• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 176 الي 200


[ 176 ]
وقوله: (ولله المثل الاعلى في السماوات والارض) تقدم أنه في مقام الحجة بالنسبة إلى قوله: (وهو أهون عليه) ومحصله أن كل صفة كمالية يتصف به شئ مما في السماوات والارض من جمال أو جلال فان لله سبحانه أعلاها أي مطلقها من غير تقييد ومحضها من غير شوب وصرفها من غير خلط. وقوله: (وهو العزيز الحكيم) في مقام التعليل بالنسبة إلى قوله: (ولله المثل الاعلى) الخ، أي انه تعالى عزيز واجد لكل ما يفقده غيره ممتنع من أن يمتنع عليه شئ حكيم لا يعرض فعله فتور، ولو لم تكن صفة من صفاته مثلا أعلى مما عند غيره من الممكنات كانت محدودة غير مطلقة ومخلوطة غير صرفة غير خالية من النقص والقصور فاستذله ذاك القصور فلم يكن عزيزا على الاطلاق وأحدث ذاك النقص في فعله ثلمة وفتورا فلم يكن حكيما على الاطلاق. قوله تعالى: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) الخ، (من) في قوله: (من أنفسكم) لابتداء الغاية أي ضرب لكم مثلا متخذا من أنفسكم منتزعا من الحالات التى لديكم، وقوله: (هل لكم) شروع في المثل المضروب والاستفهام للانكار، و (ما) في (مما ملكت) للنوع أي من نوع ما ملكت أيمانكم من العبيد والاماء، و (من) في (من شركاء) زائدة وهو مبتدأ، وقوله: (فأنتم فيه سواء تفريع على الشركة، و (أنتم) خطاب شامل للمالكين والمملوكين على طريق التغليب، وقوله: (تخافونهم كخيفتكم أنفسكم) أي تخافون المماليك الشركاء أن تستبدوا في تصرف المال المشترك من غير اذن منهم ورضى كما تخافون أنفسكم من الشركاء الاحرار. وهذا مثل ضربه الله لبيان بطلان ما يزعمون أن الله سبحانه مما خلق شركاء في الالوهية والربوبية وقد ألقى المثل في صورة الاستفهام الانكارى: هل يوجد بين مماليككم من العبيد والاماء من يكونون شركاء لكم في الاموال التى رزقناكم - والحال أنهم مماليك لكم تملكونهم وما في أيديهم - بحيث تخافونهم من التصرف في أموالكم بغير اذن منهم ورضى كما تخافون الشركاء الاحرار من نوع أنفسكم ؟ ! لا يكون ذلك أبدا ولا يجوز أن يكون المملوك شريكا لمولاه في ماله وإذا لم
________________________________________
[ 177 ]
يجز فكيف يجوز أن يكون بعض من خلقه الله كالملائكة والجن وهم عبيده المملوكون شركاء له فيما يملك من مخلوقيه وآلهة وأربابا من دونه ؟ ثم تمم الكلام بقوله: (كذلك نفصل الايات لقوم يعقلون) وفيه تمهيد لما يتلوه من الكلام. قوله تعالى: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدى من أضل الله وما لهم من ناصرين) اضراب عما يستفاد من ذيل الاية السابقة والتقدير وهؤلاء المشركون لم يبنوا شركهم على التعقل بل اتبعوا في ذلك أهواءهم بغير علم. وكان مقتضى الظاهر أن يقال: بل اتبع الذين أشركوا وانما بدله من قوله: (بل اتبع الذين ظلموا) فوصفهم بالظلم ليتعلل به ما سيصفهم بالضلال في قوله: (فمن يهدى من أضل الله) فالظلم يستتبع الاضلال الالهى، قال تعالى: (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفى الاخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) ابراهيم: 27. فقوله: (فمن يهدى من أضل الله) استفهام انكاري مدلوله الايآس من نعمة الهداية للمشركين المتبعين لاهوائهم مع ظهور الحق لهم لمكان ظلمهم الموجب لاضلالهم وقد تكرر في كلامه تعالى: (ان الله لا يهدى القوم الظالمين). وقوله: (وما لهم من ناصرين) نفى لنجاتهم