• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 301 الي 325


[ 301 ]
لما انصرف النبي ص عن الخندق ووضع عنه اللامة واغتسل واستحم تبدى له جبريل فقال: عذيرك من محارب ألا أراك أن قد وضعت عنك اللامة وما وضعناها بعد. فوثب رسول الله ص فزعا فعزم على الناس أن لا يصلوا صلاة العصر حتى يأتوا قريظة فلبس الناس السلاح فلم يأتوا بنى قريظة حتى غربت الشمس واختصم الناس فقال بعضهم: ان رسول الله عزم علينا أن لا نصلى حتى نأتى قريظة فانما نحن في عزمة رسول الله ص فليس علينا اثم، وصلى طائفة من الناس احتسابا وتركت طائفة منهم الصلاة حتى غربت الشمس فصلوها حين جاؤا بنى قريظة احتسابا فلم يعنف رسول الله ص واحدا من الفريقين. وذكر عروة أنه بعث على بن أبى طالب على المقدم ودفع إليه اللواء وأمره أن ينطلق حتى يقف بهم على حصن بنى قريظة ففعل وخرج رسول الله على آثارهم فمر على مجلس من الانصار في بنى غنم ينتظرون رسول الله ص فزعموا أنه قال: مر بكم الفارس آنفا فقالوا: مر بنا دحية الكلبى على بغلة شهباء تحته قطيفة ديباج فقال رسول الله ص: ليس ذلك بدحية ولكنه جبرائيل أرسل إلى بنى قريظة ليزلزلهم ويقذف في قلوبهم الرعب. قالوا: وسار على حتى إذا دنا من الحصن سمع منهم مقالة قبيحة لرسول الله ص فرجع حتى لقى رسول الله ص بالطريق فقال: يا رسول الله لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الاخابث. قال: أظنك سمعت لى منهم أذى ؟ فقال: نعم يا رسول الله فقال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا، فلما دنا رسول الله ص من حصونهم قال: يا اخوة القردة والخنازير ! هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته ؟ فقالوا: يا أبا القاسم ما كنت جهولا. وحاصرهم رسول الله ص خمسا وعشرين ليلة حتى أجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب، وكان حيى بن أخطب دخل مع بنى قريظة في حصنهم حين رجعت قريش وغطفان فلما أيقنوا أن رسول الله ص غير منصرف عنهم حتى يناجزهم قال كعب بن أسد: يا معشر يهود قد نزل بكم من الامر ما ترون وانى عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم. قالوا: ما هن ؟
________________________________________
[ 302 ]
قال: نبايع هذا الرجل ونصدقه فو الله لقد تبين لكم أنه نبى مرسل وأنه الذى تجدونه في كتابكم فتأمنوا على دمائكم وأموالكم ونسائكم. قالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره. قال: فإذا أبيتم على هذا فهلموا فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد رجالا مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد فان نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا يهمنا وان نظهر لنجدن النساء والابناء. فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين ؟ فما خير في العيش بعدهم. قال: فان أبيتم على هذه فان الليلة ليلة السبت وعسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا فعلنا نصيب منهم غرة فقالوا: نفسد سبتنا ؟ ونحدث فيه ما أحدث من كان قبلنا فأصابهم ما قد علمت من المسخ ؟ فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته امه ليلة واحدة من الدهر حازما. قال الزهري: وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين سألوه أن يحكم فيهم رجلا: اختاروا من شئتم من أصحابي، فاختاروا سعد بن معاذ فرضى بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بسلاحهم فجعل في قبته وأمر بهم فكتفوا واوثقوا وجعلوا في دار اسامة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى سعد بن معاذ فجئ به فحكم فيهم بأن يقتل مقاتلوهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم وتغنم أموالهم وأن عقارهم للمهاجرين دون الانصار وقال للانصار: انكم ذو عقار وليس للمهاجرين عقار، فكبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله عز وجل، وفى بعض الروايات: لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة - وأرقعة جمع رقيع اسم سماء الدنيا. فقتل رسول الله مقاتليهم، وكانوا فيما زعموا ستمائة مقاتل، وقيل: قتل منهم أربعمائة وخمسين رجلا وسبى سبعمائة وخمسين، وروى أنهم قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ارسالا: يا كعب ما ترى يصنع بنا ؟ فقال كعب: أفى كل موطن تقولون ؟ ألا ترون أن الداعي لا ينزع ومن يذهب منكم لا يرجع هو والله القتل.
________________________________________
[ 303 ]
وأتى بحيى بن أخطب عدو الله عليه حلة فاختية قد شقها عليه من كل ناحية كموضع الانملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما بصر برسول الله ص فقال: أما والله ما لمت نفسي على عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل ثم قال: يا أيها الناس انه لا بأس بأمر الله كتاب الله وقدره ملحمة كتبت على بنى اسرائيل ثم جلس فضرب عنقه. ثم قسم رسول الله ص نساءهم وأبناءهم وأموالهم على المسلمين وبعث بسبايا منهم إلى نجد مع سعد بن زيد الانصاري فابتاع بهم خيلا وسلاحا، قالوا: فلما انقضى شأن بنى قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ فرجعه رسول الله ص إلى خيمته التى ضربت عليه في المسجد. وروى عن جابر بن عبد الله قال: جاء جبرائيل إلى رسول الله ص فقال: من هذا العبد الصالح الذى مات فتحت له أبواب السماء وتحرك له العرش فخرج رسول الله ص فإذا سعد بن معاذ قد قبض. أقول: وروى القصة القمى في تفسيره مفصلة وفيه: فاخرج كعب بن اسيد مجموعة يداه إلى عنقه فلما نظر إليه رسول الله ص قال له: يا كعب أما نفعك وصية ابن الحواس الحبر الذكى الذى قدم عليكم من الشام فقال: تركت الخمر والخمير وجئت إلى البؤس والتمور لنبى يبعث مخرجه بمكة ومهاجرته في هذه البحيرة يجتزى بالكسيرات والتميرات، ويركب الحمار العرى، في عينيه حمرة، وبين كتفيه خاتم النبوة، يضع سيفه على عاتقه، لا يبالى من لاقى منكم، يبلغ سلطانه منقطع الخف والحافر فقال قد كان ذلك يا محمد ولو لا أن اليهود يعيروني أنى جزعت عند القتل لامنت بك وصدقتك ولكني على دين اليهود عليه أحيا وعليه أموت. فقال رسول الله ص: قدموه واضربوا عنقه فضربت. وفيه أيضا: فقتلهم رسول الله ص في البردين بالغداة والعشي في ثلاثة أيام وكان يقول: اسقوهم العذب وأطعموهم الطيب وأحسنوا أساراهم حتى قتلهم كلهم فأنزل الله عز وجل فيهم: (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم - إلى قوله - وكان الله على كل شئ قديرا).
