• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 126 الي 150


[ 126 ]
له سبحانه عما ينسبون إليه، والظاهر أن (رب العرش) عطف بيان لرب السماوات والارض لان المراد بالسماوات والارض مجموع العالم المشهود وهو عرش ملكه تعالى الذي استوى عليه وحكم فيه ودبر أمره. ولا يخلو من إشارة الى حجة على الوحدانية إذ لما كان الخلق مختصا به تعالى حتى باعتراف الخصم وهو من شؤن عرش ملكه، والتدبير من الخلق والايجاد فإنه إيجاد النظام الجاري بين المخلوقات فالتدبير أيضا من شؤن عرشه فربوبيته للعرش ربوبية لجميع السماوات والارض. قوله تعالى: (فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون) وعيد إجمالي لهم بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاعراض عنهم حتى يلاقوا ما يحذرهم منه من عذاب يوم القيامة. والمعنى: فاتركهم يخوضوا في أباطيلهم ويلعبوا في دنياهم ويشتغلوا بذلك حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدونه وهو يوم القيامة كما ذكر في الايات السابقة: (هل ينظرون إلا الساعة الخ. قوله تعالى: (وهو الذي في السماء إله وفي الارض إله وهو الحكيم العليم) أي هو الذي هو في السماء إله مستحق للمعبودية وهو في الارض إله أي هو المستحق لمعبودية أهل السماوات والارض وحده، ويفيد تكرار (إله) كما قيل التأكيد والدلالة على أن كونه تعالى إلها في السماء والارض بمعنى تعلق ألوهيته بهما لا بمعنى استقراره فيهما أو في أحدهما. وفي الاية مقابلة لما يثبته الوثنية لكل من السماء والارض إلها أو آلهة، وفي تذييل الاية بقوله: (وهو الحكيم العليم) الدال على الحصر إشارة الى وحدانيته في الربوبية التي لازمها الحكمة والعلم. قوله تعالى: (وتبارك الذي له ملك السماوات والارض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه يرجعون) ثناء عليه تعالى بالتبارك وهو مصدريته للخير الكثير. وكل من الصفات الثلاث المذكورة حجة على توحده في الربوبية أما ملكه للجميع فظاهر فإن الربوبية لمن يدبر الامر والتدبير للملك، وأما اختصاص علم الساعة به فلان
________________________________________
[ 127 ]
الساعة هي المنزل الاقصى إليه يسير الكل وكيف يصح أن يرب الاشياء من لا علم له بمنتهى مسيرها فهو تعالى رب الاشياء لا من يدعونه، وأما رجوع الناس إليه فإن الرجوع للحساب والجزاء وهو آخر التدبير فمن إليه الرجوع فإليه التدبير ومن إليه التدبير له الربوبية. قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) السياق سياق العموم فالمراد بالذين يدعون، أي يعبدونهم من دونه، كل معبود غيره تعالى من الملائكة والجن والبشر وغيرهم. والمراد (بالحق) الحق الذي هو التوحيد، والشهادة به الاعتراف به، والمراد بقوله: (وهم يعلمون) حيث أطلق العلم علمهم بحقيقة حال من شفعوا له وحقيقة عمله كما قال: (لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا) النبأ: 38، وإذا كان هذا حال الشفعاء لا يملكونها إلا بعد الشهادة بالحق فما هم بشافعين إلا لاهل التوحيد كما قال: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى). والاية مصرحة بوجود الشفاعة. قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون) أي إلى متى يصرفون عن الحق الذي هو التوحيد إلى الباطل الذي هو الشرك، وذلك أنهم معترفون أن لا خالق إلا الله والتدبير الذي هو ملاك الربوبية غير منفك عن الخلق كما اتضح مرارا فالرب المعبود هو الذي بيده الخلق وهو الله سبحانه. قوله تعالى: (وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون) ضمير (قيله) للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بلا إشكال، والقيل مصدر كالقول والقال، و (قيله) معطوف - على ما قيل - على الساعة في قوله: (وعنده علم الساعة)، والمعنى: وعنده علم قوله: (يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون). قوله تعالى: (فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون) أمر بالاعراض عنهم وإقناط من إيمانهم، وقوله (قل سلام) أي وادعهم موادعة ترك من غير هم لك فيهم، وفي قوله: (فسوف يعلمون) تهديد ووعيد.
________________________________________
[ 128 ]
(بحث روائي) في الاحتجاج عن علي عليه السلام في حديث طويل يقول فيه: قوله: (إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) أي الجاحدين، والتأويل في هذا القول باطنه مضاد لظاهره. أقول: الظاهر أن المراد أنه خلاف ما ينصرف إليه لفظ عابد عند الاطلاق. وفي الكافي بإسناده عن هشام بن الحكم قال: قال أبو شاكر الديصاني: إن في القرآن آية هي قولنا. قلت: وما هي ؟ قال: هو الذي في السماء إله وفي الارض إله فلم أدر بما أجيبه فحججت فخبرت أبا عبد الله عليه السلام فقال: هذا كلام زنديق خبيث إذا رجعت إليه فقل: ما اسمك بالكوفة ؟ فإنه يقول: فلان، فقل: ما اسمك بالبصرة ؟ فإنه يقول: فلان، فقل: كذلك الله ربنا في السماء إله، وفي الارض إله، وفي البحار إله، وفي القفار إله، وفي كل مكان إله. قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته فقال: هذه نقلت من الحجاز. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة) قال: هم الذين عبدوا في الدنيا لا يملكون الشفاعة لمن عبدهم. وفي الكافي بإسناده عن أبي هاشم الجعفري قال: سألت أبا جعفر الثاني عليه السلام: ما معنى الواحد ؟ فقال: إجماع الالسن عليه بالوحدانية لقوله: (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله).
________________________________________
[ 129 ]
(سورة الدخان مكية، وهي تسع وخمسون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. حم - 1. والكتاب المبين - 2. إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين - 3. فيها يفرق كل أمر حكيم - 4. أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين - 5. رحمة من ربك إنه هو السميع العليم - 6. رب السموات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين - 7. لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الاولين - 8. (بيان) يتلخص غرض السورة في إنذار المرتابين في الكتاب بعذاب الدنيا وعذاب الاخرة وقد سيق بيان ذلك بأنه كتاب مبين نازل من عند الله على من أرسله إلى الناس لانذارهم وقد نزل رحمة منه تعالى لعباده خير نزول في ليلة القدر التي فيها يفرق كل أمر حكيم. غير أن الناس وهم الكفار ارتابوا فيه لاعبين في هوساتهم وسيغشاهم أليم عذاب الدنيا ثم يرجعون إلى ربهم فينتقم منهم بعد فصل القضاء بعذاب خالد. ثم يذكر لهم تنظيرا لاول الوعيدين قصة إرسال موسى عليه السلام إلى قوم فرعون لانجاء بنى إسرائيل وتكذيبهم له وإغراقهم نكالا منه.