بنصرة الناصرين لهم من غيرهم بعد ما لم ينالوا النجاة من الضلال وتبعاته من عند أنفسهم لاضلال الله لهم ونفى الجمع دليل على أن لغيرهم ناصرين كالشفعاء. وقول القائل ان معنى نفى الناصرين لهم أنه ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو المشهور من مقابلة الجمع بالجمع غير مطرد. ومعنى الاية: بل اتبع الذين ظلموا بشركهم أهواءهم بغير علم وتعقل فأضلهم الله بظلمهم ولا هادى يهديهم وليس لهم ناصرون ينصرونهم. قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الكلام متفرع على ما تحصل
________________________________________
[ 178 ]
من الايات السابقة المثبتة للمبدأ والمعاد أي إذا ثبت أن الخلق والتدبير لله وحده لا شريك له وهو سيبعث ويحاسب ولا نجاة لمن أعرض عنه وأقبل على غيره فأقم وجهك للدين والزمه فانه الدين الذى تدعو إليه الخلقة الالهية. وقيل: الكلام متفرع على معنى التسلية المفهوم من سياق البيان السابق الدال على ما هو الحق وأن المشركين لظلمهم اتبعوا الاهواء وأعرضوا عن التعقل الصحيح فأضلهم الله ولم يأذن لناصر ينصرهم بالهداية ولا لمنقذ ينقذهم من الضلال لا أنت ولا غيرك فاستيئس منهم واهتم بخاصة نفسك ومن تبعك من المؤمنين وأقم وجهك ومن تبعك للدين. فقوله: (فأقم وجهك للدين) المراد باقامة الوجه للدين الاقبال عليه بالتوجه من غير غفلة منه كالمقبل على الشئ بقصر النظر فيه بحيث لا يلتفت عنه يمينا وشمالا والظاهر أن اللام في الدين للعهد والمراد به الاسلام. وقوله: (حنيفا) حال من فاعل أقم وجوز أن يكون حالا من الدين أو حالا من الوجه والاول أظهر وأنسب للسياق، والحنف ميل القدمين إلى الوسط والمراد به الاعتدال. وقوله: (فطرة الله التى فطر الناس عليها) الفطرة بناء نوع من الفطر بمعنى الايجاد والابداع و (فطرة الله) منصوب على الاغراء أي الزم الفطرة ففيه اشارة إلى أن هذا الدين الذى يجب اقامة الوجه له هو الذي يهتف به الخلقة ويهدى إليه الفطرة الالهية التى لا تبديل لها. وذلك أنه ليس الدين الا سنة الحياة والسبيل التى يجب على الانسان أن يسلكها حتى يسعد في حياته فلا غاية للانسان يتبعها الا السعادة وقد هدى كل نوع من أنواع الخليقة إلى سعادته التى هي بغية حياته بفطرته ونوع خلقته وجهز في وجوده بما يناسب غايته من التجهيز، قال تعالى: (ربنا الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50، وقال: (الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى) الاعلى: 3. فالانسان كسائر الانواع المخلوقة مفطور بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه ورفع حوائجه وتهتف له بما ينفعه وما يضره في حياته، قال تعالى: (ونفس وما سواها
________________________________________
[ 179 ]
فألهمها فجورها وتقواها) الشمس: 8، وهو مع ذلك مجهز بما يتم له به ما يجب له أن يقصده من العمل، قال تعالى: (ثم السبيل يسره) عبس: 20. فللانسان فطرة خاصة تهديه إلى سنة خاصة في الحياة وسبيل معينة ذات غاية مشخصة ليس له الا أن يسلكها خاصة وهو قوله: (فطرة الله التى فطر الناس عليها وليس الانسان العائش في هذه النشأة الا نوعا واحدا لا يختلف ما ينفعه وما يضره بالنظر إلى هذه البنية المؤلفة من روح وبدن فما للانسان من جهة أنه انسان الا سعادة واحدة وشفاء واحد فمن الضرورى حينئذ أن يكون تجاه عمله سنة واحدة ثابتة يهديه إليها هاد واحد ثابت. وليكن ذاك الهادى هو الفطرة ونوع