوله: (ولا نساء من نساء) نزل في نساء النبي صلى الله عليه واله وسلم سخرن من أم سلمة. عن أنس. وذلك أنها ربطت حقويها بسبيبة وهي ثوب أبيض وسدلت طرفيها خلفها فكانت تجره فقالت عائشة لحفصة: انظري ماذا تجر خلفها كأنه لسان كلب
________________________________________
[ 332 ]
فهذه كانت سخريتهما، وقيل: إنها عيرتها بالقصر، وأشارت بيدها أنها قصيرة. عن الحسن. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري في الادب وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر والبغوي في معجمه وابن حبان والشيرازي في الالقاب والطبراني وابن السني في عمل اليوم والليلة والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة (ولا تنابزوا بالالقاب) قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المدينة وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدهم باسم من تلك الاسماء قالوا: يا رسول الله إنه يكره هذا الاسم فأنزل الله (ولا تنابزوا بالالقاب). وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن سلمان الفارسي كان مع رجلين في سفر يخدمهما وينال من طعامهما وأن سلمان نام نوما فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء وقالا ما يريد سلمان شيئا غير هذا أن يجئ إلى طعام معدود وخباء مضروب فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يطلب لهما إداما فانطلق فأتاه فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك. قال: ما يصنع أصحابك بالادم ؟ قد ائتدموا. فرجع سلمان فخبرهما فانطلقا فأتيا رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقالا: والذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاما منذ نزلنا. قال: إنكما قد ائتدمتما سلمان بقولكما. فنزلت (أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا). وفيه أخرج الضياء المقدسي عن أنس قال: كانت العرب يخدم بعضها بعضا في الاسفار وكان مع أبي بكر وعمر رجل يخدمهما فناما واستيقظا ولم يهئ لهما طعاما فقالا: إن هذا لنؤوم فأيقظاه فقالا: ائت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقل له: إن أبا بكر وعمر يقرئانك السلام ويستأد مانك، فقال: إنهما ائتدما، فجاءاه فقالا يا رسول الله بأي شئ ائتدمنا ؟ قال: بلحم أخيكما، والذي نفسي بيده إني لارى لحمه بين ثناياكما، فقالا: استغفر لنا يا رسول الله. قال: مراه فليستغفر لكما. أقول: الظاهر أن القصة الموردة في الروايتين واحدة والرجلان المذكوران في الرواية الاولى أبو بكر وعمر والرجل المذكور في الثانية هو سلمان، ويؤيد هذا ما عن
________________________________________
[ 333 ]
جوامع الجامع قال: وروي أن أبا بكر وعمر بعثا سلمان إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ليأتي لهما بطعام فبعثه إلى أسامة بن زيد وكان خازن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رحله فقال: ما عندي شئ فعاد اليهما فقالا: بخل أسامة ولو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها. ثم انطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما قالا: يا رسول الله ما تناولنا اليوم لحما. قال: ظلمتم تأكلون لحم سلمان وأسامة فنزلت. وفي العيون بإسناده عن محمد بن يحيى بن أبي عباد عن عمه قال: سمعت الرضا عليه السلام يوما ينشد وقليلا ما كان ينشد شعرا: كلنا نأمل مدا في الاجل والمنايا هن آفات الامل لا يغرنك أباطيل المنى والزم القصد ودع عنك العلل إنما الدنيا كظل زائل حل فيه راكب ثم رحل فقلت: لمن هذا أعز الله الامير ؟ فقال: لعراقي لكم قلت: أنشدنيه أبو العتاهية (1) لنفسه فقال: هات اسمه ودع هذا، إن الله سبحانه يقول: (ولا تنابزوا بالالقاب) ولعل الرجل يكره هذا. وفي الكافي بإسناده عن الحسين بن مختار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك منه، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا. وفي نهج البلاغة وقال عليه السلام: إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله، ثم أساء رجل الظن برجل لم يظهر منه حوبة فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله ثم أحسن رجل الظن برجل فقد غرر. أقول: والروايتان غير متعارضتين فالثانية ناظرة إلى نفس الظن والاولى إلى ترتيب الاثر عليه عملا. وفي الخصال عن أسباط بن محمد بإسناده الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الغيبة أشد من الزنا، فقيل: يا رسول الله ولم ذلك ؟ قال: صاحب الزنا يتوب فيتوب الله عليه وصاحب الغيبة يتوب فلا يتوب الله عليه حتى يكون صاحبه الذي يحله.
