• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 201 الي 225


[ 226 ]
المشركين حيث وجدتموهم) التوبة: 5، وكأنه مبني على كون العام الوارد بعد الخاص ناسخا له لا مخصصا به والحق خلافه وتمام البحث في الاصول، وفي الاية أيضا مباحث فقهية محلها علم الفقه. وقوله: (ذلك) أي الامر ذلك أي إن حكم الله هو ما ذكر في الاية. وقوله: (ولو شاء الله لانتصر منهم) الضمير للكفار أي ولو شاء الله الانتقام منهم لانتقم منهم بإهلاكهم وتعذيبهم من غير أن يأمركم بقتالهم. وقوله: (ولكن ليبلوا بعضكم ببعض) استدراك من مشية الانتصار أي ولكن لم ينتصر منهم بل أمركم بقتالهم ليمتحن بعضكم ببعض فيمتحن المؤمنين بالكفار يأمرهم بقتالهم ليظهر المطيعون من العاصين ويمتحن الكفار بالمؤمنين فيتميز أهل الشقاء منهم ممن يوفق للتوبة من الباطل والرجوع إلى الحق. وقد ظهر بذلك أن قوله: (ليبلوا بعضكم ببعض) تعليل للحكم المذكورة في الاية والخطاب في (بعضكم) لمجموع المؤمنين والكفار ووجه الخطاب إلى المؤمنين. وقوله: (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم) الكلام مسوق سوق الشرط والحكم عام أي ومن قتل في سبيل الله وهو الجهاد والقتال مع أعداء الدين فلن يبطل أعمالهم الصالحة التي أتوا بها في سبيل الله. وقيل: المراد بقوله: (والذين قتلوا في سبيل الله) شهداء يوم أحد، وفيه أنه تخصيص من غير مخصص والسياق سياق العموم. قوله تعالى: (سيهديهم ويصلح بالهم) الضمير للذين قتلوا في سبيل الله فالاية وما يتلوها لبيان حالهم بعد الشهادة أي سيهديهم الله إلى منازل السعادة والكرامة ويصلح حالهم بالمغفرة والعفو عن سيئاتهم فيصلحون لدخول الجنة. وإذا انضمت هذه الاية إلى قوله تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم) آل عمران: 169، ظهر أن المراد بإصلاح بالهم إحياؤهم حياة يصلحون بها للحضور عند ربهم بانكشاف الغطاء. وقال في المجمع: والوجه في تكرير قوله: (بالهم) أن المراد بالاول أنه أصلح بالهم في الدين والدنيا، وبالثاني أنه يصلح حالهم في نعيم العقبى فالاول سبب النعيم والثاني نفس النعيم. انتهى. والفرق بين ما ذكره من المعنى وما قدمناه أن قوله
________________________________________
[ 227 ]
تعالى: (ويصلح بالهم) على ما ذكرنا كالعطف التفسيري لقوله: (سيهديهم) دون ما ذكره، وقوله الاتي: (ويدخلهم الجنة) على ما ذكره كالعطف التفسيري لقوله: (ويصلح بالهم) دون ما ذكرناه. قوله تعالى: (ويدخلهم الجنة عرفها لهم) غاية هدايته لهم، وقوله: (عرفها لهم) حال من إدخاله إياهم الجنة أي سيدخلهم الجنة والحال أنه عرفها لهم إما بالبيان الدنيوي من طريق الوحي والنبوة وإما بالبشرى عند القبض أو في القبر أو في القيامة أو في جميع هذه المواقف هذا ما يفيده السياق من المعنى. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن علي قال: سورة محمد آية فينا وآية في بني أمية. أقول: وروى القمي في تفسيره عن أبيه عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله عليه السلام مثله. وفي المجمع في قوله: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) الخ، المروي عن أئمة الهدى عليه السلام: أن الاسارى ضربان: ضرب يؤخذون قبل انقضاء القتال والحرب قائمة فهؤلاء يكون الامام مخيرا بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويتركهم حتى ينزفوا، ولا يجوز المن ولا الفداء. والضرب الاخر الذين يؤخذون بعد أن وضعت الحرب أوزارها وانقضى القتال فالامام مخير فيهم بين المن والفداء إما بالمال أو بالنفس وبين الاسترقاق وضرب الرقاب فإذا أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك وكان حكمهم حكم المسلمين. اقول: وروى ما في معناه في الكافي عن أبي عبد الله عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن ابن جريح في قوله تعالى: (والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم قال: نزل فيمن قتل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد. أقول: قد عرفت أن الاية عامة، وسياق الاستقبال في قوله: سيهديهم ويصلح بالهم) الخ، إنما يلائم العموم وكون الكلام مسوقا لضرب القاعدة.
________________________________________
[ 228 ]
وقد روي أن قوله تعالى: (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق) ناسخ لقوله: (وما كان لنبي أن يكون له أسرى) الاية، وأيضا أن قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ناسخ لقوله: (فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء) وقد عرفت فيما تقدم عدم استقامة النسخ. * * * يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم - 7. والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم - 8. ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم - 9. أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها - 10. ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم - 11. إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوى لهم - 12. وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم - 13. أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم - 14. مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات
________________________________________
[ 229 ]
ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم - 15. (بيان) الايات جارية على السياق السابق. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) تحضيض لهم على الجهاد ووعد لهم بالنصر إن نصروا الله تعالى فالمراد بنصرهم لله أن يجاهدوا في سبيل الله على أن يقاتلوا لوجه الله تأييدا لدينه وإعلاء لكلمة الحق لا ليستعلوا في الارض أو ليصيبوا غنيمة أو ليظهروا نجدة وشجاعة. والمراد بنصر الله لهم توفيقه الاسباب المقتضية لظهورهم وغلبتهم على عدوهم كإلقاء الرعب في قلوب الكفار وإدارة الدوائر للمؤمنين عليهم وربط جأش المؤمنين وتشجيعهم، وعلى هذا فعطف تثبيت الاقدام على النصر من عطف الخاص على العام وتخصيص تثبيت الاقدام، وهو كناية عن التشجيع وتقوية القلوب، لكونه من أظهر أفراد النصر. قوله تعالى: (والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم) ذكر ما يفعل بالكفار عقيب ذكر ما يفعل بالمؤمنين الناصرين لله لقياس حالهم من حالهم. والتعس هو سقوط الانسان على وجهه وبقاؤه عليه ويقابله الانتعاش وهو القيام عن السقوط على الوجه فقوله: (تعسا لهم) أي تعسوا تعسا وهو ما يتلوه دعاء عليهم نظير قوله: (قاتلهم الله أني يؤفكون) التوبة: 30، (قتل الانسان ما أكفره) عبس: 17، ويمكن أن يكون إخبارا عن تعسهم وبطلان أثر مساعيهم على نحو الكناية فإن الانسان أعجز ما يكون إذا كان ساقطا على وجهه. قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) المراد بما أنزل الله هو القرآن والشرائع الاحكام التي أنزلها الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وأمر بإطاعتها والانقياد لها فكرهوها واستكبروا عن اتباعها.