الخلقة ولذلك عقب قوله: (فطرة الله التى فطر الناس عليها) بقوله: (لا تبديل لخلق الله). فلو اختلفت سعادة الانسان باختلاف أفراده لم ينعقد مجتمع واحد صالح يضمن سعادة الافراد المجتمعين، ولو اختلفت السعادة باختلاف الاقطار التى تعيش فيها الامم المختلفة بمعنى أن يكون الاساس الوحيد للسنة الاجتماعية أعنى الدين هو ما يقتضيه حكم المنطقة كان الانسان أنواعا مختلفة باختلاف الاقطار، ولو اختلفت السعادة باختلاف الازمنة بمعنى أن تكون الاعصار والقرون هي الاساس الوحيد للسنة الدينية اختلفت نوعية كل قرن وجيل مع من ورثوا من آبائهم أو أخلفوا من أبنائهم ولم يسر الاجتماع الانساني سير التكامل ولم تكن الانسانية متوجهة من النقص إلى الكمال إذ لا يتحقق النقص والكمال الا مع أمر مشترك ثابت محفوظ بينهما. وليس المراد بهذا انكارأن يكون لاختلاف الافراد أو الامكنة أو الازمنة بعض التأثير في انتظام السنة الدينية في الجملة بل اثبات أن الاساس للسنة الدينية هو البنية الانسانية التى هي حقيقة واحدة ثابتة مشتركة بين الافراد، فللانسانية سنة واحدة ثابتة بثبات أساسها الذى هو الانسان وهى التى تدير رحى الانسانية مع ما يلحق بها من السنن الجزئية المختلفة باختلاف الافراد أو الامكنة أو الازمنة. وهذا هو الذى يشير إلى قوله بعد: (ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وسنزيد المقام ايضاحا في بحث مستقل ان شاء الله تعالى.
________________________________________
[ 180 ]
وللقوم في مفردات الاية ومعناها أقوال أخر متفرقة: منها: أن المراد باقامة الوجه تسديد العمل فان الوجه هو ما يتوجه إليه وهو العمل واقامته تسديده. وفيه: أن وجه العمل هو غايته المقصودة منه وهى غير العمل والذى في الاية هو (فأقم وجهك) ولم يقل: فأقم وجه عملك. ومنها: أن (فطرة الله) منصوب بتقدير أعنى والفطرة هي الملة، والمعنى: اثبت وأدم الاستقامة للدين أعنى الملة التى خلق الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله. وفيه: أنه مبنى على اختلاف المراد بالفطرة وهى الملة و (فطر الناس) وهو الخلقة والتفكيك خلاف ظاهر الاية ولو أخذ (فطر الناس) بمعنى الادانة أي الحمل على الدين وهو التوحيد بقى قوله: (لا تبديل لخلق الله) لا يلائم ما قبله. على أن فيه خلاف ظاهر آخر وهو حمل الدين على التوحيد، ولو أخذ الدين بمعنى الاسلام أو مجموع الدين كله وأبقيت الفطرة على معناه المتبادر منها وهو الخلقة لم يستقم تقدير (أعنى) فان الدين بهذا المعنى غير الفطرة بمعنى الخلقة. ومنها: أن (فطرة) بدل من (حنيفا) والفطرة بمعنى الملة ويرد عليه ما يرد على سابقه. ومنها: أن (فطرة) مفعول مطلق لفعل محذوف مقدر، والتقدير: فطر الله فطرة فطر الناس عليها وفساده غنى عن البيان. ومنها: أن معناه اتبع من الدين ما دلك عليه فطرة الله وهو ما دلك عليه ابتداء خلقه للاشياء لانه خلقهم وركبهم وصورهم على وجه يدل على أن لهم صانعا قادرا عالما حيا قديما واحدا لا يشبه شيئا ولا يشبهه شئ. وفيه. أنه مبنى على كون (فطرة) منصوبا بتقدير اتبع وقد ذكره أبو السعود وقبله أبو مسلم المفسر فيكون المراد من اتباع الفطرة اتباع دلالة الفطرة بمعنى الخلقة والمراد بعدم تبديل الخلق عدم تغيره في الدلالة على الصانع بما له من الصفات الكريمة، وهذا قريب من المعنى الذى قدمناه للاية بحمل (فطرة) على الاغراء لكن يبقى عليه أن الاية عامة لا دليل على تخصيصها بالتوحيد.