________________________________________
[ 130 ]
ثم يذكر إنكارهم لثاني الوعيدين وهو الرجوع الى الله في يوم الفصل فيقيم الحجة على أنه آت لا محالة ثم يذكر طرفا من أخباره وما سيجري فيه على المجرمين ويصيبهم من ألوان عذابه، وما سيثاب به المتقون من حياة طيبة ومقام كريم. والسورة مكية بشهادة سياق آياتها. قوله تعالى: (حم والكتاب المبين) الواو للقسم والمراد بالكتاب المبين القرآن. قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين) المراد بالليلة المباركة التي نزل فيها القرآن ليلة القدر على ما يدل عليه قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) القدر: 1، وكونها مباركة ظرفيتها للخير الكثير الذي ينبسط على الخلق من الرحمة الواسعة، وقد قال تعالى: (وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر) القدر: 3. وظاهر اللفظ أنها إحدى الليالي التي تدور على الارض وظاهر قوله: (فيها يفرق) الدال على الاستمرار أنها تتكرر وظاهر قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) البقرة: 185 أنها تتكرر بتكرر شهر رمضان فهي تتكرر بتكرر السنين القمرية وتقع في كل سنة قمرية مرة واحدة في شهر رمضان، وأما أنها أي ليلة هي ؟ فلا إشعار في كلامه تعالى بذلك، وأما الروايات فستوافيك في البحث الروائي التالي. والمراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة على ما هو ظاهر قوله: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) وقوله: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) القدر: 1، وقوله: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) البقرة: 185، أن النازل هو القرآن كله. ولا يدفع ذلك قوله: (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا) أسرى: 106، وقوله: (وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا) الفرقان: 32، الظاهرين في نزوله تدريجا، ويؤيد ذلك آيات اخر كقوله: (فإذا انزلت سورة محكمة) سورة محمد: 20، وقوله: (وإذا ما انزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض) التوبة: 127 وغير ذلك ويؤيد ذلك أيضا ما لا يحصى من الاخبار المتضمنة لاسباب النزول. وذلك أنه يمكن أن يحمل على نزول القرآن مرتين مرة مجموعا وجملة في ليلة
________________________________________
[ 131 ]
واحدة من ليالي شهر رمضان، ومرة تدريجا ونجوما في مدة ثلاث وعشرين سنة وهي مدة دعوته صلى الله عليه واله وسلم. لكن الذي لا ينبغي الارتياب فيه أن هذا القرآن المؤلف من السور والايات بما فيه من السياقات المختلفة المنطبقة على موارد النزول المختلفة الشخصية لا يقبل النزول دفعة فإن الايات النازلة في وقائع شخصية وحوادث جزئية مرتبطة بأزمنة وأمكنة وأشخاص وأحوال خاصة لا تصدق إلا مع تحقق مواردها المتفرقة زمانا ومكانا وغير ذلك بحيث لو اجتمعت زمانا ومكانا وغير ذلك انقلبت عن تلك الموارد وصارت غيرها فلا يمكن احتمال نزول القرآن وهو على هيئته وحاله بعينها مرة جملة ومرة نجوما. فلو قيل بنزوله مرتين كان من الواجب أن يفرق بين المرتين بالاجمال والتفصيل فيكون نازلا مرة إجمالا ومرة تفصيلا ونعني بهذا الاجمال والتفصيل ما يشير إليه قوله تعالى: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) هود: 1، وقوله: (إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) الزخرف: 4، وقد مر الكلام في معنى الاحكام والتفصيل في تفسير سورتي هود والزخرف. وقيل: المراد بنزول الكتاب في ليلة مباركة افتتاح نزوله التدريجي في ليلة القدر من شهر رمضان فأول ما نزل من آيات القرآن - وهو سورة العلق أو سورة الحمد - نزل في ليلة القدر. وهذا القول مبني على استشعار منافاة نزول الكتاب كله في ليلة ونزوله التدريجي الذي تدل عليه الايات السابقة وقد عرفت أن لا منافاة بين الايات. على أنك خبير بأنه خلاف ظاهر الايات. وقيل: إنه نزل أولا جملة على السماء الدنيا في ليلة القدر ثم نزل من السماء الدنيا على الارض تدريجا في ثلاث وعشرين سنة مدة الدعوة النبوية. وهذا القول مأخوذ من الاخبار الواردة في تفسير الايات الظاهرة في نزوله جملة وستمر بك في البحث الروائي التالي إن شاء الله. وقوله: (إنا كنا منذرين) واقع موقع التعليل، وهو يدل على استمرار الانذار منه تعالى قبل هذا الانذار، فيدل على أن نزول القرآن من عنده تعالى ليس ببدع،
________________________________________
[ 132 ]
فإنما هو إنذار والانذار سنة جارية له تعالى لم تزل تجري في السابقين من طريق الوحي إلى الانبياء والرسل وبعثهم لانذار الناس. قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم) ضمير (فيها) لليلة والفرق فصل الشئ من الشئ بحيث يتمايزان ويقابله الاحكام فالامر الحكيم ما لا يتميز بعض أجزائه من بعض ولا يتعين خصوصياته وأحواله كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر: 21. فللامور بحسب القضاء الالهي مرحلتان: مرحلة الاجمال و الابهام ومرحلة التفصيل، وليلة القدر - على ما يدل عليه قوله: (فيها يفرق كل أمر حكيم - ليلة يخرج فيها الامور من مرحلة الاحكام الى مرحلة الفرق والتفصيل، وقد نزل فيها القرآن وهو أمر من الامور المحكمة فرق في ليلة القدر. ولعل الله سبحانه أطلع نبيه على جزئيات الحوادث التي ستقع في زمان دعوته وما يقارن منها نزول كل آية أو آيات أو سورة من كتابه فيستدعي نزولها وأطلعه على ما ينزل منها فيكون القرآن نازلا عليه دفعة وجملة ه قبل نزوله تدريجا ومفرقا. ومال هذا الوجه اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على القرآن في مرحلة نزوله إلى القضاء التفصيلي قبل نزوله على الارض واستقراره في مرحله العين، وعلى هذا الوجه لا حاجة إلى تفريق المرتين بالاجمال والتفصيل كما تقدم في الوجه الاول. وظاهر كلام بعضهم أن المراد بقوله: (فيها يفرق كل أمر حكيم) تفصيل الامور المبينة في القرآن من معارف وأحكام وغير ذلك. ويدفعه أن ظاهر قوله: (فيها يفرق) الاستمرار والذي يستمر في هذه الليلة بتكررها تفصيل الامور الكونية بعد إحكامها وأما المعارف والاحكام الالهية فلا استمرار في تفصيلها فلو كان المراد فرقها كان الانسب أن يقال: (فيها فرق). وقيل: المراد بكون الامر حكيما إحكامه بعد الفرق لا الاحكام الذي قبل التفصيل، والمعنى: يقضى في الليلة كل أمر محكم لا يتغير بزيادة أو نقصان أو غير ذلك هذا، والاظهر ما قدمناه من المعنى. قوله تعالى: (أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين) المراد بالامر الشأن وهو حال من الامر السابق والمعنى فيها يفرق كل أمر حال كونه أمرا من عندنا ومبتدأ من