________________________________________
[ 304 ]
وفى المجمع: روى أبو القاسم الحسكاني عن عمرو بن ثابت عن أبى اسحاق عن على ع قال: فينا نزلت (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) فأنا والله المنتظر ما بدلت تبديلا. * * * يا أيها النبي قل لازواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا - 28. وان كنتن تردن الله ورسوله والدار الاخرة فان الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما - 29. يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا - 30. ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقا كريما - 31. يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى في قلبه مرض وقلن قولا معروفا - 32. وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا - 33. واذ كرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ان الله كان لطيفا خبيرا - 34. ان المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين
________________________________________
[ 305 ]
والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدقين والمتصدقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما - 35. (بيان) آيات راجعة إلى أزواج النبي ص تأمره أولا: أن ينبئهن أن ليس لهن من الدنيا وزينتها الا العفاف والكفاف ان اخترن زوجية النبي ص، ثم تخاطبهن ثانيا: انهن واقفات في موقف صعب على ما فيه من العلو والشرف فان اتقين الله يؤتين أجرهن مرتين وان أتين بفاحشة مبينة يضاعف لهن العذاب ضعفين ويأمرهن بالعفة ولزوم بيوتهن من غير تبرج والصلاة والزكاة وذكر ما يتلى في بيوتهن من الايات والحكمة ثم يعد مطلق الصالحين من الرجال والنساء وعدا بالمغفرة والاجر العظيم. قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لازواجك) إلى تمام الايتين، سياق الايتين يلوح أن أزواج النبي أو بعضهن كانت لا ترتضي ما في عيشتهن في بيت النبي ص من الضيق والضنك فاشتكت إليه ذلك واقترحت عليه أن يسعدهن في الحياة بالتوسعة فيها وايتائهن من زينتها. فأمر الله سبحانه نبيه أن يخيرهن بين أن يفارقنه ولهن ما يردن وبين أن يبقين عنده ولهن ما هن عليه من الوضع الموجود. وقد ردد أمرهن بين أن يردن الحياة الدنيا وزينتها وبين أن يردن الله ورسوله والدار الاخرة، وهذا الترديد يدل أولا: أن الجمع بين سعة العيش وصفائها بالتمتع من الحياة وزينتها وزوجية النبي ص والعيشة في بيته مما لا يجتمعان.
________________________________________
[ 306 ]
وثانيا: أن كلا من طرفي الترديد مقيد بما يقابل الاخر، والمراد بارادة الحياة الدنيا وزينتها جعلها هي الاصل سواء أريدت الاخرة أو لم يرد، والمراد بارادة الحياة الاخرة جعلها هي الاصل في تعلق القلب بها سواء توسعت معها الحياة الدنيا ونيلت الزينة وصفاء العيش أو لم يكن شئ من ذلك. ثم الجزاء أعنى نتيجة اختيارهن كلا من طرفي الترديد مختلف فلهن على تقدير اختيارهن الحياة الدنيا وزينتها بمفارقة النبي ص أن يطلقهن ويمتعهن جمعاء من مال الدنيا، وعلى تقدير بقائهن على زوجية النبي صلى الله عليه وآله وسلم واختيار الاخرة على الحياة الدنيا وزينتها الاجر العظيم عند الله لكن لا مطلقا بل بشرط الاحسان والعمل الصالح. ويتبين بذلك أن ليس لزوجية النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حيث هي زوجية كرامة عند الله سبحانه وانما الكرامة لزوجيته المقارنة للاحسان والتقوى ولذلك لما ذكر ثانيا علو منزلتهن قيده أيضا بالتقوى فقال: (لستن كأحد من النساء ان اتقيتن) وهذا كقوله في النبي وأصحابه: (محمد رسول الله والذين آمنوا معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا - إلى أن قال - وعد الله الذين آمنوا منهم وعملوا الصالحات أجرا عظيما) حيث مدحهم عامة بظاهر أعمالهم أولا ثم قيد وعدهم الاجر العظيم بالايمان والعمل الصالح. وبالجملة فاطلاق قوله: (ان أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات: 10 على حاله غير منتقض بكرامة أخرى بسبب أو نسب أو غير ذلك. فقوله: (يا أيها النبي قل لازواجك) أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يبلغ الايتين أزواجه ولازمه أن يطلقهن ويمتعهن ان اخترن الشق الاول ويبقيهن على زوجيته ان اخترن الله ورسوله والدار الاخرة. وقوله: (ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها) ارادة الحياة الدنيا وزينتها كناية بقرينة المقابلة عن اختيارها وتعلق القلب بتمتعاتها والاقبال عليها والاعراض عن الاخرة. وقوله: (فتعالين أمتعكن وأسر حكن سراحا جميلا) قال في الكشاف: أصل تعال أن يقوله من في المكان المرتفع لمن في المكان المستوطأ ثم كثرت حتى استوت في
________________________________________
[ 307 ]
استعماله الامكنة، ومعنى تعالين أقبلن بارادتكن واختياركن لاحد أمرين ولم يرد نهوضهن بأنفسهن كما تقول: أقبل يخاصمني وذهب يكلمني وقام يهددني. انتهى. والتمتيع اعطاؤهن عند التطليق ما لا يتمعتن به والتسريح هوالتطليق والسراح الجميل هو الطلاق من غير خصومة ومشاجرة بين الزوجين. وفى الاية أبحاث فقهية أوردها المفسرون والحق أن ما تتضمنه من الاحكام الشخصية خاصة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا دليل من جهة لفظها على شموله لغيره وتفصيل القول في الفقه. وقوله: (وان كنتن تردن الله ورسوله والدار الاخرة) فقد تقدم أن المقابلة بين هذه الجملة وبين قوله: (ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها) الخ، تقيد كلا منهما بخلاف الاخرى وعدمها، فمعنى الجملة: وان كنتن تردن وتخترن طاعة الله ورسوله وسعادة الدار الاخرة مع الصبر على ضيق العيش والحرمان من زينة الحياة الدنيا وهى مع ذلك كناية عن