________________________________________
(1) العتاهية بمعنى نقصان ا لعقل. (*)
________________________________________
[ 334 ]
أقول ورواه في الدر المنثور عن ابن مردويه والبيهقي عن أبي سعيد وجابر عنه صلى الله عليه وآله وسلم، ولفظه قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: الغيبة أشد من الزنا. قالوا: يا رسول الله وكيف الغيبة أشد من الزنا ؟ قال: إن الرجل يزني فيتوب فيتوب الله عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفرها له صاحبه. وفي الكافي بإسناده الى السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الاكلة في جوفه. وفيه بإسناده عن حفص بن عمر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما كفارة الاغتياب قال: تستغفر الله لمن اغتبته كما ذكرته. وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: (وجعلناكم شعوبا وقبائل) قال: الشعوب العجم والقبائل العرب. أقول: ونسبه في مجمع البيان الى الصادق عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه والبيهقي عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لاسود على أحمر ولا لاحمر على أسود إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ألا هل بلغت ؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال فليبلغ الشاهد الغائب. وفي الكافي بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زوج مقداد بن الاسود ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب. إنما زوجه لتضع المناكح، وليتأسوا برسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وليعلموا أن أكرمهم عند الله أتقاهم. وفي روضة الكافي بإسناده عن جميل بن دراج قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: فما الكرم ؟ قال: التقوى. وفي الكافي بإسناده عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث قال: إن الاسلام قبل الايمان وعليه يتوارثون وعليه يتناكحون والايمان عليه يثابون. وفي الخصال عن الاعمش عن جعفر بن محمد عليه السلام في حديث: والاسلام غير الايمان، وكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا.
________________________________________
[ 335 ]
وفي الدر المنثور في قوله تعالى: (قالت الاعراب آمنا) أخرج ابن جرير عن قتادة في قوله: (قالت الاعراب آمنا) قال: نزلت في بني أسد. أقول: وهو مروي أيضا عن مجاهد وغيره. وفيه أخرج ابن ماجه وابن مردويه والطبراني والبيهقي في شعب الايمان عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: الايمان معرفة بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالاركان. وفيه أخرج النسائي والبزاز وابن مردويه عن ابن عباس قال: جاءت بنو أسد الى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا: يارسول الله أسلمنا وقاتلك العرب ولم نقاتلك فنزلت هذه الاية (يمنون عليك أن أسلموا). أقول: وفي هذا المعنى روايات أخر.
________________________________________
[ 336 ]
(سورة ق مكية، وهي خمس وأربعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. ق والقرآن المجيد - 1. بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شئ عجيب - 2. ءإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد - 3. قد علمنا ما تنقص الارض منهم وعندنا كتاب حفيظ - 4. بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج - 5. أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج - 6. والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج - 7. تبصرة وذكرى لكل عبد منيب - 8. ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد - 9. والنخل باسقات لها طلع نضيد - 10. رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج - 11. كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب الرس وثمود - 12. وعاد وفرعون وإخوان لوط - 13. وأصحاب الايكة وقوم تبع كل كذب الرسل فحق وعيد - 14.
________________________________________
[ 337 ]