________________________________________
[ 230 ]
والاية تعليل مضمون الاية السابقة، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها) التدمير الاهلاك، يقال دمره الله أي أهلكه، ويقال: دمر الله عليه أي أهلك ما يخصه من نفس وأهل ودار وعقار فدمر عليه أبلغ من دمره كما قيل، وضمير (أمثالها) للعاقبة أو للعقوبة المدلول عليها بسابق الكلام. والمراد بالكافرين الكافرون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، والمعنى: وللكافرين بك يا محمد أمثال تلك العاقبة أو العقوبة وإنما اوعدوا بأمثال العاقبة أو العقوبة ولا يحل بهم إلا مثل واحد لانهم في معرض عقوبات كثيرة دنيوية واخروية وإن كان لا يحل بهم إلا بعضها، ويمكن أن يراد بالكافرين مطلق الكافرين، والجملة من باب ضرب القاعدة. قوله تعالى: (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) الاشارة بذلك إلى ما تقدم من نصر المؤمنين ومقت الكافرين وسوء عاقبتهم، ولا يصغى إلى ما قيل: إنه إشارة إلى ثبوت عاقبة أو عقوبة الامم السالفة لهؤلاء، وكذا ما قيل: إنه إشارة إلى نصر المؤمنين، وذلك لان الاية متعرضة لحال الطائفتين: المؤمنين والكفار جميعا. والمولى كأنه مصدر ميمي أريد به المعنى الوصفي فهو بمعنى الولى ولذلك يطلق على سيد العبد ومالكه لان له ولاية التصرف في امور عبده، ويطلق على الناصر لانه يلي التصرف في أمر منصوره بالتقوية والتأييد والله سبحانه مولى لانه المالك الذي يلي امور خلقه في صراط التكوين ويدبرها كيف يشاء، قال تعالى: (ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع) الم السجدة: 4، وقال: (وردوا إلى الله مولاهم الحق) يونس: 30، وهو تعالى مولى لانه يلي تدبير امور عباده في صراط السعادة فيهديهم إلى سعادتهم والجنة ويوفقهم للصالحات وينصرهم على أعدائهم، والمولوية بهذا المعنى الثاني تختص بالمؤمنين، لانهم هم الداخلون في حظيرة العبودية المتبعون لما يريده منهم ربهم دون الكفار. وللمؤمنين مولى وولي هو الله سبحانه كما قال: ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا)، وقال: (الله ولي الذين آمنوا) البقرة: 257، وأما الكفار فقد اتخذوا الاصنام أو
________________________________________
[ 231 ]
أرباب الاصنام أولياء فهم أولياؤهم على ما زعموا كما قال بالبناء على مزعمتهم بنوع من التهكم: (والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت) البقرة: 257، ونفى ولايتهم بالبناء على حقيقة الامر فقال: (وأن الكافرين لا مولى لهم) ثم نفى ولايتهم مطلقا تكوينا وتشريعا مطلقا فقال: (أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي) الشورى: 9، وقال: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) النجم: 23. فمعنى الاية: أن نصره تعالى للمؤمنين وتثبيته أقدامهم وخذلانه الكفار وإضلاله أعمالهم وعقوبته لهم إنما ذلك بسبب أنه تعالى مولى المؤمنين ووليهم، وأن الكفار لا مولى لهم فينصرهم ويهدي أعمالهم وينجيهم من عقوبته. وقد تبين بما تقدم ضعف ما قيل: إن المولى في الاية بمعنى الناصر دون المالك وإلا كان منافيا لقوله تعالى: (وردوا إلى الله مولاهم الحق) يونس: 30، ووجه الضعف ظاهر. قوله تعالى: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام والنار مثوى لهم) مقايسة بين الفريقين وبيان أثر ولاية الله للمؤمنين وعدم ولايته للكفار من حيث العاقبة والاخرة وهي أن المؤمنين يدخلون الجنة والكفار يقيمون في النار. وقد أشير في الكلام إلى منشإ ما ذكر من الاثر حيث وصف كلا من الفريقين بما يناسب مال حاله فأشار إلى صفة المؤمنين بقوله: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) وإلى صفة الكفار بقوله: (يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام) فأفاد الوصفان بما بينهما من المقابلة أن المؤمنين راشدون في حياتهم الدنيا مصيبون للحق حيث آمنوا بالله وعملوا الاعمال الصالحة فسلكوا سبيل الرشد وقاموا بوظيفة الانسانية، وأما الكفار فلا عناية لهم بإصابة الحق ولا تعلق لقلوبهم بوظائف الانسانية، و إنما همهم بطنهم وفرجهم يتمتعون في حياتهم الدنيا القصيرة ويأكلون كما تأكل الانعام لا منية لهم إلا ذلك ولا غاية لهم وراءه. فهؤلاء أي المؤمنون تحت ولاية الله حيث يسلكون مسلكا يريده منهم ربهم ويهديهم إليه ولذلك يدخلهم في الاخرة جنات تجري من تحتها الانهار، وأولئك أي الكفار ما لهم من ولي وإنما وكلوا إلى أنفسهم ولذلك كان مثواهم ومقامهم النار.