البقاء في زوجية النبي ص والصبر على ضيق العيش والا لم يصح اشتراط الاحسان في الاجر الموعود وهو ظاهر. فالمعنى: وان كنتن تردن وتخترن البقاء على زوجية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصبر على ضيق العيش فان الله هيأ لكن أجرا عظيما بشرط أن تكن محسنات في أعمالكن مضافا إلى ارادتكن الله ورسوله والدار الاخرة فان لم تكن محسنات لم يكن لكن الا خسران الدنيا والاخرة جميعا. قوله تعالى: (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينه يضاعف لها العذاب ضعفين) الخ، عدل عن مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيهن إلى مخاطبتهن أنفسهن لتسجيل ما لهن من التكليف وزيادة التوكيد، والاية والتى بعدها تقرير وتوضيح بنحو لما يستفاد من قوله: (فان الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما) اثباتا ونفيا. فقوله: (من يأت منكن بفاحشة مبينة) الفاحشة الفعلة البالغة في الشناعة والقبح وهى الكبيرة كايذاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والافتراء والغيبة وغير ذلك، والمبينة هي الظاهرة. وقوله: (يضاعف لها العذاب ضعفين) أي حال كونه ضعفين والضعفان المثلان
________________________________________
[ 308 ]
ويؤيد هذا المعنى قول في جانب الثواب بعد: (نؤتها أجرها مرتين) فلا يعبأ بما قيل ان المراد بمضاعفة العذاب ضعفين تعذيبهم بثلاثة أمثاله بتقريب أن مضاعفة العذاب زيادته وإذا زيد على العذاب ضعفاه صار المجموع ثلاثة أمثاله. وختم الاية بقوله: (وكان ذلك على الله يسيرا) للاشارة إلى أنه لا مانع من ذلك من كرامة الزوجية ونحوها إذ لا كرامة الا للتقوى وزوجية النبي صلى الله عليه وآله وسلم انما تؤثر الاثر الجميل إذا قارن التقوى وأما مع المعصية فلا تزيد الا بعدا ووبالا. قوله تعالى: (ومن يقنت منكن لله ورسوله ويعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين) الخ، القنوت الخضوع، وقيل: الطاعة وقيل: لزوم الطاعة مع الخضوع، والاعتاد التهيئة، والرزق الكريم مصداقه الجنة. والمعنى: ومن يخضع منكن لله ورسوله أو لزم طاعة الله ورسوله مع الخضوع ويعمل عملا صالحا نعطها أجرها مرتين أي ضعفين وهيأنا لها رزقا كريما وهى الجنة. والالتفات من الغيبة إلى التكلم بالغير في قوله: (نؤتها) و (أعتدنا) للايذان بالقرب والكرامة، خلاف البعد والخزى المفهوم من قوله: (يضاعف لها العذاب ضعفين). قوله تعالى: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء ان اتقيتن فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى في قلبه مرض) الخ، الاية تنفى مساواتهن لسائر النساء ان اتقين وترفع منزلتهن على غيرهن ثم تذكر أشياء من النهى والامر متفرعة على كونهن لسن كسائر النساء كما يدل عليه قوله: فلا تخضعن بالقول وقرن ولا تبرجن الخ، وهى خصال مشتركة بين نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسائر النساء. فتصدير الكلام بقوله: (لستن كأحد من النساء ان اتقيتن) ثم تفريع هذه التكاليف المشتركة عليه، يفيد تأكد هذه التكاليف عليهن كأنه قيل: لستن كغيركن فيجب عليكن أن تبالغن في امتثال هذه التكاليف وتحتطن في دين الله أكثر من سائر النساء وتؤيد بل تدل على تأكد تكاليفهن مضاعفة جزائهن خيرا وشرا كما دلت عليها الاية السابقة فان مضاعفة الجزاء لا تنفك عن تأكد التكليف. وقوله: (فلا تخضعن بالقول فيطمع الذى في قلبه مرض) بعد ما بين علو
________________________________________
[ 309 ]
منزلتهن ورفعة قدرهن لمكانهن من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشرط في ذلك التقوى فبين أن فضيلتهن بالتقوى لا بالاتصال بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم نهاهن عن الخضوع في القول وهو ترقيق الكلام وتليينه مع الرجال بحيث يدعو إلى الريبة وتثير الشهوة فيطمع الذى في قلبه مرض وهو فقدانه قوة الايمان التى تردعه عن الميل إلى الفحشاء. وقوله: (وقلن قولا معروفا) أي كلاما معمولا مستقيما يعرفه الشرع والعرف الاسلامي وهو القول الذى لا يشير بلحنه إلى أزيد من مدلوله معرى عن الايماء إلى فساد وريبة. قوله تعالى: (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى - إلى قوله - وأطعن الله ورسوله) (قرن) من قر يقر إذا ثبت وأصله اقررن حذفت احدى الرائين أو من قار يقار إذا اجتمع كناية عن ثباتهن في بيوتهن ولزومهن لها، والتبرج الظهور للناس كظهور البروج لناظريها. والجاهلية الاولى الجاهلية قبل البعثة فالمراد الجاهلية القديمة، وقول بعضهم: ان المراد به زمان ما بين آدم ونوح عليهما السلام ثمان مائة سنة، وقول آخرين انها ما بين ادريس ونوح، وقول آخرين زمان داود وسليمان وقول آخرين أنه زمان ولادة ابراهيم، وقول آخرين انه زمان الفترة بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله وسلم أقوال لا دليل يدل عليها. وقوله: (وأقمن الصلاة وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله) أمر بامتثال الاوامر الدينية وقد أفرد الصلاة والزكاة بالذكر من بينها لكونهما ركنين في العبادات والمعاملات ثم جمع الجميع في قوله: (وأطعن الله ورسوله). وطاعة الله هي امتثال تكاليفه الشرعية وطاعة رسوله فيما يأمر به وينهى بالولاية المجعولة له من عند الله كما قال: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم). قوله تعالى: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) كلمة (انما) تدل على حصر الارادة في اذهاب الرجس والتطهير وكلمة أهل البيت سواء كان لمجرد الاختصاص أو مدحا أو نداء يدل على اختصاص اذهاب الرجس والتطهير بالمخاطبين بقوله: (عنكم)، ففى الاية في الحقيقة قصران قصر الارادة في اذهاب الرجس والتطهير وقصر اذهاب الرجس والتطهير في أهل البيت.
