• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 176 الي 200


[ 176 ]
قوله تعالى: (قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه ولكن أكثر الناس لا يعلمون - إلى قوله - والارض) ما ذكر من اقتراحهم الحجة على مطلوب قامت عليه الحجة وإن كان اقتراحا جزافيا لا يستدعي شيئا من الجواب لكنه سبحانه أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يجيبهم بإثبات إمكانه الذي كانوا يستبعدونه. ومحصله: أن الذي يحييكم لاول مرة ثم يميتكم ثم يجمعكم إلى يوم القيامة الذي لا ريب فيه هو الله سبحانه ولله ملك السماوات والارض يحكم فيها ما يشاء ويتصرف فيها كيفما يريد فله أن يحكم برجوع الناس إليه ويتصرف فيكم بجمعكم إلى يوم القيامة والقضاء بينكم ثم الجزاء، والباقي ظاهر. قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون) قال الراغب: الخسر والخسران انتقاص رأس المال وينسب ذلك إلى الانسان فيقال: خسر فلان، وإلى الفعل فيقال: خسرت تجارته، قال تعالى: (تلك إذا كرة خاسرة) ويستعمل ذلك في المقتنيات الخارجية كالمال والجاه في الدنيا وهو الاكثر، وفي المقنيات النفسية كالصحة والسلامة والعقل والايمان والثواب وهو الذي جعله الله تعالى الخسران المبين. قال: وكل خسران ذكره الله تعالى في القرآن فهو على هذا المعنى الاخير دون الخسران المتعلق بالمقتنيات المالية والتجارات البشرية. وقال: والابطال يقال في إفساد الشئ وإزالته سواء كان ذلك الشئ حقا أو باطلا قال تعالى: (ليحق الحق ويبطل الباطل) وقد يقال فيمن يقول شيئا لا حقيقة له نحو (ولئن جئتهم باية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون)، وقوله تعالى: (خسر هنالك المبطلون) أي الذين يبطلون الحق. انتهى. والاشبه أن يكون المراد بقيام الساعة فعلية ما يقع فيها من البعث والجمع والحساب والجزاء وظهوره، وبذلك صح جعل الساعة مظروفا لليوم وهما واحد، والاشبه أن يكون قوله: (يومئذ) تأكيدا لقوله: (يوم تقوم الساعة). والمعنى: ويوم تقوم الساعة وهي يوم الرجوع إلى الله يومئذ يخسر المبطلون الذين أبطلوا الحق وعدلوا عنه. قوله تعالى: (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها) الخ، الجثو البروك على الركبتين كما أن الجذو البروك على أطراف الاصابع.
________________________________________
[ 177 ]
والخطاب عام لكل من يصح منه الرؤية وإن كان متوجها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد بالدعوة إلى الكتاب الدعوة إلى الحساب على ما ينطق به الكتاب بإحصائه الاعمال بشهادة قوله بعده: (اليوم تجزون ما كنتم تعملون). والمعنى: وترى أنت وغيرك من الرائين كل امة من الامم جالسة على الجثو جلسة الخاضع الخائف كل امة منهم تدعى إلى كتابها الخاص بها وهي صحيفة الاعمال وقيل لهم: اليوم تجزون ما كنتم تعملون. ويستفاد من ظاهر الاية أن لكل امة كتابا خاصا بهم كما أن لكل إنسان كتابا خاصا به قال تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) أسرى: 13. قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) قال في الصحاح: ونسخت الكتاب وانتسخته واستنسخته كله بمعنى، والنسخة اسم المنتسخ منه. انتهى، وقال الراغب: النسخ إزالة الشئ بشئ يتعقبه كنسخ الشمس الظل ونسخ الظل الشمس والشيب الشباب - إلى أن قال - ونسخ الكتاب نقل صورته المجردة إلى كتاب آخر وذلك لا يقتضي إزالة الصورة الاولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادة اخرى كاتخاذ نقش الخاتم في شموع كثيرة، والاستنساخ التقدم بنسخ الشئ والترشح للنسخ. انتهى. ومقتضى ما نقل أن المفعول الذي يتعدى إليه الفعل في قولنا: استنسخت الكتاب هو الاصل المنقول منه، ولازم ذلك أن تكون الاعمال في قوله: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) كتابا وأصلا وإن شئت فقل: في أصل وكتاب يستنسخ وينقل منه ولو اريد به ضبط الاعمال الخار جية القائمة بالانسان بالكتابة لقيل: إنا كنا نكتب ما كنتم تعملون إذ لا نكتة تستدعي فرض هذه الاعمال كتابا وأصلا يستنسخ، ولا دليل على كون (يستنسخ) بمعنى يستكتب كما ذكره بعضهم. ولازم ذلك أن يكون المراد بما تعملون هو أعمالهم الخارجية بما أنها في اللوح المحفوظ فيكون استنساخ الاعمال استنساخ ما يرتبط بأعمالهم من اللوح المحفوظ وتكون
________________________________________
[ 178 ]
صحيفة الاعمال صحيفة الاعمال وجزء من اللوح المحفوظ، ويكون معنى كتابة الملائكة للاعمال تطبيقهم ما عندهم من نسخة اللوح على الاعمال. وهذا هو المعنى الذي وردت به الرواية من طرق الشيعة عن الصادق عليه السلام ومن طرق أهل السنة عن ابن عباس، وسيوافيك في البحث الروائي التالي. وعلى هذا فقوله: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) من كلامه تعالى لا من كلام الملائكة، وهو من خطابه تعالى لاهل الجمع يوم القيامة يحكيه لنا فيكون في معنى: (ويقال لهم هذا كتابنا) الخ. والاشارة بهذا - على ما يعطيه السياق - إلى صحيفة الاعمال وهي بعينها إشارة إلى اللوح المحفوظ على ما تقدم وإضافة الكتاب إليه تعالى نظرا إلى أنه صحيفة الاعمال من جهة أنه مكتوب بأمره تعالى ونظرا إلى أنه اللوح المحفوظ من جهة التشريف وقوله: (ينطق عليكم بالحق) أي يشهد على ما عملتم ويدل عليه دلالة واضحة ملا بسا للحق. وقوله: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) تعليل لكون الكتاب ينطق عليهم بالحق أي أن كتابنا هذا دال على عملكم بالحق من غير أن يتخلف عنه لانه اللوح المحفوظ المحيط بأعمالكم بجميع جهاتها الواقعية. ولولا أن الكتاب يريهم أعمالهم بنحو لا يداخله شك ولا يحتمل منهم التكذيب لكذبوه، قال تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا) آل عمران: 30. وللقوم في الاية أقوال أخر: منها ما قيل: إن الاية من كلام الملائكة لا من كلام الله ومعنى الاستنساخ الكتابة والمعنى: هذا أي صحيفة الاعمال كتابنا معشر الملائكة الكاتبين للاعمال يشهد عليكم بالحق إنا كنا نكتب ما كنتم تعملون. وفيه أن كونه من كلام الملائكة بعيد من السياق على أن كون الاستنساخ بمعنى مطلق الكتابة لم يثبت لغة. ومنها: أن الاية من كلام الله، والاشارة بهذا إلى صحيفة الاعمال، وقيل: إلى اللوح المحفوظ، والاستنساخ بمعنى الاستكتاب مطلقا.