(بيان) السورة تذكر الدعوة وتشير إلى ما فيها من الانذار بالمعاد وجحد المشركين به واستعجابهم ذلك بأن الموت يستعقب بطلان الشخصية الانسانية بصيرورته ترابا لا يبقى معه أثر مما كان عليه فكيف يرجع ثانيا إلى ما كان عليه قبل الموت فتدفع ما أظهروه من الاستعجاب والاستبعاد بأن العلم الالهي محيط بهم وعنده الكتاب الحفيظ الذي لا يعزب عنه شئ مما دق وجل من أحوال خلقه ثم توعدهم بإصابة مثل ما أصاب الامم الماضية الهالكة. وتنبه ثانيا على علمه وقدرته تعالى بالاشارة إلى ما جرى من تدبيره تعالى في خلق السماوات وما زينها به من الكواكب والنجوم وغير ذلك، وفي خلق الارض من حيث مدها وإلقاء الرواسي عليها وإنبات الازواج النباتية فيها ثم بإنزال الماء وتهيئة أرزاق العباد وإحياء الارض به. ثم بيان حال الانسان من أول ما خلق وأنه تحت المراقبة الشديدة الدقيقة حتى ما يلفظ به من لفظ وحتى ما يخطر بباله وتوسوس به نفسه ما دام حيا ثم إذا أدركه الموت ثم إذا بعث لفصل القضاء ثم إذا فرغ من حسابه فادخل النار إن كان من المكذبين أو الجنة المزيفة إن كان من المتقين. وبالجملة مصب الكلام في السورة هو المعاد، ومن غرر الايات فيها قوله: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد)، وقوله: (يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد) وقوله: (لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد). والسورة مكية بشهادة سياق آياتها إلا ما قيل في قوله: (ولقد خلقنا السماوات والارض) الاية أو الايتين، ولا شاهد عليه من اللفظ. وما أوردناه من الايات فيه إجمال الاشارة الى المعاد واستبعادهم له، وإجمال الجواب والتهديد أولا ثم الاشارة الى تفصيل الجواب والتهديد ثانيا. قوله تعالى: (ق والقرآن المجيد)، قال في المجمع: المجد في كلامهم الشرف
________________________________________
[ 338 ]
الواسع يقال: مجد الرجل ومجد - بضم العين وفتحها - مجدا إذا عظم وكرم، وأصله من قولهم: مجدت الابل مجودا إذا عظمت بطونها من كثرة أكلها من كلاء الربيع. انتهى. وقوله: (والقرآن المجيد) قسم وجوابه محذوف يدل عليه الجمل التالية والتقدير والقرآن المجيد إن البعث حق أو إنك لمن المنذرين أو الانذار حق، وقيل: جواب القسم مذكور وهو قوله: (بل عجبوا) الخ، وقيل: هو قوله: (قد علمنا ما تنقص) الخ، وقيل: قوله: (ما يلفظ من قول) الخ، وقيل: قوله: (إن في ذلك لذكرى) الخ، وقيل: قوله (ما يبدل القول لدي) الخ، وهذه أقوال سخيفة لا يصار إليها. قوله تعالى: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شئ عجيب) إضراب عن مضمون جواب القسم المحذوف فكأنه قيل: إنا أرسلناك نذيرا فلم يؤمنوا بك بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم، أو قيل إن البعث الذي أنذرتهم به حق ولم يؤمنوا به بل عجبوا منه واستبعدوه. وضمير (منهم) في قوله: (بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم) راجع إليهم بما هم بشر أي من جنسهم وذلك أن الوثنيين ينكرون نبوة البشر كما تقدمت الاشارة إليه مرارا أو راجع إليهم بما هم عرب والمعنى: بل عجبوا أن جاءهم منذر من قومهم وبلسانهم يبين لهم الحق أو في بيان فيكون أبلغ في تقريعهم. وقوله: (فقال الكافرون هذا شئ عجيب) وصفهم بالكفر ولم يقل: وقال المشركون ونحو ذلك للدلالة على سترهم للحق لما جاءهم، والاشارة في قولهم: (هذا شئ عجيب)، الى البعث الرجوع الى الله كما يفسره قوله بعد: (إذا متنا وكنا ترابا) الخ. قوله تعالى: (ءإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد) الرجع والرجوع بمعنى والمراد بالبعد البعد عن العقل. وجواب إذا في قولهم: (إذا متنا وكنا ترابا) محذوف يدل عليه قولهم: (ذلك رجع بعيد) والتقدير ءإذا متنا وكنا ترابا نبعث ونرجع ؟ والاستفهام للتعجيب، وإنما حذف للاشارة الى أنه عجيب بحيث لا ينبغي أن يذكر، إذ لا يقبله عقل ذي عقل
________________________________________
[ 339 ]
والاية في مساق قوله: (وقالوا ءإذا ضللنا في الارض ءإنا لفي خلق جديد) الم السجدة: 10. والمعنى: إنهم يتعجبون ويقولون: ءإذا متنا وكنا ترابا - وبطلت ذواتنا بطلانا لا أثر معه منها - نبعث ونرجع ؟ ثم كأن قائلا يقول لهم: مم تتعجبون ؟ فقالوا: ذلك رجع بعيد يستبعده العقل ولا يسلمه. قوله تعالى: (قد علمنا ما تنقص الارض منهم وعندنا كتاب حفيظ) رد منه تعالى لاستبعادهم البعث والرجوع مستندين في ذلك إلى أنهم ستتلاشى أبدانهم بالموت فتصير ترابا متشابه الاجزاء لا تمايز لجزء منها من جزء والجواب أنا نعلم بما تأكله الارض من أبدانهم وتنقصه منها فلا يفوت علمنا جزء من أجزائهم حتى يتعسر علينا إرجاعه أو يتعذر بالجهل. أو أنا نعلم من يموت منهم فيدفن في الارض فتنقصه الارض من جمعهم، و (من) على أول الوجهين تبعيضية وعلى الثاني تبيينية. وقوله: (وعندنا كتاب حفيظ) أي حافظ لكل شئ ولاثاره وأحواله، أو كتاب ضابط للحوادث محفوظ عن التغيير والتحريف، وهو اللوح المحفوظ الذي فيه كل ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة. وقول بعضهم إن المراد به كتاب الاعمال غير سديد أولا من جهة أن الله ذكره حفيظا لما تنقص الارض منهم وهو غير الاعمال التي يحفظه كتاب الاعمال. وثانيا: أنه سبحانه إنما وصف في كلامه بالحفظ اللوح المحفوظ دون كتب الاعمال فحمل الكتاب الحفيظ على كتاب الاعمال من غير شاهد. ومحصل جواب الاية أنهم زعموا أن موتهم وصيرورتهم ترابا متلاشي الذرات غير متمايز الاجزاء يصيرهم مجهولي الاجزاء عندنا فيمتنع علينا جمعها وإرجاعها لكنه زعم باطل فإنا نعلم بمن مات منهم وما يتبدل إلى الارض من أجزاء أبدانهم وكيف يتبدل وإلى أين يصير ؟ وعندنا كتاب حفيظ فيه كل شئ وهو اللوح المحفوظ. قوله تعالى: (بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج) المرج الاختلاط والالتباس، وفي الاية إضراب عما تلوح إليه الاية السابقة فإن اللائح منها أنهم إنما