________________________________________
[ 310 ]
وليس المراد بأهل البيت نساء النبي خاصة لمكان الخطاب الذى في قوله: (عنكم) ولم يقل: عنكن فاما أن يكون الخطاب لهن ولغيرهن كما قيل: ان المراد بأهل البيت أهل البيت الحرام وهم المتقون لقوله تعالى: (ان أولياؤه الا المتقون) أو أهل مسجد رسول الله ص أو أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهم الذين يصدق عليهم عرفا أهل بيته من أزواجه وأقربائه وهم آل عباس وآل عقيل وآل جعفر وآل على أو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأزواجه، ولعل هذا هو المراد مما نسب إلى عكرمة وعروة انها في أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة. أو يكون الخطاب لغيرهن كما قيل: انهم أقرباء النبي من آل عباس وآل عقيل وآل جعفر وآل على. وعلى أي حال فالمراد باذهاب الرجس والتطهير مجرد التقوى الدينى بالاجتناب عن النواهي وامتثال الاوامر فيكون المعنى أن الله لا ينتفع بتوجيه هذه التكاليف اليكم وانما يريد اذهاب الرجس عنكم وتطهيركم على حد قوله: (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ويتم نعمته عليكم) المائدة: 6، وهذا المعنى لا يلائم شيئا من معاني أهل البيت السابقة لمنافاته البينة للاختصاص المفهوم من أهل البيت لعمومه لعامة المسلمين المكلفين بأحكام الدين. وان كان المراد باذهاب الرجس والتطهير التقوى الشديد البالغ ويكون المعنى: أن هذا التشديد في التكاليف المتوجهة اليكن أزواج النبي وتضعيف الثواب والعقاب ليس لينتفع الله سبحانه به بل ليذهب عنكم الرجس ويطهركم ويكون من تعميم الخطاب لهن ولغيرهن بعد تخصيصه بهن، فهذا المعنى لا يلائم كون الخطاب خاصا بغيرهن وهو ظاهر ولا عموم الخطاب لهن ولغيرهن فان الغير لا يشاركهن في تشديد التكليف وتضعيف الثواب والعقاب. لا يقال: لم لا يجوز أن يكون الخطاب على هذا التقدير متوجها اليهن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتكليفه شديد كتكليفهن. لانه يقال: انه صلى الله عليه وآله وسلم مؤيد بعصمة من الله وهى موهبة الهية غير مكتسبة بالعمل فلا معنى لجعل تشديد التكليف وتضعيف الجزاء بالنسبة إليه مقدمة أو سببا لحصول
________________________________________
[ 311 ]
التقوى الشديد له امتنانا عليه على ما يعطيه سياق الاية ولذلك لم يصرح بكون الخطاب متوجها اليهن مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقط أحد من المفسرين وانما احتملناه لتصحيح قول من قال: ان الاية خاصة بأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وان كان المراد اذهاب الرجس والتطهير بارادته تعالى ذلك مطلقا لا بتوجيه مطلق التكليف ولا بتوجيه التكليف الشديد بل ارادة مطلقة لاذهاب الرجس والتطهير لاهل البيت خاصة بما هم أهل البيت كان هذا المعنى منافيا لتقييد كرامتهن بالتقوى سواء كان المراد بالارادة الارادة التشريعية أو التكوينية. وبهذا الذى تقدم يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن الاية نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى وفاطمة والحسنين عليهم السلام خاصة لا يشاركهم فيها غيرهم. وهى روايات جمة تزيد على سبعين حديثا يربو ما ورد منها من طرق أهل السنة على ما ورد منها من طرق الشيعة فقد روتها أهل السنة بطرق كثيرة عن أم سلمة وعائشة وأبى سعيد الخدرى وسعد ووائلة بن الاسقع وأبى الحمراء وابن عباس وثوبان مولى النبي وعبد الله بن جعفر وعلى والحسن بن على عليهما السلام في قريب من أربعين طريقا. وروتها الشيعة عن على والسجاد والباقر والصادق والرضا عليهم السلام وأم سلمة وأبى ذر وأبى ليلى وأبى الاسود الدؤلى وعمرو بن ميمون الاودى وسعد بن أبى وقاص في بضع وثلاثين طريقا. فان قيل: ان الروايات انما تدل على شمول الاية لعلى وفاطمة والحسنين عليهم السلام ولا ينافى ذلك شمولها لازواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يفيده وقوع الاية في سياق خطابهن. قلنا: ان كثيرا من هذه الروايات وخاصة ما رويت عن أم سلمة - وفى بيتها نزلت الاية - تصرح باختصاصها بهم وعدم شمولها لازواج النبي وسيجئ الروايات وفيها الصحاح. فان قيل: هذا مدفوع بنص الكتاب على شمولها لهن كوقوع الاية في سياق خطابهن. قلنا: انما الشأن كل الشأن في اتصال الاية بما قبلها من الايات فهذه الاحاديث على كثرتها البالغة ناصة في نزول الاية وحدها، ولم يرد حتى في رواية واحدة نزول هذه هذه الاية في ضمن آيات نساء النبي ولا ذكره أحد حتى القائل باختصاص الاية بأزواج
________________________________________
[ 312 ]
النبي كما ينسب إلى عكرمة وعروة، فالاية لم تكن بحسب النزول جزء من آيات نساء النبي ولا متصلة بها وانما وضعت بينها اما بأمرمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عند التأليف بعد الرحلة، ويؤيده أن آية (وقرن في بيوتكن) على انسجامها واتصالها لو قدر اتفاع آية التطهير من بين جملها، فموقع آية التطهير من آية (وقرن في بيوتكن) كموقع آية (اليوم يئس الذين كفروا) من آية محرمات الاكل من سورة المائدة، وقد تقدم الكلام في ذلك في الجزء الخامس من الكتاب. وبالبناء على ما تقدم تصير لفظة أهل البيت اسما خاصا - في عرف القرآن - بهؤلاء الخمسة وهم النبي وعلى وفاطمة والحسنان عليهم الصلاة والسلام لا يطلق على غيرهم، ولو كان من أقربائه الاقربين وان صح بحسب العرف العام اطلاقه عليهم. والرجس - بالكسر فالسكون - صفة من الرجاسة وهى القذارة، والقذارة هيئة في الشئ توجب التجنب والتنفر منها، وتكون بحسب ظاهر الشئ كرجاسة الخنزير، قال تعالى: (أو لحم الخنزير فانه رجس) الانعام: 145، وبحسب باطنه - وهو الرجاسة والقذارة المعنوية - كالشرك والكفر وأثر العمل السيئ، قال تعالى: (وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساالى رجسهم وماتوا وهم كافرون) التوبة: 125، وقال: (ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون) الانعام: 125. وأيا ما كان فهو ادراك نفساني وأثر شعوري من تعلق القلب بالاعتقاد الباطل أو العمل السيئ واذهاب الرجس - واللام فيه للجنس - ازالة كل هيئة خبيثة في النفس تخطئ حق الاعتقاد والعمل فتنطبق على العصمة الالهية التى هي صورة علمية نفسانية تحفظ الانسان من باطل الاعتقاد وسيئ العمل. على أنك عرفت أن ارادة التقوى أو التشديد في التكاليف لا تلائم اختصاص الخطاب في الاية بأهل البيت، وعرفت أيضا أن ارادة ذلك لا تناسب مقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم من العصمة. فمن المتعين حمل اذهاب الرجس في الاية على العصمة ويكون المراد بالتطهير في قوله: (ويطهركم تطهيرا) - وقد أكد بالمصدر - ازالة أثر الرجس بايراد ما يقابله
________________________________________
[ 313 ]