________________________________________
[ 179 ]
قوله تعالى: (أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين) تفصيل حال الناس يومئذ بحسب اختلافهم بالسعادة والشقاء والثواب والعقاب والسعداء المثابون هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، والاشقياء المعاقبون هم الذين كفروا من المستكبرين المجرمين. والمراد بالرحمة الافاضة الالهية تسعد من استقر فيها ومنها الجنة، والفوز المبين الفلاح الظاهر، والباقي واضح. قوله تعالى: (وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين) المراد بالذين كفروا المتلبسون بالكفر عن تكذيب وجحود بشهادة قوله: (أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم) الخ. والفاء في (أفلم تكن) للتفريع فتدل على مقدر متفرع عليه هو جواب لما، والتقدير: فيقال لهم ألم تكن آياتي تتلى عليكم، والمراد بالايات الحجج الالهية الملقاة إليهم عن وحي ودعوة، والمجرم هو المتلبس بالاجرام وهو الذنب. والمعنى: وأما الذين كفروا جاحدين للحق مع ظهوره فيقال لهم توبيخا وتقريعا: ألم تكن حججي تقرأ وتبين لكم في الدنيا فاستكبرتم عن قبولها وكنتم قوما مذنبين. قوله تعالى: (وإذا قيل أن وعد الله حق والساعة لا ريب فيها قلتم ما ندري ما الساعة) الخ، المراد بالوعد الموعود وهو ما وعده الله بلسان رسله من البعث والجزاء فيكون قوله: (والساعة لا ريب فيها) من عطف التفسير، ويمكن أن يراد بالوعد المعنى المصدري. وقولهم: (ما ندري ما الساعة) معناه أنه غير مفهوم لهم والحال أنهم أهل فهم ودراية فهو كناية عن كونه أمرا غير معقول ولو كان معقولا لدروه. وقوله: (إن نظن إلا ظنا وما نحن بمستيقنين) أي ليست مما نقطع به ونجزم بل نظن ظنا لا يسعنا أن نعتمد عليه، ففي قولهم: (ما ندري ما الساعة) الخ، غب ما تليت عليهم من الايات البينة أفحش المكابرة مع الحق. قوله تعالى: (وبدا لهم سيئات ما عملوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) إضافة السيئات إلى ما عملوا بيانية أو بمعنى من، والمراد بما عملوا جنس ما عملوا أي
________________________________________
[ 180 ]
ظهر لهم أعمالهم السيئة أو السيئات من أعمالهم فالاية في معنى قوله: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء) آل عمران: 30. فالاية من الايات الدالة على تمثل الاعمال، وقيل: إن في الكلام حذفا والتقدير: وبدا لهم جزاء سيئات ما عملوا. وقوله: (وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون) أي وحل بهم العذاب الذي كانوا يسخرون منه في الدنيا إذا أنذروا به بلسان الانبياء والرسل. قوله تعالى: (وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين) النسيان كناية عن الاعراض والترك فنسيانه تعالى لهم يوم القيامة إعراضه عنهم وتركه لهم في شدائده وأهواله، ونسيانهم لقاء يومهم ذاك في الدنيا إعراضهم عن تذكره وتركهم التأهب للقائه، والباقي ظاهر. قوله تعالى: (ذلكم بأنكم اتخذتم آيات الله هزوا وغرتكم الحياة الدنيا) الخ، الاشارة بقوله: (ذلكم) إلى ما ذكر من عقابهم من ظهور السيئات وحلول العذاب والهزء السخرية التى يستهزء بها والباء للسببية. والمعنى: ذلكم العذاب الذي يحل بكم بسبب أنكم اتخذتم آيات الله سخرية تستهزءون بها وبسبب أنكم غرتكم الحياة الدنيا فأخلدتم إليها وتعلقتم بها. وقوله: (فاليوم لا يخرجون منها ولا هم يستعتبون) صرف الخطاب عنهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويتضمن الكلام خلاصة القول فيما يصيبهم من العذاب يومئذ وهو الخلود في النار وعدم قبول العذر منهم. والاستعتاب طلب العتبى والاعتذار، ونفي الاستعتاب كناية عن عدم قبول العذر. قوله تعالى: (فلله الحمد رب السماوات ورب الارض رب العالمين) تحميد له تعالى بالتفريع على ما تقدم في السورة من كونه خالق السماوات والارض وما بينهما والمدبر لامر الجميع ومن بديع تدبيره خلق الجميع بالحق المستتبع ليوم الرجوع إليه والجزاء بالاعمال وهو المستدعي لجعل الشرائع التي تسوق إلى السعادة والثواب ويتعقبه الجمع ليوم الجمع ثم الجزاء واستقرار الجميع على الرحمة والعدل بإعطاء كل شئ ما يستحقه فلم يدبر إلا تدبيرا جميلا ولم يفعل إلا فعلا محمودا فله الحمد كله.