________________________________________
[ 232 ]
وإنما نسب دخول المؤمنين الجنات إلى الله نفسه دون إقامة الكفار في النار قضاء لحق الولاية المذكورة فله تعالى عناية خاصة بأوليائه، وأما المنسلخون من ولايته فلا يبالي في أي واد هلكوا. قوله تعالى: (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم) المراد بالقرية أهل القرية بدليل قوله بعد: (أهلكناهم) الخ، والقرية التي أخرجته صلى الله عليه وآله وسلم هي مكة. وفي الاية تقوية لقلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتهديد لاهل مكة وتحقير لامرهم أن الله أهلك قرى كثيرة كل منها أشد قوة من قريتهم ولا ناصر لهم ينصرهم. قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم) السياق الجاري على قياس حال المؤمنين بحال الكفار يدل على أن المراد بمن كان على بينة من ربه هم المؤمنون فالمراد بكونهم على بينة من ربهم كونهم على دلالة بينة من ربهم توجب اليقين على ما اعتقدوا عليه وهي الحجة البرهانية فهم إنما يتبعون الحجة القاطعة على ما هو الحري بالانسان الذي من شأنه أن يستعمل العقل ويتبع الحق. وأما الذين كفروا فقد شغفهم أعمالهم السيئة التي زينها لهم الشيطان وتعلقت بها أهواؤهم وعملوا السيئات، فكم بين الفريقين من فرق. قوله تعالى: (مثل الجنة التي وعد المتقون) إلى آخر الاية يفرق بين الفريقين ببيان مال أمرهما وهو في الحقيقة توضيح ما مر في قوله: (إن الله يدخل الذين آمنوا) الخ من الفرق بينهما فهذه الاية في الحقيقة تفصيل تلك الاية. فقوله: (مثل الجنة التي وعد المتقون) المثل بمعنى الصفة - كما قيل - أي صفة الجنة التي وعد الله المتقين أن يدخلهم فيها، وربما حمل المثل على معناه المعروف واستفيد منه أن الجنة أرفع وأعلى من أن يحيط بها الوصف ويحدها اللفظ وإنما تقرب إلى الاذهان نوع تقريب بأمثال مضروبة كما يلوح إليه قوله تعالى: (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين) السجدة: 17. وقد بدل قوله في الاية السابقة: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) في هذه الاية من قوله: (المتقون) تبديل اللازم من الملزوم فإن تقوى الله يستلزم الايمان به وعمل
________________________________________
[ 233 ]
الصالحات من الاعمال. وقوله: (فيها أنهار من ماء غير آسن) أي غير متغير بطول المقام، وقوله: (وأنهار من لبن لم يتغير طعمه) كما في ألبان الدنيا، وقوله: (وأنهار من خمر لذة للشاربين) أي لذيذة للشاربين، واللذة إما صفة مشبهة مؤنثة وصف للخمر، وإما مصدر وصفت به الخمر مبالغة، وإما بتقدير مضاف أي ذات لذة، وقوله: (وأنهار من عسل مصفى) أي خالص من الشمع والرغوة والقذى وسائر ما في عسل الدنيا من الاذى والعيوب، وقوله: (ولهم فيها من كل الثمرات) جمع للتعميم. وقوله: (ومغفرة من ربهم) ينمحي بها عنهم كل ذنب وسيئة فلا تتكدر عيشتهم بمكدر ولا ينتغص بمنغص، وفي التعبير عنه تعالى بربهم إشارة إلى غشيان الرحمة وشمول الحنان والرأفة الالهية. وقوله: (كمن هو خالد في النار) قياس محذوف أحد طرفيه أي أمن يدخل الجنة التي هذا مثلها كمن هو خالد في النار وشرابهم الماء الشديد الحرارة الذي يقطع أمعاءهم وما في جوفهم من الاحشاء إذا سقوه، وإنما يسقونه وهم مكرهون كما في قوله: (وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم)، وقيل: قوله: (كمن هو خالد) الخ، بيان لقوله في الاية السابقة: (كمن زين) الخ، وهو كما ترى. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله) قال أبو جعفر عليه السلام: كرهوا ما أنزل الله في حق علي عليه السلام. وفيه في قوله تعالى: (كمن زين له سوء عمله) قيل: هم المنافقون: وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام. أقول: ويحتمل أن تكون الروايتان من الجري. وفي تفسير القمي: في قوله تعالى: (كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم) قال: ليس من هو في هذه الجنة الموصوفة كمن هو في هذه النار كما أن ليس عدو الله كوليه.
________________________________________
[ 234 ]
* * * ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا أولئك الذين طبع الله على قلوبهم واتبعوا أهواءهم - 16. والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم - 17. فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم - 18. فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات والله يعلم متقلبكم ومثواكم - 19. ويقول الذين آمنوا لو لا نزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم - 20. طاعة وقول معروف فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم - 21. فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم - 22. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم - 23. أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها - 24. إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم - 25. ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الامر والله يعلم إسرارهم - 26. فكيف إذا
________________________________________
[ 235 ]
توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم - 27. ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم - 28. أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم - 29. ولو نشاء لاريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم - 30. ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم - 31. إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم - 32. (بيان) الايات جارية على السياق السابق، وفيها تعرض لحال الذين في قلوبهم مرض والمنافقين ومن ارتد بعد إيمانه. قوله تعالى: (ومنهم من يستمع اليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا) الخ، آنفا اسم فاعل منصوب على الظرفية أو لكونه مفعولا فيه، ومعناه الساعة التي قبيل ساعتك، وقيل: معناه هذه الساعة وهو على أي حال مأخوذ من الانف بمعنى الجارحة. وقوله: (ومنهم من يستمع اليك) الضمير للذين كفروا، والمراد باستماعهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إصغاؤهم إلى ما يتلوه من القرآن وما يبين لهم من اصول المعارف وشرائع الدين. وقوله: (حتى إذا خرجوا من عندك) الضمير للموصول وجمع الضمير باعتبار المعنى كما أن إفراده في (يستمع) باعتبار اللفظ.