________________________________________
[ 133 ]
لدنا، ويمكن أن يكون المراد به ما يقابل النهي والمعنى: يفرق فيها كل أمر بأمر منا، وهو على أي حال متعلق بقوله: (يفرق). ويمكن أن يكون متعلقا بقوله: (أنزلناه) أي حال كون الكتاب أمرا أو بأمر من عندنا، وقوله: (إنا كنا مرسلين) لا يخلو من تأييد لذلك، ويكون تعليلا له والمعنى: إنا أنزلناه أمرا من عندنا لان سنتنا الجارية إرسال الانبياء والرسل. قوله تعالى: (رحمة من ربك أنه هو السميع العليم) أي إنزاله رحمة من ربك أو أنزلناه لاجل إفاضة الرحمة على الناس أو لاقتضاء رحمة ربك إنزاله فقوله: (رحمة) حال على المعنى الاول ومفعول له على الثاني والثالث. وفي قوله: (من ربك) التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة ووجهه إظهار العناية بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لانه هو الذي انزل عليه القرآن وهو المنذر المرسل إلى الناس. وقوله: (إنه هو السميع العليم) أي السميع للمسائل والعليم بالحوائج فيسمع مسألتهم ويعلم حاجتهم إلى الاهتداء بهدى ربك فينزل الكتاب ويرسل الرسول رحمة منه لهم. قوله تعالى: (رب السماوات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين) لما كانت الوثنية يرون أن لكل صنف من الخلق إلها أو أكثر وربما اتخذ قوم منهم إلها غير ما يتخذه غيرهم عقب قوله: (من ربك) بقوله: (رب السماوات) الخ، لئلا يتوهم متوهم منهم أن ربوبيته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليست بالاختصاص كالتي بينهم بل هو تعالى ربه ورب السماوات والارض وما بينهما، ولذلك عقبه أيضا في الاية التالية بقوله: (لا إله إلا هو). وقوله: (إن كنتم موقنين) هذا الاشتراط كما ذكره الزمخشري من قبيل قولنا هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه واشتهروا سخاءه إن بلغك حديثه وحدثت بقصته فالمعنى هو الذي يعرفه الموقنون بأنه رب السماوات والارض وما بينهما إن كنتم منهم عرفتموه بأنه رب كل شئ. قوله تعالى: (لا إله إلا هو يحيي ويميت ربكم ورب آبائكم الاولين) لما كان مدلول الاية السابقة انحصار الربوبية وهي الملك والتدبير فيه تعالى والالوهية وهي
________________________________________
[ 134 ]
المعبودية بالحق من لوازم الربوبية عقبه بكلمة التوحيد النافية لكل إله دونه تعالى. وقوله: (يحيى ويميت) من أخص الصفات به تعالى وهما من شؤن التدبير، وفي ذكرهما نوع تمهيد لما سيأتي من إنذارهم بالمعاد. وقوله: (ربكم ورب آبائكم الاولين) فيه كمال التصريح بأنه ربهم ورب آبائهم فليعبدوه ولا يتعللوا باتباع آبائهم في عبادة الاصنام، ولتكميل التصريح سيقت الجملة بالخطاب فقيل: (ربكم ورب آبائكم). وهما أعني قوله: (يحيى ويميت) وقوله: (ربكم) خبران لمبتدأ محذوف والتقدير هو يحيي ويميت الخ. (بحث روائي) في المجمع في قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة): والليلة المباركة هي ليلة القدر، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام. وفي الكافي بإسناده عن علي بن ابراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم عن حمران أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى: (انا أنزلناه في ليلة مباركة) قال: نعم ليلة القدر وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الاواخر فلم ينزل القرآن إلا في ليلة القدر قال الله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم) قال: يقدر في ليلة القدر كل شئ يكون في تلك السنة الى مثلها من قابل: خير وشر وطاعة ومعصية ومولود وأجل ورزق فما قدر في تلك السنة وقضي فهو المحتوم ولله تعالى فيه المشية. أقول: قوله: فهو المحتوم ولله فيه المشية أي أنه محتوم من جهة الاسباب والشرائط فلا شئ يمنع عن تحققه إلا أن يشاء الله ذلك. وفي البصائر عن عباس بن معروف عن سعدان بن مسلم عن عبد الله بن سنان قال: سألته عن النصف من شعبان فقال: ما عندي فيه شئ ولكن إذا كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قسم فيها الارزاق وكتب فيها الاجال وخرج فيها صكاك الحاج واطلع الله إلى عباده فغفر الله لهم إلا شارب خمر مسكر.
________________________________________
[ 135 ]
فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين فيها يفرق كل أمر حكيم ثم ينهى ذلك ويمضى ذلك. قلت: إلى من ؟ قال: إلى صاحبكم ولو لا ذلك لم يعلم. وفي الدر المنثور أخرج محمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم) قال: يكتب من أم الكتاب في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو موت أو حياة أو مطر حتى يكتب الحاج: يحج فلان ويحج فلان. أقول: والاخبار في ليلة القدر وما يقضى فيها وفي تعيينها كثيرة جدا وسيأتي عمدتها في تفسير سورة القدر إن شاء الله تعالى. * * * بل هم في شك يلعبون - 9. فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين - 10. يغشى الناس هذا عذاب أليم - 11. ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون - 12. أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين - 13. ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون - 14. إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون - 15. يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون - 16. ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم - 17. أن أدوا إلي عباد الله إني لكم رسول أمين - 18. وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين - 19. وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون - 20. وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون - 21. فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون - 22.