________________________________________
[ 181 ]
وقد كرر (الرب) فقال: رب السماوات ورب الارض ثم أبدل منهما قوله: (رب العالمين) ليأتي بالتصريح بشمول الربوبية للجميع فلو جئ برب العالمين وأكتفى به أمكن أن يتوهم أنه رب المجموع لكن للسماوات خاصة رب آخر وللارض وحدها رب آخر كما ربما قال بمثله الوثنية، وكذا لو اكتفى بالسماوات والارض لم يكن صريحا في ربوبيته لغيرهما، وكذا لو أكتفى بإحداهما. قوله تعالى: (وله الكبرياء في السماوات والارض وهو العزيز الحكيم) الكبرياء على ما عن الراغب: الترفع عن الانقياد، وعن ابن الاثير: العظمة والملك وفي المجمع السلطان القاهر والعظمة القاهرة والعظمة والرفعة. وهي على أي حال أبلغ معنى من الكبر وتستعمل في العظمة غير الحسية ومرجعه إلى كمال وجوده ولا تناهي كماله. وقوله: (وله الكبرياء في السماوات والارض) أي له الكبرياء في كل مكان فلا يتعالى عليه شئ فيهما ولا يستصغره شئ وتقديم الخبر في (له الكبرياء) يفيد الحصر كما في قوله: (فلله الحمد). وقوله: (وهو العزيز الحكيم) أي الغالب غير المغلوب فيما يريد من خلق وتدبير في الدنيا والاخرة والباني خلقه وتدبيره على الحكمة والاتقان. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) قال: نزلت في قريش كلما هووا شيئا عبدوه. وفي الدر المنثور أخرج النسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان الرجل من العرب يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه أخذه وألقى الاخر فأنزل الله (أفرايت من اتخذ إلهه هواه). وفي الجمع في قوله تعالى: (وما يهلكنا إلا الدهر) وقد روي في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر. أقول: قال الطبرسي بعد إيراد الحديث: وتأويله أن أهل الجاهلية كانوا ينسبون
________________________________________
[ 182 ]
الحوادث المجحفة والبلايا النازلة الى الدهر فيقولون: فعل الدهر كذا، وكانوا يسبون الدهر فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إن فاعل هذه الامور هو الله فلا تسبوا فاعلها انتهى. ويؤيد هذا الوجه الرواية التالية. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير والبيهقي في الاسماء والصفات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: قال الله تبارك وتعالى: لا يقل ابن آدم يسب الدهر يا خيبة الدهر فإني أنا الدهر أرسل الليل والنهار فإذا شئت قبضتهما. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق) الاية، حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن عبد الرحيم القصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سألته عن (ن والقلم) قال: إن الله خلق القلم من شجرة في الجنة يقال لها الخلد ثم قال لنهر في الجنة: كن مدادا فجمد النهر وكان أشد بياضا من الثلج وأحلى من الشهد. ثم قال للقلم: أكتب. قال: يا رب ما أكتب ؟ قال: اكتب ما كان وما هو كائن الى يوم القيامة فكتب القلم في رق أشد بياضا من الفضة وأصفى من الياقوت. ثم طواه فجعله في ركن العرش ثم ختم على فم القلم فلن ينطق أبدا. فهو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها أو لستم عربا ؟ فكيف لا تعرفون معنى الكلام ؟ وأحدكم يقول لصحابه: انسخ ذلك الكتاب أو ليس إنما ينسخ من كتاب آخر من الاصل ؟ وهو قوله: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون). أقول: قوله عليه السلام: فكتب القلم في رق الخ، تمثيل للوح المكتوب فيه الحوادث بالرق والرق ما يكتب فيه شبه الكاغد - على ما ذكره الراغب - وقد تقدم الحديث عنه عليه السلام أن القلم ملك واللوح ملك، وقوله: فجعله في ركن العرش تمثيل للعرش بعرش الملك ذي الاركان والقوائم وقوله: ثم ختم على فم القلم (الخ) كناية عن كون ما كتب في الرق قضاء محتوما لا يتغير ولا يتبدل، وقوله: أو لستم عربا (الخ) إشارة الى ما تقدم توضيحه في تفسير الاية. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: إن الله خلق النون وهو الدواة وخلق القلم فقال: اكتب. قال: ما أكتب ؟ قال: اكتب ما هو كائن الى يوم القيامة من عمل معمول بر أو فاجر أو رزق مرزوق حلال أو حرام ثم الزم كل شئ من ذلك شأنه: دخوله في الدنيا ومقامه فيها كم، وخروجه منها كيف ؟
________________________________________
[ 183 ]
ثم جعل على العباد حفظة وعلى الكتاب خزانا تحفظه ينسخون كل يوم من الخزان عمل ذلك اليوم فإذا فنى ذلك الرزق انقطع الامر وانقضى الاجل أتت الحفظة الخزنة يطلبون عمل ذلك اليوم فيقول لهم الخزنة: ما نجد لصاحبكم عندنا شيئا فيرجع الحفظة فيجدونهم قد ماتوا. قال ابن عباس: ألستم قوما عربا ؟ تسمعون الحفظة يقولون: (إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون) وهل يكون الاستنساخ إلا من أصل. أقول: والخبر كما ترى يجعل الاية من كلام الملائكة الحفظة. وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في الاية قال: يستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم فإنما يعمل الانسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب. وعن كتاب سعد السعود لابن طاوس قال بعد ذكر الملكين الموكلين بالعبد: وفي رواية أنهما إذا أرادا النزول صباحا ومساء ينسخ لهما إسرافيل عمل العبد من اللوح المحفوظ فيعطيهما ذلك فإذا صعدا صباحا ومساء بديوان العبد قابله إسرافيل بالنسخ التي انتسخ لهما حتى يظهر أنه كان كما نسخ منه. وفي الجمع في قوله تعالى: (وله الكبرياء في السماوات والارض) وفي الحديث يقول الله: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في نار جهنم. أقول: ورواه في الدر المنثورعن مسلم وأبي داود وابن ماجه وغير هم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
________________________________________
[ 184 ]
(سورة الاحقاف مكية، وهي خمس وثلاثون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. حم - 1. تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم - 2. ما خلقنا السموات والارض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون - 3. قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الارض أم لهم شرك في السموات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين - 4. ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيمة وهم عن دعائهم غافلون - 5. وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين - 6. وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين - 7. أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم - 8. قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا
________________________________________
[ 185 ]
إلا نذير مبين - 9. قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فامن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين - 10. وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم - 11. ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين - 12. إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون - 13. أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون - 14. (بيان) غرض السورة إنذار المشركين الرادين للدعوة إلى الايمان بالله ورسوله بالمعاد بما فيه من أليم العذاب لمنكريه المعرضين عنه، ولذلك تفتتح الكلام بإثبات المعاد: (ما خلقنا السماوات والارض وما بينهما إلا بالحق) ثم يعود إليه عودة بعد عودة كقوله: (وإذا حشر الناس)، وقوله: (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج)، وقوله: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم)، وقوله: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أليس هذا بالحق)، وقوله: في مختتم السورة، (كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار بلاغ) الاية. وفيها احتجاج على الوحدانية والنبوة، وإشارة إلى هلاك قوم هود وهلاك القرى التي حول مكة وإنذارهم بذلك، وإنباء عن حضور نفر من الجن عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستماعهم القرآن وإيمانهم به ورجوعهم إلى قومهم منذرين لهم.