________________________________________
[ 236 ]
وقوله: (قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا) المراد بالذين أوتوا العلم العلماء بالله من الصحابة والضمير في (ماذا قال) للنبي صلى الله عليه واله وسلم. والاستفهام في قولهم: (ماذا قال آنفا) قيل: للاستعلام حقيقة لان استغراقهم في الكبر والغرور واتباع الاهواء ما كان يدعهم أن يفقهوا القول الحق كما قال تعالى: (فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا) النساء: 78، وقيل: للاستهزاء، وقيل: للتحقير كأن القول لكونه مشحونا بالاباطيل لا يرجع إلى معنى محصل، ولكل من المعاني الثلاثة وجه. وقوله: (اولئك الذين طبع الله على قلوبهم) تعريف لهم، وقوله: (واتبعوا أهواءهم) تعريف بعد تعريف فهو كعطف التفسير، ويتحصل منه أن اتباع الاهواء أمارة الطبع على القلب فالقلب غير المطبوع عليه الباقي على طهارة الفطرة الاصلية لا يتوقف في فهم المعارف الدينية والحقائق الالهية. قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم) المقابلة الظاهرة بين الاية وبين الاية السابقة يعطي أن المراد بالاهتداء ما يقابل الضلال الملازم للطبع على القلب وهو التسليم لما تهدي إليه الفطرة السليمة واتباع الحق، وزيادة هداهم من الله سبحانه رفعه تعالى درجة إيمانهم، وقد تقدم أن الهدى والايمان ذو مراتب مختلفة، والمراد بالتقوى ما يقابل اتباع الاهواء وهو الورع عن محارم الله والتجنب عن ارتكاب المعاصي. وبذلك يظهر أن زيادة الهدى راجع إلى تكميلهم في ناحية العلم وإيتاء التقوى إلى تكميلهم في ناحية العمل، ويظهر أيضا بالمقابلة أن الطبع على القلوب راجع إلى فقدانهم كمال العلم واتباع الاهواء راجع إلى فقدانهم العمل الصالح وحرمانهم منه وهذا لا ينافي ما قدمنا أن اتباع الاهواء كعطف التفسير بالنسبة إلى الطبع على القلوب. قوله تعالى: (فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها) الخ، النظر هو الانتظار، والاشراط جمع شرط بمعنى العلامة، والاصل في معناه الشرط بمعنى ما يتوقف عليه وجود الشئ لان تحققه علامة تحقق الشئ فأشراط الساعة علاماتها الدالة عليها.
________________________________________
[ 237 ]
وسياق الاية سياق التهكم كأنهم واقفون موقفا عليهم إما أن يتبعوا الحق فتسعد بذلك عاقبتهم، وإما أن ينتظروا الساعة حتى إذا أيقنوا بوقوعها وأشرفوا عليها تذكروا وآمنوا واتبعوا الحق أما اتباع الحق اليوم فلم يخضعوا له بحجة أو بموعظة أو عبرة، وأما انتظارهم مجئ الساعة ليتذكروا عنده فلا ينفعهم شيئا فإنها تجئ بغتة ولا تمهلهم شيئا حتى يستعدوا لها بالذكرى وإذا وقعت لم ينفعهم الذكرى لان اليوم يوم جزاء لا يوم عمل قال تعالى: (يومئذ يتذكر الانسان وأنى له الذكرى يقول يا ليتني قدمت لحياتي) الفجر: 24. مضافا إلى أن أشراطها وعلاماتها قد جاءت وتحققت، ولعل المراد بأشراطها خلق الانسان وانقسام نوعه إلى صلحاء ومفسدين ومتقين وفجار المستدعي للحكم الفصل بينهم ونزول الموت عليهم فإن ذلك كله من شرائط وقوع الواقعة وإتيان الساعة، وقيل: المراد بأشراط الساعة ظهور النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو خاتم الانبياء وانشقاق القمر ونزول القرآن وهو آخر الكتب السماوية. هذا ما يعطيه التدبر في الاية من المعنى وهي - كما ترى - حجة برهانية في عين أنها مسوقة سوق التهكم. وعليه فقوله: (بغتة) حال من الاتيان جئ به لبيان الواقع وليتفرع عليه قوله الاتي: (فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم) وليس قيدا للانتظار حتى يفيد أنهم إنما ينتظرون إتيانها بغتة، ولدفع هذا التوهم قيل: (إلا الساعة أن تأتيهم بغتة) ولم يقل: إلا أن تأتيهم الساعة بغتة. وقوله: (فأنى لهم إذا جاءتهم ذكراهم) أنى خبر مقدم و (ذكراهم) مبتدأ مؤخر و (إذا جاءتهم) معترضة بينهما، والمعنى: فكيف يكون لهم أن يتذكروا إذا جاءتهم ؟ أي كيف ينتفعون بالذكرى في يوم لا ينفع العمل الذي يعمل فيه وإنما هو يوم الجزاء. وللقوم في معنى جمل الاية ومعناها بالجملة أقوال مختلفة تركنا إيرادها من أرادها فليراجع كتبهم المفصلة. قوله تعالى: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) الخ، قيل: هو متفرع على جميع ما تقدم في السورة من سعادة المؤمنين وشقاوة الكفار
________________________________________
[ 238 ]
كأنه قيل: إذا علمت أن الامر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة أولئك فاثبت على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله سبحانه فمعنى الامر بالعلم على هذا هو الامر بالثبات على العلم. ويمكن أن يكون تفريعا على ما بينه في الايتين السابقتين أعني قوله: (ومنهم من يستمع اليك - إلى قوله - وآتاهم تقواهم) من أنه تعالى يطبع على قلوب المشركين ويتركهم وذنوبهم ويعكس الامر في الذين اهتدوا الى توحيده والايمان به فكأنه قيل: إذا كان الامر على ذلك فاستمسك بعلمك بوحدانية الاله واطلب مغفرة ذنبك ومغفرة امتك من المؤمنين بك والمؤمنات حتى لا تكون ممن يطبع الله على قلبه ويحرمه التقوى بتركه و نوبه، ويؤيد هذا الوجه قوله في ذيل الاية: (والله يعلم متقلبكم ومثواكم). فقوله: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) معناه على ما يؤيده السياق فاستمسك بعلمك أنه لا إله إلا الله، وقوله: (واستغفر لذنبك) تقدم الكلام في معنى الذنب المنسوب إليه صلى الله عليه وآله وسلم وسيأتى أيضا في تفسير أول سورة الفتح إن شاء الله تعالى. وقوله: (وللمؤمنين والمؤمنات) أمر بطلب المغفرة للامة من المؤمنين والمؤمنات وحاشا أن يأمر تعالى بالاستغفار ولا يواجهه بالمغفرة أو بالدعاء ولا يقابله بالاستجابة. وقوله: (والله يعلم متقلبكم ومثواكم) تعليل لما في صدر الاية: (فاعلم أنه) الخ، والظاهر أن المتقلب مصدر ميمي بمعنى الانتقال من حال الى حال، وكذلك المثوى بمعنى الاستقرار والسكون، والمراد أنه تعالى يعلم كل أحوالكم من متغير وثابت وحركة وسكون فاثبتوا على توحيده واطلبوا مغفرته، واحذروا أن يطبع على قلوبكم ويترككم وأهواءكم. وقيل: المراد بالمتقلب والمثوى التصرف في الحيا الدنيا والاستقرار في الاخرة وقيل: المتقلب هو التقلب من الاصلاب إلى الارحام والمثوى السكون في الارض. وقيل: المتقلب التصرف في اليقظة والمثوى المنام، وقيل: المتقلب التصرف في المعايش والمكاسب والمثوى الاستقرار في المنازل، وما قدمناه أظهر وأعم. قوله تعالى: (ويقول الذين آمنوا لولا أنزلت سورة) إلى آخر الاية، لولا تحضيضية أي هلا أنزلت سورة يظهرون بها الرغبة في نزول سورة جديدة تأتيهم