________________________________________
[ 181 ]
ومنها: أن لا في قوله: (لا تبديل لخلق الله) تفيد النهى أي لا تبدلوا خلق الله أي دينه الذى أمرتم بالتمسك به، أو لا تبدلوا خلق الله بانكار دلالته على التوحيد ومنه ما نسب إلى ابن عباس أن المراد به النهى عن الخصاء. وفيه أن لا دليل على أخذ الخلق بمعنى الدين ولا موجب لتسمية الاعراض عن دلالة الخلقة أو انكارها تبديلا لخلق الله. وأما ما نسب إلى ابن عباس ففساده ظاهر. ومنها: ما ذكره الرازي في التفسير الكبير قال: ويحتمل أن يقال: خلق الله الخلق لعبادته وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيدا مثل كون المملوك عبدا للانسان فانه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية. وهذا لبيان فساد قول من يقول: العبادة لتحصيل الكمال والعبد يكمل بالعبادة فلا يبقى عليه تكليف، وقول المشركين: ان الناقص لا يصلح لعبادة الله وانما الانسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله، وقول النصارى ان عيسى كان يحل الله فيه وصار الها فقال: لا تبديل لخلق الله بل كلهم عبيد لا خروج لهم عن ذلك. انتهى. وفيه أنه مغالطة بين الملك والعبادة التكوينيين والملك والعبادة التشريعيين فان ملكه تعالى الذى لا يقبل الانتقال والبطلان ملك تكويني بمعنى قيام وجود الاشياء به تعالى والعبادة التى بازائه عبادة تكوينية وهو خضوع ذوات الاشياء له تعالى ولا تقبل التبديل والترك كما في قوله: (وان من شئ الا يسبح بحمده) أسرى: 44، وأما العبادة الدينية التى تقبل التبديل والترك فهى عبادة تشريعية بازاء الملك التشريعي المعتبر له تعالى فافهمه. ولو دل قوله: (لا تبديل لخلق الله) على عدم تبديل الملك والعبادة والعبودية لدل على التكويني منهما والذى يبدله القائلون بارتفاع التكليف عن الانسان الكامل أو بعبادة الكواكب أو المسيح فانما يعنى به التشريعي منهما. قوله تعالى: (منيبين إليه واتقوا وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين) تعميم للخطاب بعد تخصيصه بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم نظير قوله: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) الطلاق: 1، وقوله: (فاستقم كما أمرت أنت ومن معك ولا تطغوا) هود: 112،
________________________________________
[ 182 ]
فيؤل المعنى إلى نحو من قولنا: فأقم وجهك للدين حنيفا أنت ومن معك منيبين إلى الله، والانابة الرجوع بالتوبة. وقوله: (واتقوه وأقيموا الصلاة) التقوى بحسب دلالة المقام يشمل امتثال أوامره والانتهاء عن نواهيه تعالى فاختصاص اقامة الصلاة من بين سائر العبادات بالذكر للاعتناء بشأنها فهى عمود الدين. وقوله: (ولا تكونوا من المشركين) القول في اختصاصه من بين سائر المحرمات بالذكر نظير القول في الصلاة فالشرك بالله أكبر الكبائر الموبقة، وقد قال تعالى: (ان الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) النساء: 48، إلى غير ذلك من الايات. قوله تعالى: (من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) (من) للتبيين و (من الذين فرقوا دينهم) الخ، بيان للمشركين وفيه تعريفهم بأخص صفاتهم في دينهم وهو تفرقهم في دينهم وعودهم شيعة شيعة وحزبا حزبا يفرح ويسر كل شيعة وحزب بما عندهم من الدين والسبب في ذلك ما ذكره قبيل هذا بقوله: (بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم فمن يهدى من أضل الله وما لهم من ناصرين) فبين أنهم بنوا دينهم على أساس الاهواء وأنه لا يهديهم ولا هادى غيره. ومن المعلوم أن هوى النفس لا يتفق في النفوس