________________________________________
[ 136 ]
فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون - 23. واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون - 24. كم تركوا من جنات وعيون - 25. وزروع ومقام كريم - 26. ونعمة كانوا فيها فاكهين - 27. كذلك وأورثناها قوما آخرين - 28. فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين - 29. ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين - 30. من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين - 31. ولقد اخترناهم على علم على العالمين - 32. وآتيناهم من الايات ما فيه بلاء مبين - 33. (بيان) تذكر الايات ارتيابهم في كتاب الله بعد ما ذكرت أنه كتاب مبين نازل في خير ليلة على رسوله لغرض الانذار رحمة من الله، ثم تهددهم بعذاب الدنيا وبطش يوم القيامة وتتمثل لهم بقصة إرسال موسى الى قوم فرعون وتكذيبهم له وإغراقهم. ولا تخلو القصة من إيماء إلى أنه تعالى سينجي النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين به من عتاة قريش بإخراجهم من مكة ثم إهلاك صناديد قريش في تعقيبهم النبي والمؤمنين به. قوله تعالى: (بل هم في شك يلعبون) ضمير الجمع لقوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاضراب عن محذوف يدل عليه السياق السابق أي إنهم لا يوقنون ولا يؤمنون بما ذكر من رسالة الرسول وصفة الكتاب الذي أنزل عليه بل هم في شك وارتياب فيه يلعبون بالاشتغال بدنياهم، وذكر الزمخشري أن الاضراب عن قوله: (إن كنتم موقنين). قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين يغشى الناس) الارتقاب الانتظار وهذا وعيد بالعذاب وهو إتيان السماء بدخان مبين يغشى الناس.
________________________________________
[ 137 ]
واختلف في المراد بهذا العذاب المذكور في الاية. فقيل: المراد به المجاعة التي ابتلى بها أهل مكة فإنهم لما أصروا على كفرهم وأذاهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين به دعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: اللهم سنين كسني يوسف فأجدبت الارض وأصابت قريشا مجاعة شديدة، وكان الرجل لما به من الجوع يرى بينه وبين السماء كالدخان وأكلوا الميتة والعظام ثم جاؤوا الى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وقومك قد هلكوا، ووعدوه إن كشف الله عنهم الجدب أن يؤمنوا، فدعا وسأل الله لهم بالخصب والسعة فكشف عنهم ثم عادوا الى كفرهم ونقضوا عهدهم. وقيل: إن الدخان المذكور في الاية من أشراط الساعة وهو لم يأت بعد وهو يأتي قبل قيام الساعة فيدخل أسماع الناس حتى أن رؤسهم تكون كالرأس الحنيذ. ويصيب المؤمن منه مثل الزكمة وتكون الارض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص ويمكث ذلك أربعين يوما. وربما قيل: إن المراد بيوم الدخان يوم فتح مكة حين دخل جيش المسلمين مكة فارتفع الغبار كالدخان المظلم، وربما قيل: المراد به يوم القيامة، و القولان كما ترى. وقوله: (يغشى الناس) أي يشملهم ويحيط بهم، والمراد بالناس أهل مكة على القول الاول، وعامة الناس على القول الثاني. قوله تعالى: (هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) حكاية قول الناس عند نزول عذاب الدخان أي يقول الناس يوم تأتي السماء بدخان مبين: هذا عذاب أليم ويسألون الله كشفه بالاعتراف بربوبيته وإظهار الايمان بالدعوة الحقة فيقولون: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون. قوله تعالى: (أنى لهم الذكرى وقد جاءهم رسول مبين) أي من أين لهم أن يتذكروا ويذعنوا بالحق و الحال أنه قد جاءهم رسول مبين ظاهر في رسالته لا يقبل الارتياب وهو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفي الاية رد صدقهم في وعدهم. قوله تعالى: (ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون) التولي الاعراض، وضمير
________________________________________
(1) الخصاص: الثقبة والفرجة. (*)
________________________________________
[ 138 ]
(عنه) للرسول و (معلم مجنون) خبران لمبتدا محذوف هو ضمير راجع إلى الرسول والمعنى: ثم أعرضوا عن الرسول وقالوا هو معلم مجنون فرموه أولا بأنه معلم يعلمه غيره فيسند ما تعلمه إلى الله سبحانه، قال تعالى: (ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر) النحل: 103، وثانيا بأنه مجنون مختل العقل. قوله تعالى: (إنا كاشفوا العذاب قليلا إنكم عائدون) أي إنا كاشفون للعذاب زمانا انكم عائدون إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب هذا بناء على القول الاول والاية تأكيد لرد صدقهم فيما وعدوه من الايمان. وأما على القول الثاني فالاقرب أن المعنى: إنكم عائدون الى العذاب يوم القيامة. قوله تعالى: (يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون) البطش - على ما ذكره الراغب - تناول الشئ بصولة، وهذا اليوم بناء على القول الاول المذكور يوم بدر وبناء على القول الثاني يوم القيامة، وربما أيد توصيف البطشة بالكبرى هذا القول الثاني فإن بطش يوم القيامة وعذابه أكبر البطش والعذاب، قال تعالى: (فيعذبه الله العذاب الاكبر) الغاشية: 24، كما أن أجره أكبر الاجر قال تعالى: (ولاجر الاخرة أكبر) النحل: 41. قوله تعالى: (ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم) الفتنة الامتحان والابتلاء للحصول على حقيقة الشئ، وقوله: (وجاءهم رسول كريم) الخ، تفسير للامتحان، والرسول الكريم موسى عليه السلام، والكريم هو المتصف بالخصال الحميدة قال الراغب: الكرم إذا وصف الله تعالى به فهو اسم لاحسانه وإنعامه المتظاهر نحو قوله: (إن ربي غني كريم) وإذا وصف به الانسان فهو اسم للاخلاق والافعال المحمودة التي تظهر منه، ولا يقال: هو كريم حتى يظهر ذلك منه، قال: وكل شئ شرف في بابه فإنه يوصف بالكرم قال تعالى: (وأنبتنا فيها من كل زوج كريم) (وزروع ومقام كريم) (إنه لقرآن كريم) (وقل لهما قولا كريما) انتهى. قوله تعالى: (أن أدوا إلى عباد الله إني لكم رسول أمين) تفسير لمجئ الرسول فإن معنى مجئ الرسول تبليغ الرسالة وكان من رسالة موسى عليه السلام الى فرعون وقومه أن يرسلوا معهم بني إسرائيل ولا يعذبوهم، والمراد بعباد الله بنو إسرائيل وعبر عنهم
________________________________________
[ 139 ]