________________________________________
[ 239 ]
بتكاليف جديدة يمتثلونها، والمراد بالسورة المحكمة المبينة التي لا تشابه فيها، والمراد بذكر القتال الامر به. والمراد بالذين في قلوبهم مرض، الضعفاء الايمان من المؤمنين دون المنافقين فإن الاية صريحة في أن الذين أظهروا الرغبة في نزولها هم الذين آمنوا، ولا يعم الذين آمنوا للمنافقين إلا على طريق المساهلة غير اللائقة بكلام الله تعالى فالاية كقوله تعالى في فريق من المؤمنين: (ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) النساء: 77. والمغشي عليه من الموت هو المحتضر، يقال: غشيه غشاوة إذا ستره وغطاه وغشي على فلان - بالبناء - للمفعول - إذا نابه ما غشي فهمه، ونظر المغشي عليه من الموت إشخاصه ببصره اليك من غير أن يطرف. وقوله: (فأولى لهم) لعله خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: أولى لهم ذلك أي حري بهم أن ينظروا كذلك أي أن يحتضروا فيموتوا، وعن الاصمعي أن قولهم: (أولى لك) كلمة تهديد معناه وليك وقارنك ما تكره، والاية نظيرة قوله تعالى: (أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى) القيامة: 35. ومعنى الاية: ويقول الذين آمنوا هلا أنزلت سورة فإذا أنزلت سورة محكمة لا تشابه فيها وامروا فيها بالقتال والجهاد رأيت الضعفاء الايمان منهم ينظرون اليك من شدة الخشية نظر المحتضر فأولى لهم ذلك. قوله تعالى: (طاعة وقول معروف فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم) عزم الامر أي جد وتنجز. وقوله: (طاعة وقول معروف) كأنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير أمرنا - أو أمرهم وشأنهم - أي إيمانهم بنا طاعة واثقونا عليها وقول معروف غير منكر قالوا لنا وهو إظهار السمع والطاعة كما يحكيه تعالى عنهم بقوله: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون - الى أن قال - وقالوا سمعنا وأطعنا) البقرة: 285. وعلى هذا يتصل قوله بعده: (فإذا عزم الامر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم) بما قبله اتصالا بينا، والمعنى: أن الامر هو ما واثقوا الله عليه من قولهم: سمعنا وأطعنا
________________________________________
[ 240 ]
فلو أنهم حين عزم الامر صدقوا الله فيما قالوا وأطاعوه فيما يأمر به ومنه أمر القتال لكان خيرا لهم. ويحتمل أن يكون قوله: (طاعة) الخ، خبرا لضمير عائد الى القتال المذكور والتقدير القتال المذكور في السورة طاعة منهم وقول معروف فلو أنهم حين عزم الامر صدقوا الله في إيمانهم وأطاعوه به لكان خيرا لهم. أما كونه طاعة منهم فظاهر، وأما كونه قولا معروفا فلان إيجاب القتال والامر بالدفاع عن المجتمع الصالح لابطال كيد أعدائه قول معروف يعرفه العقل والعقلاء. وقيل: إن قوله: (طاعة) الخ، مبتدأ الخبر والتقدير طاعة وقول معروف خير لهم وأمثل، وقيل: مبتدأ خبره (فأولى لهم) في الاية السابقة فالاية من تمام الاية السابقة، وهو قول ردي، وأردء منه ما قيل: إن (طاعة) الخ، صفة لسورة في قوله: (فإذا انزلت سورة) وقيل غير ذلك. قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم) الخطاب للذين في قلوبهم مرض المتثاقلين في أمر الجهاد في سبيل الله، وقد التفت إليهم بالخطاب لزيادة التوبيخ والتقريع، والاستفهام للتقرير، والتولي الاعراض والمراد به الاعراض عن كتاب الله والعمل بما فيه والعود إلى الشرك ورفض الدين. والمعنى: فهل يتوقع منكم إن أعرضتم عن كتاب الله والعمل بما فيه ومنه الجهاد في سبيل الله أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم بسفك الدماء ونهب الاموال وهتك الاعراض تكالبا على جيفة الدنيا أي إن توليتم كان المتوقع منكم ذلك. وقد ظهر بذلك أن الاية في مقام التعليل لقوله في الاية السابقة: (لكان خيرا لهم) ولذا صدر بالفاء. وقيل: المراد بالتولي التصدي للحكم والولاية، والمعنى: هل يتوقع منكم إن جعلتم ولاة أن تفسدوا في الارض وتقطعوا أرحامكم بسفك الدماء الحرام وأخذ الرشاء والجور في الحكم هذا، وهو معنى بعيد عن السياق. قوله تعالى: (اولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) الاشارة إلى المفسدين في الارض المقطعين للارحام وقد وصفهم الله بأنه لعنهم فأصمهم وأذهب
________________________________________
[ 241 ]
بسمعهم فلا يسمعون القول الحق وأعمى أبصارهم فلا يرون الرأي الحق فإنها لا تعمي الابصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) الاستفهام للتوبيخ وضمير الجمع راجع إلى المذكورين في الاية السابقة، وتنكير (قلوب) كما قيل للدلالة على أن المراد قلوب هؤلاء وأمثالهم. قال في مجمع البيان: وفي هذا دلالة على بطلان قول من قال: لا يجوز تفسير شئ من ظاهر القرآن إلا بخبر وسمع. انتهى. قوله تعالى: (إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم) الارتداد على الادبار الرجوع إلى الاستدبار بعد الاستقبال وهو استعارة أريد بها الترك بعد الاخذ، والتسويل تزيين ما تحرض النفس عليه وتصوير القبيح لها في صورة الحسن، والمراد بالاملاء الامداد أو تطويل الامال. قوله تعالى: (ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الامر والله يعلم إسرارهم) الاشارة بذلك إلى تسويل الشيطان وإملائه وبالجملة تسلطه عليهم، والمراد (بالذين كرهوا ما نزل الله) هم الذين كفروا كما تقدم في قوله: (والذين كفروا فتعسا لهم وأضل أعمالهم ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله) الاية: 9 من السورة. وقوله: (سنطيعكم في بعض الامر) مقول قولهم ووعد منهم للكفار بالطاعة وهو كما يلوح من تقييد الطاعة ببعض الامر على نحو الاجمال كلام من لا يقدر على التظاهر بطاعة من يريد طاعتة في جميع الامور لكونه على خطر من التظاهر بالطاعة المطلقة فيسر إلى من يعده أنه سيطيعه في بعض الامر وفيما تيسر له ذلك ثم يكتم ذلك ويقعد متربصا للدوائر. ويستفاد من ذلك أن هؤلاء كانوا قوما من المنافقين أسروا إلى الكفار ما حكاه تعالى عنهم ووعدهم الطاعة لهم مهما تيسر لهم ذلك، ويؤيد ذلك قوله تعالى بعد: (والله يعلم إسرارهم). واختلفوا في هؤلاء من هم ؟ فقيل هم اليهود قالوا للمنافقين: إن أعلنتم الكفر