بعد اذهاب أصله، ومن المعلوم أن ما يقابل الاعتقاد الباطل هو الاعتقاد الحق فتطهيرهم هو تجهيزهم بادراك الحق في الاعتقاد والعمل، ويكون المراد بالارادة أيضا غير الارادة التشريعية لما عرفت أن الارادة التشريعية التى هي توجيه التكاليف إلى المكلف لا تلائم المقام أصلا. والمعنى: أن الله سبحانه تستمر ارادته أن يخصكم بموهبة العصمة باذهاب الاعتقاد الباطل وأثر العمل السيئ عنكم أهل البيت وايراد ما يزيل أثر ذلك عليكم وهى العصمة. قوله تعالى: (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ان الله كان لطيفا خبيرا) ظاهر السياق أن المراد بالذكر ما يقابل النسيان إذ هو المناسب لسياق التأكيد والتشديد الذى في الايات فيكون بمنزلة الوصية بعد الوصية بامتثال ما وجه اليهن من التكاليف، وفى قوله: (في بيوتكن) تأكيد آخر. والمعنى: واحفظن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة وليكن منكن في بال حتى لا تغفلن ولا تتخطين مما خط لكم من المسير. وأما قول بعضهم: ان المراد واشكرن الله إذ صيركن في بيوت يتلى فيهن القرآن والسنة فبعيد من السياق وخاصة بالنظر إلى قوله في ذيل الاية: ان الله كان لطيفا خبيرا). قوله تعالى: (ان المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) الخ، الاسلام لا يفرق بين الرجال والنساء في التلبس بكرامة الدين وقد أشار سبحانه إلى ذلك اجمالا في مثل قوله: (يا أيها الناس انا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات: 13، ثم صرح به في مثل قوله: (أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر وأنثى) آل عمران: 195، ثم صرح به تفصيلا في هذه الاية. فقوله: (ان المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات) المقابلة بين الاسلام والايمان تفيد مغايرتهما نوعا من المغايرة والذى يستفاد منه نحو مغايرتهما قوله تعالى: (قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم
________________________________________
[ 314 ]
- إلى أن قال - انما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) الحجرات: 15، يفيد أولا أن الاسلام هو تسليم الدين بحسب العمل وظاهر الجوارح والايمان أمر قلبى. وثانيا: أن الايمان الذى هو أمر قلبى اعتقاد واذعان باطني بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح. فالاسلام هو التسليم العملي للدين باتيان عامة التكاليف والمسلمون والمسلمات هم المسلمون لذلك والايمان هو عقد القلب على الدين، بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح والمؤمنون والمؤمنات هم الذين عقدوا قلوبهم على الدين بحيث يترتب عليه العمل بالجوارح فكل مؤمن مسلم ولا عكس. وقوله: (والقانتين والقانتات) القنوت على ما قيل لزوم الطاعة مع الخضوع وقوله: (والصادقين والصادقات) الصدق مطابقة ما يخبر به الانسان أو يظهره، للواقع. فهم صادقون في دعواهم صادقون في قولهم صادقون في وعدهم. وقوله: (والصابرين والصابرات) فهم متلبسون بالصبر عند المصيبة والنائبة وبالصبر على الطاعة وبالصبر عن المعصية، وقوله: (والخاشعين والخاشعات) الخشوع تذلل باطني بالقلب كما أن الخضوع تذلل ظاهري بالجوارح. وقوله: (والمتصدقين والمتصدقات) والصدقة انفاق المال في سبيل الله ومنه الزكاة الواجبة، وقوله: (والصائمين والصائمات) بالصوم الواجب والمندوب، وقوله: (والحافظين فروجهم والحافظات) أي لفروجهن وذلك بالتجنب عن غير ما أحل الله لهم، وقوله: (والذاكرين الله كثيرا والذاكرات) أي الله كثيراحذف لظهوره وهم الذين يكثرون من ذكر الله بلسانهم وجنانهم ويشمل الصلاة والحج. وقوله: (أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما) التنكير للتعظيم. (بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: (يا أيها النبي قل لازواجك) كان سبب نزولها أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة خيبر وأصاب كنز آل أبى الحقيق قلن أزواجه أعطنا ما أصبت فقال لهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قسمته بين المسلمين على ما أمر الله عز وجل
________________________________________
[ 315 ]
فغضبن من ذلك، وقلن: لعلك ترى أنك ان طلقتناأن لا نجد الاكفاء من قومنا يتزوجونا ؟. فأنف الله عز وجل لرسوله فأمره أن يعزلهن فاعتزلهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مشربة أم ابراهيم تسعة وعشرين يوما حتى حضن وطهرن ثم أنزل الله عز وجل هذه الاية وهى آية التخيير فقال: (يا أيها النبي قل لازواجك - إلى قوله - أجرا عظيما) فقامت أم سلمة أول من قامت فقالت: قد اخترت الله ورسوله فقمن كلهن فعانقنه وقلن مثل ذلك الحديث. أقول: وروى ما يقرب من ذلك من طرق أهل السنة وفيها أن أول من اختارت الله ورسوله منهن عائشة. وفى الكافي باسناده عن داود بن سرحان عن أبى عبد الله عليه السلام أن زينب بنت جحش قالت: يرى رسول الله ان خلى سبيلنا أن لا نجد زوجا غيره وقد كان اعتزل نساءه تسعة وعشرين ليلة فلما قالت زينب الذى قالت بعث الله جبرائيل إلى محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال: (قل لازواجك) الايتين كلتيهما فقلن: بل نختار الله ورسوله والدار الاخرة. وفيه باسناده عن عيص بن القاسم عن أبى عبد الله عليه السلام قال: سألته عن رجل خير امرأته فاختارت نفسها بانت ؟ قال: لا. انما هذا شئ كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خاصة أمر بذلك ففعل، ولو اخترن أنفسهن لطلقهن وهو قول الله عز وجل: (قل لازواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها، فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا). وفى المجمع روى الواحدى بالاسناد عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا مع حفصة فتشاجرا بينهما فقال لها: هل لك أن أجعل بينى وبينك رجلا ؟ قالت: نعم. فأرسل إلى عمر فلما أن دخل عليهما قال لها: تكلمي، فقالت: يا رسول الله تكلم ولا تقل الا حقا فرفع عمر يده فوجأ وجهها ثم رفع يده فوجأ وجهها. فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كف فقال عمر: يا عدوة الله النبي لا يقول الا حقا والذى بعثه بالحق، لو لا مجلسه ما رفعت يدى حتى تموتي فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فصعد
________________________________________
[ 316 ]
إلى غرفة فمكث فيها شهرا لا يقرب شيئا من نسائه يتغدى ويتعشى فيها فأنزل الله تعالى هذه الايات. وفى الخصال عن الصادق عليه السلام قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخمس عشرة امرأة ودخل بثلاث عشر امرأة منهن، وقبض عن تسع فأما اللتان لم يدخل بهما فعمرة وسنا. وأما الثلاث عشرة اللاتى دخل بهن فأولهن خديجة بنت خويلد ثم سودة بنت زمعة ثم أم سلمة واسمها هند بنت أبى أمية ثم أم عبد الله عائشة بنت أبى بكر ثم حفصة بنت عمر ثم زينب بنت خزيمة بن الحارث أم المساكين، ثم زينب بنت جحش ثم أم حييب رملة بنت أبى سفيان ثم ميمونة بنت الحارث ثم زينب بنت عميس ثم جويرية بنت الحارث ثم صفية بنت حيى بن أخطب والتى وهبت نفسها للنبى خولة بنت حكيم السلمى. وكان له سريتان يقسم لهما مع أزواجه مارية القبطية وريحانة الخندفية. والتسع اللاتى قبض عنهن عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب بنت جحش وميمونة بنت الحارث وأم حبيب بنت أبى سفيان وجويرية وسودة وصفية. وأفضلهن خديجة بنت خويلد ثم أم سلمة ثم ميمونة. وفى المجمع في قوله: (يا نساء النبي من يأت منكن) الايتين روى محمد بن أبى عمير عن ابراهيم بن عبد الحميد عن على بن عبد الله بن الحسين عن أبيه عن على بن الحسين عليه السلام أنه قال رجل: انكم أهل بيت مغفور لكم. قال: فغضب وقال: نحن أحرى أن يجرى فينا ما أجرى الله في أزواج النبي من أن نكون كما تقول انا نرى لمحسننا ضعفين من الاجر ولمسيئنا ضعفين من العذاب. وفى تفسير القمى مسندا عن أبى عبد الله عن أبيه عليهما السلام في هذه الاية (ولا تبرجن تبرج الجاهلية الاولى) قال: أي ستكون جاهلية اخرى. أقول: وهو استفادة لطيفة. وفى الدر المنثور أخرج الطبراني عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة: ائتينى بزوجك وابنيه فجاءت بهم فألقى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليهم كساء فدكيا ثم وضع يده عليهم ثم قال: اللهم ان هؤلاء أهل محمد - وفى لفظ آل محمد - فاجعل صلواتك
________________________________________
[ 317 ]