________________________________________
[ 340 ]
تعجبوا من أمر البعث والرجوع واستبعدوه لجهلهم بأن الله سبحانه عليم لا يعزب عنه شئ من أحوال خلقه وآثارهم وأن جميع ذلك مستطر في اللوح المحفوظ عند الله بحيث لا يشذ عنه شاذ. فاضرب في هذه الاية أن ذلك ليس من جهلهم وإن تجاهلوا بل كذبوا بالحق لما جاءهم فاستبان لهم أنه حق فهم جاحدون للحق معاندون له وليسوا بجاهلين به قاصرين عن إدراكه فهم في أمر مريج مختلط غير منتظم يدركون الحق ويكذبون به مع أن لازم العلم بشئ تصديقه والايمان به. وقيل: المراد بكونهم في أمر مريج أنهم متحيرون بعد إنكار الحق لا يدرون ما يقولون فتارة يقولون: افتراء على الله، وتارة: سحر، وتارة: شعر، وتارة: كهانة وتارة: زجر. ولذلك عقب الكلام بذكر آيات علمه وقدرته توبيخا لهم ثم بالاشارة إلى تكذيب الامم الماضية الهالكة الذي ساقهم إلى عذاب الاستئصال، تهديدا لهم. قوله تعالى: (أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج) الفروج جمع فرجة: الشقوق والفتوق، وتقييد السماء بكونها فوقهم للدلالة على أنها بمرأى منهم لا تغيب عن أنظارهم، والمراد بتزيينها خلق النجوم اللامعة فيها بما لها من الجمال البديع، فبناء هذا الخلق البديع بما لها من الجمال الرائع من غير شقوق وفتوق أصدق شاهد على قدرته القاهرة وعلمه المحيط بما خلق. قوله تعالى: (والارض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج) مد الارض بسطها لتلائم عيشة الانسان، والرواسي جمع الراسية بمعنى الثابتة صفة محذوفة الموصوف وهو الجبال، والمراد جعل الجبال الثابتة على ظهرها، والبهيج من البهجة، قال في المجمع: البهجة الحسن الذي له روعة عند الرؤية كالزهرة والاشجار النضرة والرياض الخضرة. انتهى. وقيل: المراد بالبهيج الذي من رآه بهج وسر به فهو بمعنى المبهوج به. والمراد بإنبات كل زوج بهيج إنبات كل صنف حسن المنظر من النبات.
________________________________________
[ 341 ]
فخلق الارض وما جرى فيها من التدبير الالهي العجيب أحسن دليل يدل العقل على كمال القدرة والعلم. قوله تعالى: (تبصرة وذكرى لكل عبد منيب) مفعول له أي فعلنا ما فعلنا من بناء السماء ومد الارض وعجائب التدبير التي أجريناها فيهما ليكون تبصرة يتبصر بها وذكرى يتذكر بها كل عبد راجع إلى الله سبحانه. قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد) السماء جهة العلو والماء المبارك المطر، وصف بالمباركة لكثرة خيراته العائدة إلى الارض وأهلها، وحب الحصيد المحصود من الحب وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: (والنخل باسقات لها طلع نضيد) الباسقات جمع باسقة وهي الطويلة العالية، والطلع أول ما يطلع من ثمر النخيل، والنضيد بمعنى المنضود بعضه على بعض، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: (رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج) الرزق ما يمد به البقاء، و (رزقا للعباد) مفعول له أي أنبتنا هذه الجنات وحب الحصيد والنخل باسقات بما لها من الطلع النضيد ليكون رزقا للعباد فمن خلق هذه النباتات ليرزق به العباد بما في ذلك من التدبير الوسيع الذي يدهش اللب ويحير العقل هو ذو علم لا يتناهى وقدرة لا تعيى لا يشق عليه إحياء الانسان بعد موته وإن تلاشت ذرات جسمه وضلت في الارض أجزاء بدنه. وقوله: (و أحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج) برهان آخر على البعث غير ما تقدم استنتج من طي الكلام فإن البيان السابق في رد استبعادهم للبعث مستندين إلى صيرورتهم ترابا غير متمايز الاجزاء كان برهانا من مسلك إثبات علمه بكل شئ وقدرته على كل شئ وهذا البرهان الذي يتضمنه قوله: (واحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج) من مسلك إثبات إمكان الشئ بوقوع مثله فليس الخروج من القبور بالاحياء بعد الموت إلا مثل خروج النبات الميت من الارض بعد موتها ووقوف قواه عن النماء والنشوء. وقد قررنا هذا البرهان في ذيل الايات المستدلة باحياء الارض بعد موتها على
________________________________________
[ 342 ]