بل ولا يثبت على حال واحدة دون أن يختلف باختلاف الاحوال وإذا كان هو الاساس للدين لم يلبث دون أن يسير بسير الاهواء وينزل بنزولها، ولا فرق في ذلك بين الدين الباطل والدين الحق المبنى على أساس الهوى. ومن هنا يظهر أن النهى عن تفرق الكلمة في الدين نهى في الحقيقة عن بناء الدين على أساس الهوى دون العقل، وربما احتمل كون الاية استئنافا من الكلام وهو لا يلائم السياق. وفى الاية ذم للمشركين بما عندهم من صفة التفرق في الكلمة والتحزب في الدين. قوله تعالى: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون) التعبير بالمس للدلالة على القلة والخفة وتنكير ضر
________________________________________
[ 183 ]
ورحمة أيضا لذلك والمعنى: إذا أصاب الناس شئ من الضر ولو قليلا كمرض ما وفقر ما وشدة ما دعوا ربهم وهو الله سبحانه حال كونهم راجعين من غيره ثم إذا أذاقهم الله من عنده رحمة إذا فريق من هؤلاء الناس بربهم الذى كانوا يدعونه ويعترفون بربوبيته يشركون باتخاذ الانداد والشركاء. أي انهم كافرون للنعمة طبعا وان اعترفوا بها عند الضر وقد أخذ لذلك فريقا منهم لان منهم من ليس كذلك. قوله تعالى: (ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون) تهديد لاولئك المشركين عند اذاقة الرحمة واللام في (ليكفروا) للامر الغائب وقوله: (فتمتعوا) متفرع على سابقه وهو أمر آخر والامران جميعا للتهديد، والالتفات من الامر الغائب إلى الامر الحاضر لثوران الوجد والسخط من تفريطهم في جنب الله واستهانتهم بأمره فقد بلغ منهم ذلك أن يتضرعوا عند الضر ويكفروا إذا كشف. قوله تعالى: (أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون) (أم) منقطعة والمراد بالانزال الاعلام أو التعليم مجازا، والسلطان البرهان، والمراد بالتكلم الدلالة مجازا فالمعنى: بل أعلمناهم برهانا فهو يدل على ما كانوا به يشركون أو بشركهم. ويمكن أن يراد بالسلطان ذو السلطان وهو الملك فلا مجاز في الانزال والتكلم والمعنى: بل أن أنزلنا عليهم ملكا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون أو بشركهم. قوله تعالى: (وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون) الاذاقة كالمس تدل على قليل النيل ويسيره، والقنوط اليأس. واذاالاولى شرطية والثانية فجائية، والمقابلة بين (إذا) في اذاقة الرحمة و (ان) في اصابة السيئة لان الرحمة كثيرة قطعية والسيئة قليلة احتمالية، ونسبة الرحمة إليه تعالى دون السيئة لان الرحمة وجودية مفاضة منه تعالى والسيئة عدمية هي عدم الافاضة ولذا عللها بقوله: (بما قدمت أيديهم)، وفى تعليل السيئة بذلك وعدم التعليل في جانب الرحمة بشئ اشارة إلى أن الرحمة تفضل. والتعبير في الرحمة بقوله: (فرحوا) وفى السيئة بقوله: (إذا هم يقنطون) للدلالة على حدوث القنوط ولم يكن بمترقب فان الرحمة والسيئة بيد الله والرحمة واسعة
________________________________________
[ 184 ]
ولهذا عبر بالمضارع الدال على الحال لتمثيل حالهم. والمراد بالاية بيان أن الناس لا يعدو نظرهم ظاهر ما يشاهدونه من النعمة والنقمة إذا وجدوا فرحوا بها من غير أن يتبصروا ويعقلوا أن الامر بيد غيرهم وبمشية من ربهم إذا لم يشأ لم يكن، وإذا فقدوا قطنوا كأن ليس ذلك باذن من ربهم وإذا لم يشأ لم يأذن وفتح باب النعمة فهم ظاهريون سطحيون. وبهذا يتضح أن لا تدافع بين هذه الاية وبين قوله السابق: (وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه) الاية وذلك أن مدلول هذه الاية أن أفهامهم سطحية إذا وجدوا فرحوا وإذا فقدوا قطنوا ومدلول تلك أنهم إذا