بذلك استرحاما وتلويحا الى أنهم في استكبارهم وتعديهم عليهم إنما يستكبرون على الله لانهم عباد الله. وفي قوله: (إنى لكم رسول أمين) حيث وصف نفسه بالامانة دفع لاحتمال أن يخونهم في دعوى الرسالة وإنجاء بني إسرائيل من سيطرتهم فيخرج معهم عليهم فيخرجهم من أرضهم كما حكى تعالى عن فرعون إذ قال للملا حوله: (إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره) الشعراء: 25. وقيل: (عباد الله) نداء لفرعون وقومه والتقدير أن أدوا إلى ما آمركم به يا عباد الله، ولا يخلو من التقدير المخالف للظاهر. قوله تعالى: (وأن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين) أي لا تتجبروا على الله بتكذيب رسالتي والاعراض عما أمركم الله فإن تكذيب الرسول في رسالته استعلاء وتجبر على من أرسله والدليل على أن المراد ذلك تعليل النهي بقوله: (إني آتيكم بسلطان مبين) أي حجة بارزة من الايات المعجزة أو حجة المعجزة وحجة البرهان. قيل: ومن حسن التعبير الجمع بين التأديه والامين وكذا بين العلو والسلطان. قوله تعالى: (وإني عذت بربي وربكم أن ترجمون) أي التجأت إليه تعالى من رجمكم إياي فلا تقدرون على ذلك، والظاهر أنه إشارة الى ما آمنه ربه قبل المجئ الى القوم كما في قوله تعالى: (قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) طه: 46. وبما مر يظهر فساد ما قيل: إن هذا كان قبل أن يخبره الله بعجزهم عن رجمه بقوله سبحانه: (فلا يصلون اليكما). قوله تعالى: (وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون) أي إن لم تؤمنوا لي فكونوا بمعزل مني لا لي ولا علي ولا تتعرضوا لي بخير أو شر، وقيل المراد تنحوا عني وانقطعوا، وهو بعيد. قوله تعالى: (فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون) أي دعاه بأن هؤلاء قوم مجرمون وقد ذكر من دعائه السبب الداعي له الى الدعاء وهو إجرامهم الى حد يستحقون معه الهلاك ويعلم ما سأله مما أجاب به ربه تعالى إذ قال: (فأسر بعبادي)
________________________________________
[ 140 ]
الخ، وهو الاهلاك. قوله تعالى: (فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون الاسراء: السير بالليل فيكون قوله: (ليلا) تأكيدا له وتصريحا به، والمراد بعبادي بنو إسرائيل، وقوله: (إنكم متبعون) أي يتبعكم فرعون وجنوده، وهو استئناف يخبر عما سيقع عقيب الاسراء. وفي الكلام إيجاز بالحذف والتقدير فقال له: أسر بعبادي ليلا إنكم متبعون يتبعكم فرعون وجنوده. قوله تعالى: (واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون) قال في المفردات: واترك البحر رهوا أي ساكنا، وقيل: سعة من الطريق وهو الصحيح. انتهى. وقوله: (إنهم جند مغرقون) تعليل لقوله: (واترك البحر رهوا. وفي الكلام إيجاز بالحذف اختصارا والتقدير: أسر بعبادي ليلا يتبعكم فرعون وجنوده حتى إذا بلغتم البحر فاضربه بعصاك لينفتح طريق لجوازكم فجاوزوه واتركه ساكنا أو مفتوحا على حاله فيدخلونه طمعا في إدراككم فهم جند مغرقون. قوله تعالى: (كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك) (كم) للتكثير أي كثيرا ما تركوا، وقوله: (من جنات) الخ... بيان لما تركوا، والمقام الكريم المساكن الحسنة الزاهية، والنعمة بفتح النون التنعم وبناؤها بناء المرة كالضربة وبكسر النون قسم من التنعم وبناؤها بناء النوع كالجلسة وفسروا النعمة ههنا بما يتنعم به وهو أنسب للترك، وفاكهين من الفكاهة بمعنى حديث الانس ولعل المراد به ههنا التمتع كما يتمتع بالفواكه وهي أنواع الثمار. وقوله: (كذلك) قيل: معناه الامر كذلك، وقيل: المعنى نفعل فعلا كذلك لمن نريد إهلاكه، وقيل: الاشارة إلى الاخراج المفهوم من الكلام السابق، والمعنى: مثل ذلك الاخراج أخرجناهم منها. ويمكن أن يكون حالا من مفعول (تركوا) المحذوف والمعنى: كثيرا ما تركوا أشياء كذلك أي على حالها والله أعلم. قوله تعالى: (وأورثناها قوما آخرين) الضمير لمفعول (تركوا) المحذوف المبين بقوله: (من جنات) الخ، والمعنى ظاهر.
________________________________________
[ 141 ]
قوله تعالى: (فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين) بكاء السماء والارض على شئ فائت كناية تخييلية عن تأثر هما عن فوته وفقده فعدم بكائهما عليهم بعد إهلاكهم كناية عن هوان أمرهم على الله وعدم تأثير هلاكهم في شئ من أجزاء الكون. وقوله: (وما كانوا منظرين) كناية عن سرعة جريان القضاء الالهي والقهر الربوبي في حقهم وعدم مصادفته لمانع يمنعه أو يحتاج إلى علاج في رفعه حتى يتأخر به. قوله تعالى: (ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين) وهو ما يصيبهم وهم في أسارة فرعون من ذبح الابناء واستحياء النساء وغير ذلك. قوله تعالى: (من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين) (من فرعون) بدل من قوله: (من العذاب) إما بحذف مضاف والتقدير من عذاب فرعون، أو من غير حذف بجعل فرعون عين العذاب دعوى للمبالغة، وقوله: (إنه كان عاليا من المسرفين) أي متكبرا من أهل الاسراف والتعدي عن الحد. قوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين) أي اخترناهم على علم منا باستحقاقهم الاختيار على ما يفيده السياق. والمراد بالعالمين جميع العالمين من الامم إن كان المراد بالاختيار الاختيار من بعض الوجوه ككثرة الانبياء فإنهم يمتازون من سائر الامم بكثرة الانبياء المبعوثين منهم ويمتازون بأن مر عليهم دهر طويل في التيه وهم يتظلون بالغمام ويأكلون المن والسلوى إلى غير ذلك. وعالمو أهل زمانهم إن كان المراد بالاختيار مطلقة فإنهم لم يختاروا على الامة الاسلامية التي خاطبهم الله تعالى بمثل قوله: (كنت خير أمة أخرجت للناس) آل عمران: 110، وقوله: (هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج) الحج: 78. قوله تعالى: (وآتيناهم من الايات ما فيه بلاء مبين) البلاء الاختبار والامتحان أي وأعطينا بني إسرائيل من الايات المعجزات ما فيه امتحان ظاهر ولقد أوتوا من الايات المعجزات ما لم يعهد في غيرهم من الامم وابتلوا بذلك ابتلاء مبينا. قيل: وفي قوله: (فيه) إشارة إلى أن هناك امورا اخرى ككونه معجزة. وفي تذييل القصة بهذه الايات الاربع أعني قوله: (ولقد نجينا بني إسرائيل
________________________________________
[ 142 ]
- إلى قوله - بلاء مبين) نوع تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإيماء إلى أن الله تعالى سينجيه والمؤمنين به من فراعنة مكة ويختارهم ويمكنهم في الارض فينظر كيف يعملون. (بحث روائي) عن جوامع الجامع في قوله تعالى: (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) واختلف في الدخان فقيل: إنه دخان يأتي من السماء قبل قيام الساعة يدخل في أسماع الكفرة حتى يكون رأس الواحد كالرأس الحنيذ ويعتري المؤمن منه كهيئة الزكام ويكون الارض كلها كبيت أوقد فيه ليس فيه خصاص يمد ذلك أربعين يوما، وروي ذلك عن علي وابن عباس والحسن. أقول: ورواه في الدر المنثور عنهم وأيضا عن حذيفة بن اليمان وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ورواه أيضا عن ابن عمر موقوفا. وفي تفسير القمي في الاية قال: ذلك إذا خرجوا في الرجعة من القبر - يغشى الناس كلهم الظلمة فيقولون: هذا عذاب أليم ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون. وفي المجمع وروى زرارة بن أعين عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: بكت السماء على يحيى بن زكريا والحسين بن علي عليه السلام أربعين صباحا. قلت: فما بكاؤها ؟ قال: كانت تطلع حمراء وتغيب حمراء. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن عبيد المكتب عن إبراهيم قال: ما بكت السماء منذ كانت الدنيا إلا على اثنين. قيل لعبيد: أليس السماء والارض تبكي على المؤمن ؟ قال: ذاك مقامه وحيث يصعد عمله. قال: وتدري ما بكاء السماء ؟ قال: لا. قال: تحمر وتصير وردة كالدهان. إن يحيى بن زكريا لما قتل احمرت السماء وقطرت دما، وإن الحسين بن علي يوم قتل احمرت السماء. وفي الفقيه عن الصادق عليه السلام قال: إذا مات المؤمن بكت عليه بقاع الارض التي كان يعبد الله عز وجل فيها والباب الذي كان يصعد منه عمله وموضع سجوده.