________________________________________
[ 186 ]
والسورة مكية كلها إلا آيتين اختلف فيهما سنشير اليهما في البحث الروائي الاتي إن شاء الله قوله تعالى: (أم يقولون افتراه) الخ، وقوله: (قل أرأيتم إن كان من عند الله) الاية. قوله تعالى: (حم تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم) تقدم تفسيره. قوله تعالى: (ما خلقنا السموات والارض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى) الخ، المراد بالسماوات والارض وما بينهما مجموع العالم المشهود علويه وسفليه، والباء في (بالحق) للملابسة، والمراد بالاجل المسمى ما ينتهي إليه أمد وجود الشئ، والمراد به في الاية الاجل المسمى لوجود مجموع العالم وهو يوم القيامة الذي تطوى فيه السماء كطي السجل للكتب وتبدل الارض غير الارض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار. والمعنى: ما خلقنا العالم المشهود بجميع أجزائه العلوية والسفلية إلا ملابسا للحق له غاية ثابتة وملا بسا لاجل معين لا يتعداه وجوده وإذا كان له أجل معين يفنى عند حلوله وكانت مع ذلك له غاية ثابتة فبعد هذا العالم عالم آخر هو عالم البقاء وهو المعاد الموعود، وقد تكرر الكلام فيما تقدم في معنى كون الخلق بالحق. وقوله: (والذين كفروا عما أنذروا معرضون المراد بالذين كفروا هم المشركون بدليل الاية التالية لكن ظاهر السياق أن المراد بكفرهم كفرهم بالمعاد، و (ما) في (عما) مصدرية أو موصولة والثاني هو الاوفق للسياق والمعنى: والمشركون الذين كفروا بالمعاد عما أنذروا به - وهو يوم القيامة بما فيه من أليم العذاب لمن أشرك بالله - معرضون منصرفون. قوله تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله) إلى آخر الاية (أرأيتم) بمعنى أخبروني والمراد بما تدعون من دون الله الاصنام التي كانوا يدعونها ويعبدونها وإرجاع ضمائر اولي العقل إليها بعد لكونهم ينسبون إليه أفعال اولي العقل وحجة الاية وما بعدها مع ذلك تجري في كل إله معبود من دون الله.
________________________________________
(1) اشارة الى الاية 104 من سورة الانبياء. (*)
________________________________________
(2) اشارة الى الاية 48 من سورة ابراهيم. (*)
________________________________________
[ 187 ]
وقوله: (أروني ماذا خلقوا من الارض) أروني بمعنى أخبروني و (ما) اسم استفهام و (ذا) بعده زائدة والمجموع مفعول (خلقوا) ومن الارض متعلق به. وقوله: (أم لهم شرك في السماوات) أي شركة في خلق السماوات فإن خلق شئ من السماوات والارض هو المسؤل عنه. توضيح ذلك أنهم وإن لم ينسبوا إليها إلا تدبير الكون وخصوا الخلق به سبحانه كما قال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن الله) الزمر: 38، وقال: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله) الزخرف: 87، لكن لما كان الخلق لا ينفك عن التدبير أوجب ذلك أن يكون لمن له سهم من التدبير سهم في الخلق ولذلك أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يسألهم عما لاربابهم الذين يدعون من دون الله من النصيب في خلق الارض أو في خلق السماوات فلا معنى للتدبير في الكون من غير خلق. وقوله: (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) الاشارة بهذا الى القرآن، والمراد بكتاب من قبل القرآن كتاب سماوي كالتوراة نازل من عند الله يذكر شركة آلهتهم في خلق السماوات أو الارض. و الاثارة على ما ذكره الراغب مصدر بمعنى النقل والرواية قال: وأثرت العلم رويته آثره أثرا وأثارة وأثرة وأصله تتبعت أثره انتهى. وعليه فالاثارة في الاية مصدر بمعنى المفعول أي شئ منقول من علم يثبت أن لالهتهم شركة في شئ من السماوات والارض، وفسره غالب المفسرين بمعنى البقية وهو قريب مما تقدم. والمعنى: ائتوني للدلالة على شركهم لله في خلق شئ من الارض أو في خلق السماوات بكتاب سماوي من قبل القرآن يذكر ذلك أو بشئ منقول من علم أو بقية من علم اورثتموها يثبت ذلك إن كنتم صادقين في دعواكم أنهم شركاء لله سبحانه. قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم) القيامة) الخ، الاستفهام إنكاري، وتحديد عدم استجابتهم الدعوة بيوم القيامة لما أن يوم القيامة أجل مسمى للدنيا والدعوة مقصورة في الدنيا ولا دنيا بعد قيام الساعة. وقوله: (وهم عن دعائهم غافلون) صفة اخرى من صفات آلهتهم مضافة الى صفة عدم استجابتهم وليس تعليلا لعدم الاستجابة فإن عدم استجابتهم معلول كونهم
________________________________________
[ 188 ]
لا يملكون لعبادهم شيئا قال تعالى: (قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا) المائدة: 76. بل هي صفة مضافة إلى صفة مذكورة لتكون توطئه وتمهيدا لما سيذكره في الاية التالية من عداوتهم لهم وكفرهم بعبادتهم يوم القيامة فهم في الدنيا غافلون عن دعائهم وسيطلعون عليه يوم القيامة فيعادونهم ويكفرون بعبادتهم. وفي الاية دلالة على سراية الحياة والشعور في الاشياء حتى الجمادات فإن الاصنام من الجماد وقد نسب إليها الغفلة والغفلة من شؤن ذوي الشعور لا تطلق إلا على ما من شأن موصوفه أن يشعر. قوله تعالى: (حتى إذا حشر الناس كانو لهم أعداء وكانو بعبادتهم كافرين) الحشر إخراج الشي من مقره بإزاج، والمراد بعث الناس من قبورهم وسوقهم إلى الحشر يوم القيامة فيومئذ يعاديهم آلهتم ويكفرون بشرك عبادهم بالتبري منهم كما قال تعالى: (ويوم القيامة يكفرون بشر ككم) فاطر: 14، وقال حكاية عنهم: (تبر أنا اليك ما كانو إيانا بعبدون) القصص: 63، وقال: (فكفى بالله شهيإا بيننا وبينكم أن كنا عن عبادتكم لغافلين) يونس: 29. وفي سياق الا يتين تلويح إلى أن هذه الجمادات التي لا تظهر آثارهاو قد تقدم بعض الكلام في ذيل قوله تعالى: (قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ) الم السجدة: 21. قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين كفروا للحق لما جاءهم هذا سحر مبين) الاية والتي بعدها مسوقتان للتوبيخ، والمراد بالايات البينات آيات القران تتلى عليهم، ثم بدلها من الحق الذي جاءهم حيث قال: (للحق لما جاءهم) - وكان مقتضى الظاهر أن يقال: (لها) للدلالة على أنها حق جاءهم لا مسوغ لرميها بأنها سحر مبين وهم يعملون أنها حق مبين فهم متحكون مكابرون للحق الصريح. قوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا) الخ، (أم) منطقعة أي بل يقولون افترى القران على الله في دعواه أنه كلامه.