________________________________________
[ 242 ]
نصرناكم، وقيل: هم اليهود أو اليهود والمنافقون قالوا ذلك للمشركين. ويرد على الوجهين جميعا أن موضوع الكلام في الاية المرتدون بعد إيمانهم واليهود لم يؤمنوا حتى يرتدوا. وقيل: هم المنافقون وعدوا اليهود النصر كما قال تعالى: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لاخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم) الحشر: 11. وفيه أن الاية تقبل الانطباق على ذلك كما تقبل الانطباق على اليهود في وعدهم النصر للمشركين على تكلف في صدق الارتداد على كفرهم برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد تبين رسالته لهم لكن لا دليل من طريق لفظ الاية على ذلك فلعلهم قوم من المنافقين غيرهم. قوله تعالى: (فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) متفرع على ما قبله، والمعنى: هذا حالهم اليوم يرتدون بعد تبين الهدى لهم فيفعلون ما يشاؤن فكيف حالهم إذا توفتهم الملائكة وهم يضربون وجوههم أدبارهم. قوله تعالى: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم) الظاهر أن المراد بما أسخط الله أهواء النفس وتسويلات الشيطان المستتبعة للمعاصي والذنوب الموبقة كما قال تعالى: (واتبعوا أهواءهم)، وقال: (الشيطان سول لهم وأملى لهم). والسخط والرضا من صفاته تعالى الفعلية و المراد بهما العقاب والثواب. والاشارة في قوله: (ذلك) إلى ما ذكر في الاية السابقة من عذاب الملائكة لهم عند توفيهم أي سبب عقابهم أن أعمالهم حابطة لاتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه، وإذ لا عمل لهم صالحا يشقون بالعذاب. قوله تعالى: (أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم) قال الراغب: الضغن - بكسر الضاد - والضغن - بضمها - الحقد الشديد وجمعه أضغان انتهى. والمراد بالذين في قلوبهم مرض الضعفاء الايمان ولعلهم الذين آمنوا أولا على ضعف في إيمانهم ثم مالوا إلى النفاق وارتدوا بعد الايمان، فالتدبر الدقيق في تاريخ صدر الاسلام يوضح أن قوما ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا على هذه الصفة كما أن قوما منهم آخرين كانوا
________________________________________
[ 243 ]
منافقين من أول يوم آمنوا إلى آخر عمرهم، وعلى هذا فعدهم من المؤمنين فيما تقدم بملاحظة بادئ أمرهم. والمعنى: بل ظن هؤلاء المنافقون الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله ولن يظهر أحقادهم للدين وأهله. قوله تعالى: (ولو نشاء لاريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم) السيماء العلامة، والمعنى: ولو نشاء لاريناك اولئك المرضى القلوب فلعرفتهم بعلامتهم التي أعلمناهم بها. وقوله: (ولتعرفنهم في لحن القول) قال الراغب: اللحن صرف الكلام عن سننه الجاري عليه: إما بإزالة الاعراب أو التصحيف وهو المذموم وذلك أكثر استعمالا، وإما بإزالته عن التصريح وصرفه إلى تعريض وفحوى، وهو محمود عند أكثر الادباء من حيث البلاغة. انتهى. فالمعنى: ولتعرفنهم من جنس قولهم بما يشتمل عليه من الكناية والتعريض وفي جعل لحن القول ظرفا للمعرفة نوع من العناية المجازية. وقوله: (والله يعلم أعمالكم) أي يعلم حقائقها وأنها من أي القصود والنيات صدرت فيجازي المؤمنين بصالح أعمالهم وغيرهم بغيرها، ففيه وعد للمؤمنين ووعيد لغيرهم. قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم) البلاء والابتلاء الامتحان والاختبار، والاية بيان علة كتابة القتال على المؤمنين، وهو الاختبار الالهي ليمتاز به المجاهدون في سبيل الله الصابرون على مشاق التكاليف الالهية. وقوله: (ونبلوا أخباركم) كأن المراد بالاخبار الاعمال من حيث إنها تصدر عن العاملين فيكون أخبارا لهم يخبر بها عنهم، واختبار الاعمال يمتاز به صالحها من طالحها كما أن اختبار النفوس يمتاز به النفوس الصالحة الخيرة وقد تقدم فيما تقدم أن المراد بالعلم الحاصل له تعالى من امتحان عباده هو ظهور حال العباد بذلك، وبنظر أدق هو علم فعلي له تعالى خارج عن الذات. قوله تعالى: (إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد
________________________________________
[ 244 ]
ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم) المراد بهؤلاء رؤساء الضلال من كفار مكة ومن يلحق بهم لانهم الذين صدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول وعادوه أشد المعاداة بعد ما تبين لهم الهدى. وقوله: (لن يضروا الله شيئا) لان كيد الانسان ومكره لا يرجع إلا إلى نفسه ولا يضر إلا إياه، وقوله: (وسيحبط أعمالهم) أي مساعيهم لهدم أساس الدين وما عملوه لاطفاء نور الله، وقيل: المراد إحباط أعمالهم وإبطالها فلا يثابون في الاخرة على شئ من أعمالهم، والمعنى الاول أنسب للسياق لان فيه تحريض المؤمنين وتشجيعهم على قتال المشركين وتطييب نفوسهم أنهم هم الغالبون كما تفيده الايات التالية. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: (ومنهم من يستمع اليك) الخ، عن الاصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام قال: إنا كنا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا ومن يعيه فإذا خرجنا قالوا: ماذا قال آنفا. وفي الدار المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: بعث أنا والساعة كهاتين، وأشار بالسبابة والوسطى. أقول: وروي هذا اللفظ عنه صلى اله عليه واله وسلم بطريق أخرى عن أبي هريرة وسهل ابن مسعود. وفيه أخرج ابن أبي شبية والبخاري ومسلم وابن ماجه وابن مردويه عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يوما بارزا للناس فأتاه رجل فقال رجل فقال: يا رسول الله متى الساعة ؟ فقال: ما المسؤل عنها بأعلم من السائل ولكن سأحدثك عن أشراطها. إذا ولدت الامة ربتها فذاك من أشراطها، وإذا كانت الحفاة العروة رعاء الشاء رؤس الناس فذاك من أشراطها، وإذا تطاول رعاء الغنم في البنيان فذاك من أشراطها. وفي العلل بإسناده إلى أنس بن ماك عن النبي صلى الله عليه واله وسلم في حديث طويل يقول فيه لعبد الله بن سلام وقد سأله عن مسائل: أما أشراط الساعة فنار تحشر ا لناس من المشرق إلى المغرب.