________________________________________
(1) الخليذ: المشوي. (*)
________________________________________
[ 143 ]
أقول: وفي هذا المعنى ومعنى الروايتين السابقتين روايات أخر من طرق الشيعة وأهل السنة. ولو بني في معنى بكاء السماء والارض على ما يظهر من هذه الروايات لم يحتج إلى حمل بكائهما على الكناية التخييلية. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (وقالوا معلم مجنون) قال: قالوا ذلك لما نزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه واله وسلم فأخذه الغشي فقالوا: هو مجنون. * * * إن هؤلاء ليقولون - 34. إن هي إلا موتتنا الاولى وما نحن بمنشرين - 35. فأتوا بابائنا إن كنتم صادقين - 36. أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين - 37. وما خلقنا السموات والارض وما بينهما لاعبين - 38. ما خلقنا هما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون - 39. إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين - 40. يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون - 41. إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم - 42. إن شجرت الزقوم - 43. طعام الاثيم - 44. كالمهل يغلي في البطون - 45. كغلي الحميم - 46. خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم - 47. ثم صبوا فوق رأسه من عذاب لحميم - 48. ذق إنك أنت العزيز الكريم - 49. إن هذا ما كنتم به تمترون - 50.
________________________________________
[ 144 ]
إن المتقين في مقام أمين - 51. في جنات وعيون - 52. يلبسون من سندس وإستبرق متقابلين - 53. كذلك وزوجناهم بحور عين - 54. يدعون فيها بكل فاكهة آمنين - 55. لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الاولى ووقاهم عذاب الجحيم - 56. فضلا من ربك ذلك هو الفوز العظيم - 57. فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون - 58. فارتقب إنهم مرتقبون - 59. (بيان) لما أنذر القوم بالعذاب الدنيوي ثم بالعذاب الاخروي وتمثل للعذاب الدنيوي بما جرى على قوم فرعون إذ جاءهم موسى عليه السلام بالرسالة من ربه فكذبوه فأخذهم الله بعذاب الاغراق فاستأصلهم. رجع الى الكلام في العذاب الاخروي فذكر إنكار القوم للمعاد وقولهم أن ليس بعد الموتة الاولى حياة فاحتج على إثبات المعاد بالبرهان ثم أنبا عن بعض ما سيلقاه المجرمون من العذاب في الاخرة وبعض ما سيلقاه المتقون من النعيم المقيم وعند ذلك تختتم السورة بما بدأت به وهو نزول الكتاب للتذكر وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بالارتقاب. قوله تعالى: (إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الاولى وما نحن بمنشرين) رجوع الى أول الكلام من قوله: (بل هم في شك يلعبون) والاشارة بهؤلاء الى قريش ومن يلحق بهم من العرب الوثنيين المنكرين للمعاد، وقولهم: (إن هي إلا موتتنا الاولى) يريدون به نفي الحياة بعد الموت الملازم لنفي المعاد بدليل قولهم بعده: (وما نحن بمنشرين) أي بمبعوثين، قال في الكشاف يقال: أنشر الله الموتى ونشرهم إذا بعثهم. انتهى.