________________________________________
[ 189 ]
وقوله: (قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا) أي إن افتريت القران لاجلكم آخذني بالعذاب أو عاجلني بالعذاب على الافتراء ولستم تقدرون على دفع عذابه عني فكيف أفتريه عليه لاجلكم، والمحصل أني على يقين من أمر الله وأعلم أنه يأخذ المفترى عليه أو يعاجل في عقوبته وأنكم لا تقدرون على دفع ما يريده فكيف أفتري عليه فأعرض نفسي على عذابه المقطوع لاجلكم ؟ أي لست بمفتر عليه. ويتبين بذلك أن جزاء الشرط في قوله: (إن افتريته فلا تملكون لي) الخ، محذوف وقد أقيم مقامه ما يجري مجرى ارتفاع المانع، والتقدير: إن افتريته آخذني بالعذاب أو عاجلني بالعذاب ولا مانع من قبلكم يمنع عنه، وليس من قبيل وضع المسبب موضع السبب كما قيل. وقوله: (هو أعلم بما تفيضون فيه) الافاضة في الحديث الخوض فيه و (ما) موصولة يرجع إليه ضمير (فيه) أو مصدرية ومرجع الضمير هو القرآن، والمعنى: الله سبحانه أعلم بالذي تخوضون فيه من التكذيب برمي القرآن بالسحر والافتراء على الله أو المعنى: هو أعلم بخوضكم في القرآن. وقوله: (كفى به شهيدا بيني وبينكم) احتجاج ثان على نفي الافتراء وأول الاحتجاجين قوله: (إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا) وقد تقدم بيانه آنفا، ومعنى الجملة: أن شهادة الله سبحانه في كلامه بأنه كلامه وليس افتراء مني يكفي في نفي كوني مفتريا به عليه، وقد صدق سبحانه هذه الدعوى بقوله: (لكن الله يشهد بما أنزل اليك أنزله بعلمه) النساء: 166، وما في معناه من الايات، وأما أنه كلامه فيكفي في ثبوته آيات التحدي. وقوله: (وهو الغفور الرحيم) تذييل الاية بالاسمين الكريمين للاحتجاج على نفي ما يتضمنه تحكمهم الباطل من نفي الرسالة كأنه قيل: إن قولكم: (افتراه) يتضمن دعويين: دعوى عدم كون هذا القرآن من كلام الله ودعوى بطلان الرسالة - والوثنيون ينفونها مطلقا - أما الدعوى الاولى فيدفعه أولا: أنه إن افتريته فلا تملكون، الخ، وثانيا: أن الله يكفيني شهيدا على كونه كلامه لا كلامي. وأما الدعوى الثانية فيدفعها أن الله سبحانه غفور رحيم، ومن الواجب في حكمته أن يعامل خلقه بالمغفرة والرحمة ولا تشملان إلا التائبين الراجعين إليه الصالحين
________________________________________
[ 190 ]
لذلك وذلك بأن يهديهم إلى صراط يقربهم منه سلوكه فتشملهم مغفرته ورحمته بحط السيئات والاستقرار في دار السعادة الخالدة، وكونه واجبا في حكمته لان فيهم صلاحية هذا الكمال وهو الجواد الكريم، قال تعالى: (وما كان عطاء ربك محظورا) أسرى: 20، وقال: (وعلى الله قصد السبيل) النحل: 9، والسبيل إلى هذه الهداية هي الدعوة من طريق الرسالة فمن الواجب في الحكمة أن يرسل إلى الناس رسولا يدعوهم إلى سبيله الموصلة إلى مغفرته ورحمته. قوله تعالى: (قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) الخ، البدع ما كان غير مسبوق بالمثل من حيث صفاته أو من حيث أقواله وأفعاله ولذا فسره بعضهم بأن المعنى: ما كنت أول رسول أرسل اليكم لا رسول قبلي، وقيل: المعنى: ما كنت مبدعا في أقوالي وأفعالي لم يسبقني إليها أحد من الرسل. والمعنى الاول لا يلائم السياق ولا قوله المتقدم: (وهو الغفور الرحيم) بالمعنى الذي تقدم توجيهه فثاني المعنيين هو الانسب، وعليه فالمعنى: لست أخالف الرسل السابقين في صورة أو سيرة وفي قول أو فعل بل أنا بشر مثلهم في من آثار البشرية ما فيهم وسبيلهم في الحياة سبيلي. وبهذه الجملة يجاب عن مثل ما حكاه الله من قولهم: (ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها) الفرقان: 8. وقوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) نفي لعلم الغيب عن نفسه فهو نظير قوله: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء) الاعراف: 188، والفرق بين الايتين أن قوله: (ولو كنت أعلم الغيب) الخ، نفي للعلم بمطلق الغيب واستشهاد له بمس السوء وعدم الاستكثار من الخير، وقوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) نفي للعلم بغيب خاص وهو ما يفعل به وبهم من الحوادث التي يواجهونها جميعا، وذلك أنهم كانوا يزعمون أن المتلبس بالنبوة لو كان هناك نبي يجب أن يكون عالما في نفسه بالغيوب ذا قدرة مطلقة غيبية كما يظهر من اقتراحاتهم المحكية في القرآن فامر صلى الله عليه وآله وسلم أن يعترف - مصرحا به - أنه لا يدري ما يفعل به ولا بهم فينفي عن
________________________________________
[ 191 ]
نفسه العلم بالغيب، وأن ما يجري عليه وعليهم من الحوادث خارج عن إرادته واختياره وليس له في شئ منها صنع بل يفعله به وبهم غيره وهو الله سبحانه. فقوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) كما ينفي عنه العلم بالغيب ينفي عنه القدرة على شئ مما يصيبه ويصيبهم مما هو تحت أستار الغيب. ونفي الاية العلم بالغيب عنه صلى الله عليه وآله وسلم لا ينافي علمه بالغيب من طريق الوحي كما يصرح تعالى به في مواضع من كلامه كقوله: (ذلك من أنباء الغيب نوحيه اليك) آل عمران: 44، يوسف: 102، وقوله: (تلك من أنباء الغيب نوحيها اليك) هود: 49، وقوله: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول) الجن: 27، ومن هذا الباب قول المسيح عليه السلام: (وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم) آل عمران: 49، وقول يوسف عليه السلام لصاحبي السجن: (لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما) يوسف: 37. وجه عدم المنافاة أن الايات النافية للعلم بالغيب عنه وعن سائر الانبياء عليهم السلام إنما تنفيه عن طبيعتهم البشرية بمعنى أن تكون لهم طبيعة بشرية أو طبيعة هي أعلى من طبيعة البشر من خاصتها العلم بالغيب بحيث يستعمله في جلب كل نفع ودفع كل شر كما نستعمل ما يحصل لنا من طريق الاسباب وهذا لا ينافي انكشاف الغيب لهم بتعليم إلهي من طريق الوحي كما أن إتيانهم بالمعجزات فيما أتوا بها ليس عن قدرة نفسية فيهم يملكونها لانفسهم بل بإذن من الله تعالى وأمر، قال تعالى: (قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا) الاسراء: 93، جوابا عما اقترحوا عليه من الايات، وقال: (قل إنما الايات عند الله وإنما أنا نذير مبين) العنكبوت: 50، وقال: (وما كان لرسول أن يأتي باية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق) المؤمن: 78. ويشهد بذلك قوله بعده متصلا به: (إن أتبع إلا ما يوحى إلي) فإن اتصاله بما قبله يعطي أنه في موضع الاضراب، والمعنى: إني ما أدري شيئا من هذه الحوادث بالغيب من قبل نفسي وإنما أتبع ما يوحى إلي من ذلك. وقوله: (وما أنا إلا نذير مبين) تأكيد لجميع ما تقدم في الاية من قوله: (ما كنت بدعا) الخ و (وما أدري) الخ، وقوله: (إن أتبع) الخ.