البعث غير مرة فيما تقدم من أجزاء الكتاب. قوله تعالى: (كذبت قبلهم قوم نوح - إلى قوله - كل كذب الرسل فحق وعيد) تهديد وإنذار لهم بما كذبوا بالحق لما جاءهم وتبين لهم عنادا كما أشرنا إليه قبل. وقد تقدم ذكر أصحاب الرس في تفسير سورة الفرقان، وذكر أصحاب الايكة وهم قوم شعيب في سور الحجر والشعراء وص، وذكر قوم تبع في سورة الدخان. وفي قوله: (كل كذب الرسل فحق وعيد) إشارة إلى أن هناك وعيدا بالهلاك ينجز عند تكذيب الرسل قال تعالى: (فسيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين) النحل: 36. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: خلق الله تعالى من وراء هذه الارض بحرا محيطا بها ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له: ق السماء الدنيا مترفرفة عليه، ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الارض سبع مرات ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا بها، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له ق السماء الثانية مترفرفة عليه حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل وسبع سماوات. قال: وذلك قوله: (والبحر يمده من بعده سبعة أبحر). وفيه أخرج ابن المنذر وابن مردويه وأبو الشيخ والحاكم عن عبد الله بن بريدة في قوله تعالى: (ق) قال: جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء. وفيه أخرج ابن أبي الدنيا في العقوبات وأبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس قال: خلق الله جبلا يقال له ق محيط بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الارض فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية. أقول: وروى القمي بإسناده عن يحيى بن ميسرة الخثعمي عن الباقر عليه السلام
________________________________________
[ 343 ]
مثل ما مر عن عبد الله بن بريدة، وروى ما في معناه مرسلا ومضمرا ولفظه: قال: جبل محيط بالدنيا وراء يأجوج ومأجوج. وكيفما كان لا تعويل على هذه الروايات، وبطلان ما فيها يكاد يلحق اليوم بالبديهيات أو هو منها. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (فقال الكافرون هذا شئ عجيب) قال: نزلت في أبي بن خلف قال لابي جهل: تعال إلي أعجبك من محمد ثم أخذ عظما ففته ثم قال: يا محمد تزعم أن هذا يحيا ؟ فقال الله: بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج). * * * أفعيينا بالخلق الاول بل هم في لبس من خلق جديد - 15. ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد - 16. إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد - 17. ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد - 18. وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد - 19. ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد - 20. وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد - 21. لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد - 22. وقال قرينه هذا ما لدي عتيد - 23. ألقيا في جهنم كل كفار عنيد - 24. مناع للخير معتد مريب - 25. الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه
________________________________________
[ 344 ]
في العذاب الشديد - 26. قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد - 27. قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد - 28. ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد - 29. يوم نقول لجهنم هل امتلات وتقول هل من مزيد - 30. وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد - 31. هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ - 32. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب - 33. أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود - 34. لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد - 35. وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أشد منهم بطشا فنقبوا في البلاد هل من محيص - 36. إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد - 37. ولقد خلقنا السموات والارض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب - 38. (بيان) الاية الاولى متممة لما أورده في الايات السابقة من الحجة على علمه وقدرته بما خلق السماء والارض وما فيهما من خلق ودبر ذلك أكمل التدبير وأتمه وذلك كله هو الخلق الاول والنشأة الاولى. فتمم ذلك بقوله: (أفعيينا بالخلق الاول) واستنتج منه أن القادر على الخلق الاول العالم به قادر على خلق جديد ونشأة ثانية وعالم به لانهما مثلان إذا جاز له خلق أحدهما جاز خلق الاخر وإنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن.