________________________________________
[ 245 ]
أقول: ولعل المراد به غيرظاهره، والاخبار في آخر الجزء الخامس من الكتاب رواية سلمان عن النبي صلى الله عليه واله وسلم ورواية حمران عن الصادق عليه السلام وهما روايتان جامعتان في الباب. وفي المجمع قد صح الحديث بإسناد عن حذيفة بن اليمان قال: كنت رجلا ذرب اللسان على أهلي فقلت: يا رسول الله إني لاخشى أن يدخلني لساني النار فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فأين أنت من الاستغفار ؟ إني لاستغفر الله في اليوم مائة مرة. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن أبي شيبة ومسلم وأبو داود والنسائي وابن حبان وابن مردويه عن الاغر المزني قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: إنه ليغان على قلبي، وإني لاستغفر الله كل يوم مائة مرة. وفيه في قوله تعالى: (فهل عسيتم إن توليتم) الاية: أخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: إن الرحم معلقة بالعرش لها لسان ذلق تقول: اللهم صل من وصلني، واقطع من قطعني. أقول: والروايات فيها وفي صلتها وقطعها كثيرة، وقد مر شطر منها في تفسير أول سورة النساء. وفي المجمع في قوله تعالى: (أفلا يتدبرون القرآن) الاية أفلا يتدبرون القرآن فيقضوا ما عليهم من الحق عن أبي عبد الله وأبي الحسن عليه السلام. وفي التوحيد بإسناده إلى محمد بن عمارة قال: سألت الصادق جعفر بن محمد عليه السلام فقلت له: يا بن رسول الله أخبرني عن الله عزوجل هل له رضى وسخط ؟ قال: نعم وليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين ولكن غضب الله عقابه ورضاه ثوابه. وفي المجمع في قوله تعالى: (ولتعرفنهم في لحن القول) الاية، عن أبي سعيد الخدري قال: لحن القول بغضهم علي بن أبي طالب. قال: كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ببغضهم علي بن أبي طالب. قال في المجمع: وروي مثل ذلك عن جابر بن عبد الله الانصاري. وقال: وعن عبادة بن الصامت قال: كنا نبور أولادنا بحب علي بن أبي طالب فإذا رأينا أحدهم لا يحبه علمنا أنه لغير رشدة.
________________________________________
[ 246 ]
وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم إلا ببغض علي بن أبي طالب. وفي أمالي الطوسي بإسناده إلى علي عليه السلام أنه قال: قلت أربعا أنزل الله تعالى تصديقي بها في كتابه، قلت: المرء مخبو تحت لسانه فإذا تكلم ظهر، فأنزل الله: (ولتعرفنهم في لحن القول). * * * يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم - 33. إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم - 34. فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم - 35. إنما الحيوة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسئلكم أموالكم - 36. إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم - 37. ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم - 38. (بيان) لما وصف حال الكفار وأضاف إليه وصف حال الذين في قلوبهم مرض وتثاقلهم في أمر القتال وحال من ارتد منهم بعد، رجع يحذر المؤمنين أن يكونوا أمثالهم
________________________________________
[ 247 ]
فيفاوضوا المشركين ويميلوا إليهم فيتبعوا ما أسخط الله ويكرهوا رضوانه فيبطل أعمالهم بالحبط، وفي الايات موعظة لهم بالترغيب والترهيب والتطميع والتخويف، وبذلك تختتم السورة. قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) الاية وإن كانت في نفسها مستقلة في مدلولها مطلقة في معناها حتى استدل الفقهاء بقوله فيها: (ولا تبطلوا أعمالكم) على حرمة إبطال الصلاة بعد الشروع فيها لكنها من حيث وقوعها في سياق الايات السابقة المتعرضة لامر القتال، وكذا الايات اللاحقة الجارية على السياق وخاصة ما في ظاهر قوله: (إن الذين كفروا) الخ، من التعليل وما في قوله: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم) الخ، من التفريع، وبالجملة الاية بالنظر إلى سياقها تدل على إيجاب طاعة الله سبحانه فيما أنزل من الكتاب وشرع من الحكم وإيجاب طاعة الرسول فيما بلغ عن الله سبحانه، وفيما يصدر من الامر من حيث ولايته على المؤمنين في المجتمع الديني، وعلى تحذير المؤمنين من إبطال أعمالهم بفعل ما يوجب حبط أعمالهم كما ابتلي به اولئك الضعفاء الايمان المائلون إلى النفاق الذين انجر أمر بعضهم أن ارتدوا بعد ما تبين لهم الهدى. فالمراد بحسب المورد من طاعة الله طاعته فيما شرع وأنزل من حكم القتال، ومن طاعة الرسول طاعته فيما بلغ منه وفيما أمر به منه ومن مقدماته بما له من الولاية فيه وبإبطال الاعمال التخلف عن حكم القتال كما تخلف المنافقون وأهل الردة. وقيل: المراد بإبطال الاعمال إحباطها بمنهم على الله ورسوله بإيمانهم كما في قوله تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا) وقيل: إبطالها بالرياء والسمعة، وقيل: بالعجب، وقيل: بالكفر والنفاق، وقيل: المراد إبطال الصدقات بالمن والاذى كما قال: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى) البقرة: 264، وقيل: إبطالها بالمعاصي، وقيل: بخصوص الكبائر. ويرد على هذه الاقوال جميعا أن كل واحد منها على تقدير صحته وتسليمه مصداق من مصاديق الاية مع الغض من وقوعها في السياق الذي تقدمت الاشارة إليه، وأما من حيث وقوعها في السياق فلا تشمل إلا القتال كما مر. قوله تعالى: (إن الذين كفرواو صدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن
________________________________________
[ 248 ]