وبركاتك على آل محمد كما جعلتها على آل ابراهيم انك حميد مجيد. قالت ام سلمة: فرفعت الكساء لادخل معهم فجذبه من يدى وقال: انك على خير. أقول: ورواه في غاية المرام عن عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه باسناده عن ام سلمة. وفيه أخرج ابن مردويه عن ام سلمة قالت: نزلت هذه الاية في بيتى (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) وفى البيت سبعة جبريل وميكائيل وعلى وفاطمة والحسن والحسين وأنا على باب البيت. قلت: يا رسول الله ألست من أهل البيت ؟ قال: انك على خير انك من أزواج النبي. وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني وابن مردويه عن ام سلمة زوج النبي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ببيتها على منامة له عليه كساء خيبرى فجاءت فاطمة ببرمة فيها خزيرة فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ادعى زوجك وابنيك حسنا وحسينا فدعتهم فبينما هم يأكلون إذ نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). فأخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بفضلة ازاره فغشاهم اياها ثم أخرج يده من الكساء وأومأ بها إلى السماء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتى وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، قالها ثلاث مرات. قالت ام سلمة: فأدخلت رأسي في الستر فقلت: يا رسول الله وأنا معكم ؟ فقال: انك إلى خير مرتين. أقول: وروى الحديث في غاية المرام عن عبد الله بن أحمد بن حنبل بثلاث طرق عن ام سلمة وكذا عن تفسير الثعلبي. وفيه أخرج ابن مردويه والخطيب عن أبى سعيد الخدرى قال: كان يوم ام سلمة ام المؤمنين فنزل جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الاية (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحسن وحسين وفاطمة وعلى فضمهم إليه ونشر عليهم الثوب، والحجاب على ام سلمة مضروب، ثم
________________________________________
[ 318 ]
قال: اللهم هؤلاء أهل بيتى اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، قالت ام سلمة: فأنا معهم يا نبى الله ؟ قال: أنت على مكانك وانك على خير. وفيه أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم والطبراني عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: نزلت هذه الاية في خمسة في وفى على وفاطمة وحسن وحسين (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). أقول: ورواه أيضا في غاية المرام عن الثعلبي في تفسيره. وفيه أخرج الترمذي وصححه وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في سننه من طرق عن أم سلمة قالت: في بيتى نزلت: (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) وفى البيت فاطمة وعلى والحسن والحسين فجللهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكساء كان عليه ثم قال: هؤلاء أهل بيتى فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. وفى غاية المرام عن الحميدى قال: الرابع والستون من المتفق عليه من الصحيحين عن البخاري ومسلم من مسند عائشة عن مصعب بن شيبة عن صفية بنت شيبة عن عائشة قالت: خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود فجاء الحسن بن على فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله معه ثم جاءت فاطمة فأدخلها ثم جاء على فأدخله ثم قال: انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. أقول: والحديث مروى عنها بطرق مختلفة. وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن أبى سعيد الخدرى قال: لما دخل على بفاطمة جاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين صباحا إلى بابها يقول: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته الصلاة رحمكم الله انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا أنا حرب لمن حاربتم أنا سلم لمن سالمتم. وفيه أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: شهدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسعة أشهر يأتي كل يوم باب على بن أبى طالب عند وقت كل صلاة فيقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أهل البيت (انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا). أقول: ورواه أيضا عن الطبراني عن أبى الحمراء ولفظه رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
________________________________________
[ 319 ]
يأتي باب على وفاطمة ستة أشهر فيقول: (انما يريد الله) الاية، وأيضا عن ابن جرير وابن مردويه عن أبى الحمراء ولفظه حفظت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثمانية أشهر بالمدينة ليس من مرة يخرج إلى صلاة الغداة الا أتى إلى باب على فوضع يده على جنبتى الباب ثم قال: الصلاة الصلاة (انما يريد الله ليذهب) الاية. ورواه أيضا عن ابن أبى شيبة وأحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه عن أنس ولفظه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يمر بباب فاطمة إذا خرج إلى صلاة الفجر ويقول: الصلاة يا أهل البيت الصلاة انما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. أقول: والروايات في هذه المعاني من طرق أهل السنة كثيرة وكذا من طرق الشيعة، ومن أراد الاطلاع عليها فليراجع غاية المرام للبحراني والعبقات. وفى غاية المرام عن الحموينى باسناده عن يزيد بن حيان قال: دخلنا على زيد بن أرقم فقال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ألا انى تركت فيكم الثقلين أحدهما كتاب الله عز وجل من اتبعه كان على هدى ومن تركه كان على ضلالة، ثم أهل بيتى أذكركم الله في أهل بيتى ثلاث مرات. قلنا: من أهل بيته نساؤه ؟ قال: لا أهل بيته عصبته الذين حرموا الصدقة بعده آل على وآل عباس وآل جعفر وآل عقيل. وفيه أيضا عن مسلم في صحيحه باسناده عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله ص: انى تارك فيكم الثقلين أحدهما كتاب الله هو حبل الله من اتبعه كان على الهدى ومن تركه كان على ضلالة، فقلنا: من أهل بيته نساؤه ؟ قال: لا أيم الله ان المرأة تكون مع الرجل العصر ثم الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أهلها وقومها. أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده. أقول: فسر البيت بالنسب كما يطلق عرفا على هذا المعنى، يقال: بيوتات العرب بمعنى الانساب، لكن الروايات السابقة عن أم سلمة وغيرها تدفع هذا المعنى وتفسير أهل البيت بعلى وفاطمة وابنيهما عليهم السلام. وفى المجمع قال مقاتل بن حيان: لما رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع
________________________________________
[ 320 ]
زوجها جعفر بن أبى طالب دخلت على نساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: هل نزل فينا شئ من القرآن ؟ قلن: لا. فأتت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله ان النساء لفى خيبة وخسار، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ومم ذلك ؟ قالت: لانهن لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فأنزل الله تعالى هذه الاية (ان المسلمين والمسلمات) الخ. أقول: وفى روايات أخر أن القائلة هي أم سلمة. * * * وما كان لمؤمن ولا مؤمنه إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا - 36. واذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكى لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا وكان أمر الله مفعولا - 37. ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل وكان أمر الله قدرا مقدورا - 38. الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا الا الله وكفى بالله حسيبا - 39. ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شئ عليما - 40.