________________________________________
[ 345 ]
ثم أضرب عنه أنهم في التباس من خلق جديد مع مماثلة الخلقين ثم أشار إلى نشأة الانسان أول مرة وهو يعلم منه حتى خطرات قلبه وعليه رقباؤه يراقبونه أدق المراقبة ثم يجيئه سكرة الموت بالحق ثم البعث ثم دخول الجنة أو النار ثم أشار ثانيا إلى ما حل بالقرون الماضية المكذبة من السخط الالهي وعذاب الاستئصال وهم أشد بطشا من هؤلاء فمن جازاهم بالهلاك قادر على أن يجازي هؤلاء. قوله تعالى: (أفعيينا بالخلق الاول بل هم في لبس من خلق جديد) العي عجز يلحق من تولى الامر والكلام كذا، قال الراغب: يقال: أعياني كذا وعييت بكذا أي عجزت عنه والخلق الاول خلق هذه النشأة الطبيعية بنظامها الجاري ومنها الانسان في حياته الدنيا فلا وجه لقصر الخلق الاول في خلق السماء والارض فقط كما مال إليه الرازي في التفسير الكبير ولا لقصره في خلق الانسان كما مال إليه بعضهم وذلك لان الخلق الجديد يشمل السماء والارض والانسان جميعا كما قال تعالى: (يوم تبدل الارض غير الارض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار) إبراهيم: 48. والخلق الجديد خلق النشأة الثانية وهي النشأة الاخرة، والاستفهام للانكار. والمعنى: أعجزنا عن الخلق الاول حتى نعجز عن الخلق الجديد ؟ أي لم نعجز عن الخلق الاول وهو إبداؤه فلا نعجز عن الخلق الجديد وهو إعادته. ولو أخذ العي بمعنى التعب كما مال إليه بعضهم كان المعنى: هل تعبنا بسبب الخلق الاول حتى يتعذر أو يتعسر علينا الخلق الجديد ؟ وذلك كما أن الانسان وسائر الحيوان إذا أتى بشئ من الفعل وأكثر منه انتهى به إلى التعب البدني فيكفه ذلك عن الفعل بعد، فما لم يأت به من الفعل لكونه تعبان مثل ما أتى لكنه لا يؤتى به لان الفاعل لا يستطيعه لتعبه وإن كان الفعل جائزا متشابه الامثال. وهذا معنى لا بأس به لكن قيل: إن استعمال العي بمعنى العجز أفصح. على أن سوق الحجة من طريق العجز يفيد استحالة الاتيان ونفيها هو المطلوب بخلاف سوقها من طريق التعب فإنه يفيد تعسره دون استحالة الاتيان و مراد النافين للمعاد استحالته دون تعسره هذا. وقوله: (بل هم في لبس من خلق جديد) اللبس هو الالتباس، والمراد بالخلق
________________________________________
[ 346 ]
الجديد تبديل نشأتهم الدنيا من نشأة اخرى ذات نظام آخر وراء النظام الطبيعي الحاكم في الدنيا فإن في النشأة الاخرى وهي الخلق الجديد بقاء من غير فناء وحياة من غير موت ثم إن كان الانسان من أهل السعادة فله نعمة من غير نقمة وإن كان من أهل الشقاء ففي نقمة لا نعمة معها، والنشأة الاولى وهي الخلق الاول والنظام الحاكم فيها على خلاف ذلك. والمعنى: إذا كنا خلقنا العالم بسمائه وأرضه وما فيهما ودبرناه أحسن تدبير لاول مرة بقدرتنا وعلمنا ولم نعجز عن ذلك علما وقدرة فنحن غير عاجزين عن تجديد خلقه وهو تبديله خلقا جديدا فلا ريب في قدرتنا ولا التباس بل هم في التباس لا سبيل لهم مع ذلك إلى الايمان بخلق جديد. قوله تعالى: (ولقد خلقنا الانسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) قال الراغب: الوسوسة الخطرة الرديئة وأصله من الوسواس وهو صوت الحلي والهمس الخفي. انتهى. والمراد بخلق الانسان وجوده المتدرج المتحول خلقا بعد خلق لا أول تكوينه إنسانا وإن عبر عنه بالماضي إذ قال: (ولقد خلقنا الانسان) إذ الانسان - وكذا كل مخلوق له حظ من البقاء - كما يحتاج إلى عطية ربه في أول وجوده كذلك يحتاج إليه في بقائه. ولما ذكر من النكتة عطف قوله: (ونعلم ما توسوس به نفسه) وهو فعل مضارع مسوق للدلالة على الاستمرار على قوله: (ولقد خلقنا الانسان) وهو فعل ماض لكنه مستمر المعنى، وكذا قوله: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) مفيد للثبوت والدوام والاستمرار باستمرار وجود الانسان. وللاية اتصال بما تقدم من الاحتجاج على علمه وقدرته تعالى في الخلق الاول بقوله: (أفلم ينظروا إلى السماء) واتصال أيضا بقوله تعالى في الاية السابقة: (بل هم في لبس من خلق جديد) فهي في سياق يذكر قدرته على الانسان بخلقه، وعلمه به بلا واسطة وبواسطة الملائكة الحفظة الكتبة. فقوله: (ولقد خلقنا الانسان) - واللام للقسم - دال على القدرة عليه بإثبات الخلق.