________________________________________
[ 192 ]
(بحث فلسفي ودفع شبهة) تظافرت الاخبار من طرق أئمة أهل البيت أن الله سبحانه علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة عليه السلام علم كل شئ، وفسر ذلك في بعضها أن علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طريق الوحي وأن علم الائمة عليه السلام ينتهي إلى النبي صلى الله عليه واله وسلم. وأورد عليه أن المأثور من سيرتهم أنهم كانوا يعيشون مدى حياتهم عيشة سائر الناس فيقصدون مقاصدهم ساعين إليها على ما يرشد إليه الاسباب الظاهرية ويهدي إليه السبل العادية فربما أصابوا مقاصدهم وربما أخطابهم الطريق فلم يصيبوا، ولو علموا الغيب لم يخيبوا في سعيهم أبدا فالعاقل لا يترك سبيلا يعلم يقينا أنه مصيب فيه ولا يسلك سبيلا يعلم يقينا أنه مخطئ فيه. وقد أصيبوا بمصائب ليس من الجائز أن يلقى الانسان نفسه في مهلكتها لو علم بواقع الامر كما أصيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد بما أصيب، وأصيب علي عليه السلام في مسجد الكوفة حين فتك به المرادي لعنه الله، وأصيب الحسين عليه السلام فقتل في كربلاء، وأصيب سائر الائمة بالسم، فلو كانوا يعلمون ما سيجري عليهم كان ذلك من إلقاء النفس في التهلكة وهو محرم، والاشكال كما ترى مأخوذ من الايتين: (ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم). ويرده أنه مغالطة بالخلط بين العلوم العادية وغير العادية فالعلم غير العادي بحقائق الامور لا أثر له في تغيير مجرى الحوادث الخارجية. توضيح ذلك أن أفعالنا الاختيارية كما تتعلق بإرادتنا كذلك تتعلق بعلل وشرائط اخرى مادية زمانية ومكانية إذا اجتمعت عليها تلك العلل والشرائط وتمت بالارادة تحققت العلة التامة وكان تحقق الفعل عند ذلك واجبا ضروريا إذ من المستحيل تخلف المعلول عن علته التامة. فنسبة الفعل وهو معلول إلى علته التامة نسبة الوجوب والضرورة كنسبة جميع الحوادث إلى عللها التامة، ونسبته إلى إرادتنا وهي جزء علته نسبة الجواز والامكان. فتبين أن جميع الحوادث الخارجية ومنها أفعالنا الاختيارية واجبة الحصول في
________________________________________
[ 193 ]
الخارج واقعة فيها على صفة الضرورة ولا ينافي ذلك كون أفعالنا الاختيارية ممكنة بالنسبة الينا مع وجوبها على ما تقدم. فإذا كان كل حادث ومنها أفعالنا الاختيارية بصفة الاختيار معلولا له علة تامة يستحيل معها تخلفه عنها كانت الحوادث سلسلة منتظمة يستوعبها الوجوب لا يتعدى حلقة من حلقاتها موضعها ولا تتبدل من غيرها، وكان الجميع واجبا من أول يوم سواء في ذلك ما وقع في الماضي وما لم يقع بعد، فلو فرض حصول علم بحقائق الحوادث على ما هي عليها في متن الواقع لم يؤثر ذلك في إخراج حادث منها وإن كان اختياريا عن ساحة الوجوب إلى حد الامكان. فإن قلت: بل يقع هذا العلم اليقيني في مجرى أسباب الافعال الاختيارية كالعلم الحاصل من الطرق العادية فيستفاد منه فيما إذا خالف العلم الحاصل من الطرق العادية فيصير سببا للفعل أو الترك حيث يبطل معه العلم العادي. قلت: كلا فإن المفروض تحقق العلة التامة للعلم العادي مع سائر أسباب الفعل الاختياري فمثله كمثل أهل الجحود والعناد من الكفار يستيقنون بأن مصيرهم مع الجحود إلى النار ومع ذلك يصرون على جحودهم لحكم هواهم بوجوب الجحود وهذا منهم هو العلم العادي بوجوب الفعل، قال تعالى في قصة آل فرعون: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) النمل: 14. وبهذا يندفع ما يمكن أن يقال: لا يتصور علم يقيني بالخلاف مع عدم تأثيره في الارادة فليكشف عدم تأثيره في الارادة عن عدم تحقق علم على هذا الوصف. وجه الاندفاع: أن مجرد تحقق العلم بالخلاف لا يستوجب تحقق الارادة مستندة إليه وإنما هو العلم الذي يتعلق بوجوب الفعل مع التزام النفس به كما مر في جحود إهل الجحود وإنكارهم الحق مع يقينهم به ومثله الفعل بالعناية فإن سقوط الواقف على جذع عال، منه على الارض بمجرد تصور السقوط لا يمنع عنه علمه بأن في السقوط هلاكه القطعي. وقد أجاب بعضهم عن أصل الاشكال بأن للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والائمة عليه السلام
________________________________________
[ 194 ]
تكاليف خاصة بكل واحد منهم فعليهم أن يقتحموا هذه المهالك وإن كان ذلك منا القاء النفس في التهلكة وهو حرام، واليه إشارة في بعض الاخبار. وأجاب بعضهم عنه بأن الذي ينجز التكاليف من العلم هو العلم من الطرق العادية وأما غيره فليس بمنجز، ويمكن توجيه الوجهين بما يرجع إلى ما تقدم. قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فامن واستكبرتم) الخ، ضمائر (كان) و (به) و (مثله) على ما يعطيه السياق للقرآن، وقوله: (وشهد شاهد من بني إسرائيل) الخ، معطوف على الشرط ويشاركه في الجزاء، والمراد بمثل القرآن مثله من حيث مضمونه في المعارف الالهية وهو كتاب التوراة الاصلية التي نزلت على موسى عليه السلام، وقوله: (فامن واستكبرتم) أي فامن الشاهد الاسرائيلي المذكور بعد شهادته. وقوله: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) تعليل للجزاء المحذوف دال عليه، والظاهر أنه ألستم ضالين لا ما قيل: إنه ألستم ظلمتم لان التعليل بعدم هداية الله الظالمين إنما يلائم ضلالهم لا ظلمهم وإن كانوا متصفين بالوصفين جميعا. والمعنى: قل للمشركين: أخبروني إن كان هذا القرآن من عند الله والحال أنكم كفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثل ما في القرآن من المعارف فامن هو واستكبرتم أنتم ألستم في ضلال ؟ فإن الله لا يهدي القوم الظالمين. والذي شهد على مثله فامن على ما في بعض الاخبار هو عبد الله بن سلام من علماء اليهود، والاية على هذا مدنية لا مكية لانه ممن آمن بالمدينة، وقول بعضهم: من الجائز أن يكون التعبير بالماضي في قوله: (وشهد شاهد من بني إسرائيل فامن) لتحقق الوقوع والقصة واقعة في المستقبل سخيف لانه لا يلائم كون الاية في سياق الاحتجاج فالمشركون ما كانوا ليسلموا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم صدقه فيما يخبرهم به من الامور المستقبلة. وفي معنى الاية أقوال أخر منها أن المراد ممن شهد على مثله فامن هو موسى عليه السلام شهد على التوراة فامن به وإنما عدلوا عن المعنى السابق إلى هذا المعنى للبناء على كون الاية مكية وأنه إنما أسلم عبد الله بن سلام بالمدينة. وفيه أولا: عدم الدليل على كون الاية مكية ولتكن القصة دليلا على كونها مدنية، وثانيا: بعد أن يجعل موسى الكليم عليه السلام قرينا لهؤلاء المشركين الاجلاف
________________________________________
[ 195 ]
يقاسون به فيقال ما محصله: إن موسى عليه السلام آمن بالكتاب النازل عليه وأنتم استكبرتم عن الايمان بالقرآن فسخافته ظاهرة. ومما قيل أن المثل في الاية بمعنى نفس الشئ كما قيل في قوله تعالى: (ليس كمثله شئ) الشورى: 11، وهو في البعد كسابقه. قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه) إلى آخر الاية قيل: اللام في قوله: (للذين آمنوا) للتعليل أي لاجل إيمانهم ويؤل إلى معنى في، وضمير (كان) و (إليه) للقرآن من جهة الايمان به. والمعنى: وقال الذين كفروا في الذين آمنوا - أي لاجل إيمانهم -: لو كان الايمان بالقرآن خيرا ما سبقونا - أي المؤمنون - إليه. وقال بعضهم: إن المراد بالذين آمنوا بعض المؤمنين وبالضمير العائد إليه في قوله: (سبقونا) البعض الاخر، واللام متعلق بقال والمعنى: وقال الذين كفروا لبعض المؤمنين لو كان خيرا ما سبقنا البعض من المؤمنين وهم الغائبون إليه، وفيه أنه بعيد من سياق الاية. وقال آخرون: إن المراد بالذين آمنوا المؤمنون جميعا لكن في قوله: ما سبقونا التفاتا والاصل ما سبقتمونا وهو في البعد كسابقه وليس خطاب الحاضرين بصيغة الغيبة من الالتفات في شئ. وقوله: (وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم) ضمير (به) للقرآن وكذا الاشارة بهذا إليه والافك الافتراء أي وإذ لم يهتدوا بالقرآن لاستكبارهم عن الايمان به فسيقولون أي الذين كفروا هذا أي القرآن إفك وافتراء قديم، وقولهم: هذا إفك قديم كقولهم: أساطير الاولين. قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا) الخ، الظاهر أن قوله: (ومن قبله) الخ، جملة حالية والمعنى: فسيقولون هذا إفك قديم والحال أن كتاب موسى حال كونه إماما ورحمة قبله أي قبل القرآن وهذا القرآن كتاب مصدق له حال كونه لسانا عربيا ليكون منذرا للذين ظلموا وهو بشرى للمحسنين فكيف يكون إفكا ؟
________________________________________
[ 196 ]
وكون التوراة إماما ورحمة هو كونها بحيث يقتدي بها بنو إسرائيل ويتبعونها في أعمالهم ورحمة للذين آمنوا بها واتبعوها في إصلاح نفوسهم. قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) إلى آخر الاية المراد بقولهم ربنا الله إقرارهم وشهادتهم بانحصار الربوبية في الله سبحانه وتوحده فيها، وباستقامتهم ثباتهم على ما شهدوا به من غير زيغ وانحراف والتزامهمم بلوازمه العملية. وقوله: (فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون) أي ليس قبالهم مكروه محتمل يخافونه من عقاب محتمل، ولا مكروه محقق يحزنون به من عقاب أو هول، فالخوف إنما يكون من مكروه ممكن الوقوع، والحزن من مكروه محقق الوقوع، والفاء في قوله: (فلا خوف) الخ، لتوهم معنى الشرط فإن الكلام في معنى من قال ربنا الله ثم استقام فلا خوف الخ. قوله تعالى: (أولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون) المراد بصحابة الجنة ملازمتها، وقوله: (خالدين فيها) حال مؤكدة لمعنى الصحابة. والمعنى: اولئك الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ملازمون للجنة حال كونهم خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون في الدنيا من الطاعات والقربات. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن أبي عبيدة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى: (ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين) قال: عنى بالكتاب التوراة والانجيل (وأثارة من علم) فإنما عنى بذلك علم أو صياء الانبياء. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه واله وسلم (أو أثارة من علم) قال: الخط. أقول: لعل المراد بالخط كتاب مخطوط موروث من الانبياء أو العلماء الماضين لكن في بعض ما روي في تفسير قوله: (أو أثارة من علم) أنه حسن الخط وفي بعض آخر أنه جودة الخط وهو أجنبي من سياق الاحتجاج الذي في الاية.