وجدوا فرحوا وإذا فقدوا دعوا الله وهم قانطون من الشئ وأسبابه منيبين راجعين إلى الله سبحانه فلا تدافع. وربما أجيب بأن المراد بالناس في هذه الاية فريق آخر غير الفريق المراد بالناس في الاية السابقة ولو فرض اتحادهما كان ما ذكر من دعائهم في حال وقنوطهم في حال أخرى. وأجيب عنه أيضا بأن الدعاء لساني جار على العادة ولا ينافى القنوط الذى هو أمر قلبى وأنت خبير بما في كل من الجوابين من الفتور. وأجيب أيضا أن المراد بقنوطهم فعلهم فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء. وفيه مضافا إلى عدم الدليل على ذلك أنه لا يلائم معنى المفاجأة في القنوط. قوله تعالى: (أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون) بيان لخطئهم في المبادرة إلى الفرح والقنوط عند اذاقة الرحمة واصابة السيئة فان الرزق في سعته وضيقه تابع لمشية الله فعلى الانسان أن يعلم أن الرحمة التى ذاقها والسيئة التى أصابته ممكنة الزوال بمشية الله سبحانه ولا موجب للفرح بما لا يؤمن فقده ولا للقنوط مما يرجى زواله. وأما أنه أمر ظاهر للانسان مقطوع به كأنه يراه فلان الرزق الذى يناله الانسان أو يكتسبه متوقف الوجود على ألوف وألوف من الاسباب والشرائط ليس الانسان الذى يراه لنفسه الا أحد تلك الاسباب ولا السبب الذى يركن إليه ويطيب به نفسا الا بعض تلك الاسباب وعامة الاسباب منتهية إليه سبحانه فهو الذى يعطى ويمنع وهو
________________________________________
[ 185 ]
الذى يبسط ويقدر أي يوسع ويضيق، والباقى ظاهر. قوله تعالى: (فلت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل) الخ، ذو القربى صاحب القرابة من الارحام والمسكين أسوا حالا من الفقير وابن السبيل المسافر ذو الحاجة، واضافة الحق إلى الضمير تدل على أن لذى القربى حقا ثابتا، والخطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم، فظاهر الاية بما تحتف به من القرائن أن المراد بها الخمس والتكليف للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ويتبعه غيره ممن كلف بالخمس، والقرابة على أي حال قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في آية الخمس، هذا كله على تقدير كون الاية مدنية وأما على تقدير كونها مكية كسائر آيات السورة فالمراد مطلق الاحسان للقرابة والمسكين وابن السبيل. ولعموم الاية معنى عمم ذكره أثره الجميل فقال: (ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون). قوله تعالى: (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فاولئك هم المضعفون) الربا نماء المال، وقوله: (ليربو) الخ، يشير إلى وجه التسمية، فالمراد أن المال الذى تؤتونه الناس ليزيد في أموالهم لا ارادة لوجه الله - بقرينة ذكر ارادة الوجه في مقابله - فليس يزيد وينمو عند الله أي لا تثابون عليه لعدم قصد الوجه. وقوله: (وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فاولئك هم المضعفون) المراد بالزكاة مطلق الصدقة أي اعطاء المال لوجه الله من غير تبذير، والمضعف ذوالضعف، والمعنى: وما أعطيتم من المال صدقة تريدون وجه الله فاولئك هم الذين يضاعف لهم مالهم أو ثوابهم. فالمراد بالربا والزكاة بقرينة المقابلة وما احتف بهما من الشواهد، الربا الحلال وهو العطية من غير قربة، والصدقة وهى اعطاء المال مع قصد القربة. هذا كله على تقدير كون الاية مكية وأما على تقدير كونها مدنية فالمراد بالربا الربا المحرم وبالزكاة هي الزكاة المفروضة. وهذه الاية والتى قبلها أشبه بالمدنيات منهما بالمكيات ولا اعتبار بما يدعى من الرواية أو الاجماع المنقول.