________________________________________
[ 347 ]
وقوله: (ونعلم ما توسوس به نفسه) في ذكر أخفى أصناف العلم وهو العلم بالخطور النفساني الخفي إشارة إلى استيعاب العلم له كأنه قيل: ونعلم ظاهره وباطنه حتى ما توسوس به نفسه ومما توسوس به الشبهة في أمر المعاد: كيف يبعث الانسان وقد صار بعد الموت ترابا متلاشي الاجزاء غير متميز بعضها من بعض. وقد بان أن (ما) في (ما توسوس به) موصولة وضمير (به) عائد إليه والباء للالة أو للسببية، ونسب الوسوسة إلى النفس دون الشيطان وإن كانت منسوبة إليه أيضا لان الكلام في إحاطة العلم بالانسان حتى بما في زوايا نفسه من هاجس ووسوسة. وقوله: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) الوريد عرق متفرق في البدن فيه مجاري الدم، وقيل: هو العرق الذي في الحلق، وكيف كان فتسميته حبلا لتشبيهه به، وإضافة حبل الوريد بيانية. والمعنى: نحن أقرب الى الانسان من حبل وريده المخالط لاعضائه المستقر في داخل بدنه فكيف لا نعلم به وبما في نفسه ؟. وهذا تقريب للمقصود بجملة ساذجة يسهل تلقيها لعامة الافهام وإلا فأمر قربه تعالى إليه أعظم من ذلك وأعظم فهو سبحانه الذي جعلها نفسا ورتب عليها آثارها فهو الواسطة بينها وبين نفسها وبينها وبين آثارها وأفعالها فهو أقرب الى الانسان من كل أمر مفروض حتى في نفسه، ولكون هذا المعنى دقيقا يشق تصوره على أكثر الافهام عدل سبحانه الى بيانه بنحو قوله: (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) وقريب منه بوجه قوله: (إن الله يحول بين المرء وقلبه). ولهم في معنى الاية وجوه كثيرة أخر لا جدوى في نقلها والبحث عنها من أرادها فليراجع كتبهم. قوله تعالى: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد) التلقي الاخذ والتلقن، والمراد بالمتلقيان على ما يفيده السياق الملكان الموكلان على الانسان اللذان يتلقيان عمله فيحفظانه بالكتابة. وقوله: (عن اليمين وعن الشمال قعيد) تقديره عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد، والمراد باليمين والشمال يمين الانسان وشماله، والقعيد القاعد.
________________________________________
[ 348 ]
والظرف في قوله: (إذ يتلقى المتلقيان) الظاهر أنه متعلق بمحذوف والتقدير اذكر إذ يتلقى المتلقيان، والمراد به الاشارة إلى علمه تعالى بأعمال الانسان من طريق كتاب الاعمال من الملائكة وراء علمه تعالى بذاته من غير توسط الوسائط. وقيل: الظرف متعلق بقوله في الاية السابقة: (أقرب) والمعنى: نحن أقرب إليه من حبل الوريد في حين يتلقى الملكان الموكلان عليه أعماله ليكتباها. ولعل الوجه السابق أوفق للسياق فإن بناء هذا الوجه على كون العمدة في الغرض بيان أقربيته تعالى إليه وعلمه به والباقي مقصود لاجله، وظاهر السياق وخاصة بالنظر الى الاية التالية كون كل من العلم من طريق القرب ومن طريق تلقي الملكين مقصودا بالاستقلال. وقيل: (إذ) تعليلية تعلل علمه تعالى المدلول عليه بقوله: (و نحن أقرب إليه) الخ، بمفاد مدخولها. وفيه أن من البعيد من مذاق القرآن أن يستدل على علمه تعالى بعلم الملائكة أو بحفظهم وكتابتهم. وقوله: (عن اليمين وعن الشمال قعيد) تمثيل لموقعهما من الانسان، واليمين والشمال جانبا الخير والشر ينتسب اليهما الحسنة والسيئة. قوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) اللفظ الرمي سمي به التكلم بنوع من التشبيه، والرقيب المحافظ، والعتيد المعد المهيا للزوم الامر. والاية تذكر مراقبة الكتبة للانسان فيما يتكلم به من كلام، وهي بعد قوله: (إذ يتلقى المتلقيان) الخ، من ذكر الخاص بعد العام لمزيد العناية به. قوله تعالى: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد) الحيد العدول والميل على سبيل الهرب، والمراد بسكرة الموت ما يعرض الانسان حال النزع إذ يشتغل بنفسه وينقطع عن الناس كالسكران الذي لا يدري ما يقول ولا ما يقال له. وفي تقييد مجئ سكرة الموت بالحق إشارة الى أن الموت داخل في القضاء الالهي مراد في نفسه في نظام الكون كما يتسفاد من قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة والينا ترجعون) الانبياء: 35، وقد مر تفسيره فالموت - وهو
________________________________________
[ 349 ]