يغفر الله) لهم ظاهر السياق أنه تعليل لمضمون الاية السابقة فيفيد أنكم لو لم تطيعوا الله ورسوله وأبطلتم أعمالكم باتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه أداكم ذلك إلى اللحوق بأهل الكفر والصد ولا مغفرهة لهم بعد موتهم كذلك أبدا. والمراد بالصد عن سبيل الله الاعراض عن الايمان أو منع الناس أن يؤمنوا. قوله تعالى: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) تفريع على ما تقدم، وقوله: (فلا تهنوا) من الوهن بمعنى الضعف والفتور، وقوله: (وتدعوا إلى السلم) معطوف على (تهنوا) واقع في حيز النهي أي ولا تدعوا إلى السلم، والسلم - بفتح السين - الصلح، وقوله: (وأنتم الاعلون) جملة حالية أي لا تفعلوا الصلح، وقوله: (وأنتم الاعلون) جملة حالية أي لا تفعلوا ذلك والحال أنكم الغالبون، والمراد بالعلو الغلبة وهي استعارة مشهورة. وقوله: (والله معكم) معطوف على (وأنتم الاعلون) يبين سبب علوهم ويعلله فالمراد بمعيته تعالى لهم معية النصر دون المعية القيومية التي يشير إليها قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) الحديد: 4. وقوله: (ولن يتركم أعمالكم) قال في المجمع: يقال: وتره يتره وترا إذا نقصه ومنه الحديث (1) فكأنه وتر أهله وماله، وأصله القطع ومنه الترة القطع بالقتل ومنه الوتر المنقطع بانفراده عن غيره. انتهى. فالمعنى: لن ينقصكم أعمالكم أي يوفي أجرها تاما كاملا، وقيل: المعنى: لن يضيع أعمالكم، وقيل: لن يظلمكم، والمعاني متقاربة. ومعنى الاية: إذا كانت سبيل عدم طاعة الله ورسوله وإبطال أعمالكم هذه السبيل وكان مؤديا إلى الحرمان من مغفرة الله أبدا فلا تضعفوا ولا تفتروا في أمر القتال ولا تدعوا المشركين إلى الصلح وترك القتال والحال أنكم أنتم الغالبون والله ناصركم عليهم ولن ينقصكم شيئا من اجوركم بل يوفيكموها تامة كاملة.
________________________________________
(1) وهو ما عن النبي صلى الله عليه واله وسلم: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله عن الجوامع. (*)
________________________________________
[ 249 ]
وفي الاية وعد المؤمنين بالغلبة والظفر إن أطاعوا الله ورسوله فهي كقوله: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الاعلون إن كنتم مؤمنين) آل عمران - 139. قوله تعالى: (إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم اجوركم ولا يسألكم أموالكم) ترغيب لهم في الاخرة وتزهيد لهم عن الدنيا ببيان حقيقتها وهي أنها لعب ولهو - وقد مر معنا كونها لعبا ولهوا -. وقوله: (وإن تؤمنوا) الخ، أي إن تؤمنوا وتتقوا بطاعته وطاعة رسوله يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم بازاء ما أعطاكم وظاهر السياق أن المراد بالاموال جميع أموالهم ويؤيده أيضا الاية التالية. قوله تعالى: (إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم) الاحفاء الاجهاد وتحميل المشقة، والمراد بالبخل - كما قيل - الكف عن الاعطاء، والاضغان الاحقاد. والمعنى: إن يسألكم جميع أموالكم فيجهدكم بطلب كلها كففتم عن الاعطاء لحبكم لها ويخرج أحقاد قلوبكم فضللتم. قوله تعالى: (ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل) إلى آخر الاية بمنزلة الاستشهاد في بيان الاية السابقة كأنه قيل: إنه إن يسأل الجميع فيحفكم تبخلوا ويشهد بذلك أنكم أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله - وهو بعض أموالكم - فبعضكم يبخل فيظهر به أنه لو سأل الجميع جميعكم بخلتم. وقوله: (ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه) أي يمنع الخير عن نفسه فإن الله لا يسأل ما لهم لينتفع هو به بل لينتفع به المنفقون فيما فيه خير دنياهم وآخرتهم فامتناعهم عن إنفاقه امتناع منهم عن خير أنفسهم، واليه يشير قوله بعده: (والله الغني وأنتم الفقراء) والقصران للقلب أي الله هو الغني دونكم وأنتم الفقراء دون الله. وقوله: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) قيل: عطف على قوله: (وإن تؤمنوا وتتقوا) والمعنى: إن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم وإن تتلوا وتعرضوا يستبدل قوما غيركم بأن يوفقهم للايمان دونكم ثم لا يكونوا أمثالكم بل يؤمنون ويتقون وينفقون في سبيل الله.
________________________________________
[ 250 ]
(بحث روائي) في ثواب الاعمال عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله وسلم: من قال: سبحان الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: الحمد الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: لا إله إلا الله غرس الله له بها شجرة في الجنة، ومن قال: الله أكبر غرس الله له بها شجرة في الجنة. فقال رجل من قريش: يا رسول الله إن شجرنا في الجنة لكثير. قال: نعم ولكن إياكم أن ترسلوا عليها نارا فتحرقوها، وذلك أن الله عزوجل يقول: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم. وفي تفسير القمي (وإن جنحوا للسلم كافة فاجنح لها) قال: هي منسوخة بقوله: (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الاعلون والله معكم). وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني في الاوسط والبيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: تلا رسول الله هذه الاية: (وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم) فقالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على منكب سلمان ثم قال: هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الايمان منوطا بالثريا لتناوله رجال من فارس. أقول: وروي بطرق أخر عن أبي هريرة مثله. وكذا عن ابن مردويه عن جابر مثله. وفي المجمع وروي أبو بصير عن أبي جعفر عليه السلام قال: (إن تتولوا) يا معشر العرب (يستبدل قوما غيركم) يعني الموالي. وفيه عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قد والله أبدل خيرا منهم الموالي


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page