________________________________________
[ 321 ]
(بيان) الايات أعنى قوله: (واذ تقول للذى أنعم الله عليه - إلى قوله - وكان الله بكل شئ عليما) في قصة تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بزوج مولاه زيد الذى كان قد اتخذه ابنا، ولا يبعد أن تكون الاية الاولى أعنى قوله: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) الاية، مرتبطة بالايات التالية كالتوطئة لها. قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الخ، يشهد السياق على أن المراد بالقضاء هو القضاء التشريعي دون التكويني فقضاء الله تعالى حكمه التشريعي في شئ مما يرجع إلى أعمال العباد أو تصرفه في شأن من شؤنهم بواسطة رسول من رسله، وقضاء رسوله هو الثاني من القسمين وهو التصرف في شأن من شؤن الناس بالولاية التى جعلها الله تعالى له بمثل قوله: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم). فقضاؤه صلى الله عليه وآله وسلم قضاء منه بولايته وقضاء من الله سبحانه لانه الجاعل لولايته المنفذ أمره، ويشهد سياق قوله: (إذا قضى الله ورسوله أمرا) حيث جعل الامر الواحد متعلقا لقضاء الله ورسوله معا، على أن المراد بالقضاء التصرف في شؤن الناس دون الجعل التشريعي المختص بالله. وقوله: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة) أي ما صح ولا يحق لاحد من المؤمنين والمؤمنات أن يثبت لهم الاختيار من أمرهم بحيث يختارون ما شاؤا وقوله: (إذا قضى الله ورسوله أمرا) ظرف لنفى الاختيار. وضميرا الجمع في قوله: (لهم الخيرة من أمرهم) للمؤمن والمؤمنة المراد بهما جميع المؤمنين والمؤمنات لوقوعهما في حيز النفى ووضع الظاهر موضع المضمر حيث قيل: (من أمرهم) ولم يقل: أن يكون لهم الخيرة فيه للدلالة على منشأ توهم الخيرة وهو انتساب الامر إليهم. والمعنى: ليس لاحد من المؤمنين والمؤمنات إذا قضى الله ورسوله بالتصرف في
________________________________________
[ 322 ]
أمر من أمورهم أن يثبت لهم الاختيار من جهته لانتسابه إليهم وكونه أمرا من أمورهم فيختاروا منه غير ما قضى الله ورسوله بل عليهم أن يتبعوا ارادة الله ورسوله. والاية عامة لكنها لوقوعها في سياق الايات التالية يمكن أن تكون كالتمهيد لما سيجئ من قوله: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) الاية، حيث يلوح منه أن بعضهم كان قد اعترض على تزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بزوج زيد وتعييره بأنها كانت زوج ابنه المدعو له بالتبنى وسيجئ في البحث الروائي بعض ما يتعلق بالمقام. قوله تعالى: (واذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله) إلى آخر الاية المراد بهذا الذى أنعم الله عليه وأنعم النبي عليه زيد بن حارثة الذى كان عبد اللنبى صلى الله عليه وآله وسلم ثم حرره واتخذه ابنا له وكان تحته زينب بنت جحش بنت عمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أتى زيد النبي فاستشاره في طلاق زينب فنهاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الطلاق ثم طلقها زيد فتزوجها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزلت الايات. فقوله: (أنعم الله عليه) أي بالهداية إلى الايمان وتحبيبه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوله: (وأنعمت عليه) أي بالاحسان إليه وتحريره وتخصيصه بنفسك، وقوله: أمسك عليك زوجك واتق الله) كناية عن الكف عن تطليقها، ولا يخلو من اشعار باصرار زيد على تطليقها. وقوله: (وتخفى في نفسك ما الله مبديه) أي مظهره (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) ذيل الايات أعنى قوله: (الذين يبلغون رسالات الله ولا يخشون أحدا الا الله) دليل على أن خشيته صلى الله عليه وآله وسلم الناس لم تكن خشية على نفسه بل كان خشية في الله فأخفى في نفسه ما أخفاه استشعارا منه أنه لوأظهره عابه الناس وطعن فيه بعض من في قلبه مرض فأثر ذلك أثرا سيئا في ايمان العامة، وهذا الخوف - كما ترى - ليس خوفا مذموما بل خوف في الله هو في الحقيقة خوف من الله سبحانه. فقوله: (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) الظاهر في نوع من العتاب ردع عن نوع من خشية الله وهى خشيته عن طريق الناس وهداية إلى نوع آخر من خشيته تعالى وأنه كان من الحرى أن يخشى الله دون الناس ولا يخفى ما في نفسه ما الله مبديه وهذا نعم الشاهد على أن الله كان قد فرض له أن يتزوج زوج زيد الذى كان تبناه
________________________________________
[ 323 ]
ليرتفع بذلك الحرج عن المؤمنين في التزوج بأزواج الادعياء وهو صلى الله عليه وآله وسلم كان يخفيه في نفسه إلى حين مخافة سوء أثره في الناس فأمنه الله ذلك بعتابه عليه نظير ما تقدم في قوله تعالى: (يا أيها النبي بلغ ما أنزل اليك من ربك - إلى قوله - والله يعصمك من الناس) الاية. فظاهر العتاب الذى يلوح من قوله: (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) مسوق لانتصاره وتأييد أمره قبال طعن الطاعنين ممن في قلوبهم مرض نظير ما تقدم في قوله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) التوبة: 43. ومن الدليل على أنه انتصار وتأييد في صورة العتاب قوله بعد: (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) حيث أخبر عن تزويجه اياها كأنه أمر خارج عن ارادة النبي صلى الله عليه وآله وسلم واختياره ثم قوله: (وكان أمر الله مفعولا). فقوله: (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) متفرع على ما تقدم من قوله: وتخفى في نفسك ما الله مبديه) وقضاء الوطر منها كناية عن الدخول والتمتع، وقوله: (لكى لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم لما قضوا منهن وطرا) تعليل للتزويج ومصلحة للحكم، وقوله: (وكان أمر الله مفعولا) مشيرالى تحقق الوقوع وتأكيد للحكم. ومن ذلك يظهر أن الذى كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخفيه في نفسه هو ما فرض الله له أن يتزوجها لا هواها وحبه الشديد لها وهى بعد مزوجة كما ذكره جمع من المفسرين واعتذروا عنه بأنها حالة جبلية لا يكاد يسلم منها البشر، فان فيه أولا: منع أن يكون بحيث لا يقوى عليه التربية الالهية، وثانيا: أنه لا معنى حينئذ للعتاب على كتمانه واخفائه في نفسه فلا مجوز في الاسلام لذكر حلائل الناس والتشبب بهن. قوله تعالى: (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له) الخ، الفرض هو التعيين والاسهام يقال: فرض له كذا أي عينه له وأسهمه به، وقيل: هو في المقام بمعنى الاباحة والتجويز، والحرج الكلفة والضيق، والمراد بنفى الحرج نفى سببه وهو المنع عما فرض له. والمعنى: ما كان على النبي من منع فيما عين الله له أو أباح الله له حتى يكون عليه حرج في ذلك.