الانتقال من هذه الدار الى دار بعدها - حق كما أن البعث حق والجنة حق والنار حق وفي معنى كون الموت بالحق أقوال أخر لا جدوى في نقلها والتعرض لها. وفي قوله: (ذلك ما كنت منه تحيد) إشارة الى أن الانسان يكره الموت بالطبع وذلك أن الله سبحانه زين الحياة الدنيا والتعلق بزخارفها للانسان ابتلاء وامتحانا، قال تعالى: (إنا جعلنا ما على الارض زينة لها لنبلوكم أيكم أحسن عملا وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا) الكهف: 8. قوله تعالى: (ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد) هذه نقلة ثانية إلى عالم الخلود بنفخ الصور بعد النقلة الاولى، والمراد بنفخ الصور النفخة الثانية المقيمة للساعة أو مجموع النفختين بإرادة مطلق النفخ. والمراد بيوم الوعيد يوم القيامة الذي ينجز الله تعالى فيه وعيده على المجرمين من عباده. قوله تعالى: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد) السياقة حث الماشية على المسير من خلفها بعكس القيادة فهي جلبها من أمامها. فقوله: (وجاءت كل نفس) أي جاءت إلى الله وحضرت عنده لفصل القضاء، والدليل عليه قوله تعالى: (إلى ربك يومئذ المساق) القيامة: 30. والمعنى: وحضرت عنده تعالى كل نفس معها سائق يسوقها وشاهد يشهد بأعمالها ولم يصرح تعالى بكونهما من الملائكة أو بكونهما هما الكاتبين أو من غير الملائكة، غير أن السابق إلى الذهن من سياق الايات أنهما من الملائكة، وسيجئ الروايات في ذلك. وكذا لا تصريح بكون الشهادة منحصرة في هذا الشاهد المذكور في الاية بل الايات الواردة في شهداء يوم القيامة تقضي بعدم الانحصار، وكذا الايات التالية الذاكرة لاختصام الانسان وقرينه دالة على أن مع الانسان يومئذ غير السائق والشهيد. قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) وقوع الاية في سياق آيات القيامة واحتفافها بها يقضي بكونها من خطابات يوم القيامة، و المخاطب بها هو الله سبحانه، والذي خوطب بها هو الانسان المذكور
________________________________________
[ 350 ]
في قوله: (وجاءت كل نفس) وعليه فالخطاب عام متوجه إلى كل إنسان إلا أن التوبيخ والتقريع اللائح من سياق الاية ربما استدعى اختصاص الخطاب بمنكري المعاد، أضف إلى ذلك، كون الايات مسوقة لرد منكري المعاد في قولهم: (ءإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد). والاشارة بقوله: (هذا) إلى ما يشاهده يومئذ ويعاينه من تقطع الاسباب وبوار الاشياء ورجوع الكل إلى الله الواحد القهار، وقد كان تعلق الانسان في الدنيا بالاسباب الظاهرية وركونه إليها أغفله عن ذلك حتى إذا كشف الله عنه حجاب الغفلة فبدت له حقيقة الامر فشاهد ذلك مشاهدة عيان لا علما فكريا. ولذا خوطب بقوله: (لقد كنت) في الدنيا (في غفلة) أحاطت بك (من هذا) الذي تشاهده وتعاينه وإن كان في الدنيا نصب عينيك لا يغيب لكن تعلقك بذيل الاسباب أذهلك وأغفلك عنه (فكشفنا عنك غطاءك) اليوم (فبصرك) وهو البصيرة وعين القلب (اليوم) وهو يوم القيامة (حديد) أي نافذ يبصر ما لم يكن يبصره في الدنيا. ويتبين بالاية أولا: أن معرف يوم القيامة أنه يوم ينكشف فيه غطاء الغفلة عن الانسان فيشاهد حقيقة الامر، وفي هذا المعنى وما يقرب منه آيات كثيرة كقوله تعالى: (والامر يومئذ لله) الانفطار: 19، وقوله: (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) المؤمن: 16، إلى غير ذلك من الايات. وثانيا: أن ما يشاهده الانسان يوم القيامة موجود مهيأ له وهو في الدنيا غير أنه في غفلة منه، وخاصة يوم القيامة أنه يوم انكشاف الغطاء ومعاينة ما وراءه، وذلك لان الغفلة إنما يتصور فيما يكون هناك أمر موجود مغفول عنه، والغطاء يستلزم أمرا وراءه وهو يغطيه ويستره، وعدم حدة البصر إنما ينفع فيما إذا كان هناك مبصر دقيق لا ينفذ فيه البصر. ومن أسخف القول ما قيل: إن الاية خطاب منه تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: لقد كنت قبل الرسالة في غفلة من هذا الذي نوحي اليك فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد يدرك الوحي أو يبصر ملك الوحي فيتلقى الوحي، وذلك لان السياق لا يساعده ولا لفظ الاية ينطبق عليه.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page