________________________________________
[ 145 ]
فقولهم: (إن هي إلا موتتنا الاولى) الضمير فيه للعاقبة والنهاية أي ليست عاقبة أمرنا ونهاية وجودنا وحياتنا إلا موتتنا الاولى فنعدم بها ولا حياة بعدها أبدا. ووجه تقييد الموتة في الاية بالاولى، بأنه ليس بقيد احترازي إذ لا ملازمة بين الاول والاخر أو بين الاول والثاني فمن الجائز أن يكون هناك شئ أول ولا ثاني له ولا في قباله آخر، كذا قيل. وهناك وجه آخر ذكره الزمخشري في الكشاف فقال: فإن قلت: كان الكلام واقعا في الحياة الثانية لا في الموت فهلا قيل: إلا حياتنا الاولى وما نحن بمنشرين كما قيل: إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين، وما معنى قوله: (إلا موتتنا الاولى) ؟ وما معنى ذكر الاولى ؟ كأنهم وعدوا موتة أخرى حتى نفوها وجحدوها وأثبتوا الاولى. قلت: معناه - والله الموفق للصواب - أنهم قيل لهم: إنكم تموتون موتة تتعقبها حياة كما تقدمتكم موتة قد تعقبتها حياة وذلك قوله عز وجل: (وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم) فقالوا: إن هي إلا موتتنا الاولى يريدون ما الموتة التي من شأنها أن تتعقبها حياة إلا الموتة الاولى دون الموتة الثانية، وما هذه الصفة التي تصفون بها الموتة من تعقب الحياة لها إلا للموتة الاولى خاصة فلا فرق إذا بين هذا وبين قوله: (إن هي إلا حياتنا الدنيا) في المعنى انتهى. ويمكن أن يوجه بوجه ثالث وهو أن يقولوا: (إن هي إلا موتتنا الاولى) بعد ما سمعوا قوله تعالى: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) الاية، وقد تقدم في تفسير الاية أن الاماتة الاولى هي الموتة بعد الحياة الدنيا، والاماتة الثانية هي التي بعد الحياة البرزخية فهم في قولهم: (إن هي إلا موتتنا الاولى) ينفون الموتة الثانية الملازمة للحياة البرزخية التي هي حياة بعد الموت فإنهم يرون موت الانسان انعداما له وبطلانا لذاته. ويمكن أن يوجه بوجه رابع وهو أن يرجع التقيد بالاولى الى الحكاية دون المحكي وذلك بأن يكون الذي قالوا إنما هو (إن هي إلا موتتنا) ويكون معنى الكلام
________________________________________
[ 146 ]
أن هؤلاء ينفون الحياة بعد الموت ويقولون: إن هي إلا موتتنا يريدون الموتة الاولى من الموتتين اللتين ذكرنا في قولنا: (قالوا ربنا أمتنا اثنتين) الاية. والوجوه الاربع مختلفة في القرب من الفهم فأقربها ثالثها ثم الرابع ثم الاول. قوله تعالى: (فأتوا بابائنا إن كنتم صادقين) تتمة كلام القوم وخطاب منهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين به حيث كانوا يذكرون لهم البعث والاحياء فاحتجوا لرد الاحياء بعد الموت بقولهم: (فأتوا بابائنا إن كنتم صادقين) أي فليحي آباؤنا الماضون بدعائكم أو بأي وسيلة اتخذتموها حتى نعلم صدقكم في دعواكم أن الاموات سيحيون وأن الموت ليس بانعدام. قوله تعالى: (أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين) تهديد للقوم بالاهلاك كما أهلك قوم تبع والذين من قبلهم من الامم. وتبع هذا ملك من ملوك الحمير باليمن واسمه على ما ذكروا أسعد أبو كرب وقيل: سعد أبو كرب وسيأتي في البحث الروائي نبذة من قصته وفي الكلام نوع تلويح إلى سلامة تبع نفسه من الاهلاك. قوله تعالى: (وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون) ضمير التثنية في قوله: (وما بينهما) لجنسي السماوات والارض ولذا لم يجمع، والباء في قوله (بالحق) للملابسة أي ما خلقنا هما إلا متلبستين بالحق، وجوزبعضهم كونها للسببية أي ما خلقنا هما بسبب من الاسباب إلا بسبب الحق الذي هو الايمان والطاعة والبعث والجزاء، ولا يخفى بعده. ومضمون الايتين حجة برهانية على ثبوت المعاد وتقريرها أنه لو لم يكن وراء هذا العالم عالم ثابت باق بل كان الله لا يزال يوجد أشياء ثم يعدمها ثم يوجد أشياء أخر ثم يعدمها ويحيي هذا ثم يميته ويحيي آخر وهكذا كان لاعبا في فعله عابثا به واللعب عليه تعالى محال ففعله حق له غرض صحيح فهناك عالم آخر باق دائمي ينتقل إليه الاشياء وما في هذا العالم الدنيوي الفاني البائد مقدمة للانتقال إلى ذلك العالم وهو الحياة الاخرة. وقد فصلنا القول في هذا البرهان في تفسير الاية 16 من سورة الانبياء والاية 27 من سورة ص فليراجع.
________________________________________
[ 147 ]
وقوله: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) تقريع لهم بالجهل. قوله تعالى: (إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين) بيان لصفة اليوم الذي يثبته البرهان السابق وهو يوم القيامة الذي فيه يقوم الناس لرب العالمين. وسماه الله يوم الفصل لانه يفصل فيه بين الحق والباطل وبين المحق والمبطل والمتقين والمجرمين أو لانه يوم القضاء الفصل منه تعالى. وقوله: (ميقاتهم أجمعين) أي موعد الناس أجمعين أو موعد من تقدم ذكره من قوم تبع وقوم فرعون ومن تقدمهم وقريش وغيرهم. قوله تعالى: (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون) بيان ليوم الفصل، والمولى هو الصاحب الذي له أن يتصرف في أمور صاحبه ويطلق على من يتولى الامر وعلى من يتولى أمره والمولى الاول في الاية هو الاول والثاني هو الثاني. والاية تنفي أولا إغناء مولى عن مولاه يومئذ، وتخبر ثانيا أنهم لا ينصرون والفرق بين المعنيين أن الاغناء يكون فيما استقل المغني في عمله ولا يكون لمن يغني عنه صنع في ذلك، والنصرة إنما تكون فيما كان للمنصور بعض أسباب الظفر الناقصة ويتم له ذلك بنصرة الناصر. والوجه في انتفاء الاغناء والنصر يومئذ أن الاسباب المؤثرة في نشأة الحياة الدنيا تسقط يوم القيامة، قال تعالى: (وتقطعت بهم الاسباب) البقرة: 166، وقال: (فزيلنا بينهم) يونس: 28. قوله تعالى: (إلا من رحم الله إنه هو العزيز الرحيم) استثناء من ضمير (لا ينصرون) والاية من أدلة الشفاعة يومئذ وقد تقدم تفصيل القول في الشفاعة في الجزء الاول من الكتاب. هذا على تقدير رجوع ضمير (لا ينصرون) الى الناس جميعا على ما هو الظاهر. وأما لو رجع الى الكفار كما قيل فالاستثناء منقطع والمعنى: لكن من رحمه الله وهم المتقون فإنهم في غنى عن مولى يغني عنهم وناصر ينصرهم. وأما ما جوزه بعضهم من كونه استثناء متصلا من (مولى) فقد ظهر فساده مما قدمناه فإن الاغناء إنما هو فيما لم يكن عند الانسان شئ من أسباب النجاة ومن كان
________________________________________
[ 148 ]
على هذه الصفة لم يغن عنه مغن ولا استثناء والشفاعة نصرة تحتاج إلى بعض أسباب النجاة وهو الدين المرضي وقد تقدم في بحث الشفاعة، نعم يمكن أن يوجه بما سيجئ في رواية الشحام. وقوله: (إنه هو العزيز الرحيم) أي الغالب الذي لا يغلبه شئ حتى يمنعه من تعذيب من يريد عذابه، ومفيض الخير على من يريد أن يرحمه ويفيض الخير عليه ومناسبة الاسمين الكريمين لمضامين الايات ظاهرة. قوله تعالى: (إن شجرة الزقوم طعام الاثيم) تقدم الكلام في شجرة الزقوم في تفسير سورة الصافات، والاثيم من استقر فيه الاثم إما بالمداومة على معصية أو بالاكثار من المعاصي والاية إلى تمام ثمان آيات بيان حال أهل النار. قوله تعالى: كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم) المهل هو المذاب من النحاس والرصاص وغيرهما، والغلي والغليان معروف، والحميم الماء الحار الشديد الحرارة، وقوله: (كالمهل) خبر ثان لقوله: (إن) كما أن قوله: (طعام الاثيم) خبر أول، وقوله: (يغلي في البطون كغلي الحميم) خبر ثالث، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: (خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم) الاعتلاء الزعزعة والدفع بعنف وسواء الجحيم وسطه، والخطاب للملائكة الموكلين على النار أي نقول للملائكة خذوا الاثيم وادفعوه بعنف الى وسط النار لتحيط به قال تعالى: (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) التوبة: 49. قوله تعالى: (ثم صبوا فوق رأسه من عذاب الحميم) كأن المراد بالعذاب ما يعذب به، وإضافته الى الحميم بيانية والمعنى: ثم صبوا فوق رأسه من الحميم الذي يعذب به. قوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) خطاب يخاطب به الاثيم وهو يقاسي العذاب بعد العذاب، وتوصيفه بالعزة والكرامة على ما هو عليه من الذلة واللامة استهزاء به تشديدا لعذابه وقد كان يرى في الدنيا لنفسه عزة وكرامة لا تفارقانه كما يظهر مما حكى الله سبحانه من قوله: (وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت الى ربي إن لي عنده للحسنى) حم السجدة: 50.