________________________________________
[ 197 ]
وفي العيون في باب مجلس الرضا مع المأمون عنه عليه السلام حدثني أبي عن جدي عن ابائه عن الحسين بن علي عليه السلام قال: اجتمع المهاجرون والانصار إلى رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فقالوا: إن لك يا رسول الله مؤنة في نفقتك وفيمن يأتيك من الوفود، وهذه أموالنا مع دمائنا فاحكم فيها بارا مأجورا أعط ما شئت واحكم ما شئت من غير حرج. قال: فأنزل الله تعالى إليه الروح الامين فقال: يا محمد (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى) يعني أن تودوا قرابتي من بعدي، فخرجوا فقال المنافقون: ما حمل رسول الله على ترك ما عرضنا عليه إلا ليحثنا على قرابته من بعده، وإن هو إلا شئ افتراه في مجلسه وكان ذلك من قولهم عظيما. فأنزل الله عز وجل هذه الاية (أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم) فبعث إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هل من حدث ؟ فقالوا: أي والله يا رسول الله لقد قال بعضنا كلاما غليظا كرهناه فتلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاية فبكوا واشتد بكاؤهم فأنزل الله تعالى: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون). وفي الدر المنثور أخرج أبو داود في ناسخه من طريق عكرمة عن ابن عباس في قوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) قال: نسختها هذه الاية التي في الفتح فخرج إلى الناس فبشرهم بالذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فقال رجل من المؤمنين: هنيئا لك يا نبي الله قد علمنا الان ما يفعل بك فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل الله في سورة الاحزاب (وبشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا)، وقال: (ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما) فبين الله ما به يفعل وبهم. أقول: الرواية لا تخلو من شئ:
________________________________________
(1) يريد قوله تعالى: (ليفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر) الفتح: 2. (*)
________________________________________
[ 198 ]
أما أولا: فلما تقدم بيانه في تفسير الاية أعني قوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) أنها أجنبية عن العلم بالغيب الذي هو من طريق الوحي بدلالة صريحة من القرآن فلا ينفي بها العلم بالمغفرة من طريق الوحي حتى تنسخها آية سورة الفتح. وأما ثانيا: فلان ظاهر الرواية أن الذنب الذي تصرح بمغفرته آية سورة الفتح هو الذنب بمعنى مخالفة الامر والنهي المولويين وسيأتي في تفسير سورة الفتح - إن شاء الله تعالى - أن الذنب في الاية لغير هذا المعنى. وأما ثالثا: فلان الايات الدالة على دخول المؤمنين الجنة كثيرة جدا في مكية السور ومدنيتها ولا تدل آيتا سورة الاحزاب على أزيد مما يدل عليه سائر الايات فلا وجه لتخصيصهما بالدلالة على دخول المؤمنين الجنة وشمول المغفرة لهم. على أن سورة الاحزاب نازلة قبل سورة الفتح بزمان. وفيه أخرج أبو يعلى وابن جرير والطبراني والحاكم وصححه بسند صحيح عن عوف بن مالك الا شجعي قال: انطلق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنا معه حتى دخلنا على كنيسة اليهود يوم عيدهم فكرهوا دخولنا عليهم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أروني اثني عشر رجلا منكم - يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله - يحبط الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه فسكتوا فما أجابه منهم أحد ثم رد عليهم فلم يجبه أحد فثلث فلم يجبه أحد فقال: أبيتم فو الله لانا الحاشر وأنا العاقب وأنا المقفي آمنتم أو كذبتم. ثم انصرف وأنا معه حتى كدنا أن نخرج فإذا رجل من خلفه فقال: كما أنت يا محمد، فأقبل فقال ذلك الرجل: أي رجل تعلمونني فيكم يا معشر اليهود ؟ فقالوا: والله لا نعلم فينا رجلا أعلم بكتاب الله ولا أفقه منك ولا من أبيك ولا من جدك، فقال: إني أشهد بالله أنه النبي الذي تجدونه في التوراة والانجيل، قالوا: كذبت ثم ردوا عليه وقالوا شرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كذبتم لن يقبل منكم قولكم. فخرجنا ونحن ثلاث: رسول الله صلى الله عليه واله وسلم وأنا وابن سلام فأنزل الله: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فامن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين). أقول: وفي نزول الاية في عبد الله بن سلام روايات اخرى من طرق أهل السنة
________________________________________
[ 199 ]
غير هذه الرواية، وسياق الاية وخاصة قوله: (من بني إسرائيل) لا يلائم كون الخطاب فيها لبني إسرائيل، وقد عد الانجيل في الرواية من كتبهم وليس من كتبهم واليهود لا يصدقونه. وفي بعض الروايات أن الاية نزلت في ابن يامين من علمائهم حين شهد وأسلم فكذبته اليهود، والاشكال السابق على حاله. * * * ووصينا الانسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين - 15. أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون - 16. والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن إن وعد الله حق فيقول ما هذا إلا أساطير الاولين - 17. أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس إنهم كانوا خاسرين - 18. ولكل درجات مما عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يظلمون - 19. ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم
________________________________________
[ 200 ]
طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الارض بغير الحق وبما كنتم تفسقون - 20. (بيان) لما قسم الناس في قوله: (لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين) إلى ظالمين ومحسنين وأشير فيه إلى أن للظالمين ما يخاف ويحذر وللمحسنين ما يسر الانسان ويبشر به عقب ذلك في هذا الفصل من الايات بتفصيل القول فيه، وأن الناس بين قوم تائبين إلى الله مسلمين له وهم الذين يتقبل أحسن أعمالهم ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، وقوم خاسرين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والانس. ومثل الطائفة الاولى بمن كان مؤمنا بالله مسلما له بارا بوالديه يسأل الله أن يلهمه الشكر على ما أنعم عليه وعلى والديه والعمل الصالح وإصلاح ذريته، والطائفة الثانية بمن كان عاقا لوالديه إذا دعواه إلى الايمان بالله واليوم الاخر فيزجرهما ويعد ذلك من أساطير الاولين. قوله تعالى: (ووصينا الانسان بوالديه إحسانا) إلى آخر الاية، الوصية على ما ذكره الراغب هو التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ والتوصية تفعيل من الوصية قال تعالى: (ووصى بها إبراهيم بنيه) البقرة: 132، فمفعوله الثاني الذي يتعدى إليه بالباء من قبيل الافعال، فالمراد بالتوصية بالوالدين التوصية بعمل يتعلق بهما وهو الاحسان اليهما. وعلى هذا فتقدير الكلام: ووصينا الانسان بوالديه أن يحسن اليهما إحسانا. وفي إعراب (إحسانا) أقوال أخر كقول بعضهم: إنه مفعول مطلق على تضمين (وصينا) معنى أحسنا، والتقدير: وصينا الانسان محسنين اليهما إحسانا، وقول بعضهم: إنه صفة لمصدر محذوف بتقدير مضاف أي إيصاء ذا إحسان، وقول بعضهم: هو مفعول له، والتقدير: وصيناه بهما لاحساننا اليهما، إلى غير ذلك مما قيل. وكيف كان فبر الوالدين والاحسان اليهما من الاحكام العامة المشرعة في جميع


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page