________________________________________
[ 324 ]
وقوله: (سنة الله في الذين خلوا من قبل) اسم موضوع موضع المصدر فيكون مفعولا مطلقا والتقدير سن الله ذلك سنة، والمراد بالذين خلوا من قبل هم الانبياء والرسل الماضون بقرينة قوله بعد: (الذين يبلغون رسالات الله) الخ. وقوله: (وكان أمر الله قدرا مقدورا) أي يقدر من عنده لكل أحد ما يلائم حاله ويناسبها، والانبياء لم يمنعوا مما قدره الله وأباحه لغيرهم حتى يمنع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بعض ما قدر وأبيح. قوله تعالى: (الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا الا الله) الخ، الموصول بيان للموصول المتقدم أعنى قوله: (الذين خلوا من قبل). والخشية هي تأثر خاص للقلب عن المكروه وربما ينسب إلى السبب الذى يتوقع منه المكروه، يقال: خشيت أن يفعل بى فلان كذا أو خشيت فلانا أن يفعل بى كذا، والانبياء يخشون الله ولا يخشون أحدا غيره لانه لا مؤثر في الوجود عندهم الا الله. وهذا غير الخوف الذى هو توقع المكروه بحيث يترتب عليه الاتقاء عملا سواء كان معه تأثر قلبى أو لا فانه أمر عملي ربما ينسب إلى الانبياء كقوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: (ففررت منكم لما خفتكم) الشعراء: 21، وقوله في النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (واما تخافن من قوم خيانة) الانفال: 58، وهذا هو الاصل في معنى الخوف والخشية وربما استعملا كالمترادفين. ومما تقدم يظهر أن الخشية منفية عن الانبياء عليهم السلام مطلقا وان كان سياق قوله: (يبلغون رسالات الله ويخشونه) الخ، يلوح إلى أن المنفى هو الخشية في تبليغ الرسالة. على أن جميع أفعال الانبياء كأقوالهم من باب التبليغ فالخشية في أمر التبليغ مستوعبة لجميع أعمالهم. وقوله: (وكفى بالله حسيبا) أي محاسبا يحاسب على الصغيرة والكبيرة فيجب أن يخشى ولا يخشى غيره. قوله تعالى: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين) الخ، لاشك في أن الاية مسوقة لدفع اعتراضهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه تزوج زوج ابنه ومحصل الدفع أنه ليس أبا زيد ولا أبا أحد من الرجال الموجودين في زمن الخطاب حتى يكون
________________________________________
[ 325 ]
تزوجه بزوج أحدهم بعده تزوجا بزوج ابنه فالخطاب في قوله: (من رجالكم) للناس الموجودين في زمن نزول الاية، والمراد بالرجال ما يقابل النساء والولدان ونفى الابوة نفى تكويني لا تشريعي ولا تتضمن الجملة شيئا من التشريع. والمعنى: ليس محمد صلى الله عليه وآله وسلم أبا أحد من هؤلاء الرجال الذين هم رجالكم حتى يكون تزوجه بزوج أحدهم بعده تزوجا منه بزوج ابنه وزيد أحد هؤلاء الرجال فتزوجه بعد تطليقه ليس تزوجا بزوج الابن حقيقة وأما تبنيه زيدا فانه لا يترتب عليه شئ من آثار الابوة والبنوة وما جعل أدعياءكم أبناءكم. وأما القاسم والطيب والطاهر (1) وابراهيم فانهم أبناؤه حقيقة لكنهم ماتوا قبل أن يبلغوا فلم يكونوا رجالا حتى ينتقض الاية وكذا الحسن والحسين وهما ابنا رسول الله فان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبض قبل أن يبلغا حد الرجال. ومما تقدم ظهر أن الاية لا تقتضي نفى أبوته صلى الله عليه وآله وسلم للقاسم والطيب والطاهر وابراهيم وكذا للحسنين لما عرفت أنها خاصة بالرجال الموجودين في زمن النزول على نعت الرجولية. وقوله: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) الخاتم بفتح التاء ما يختم به كالطابع والقالب بمعنى ما يطبع به وما يقلب به والمراد بكونه خاتم النبيين أن النبوة اختتمت به صلى الله عليه وآله وسلم فلا نبى بعده. وقد عرفت فيما مر معنى الرسالة والنبوة وأن الرسول هو الذى يحمل رسالة من الله إلى الناس والنبى هو الذى يحمل نبأ الغيب الذى هو الدين وحقائقه ولازم ذلك أن يرتفع الرسالة بارتفاع النبوة فان الرسالة من أنباء الغيب، فإذا انقطعت هذه الانباء انقطعت الرسالة. ومن هنا يظهر أن كونه صلى الله عليه وآله وسلم خاتم النبيين يستلزم كونه خاتما للرسل. وفى الاية ايماء إلى أن ارتباطه صلى الله عليه وآله وسلم وتعلقه بكم تعلق الرسالة والنبوة وأن ما فعله كان بأمر من الله سبحانه. وقوله: (وكان الله بكل شئ عليما) أي ما بينه لكم انما كان بعلمه.
________________________________________
(1) هذا على ما هو المعروف وقال بعضهم: ان الطيب والطاهر لقبان للقاسم. (*)


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page