________________________________________
[ 149 ]
قوله تعالى: (إن هذا ما كنتم به تمترون) الامتراء الشك والارتياب، والاية تتمه قولهم له: (ذق) الخ، وفيها تأكيد وإعلام لهم بخطإهم وزلتهم في الدنيا حيث ارتابوا فيما يشاهدونه اليوم من العذاب مشاهدة عيان، ولذا عبر عن تحمل العذاب بالذوق لما أنه يعبر عن إدراك ألم المولمات ولذة الملذات إدراكا تاما بالذوق. ويمكن أن تكون الاية استئنافا من كلام الله سبحانه يخاطب به الكفار بعد ذكر حالهم في يوم القيامة، وربما أيده قوله: (كنتم به تمترون) بخطاب الجمع والخطاب في الايات السابقة بالافراد. قوله تعالى: (إن المتقين في مقام أمين) المقام محل القيام بمعنى الثبوت والركوز ولذا فسر أيضا بموضع الاقامة، والامين صفة من الامن بمعنى عدم إصابة المكروه، والمعنى: إن المتقين - يوم القيامة - ثابتون في محل ذي أمن من إصابة المكروه مطلقا. وبذلك يظهر أن نسبة الامن إلى المقام بتوصيف المقام بالامين من المجاز في النسبة. قوله تعالى: (في جنات وعيون) بيان لقوله: (في مقام أمين) وجعل العيون ظرفا لهم باعتبار المجاورة ووجودها في الجنات التي هي ظرف، وجمع الجنات باعتبار اختلاف أنواعها أو باعتبار أن لكل منهم وحده جنة أو أكثر. قوله تعالى: يلبسون من سندس واستبرق متقابلين) السندس الرقيق من الحرير والاستبرق الغليظ منه وهما معربان من الفارسية. وقوله: (متقابلين) أي يقابل بعضهم بعضا للاستيناس إذ لا شر ولا مكروه عندهم لكونهم في مقام أمين. قوله تعالى: (كذلك وزوجناهم بحور عين) أي الامر كذلك أي كما وصفناه والمراد بتزويجهم بالحور جعلهم قرناء لهن من الزوج بمعنى القرين وهو أصل التزويج في اللغة، والحور جمع حوراء بمعنى شديدة سواد العين وبياضها أو ذات المقلة السوداء كالظباء، والعين جمع عيناء بمعنى عظيمة العينين، وظاهر كلامه تعالى أن الحور العين غير نساء الدنيا الداخلة في الجنة. قوله تعالى: (يدعون فيها بكل فاكهة آمنين) أي آمنين من ضررها.
________________________________________
[ 150 ]
قوله تعالى: (لا يذوقون فيها الموت إلا الموته الاولى ووقاهم عذاب الجحيم) أي إنهم في جنة الخلد أحياء بحياة أبدية لا يعتريها موت. وقد استشكل في الاية بأن استثناء الموتة الاولى من قوله: (لا يذوقون فيها الموت) يفيد أنهم يذوقون الموتة الاولى فيها، والمراد خلافه قطعا، وبتقرير آخر الموتة الاولى هي موتة الدنيا وقد مضت بالنسبة إلى أهل الجنة، والتلبس في المستقبل بأمر ماض محال قطعا فما معنى استثناء الموتة الاولى من عدم الذوق في المستقبل ؟ وهنا إشكال آخر لم يتعرضوا له وهو أنه قد تقدم في قوله تعالى: (ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين) المؤمن: 11، أن بين الحياة الدنيا والساعة موتتين: موتة بالانتقال من الدنيا الى البرزخ وموتة بالانتقال من البرزخ الى الاخرة، والظاهر أن المراد بالموتة الاولى في الاية هي موتة الدنيا الناقلة للانسان الى البرزخ فهب أنا أصلحنا استثناء الموتة الاولى بوجه فما بال الموتة الثانية لم تستثن ؟ وما الفرق بينهما وهما موتتان ذاقوهما قبل الدخول في جنة الخلد ؟ وأجيب عن الاشكال الاول بأن الاستثناء منقطع، والمعنى: لكنهم قد ذاقوا الموتة الاولى في الدنيا وقد مضت فعموم قوله: (لا يذوقون فيها الموت) على حاله. وعلى تقدير عدم كون الاستثناء منقطعا (إلا) بمعنى سوى و (إلا الموتة الاولى) بدل من (الموت) وليس من الاستثناء في شئ، والمعنى: لا يذوقون فيها سوى الموتة الاولى من الموت أما الموتة الاولى فقد ذاقوها ومحال أن تعود وتذاق وهي اولى. وأجيب ببعض وجوه أخر لا يعبأ به، وأنت خبير بأن شيئا من الوجهين لا يوجه اتصاف الموتة بالاولى وقد تقدم في تفسير قوله: (إن هي إلا موتتنا الاولى) الاية، وجوه في ذلك. وأما الاشكال الثاني فيمكن أن يجاب عنه بالجواب الثاني المتقدم لما أن هناك موتتين الموتة الاولى وهي الناقلة للانسان من الدنيا الى البرزخ والموتة الثانية وهي الناقلة له من البرزخ إلى الاخرة فإذا كان (إلا) في قوله: (إلا الموتة الاولى) بمعنى سوى والمجموع بدلا من الموت كانت الاية مسوقة لنفي غير الموتة الاولى وهي الموتة الثانية التي هي موتة البرزخ فلا موت في جنة الاخرة لا موتة الدنيا لانها تحققت لهم قبلا ولا غير موتة الدنيا التي هي موتة البرزخ، ويتبين بهذا وجه تقييد الموتة بالاولى.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page