________________________________________
[ 186 ]
(بحث روائي) في العيون عن عبيد الله بن عباس قال: قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فينا خطيبا فقال في آخر خطبته: نحن كلمة التقوى وسبيل الهدى والمثل الاعلى والحجة العظمى والعروة الوثقى. الحديث. وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم) الاية أن سبب نزولها أن قريشا كانوا يحجون البيت بحج ابراهيم عليه السلام ويلبون تلبيته: لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك. فجاءهم ابليس في صورة شيخ فغير تلبيتهم إلى قول: لبيك اللهم لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك. فكانت قريش تلبي هذه التلبية حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأنكر عليهم ذلك وقال: انه شرك. فأنزل الله عز وجل: (ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء) أي أترضون أنتم فيما تملكون أن يكون لكم فيه شريك ؟ فكيف ترضون أن تجعلوا لى شريكا فيما أملك ؟. وفى الكافي باسناده عن أبى بصير عن أبى عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا) قال: هي الولاية. وفيه باسناده عن هشام بن سالم عن أبى عبد الله عليه السلام قال: قلت: (فطرة الله التى فطر الناس عليها) قال: التوحيد. أقول: ورواه أيضا عن الحلبي وزرارة عنه عليه السلام ورواه الصدوق في التوحيد عن العلاء بن فضيل وزرارة وبكير عنه عليه السلام. وفى روضة الكافي باسناده عن اسماعيل الجعفي عن أبى جعفر عليه السلام قال: كانت شريعة نوح عليه السلام أن يعبد الله بالتوحيد والاخلاص وخلع الانداد، وهو الفطرة التى فطر الناس عليها. وفى تفسير القمى باسناده عن الهيثم الرماني عن الرضا عن أبيه عن جده عن أبيه محمد بن على عليهم السلام في قوله عز وجل: (فطرة الله التى فطر الناس عليها) قال:
________________________________________
[ 187 ]
هو لا اله الا الله محمد رسول الله على أمير المؤمنين ولى الله إلى ههنا التوحيد. أقول: وروى هذا المعنى في بصائر الدرجات عن أبى عبد الله عليه السلام، ورواه في التوحيد عن عبد الرحمن مولى أبى جعفر عنه عليه السلام. ومعنى كون الفطرة هي الشهادات الثلاث أن الانسان مفطور على الاعتراف بالله لا شريك له بما يجد من الحاجة إلى الاسباب المحتاجة إلى ما وراءها وهو التوحيد وبما يجد من النقص المحوج إلى دين يدين به ليكمله وهو النبوة، وبما يجد من الحاجة إلى الدخول في ولاية الله بتنظيم العمل بالدين وهو الولاية والفاتح لها في الاسلام هو على عليه السلام، وليس معناه أن كل انسان حتى الانسان الاولى يدين بفطرته بخصوص الشهادات الثلاث. والى هذا يؤل معنى الرواية السابقة أنها الولاية فانها تستلزم التوحيد والنبوة وكذا ما مر من تفسيره الفطرة بالتوحيد فان التوحيد هو القول بوحدانية الله تعالى المستجمع لصفات الكمال المستلزمة للمعاد والنبوة والولاية فالمال في تفسيرها بالشهادات الثلاث والتوحيد والولاية واحد. وفى المحاسن باسناده عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز وجل (فطرة الله التى فطر الناس عليها) قال: فطرهم على معرفة أنه ربهم ولو لا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ومن رازقهم ؟. وفى الكافي باسناده عن الحسين بن نعيم الصحاف عن أبى عبد الله عليه السلام في حديث قال: فقال عليه السلام: ان الله عز وجل خلق الناس كلهم على الفطرة التى فطرهم عليها لا يعرفون ايمانا بشريعة ولا كفرا بجحود ثم بعث الله عز وجل الرسل يدعو العباد إلى الايمان به فمنهم من هدى الله ومنهم من لم يهده. أقول: وفى هذا المعنى روايات أخر واردة في تفسير قوله تعالى: (كان الناس أمة واحدة) البقرة: 213 والمراد فيها بالانسان الفطري الانسان الساذج الذى يعيش على الفطرة الانسانية الذى لم يفسده الاوهام الفكرية والاهواء النفسانية فانه بالقوة القريبة من الفعل بالنسبة إلى أصول العقائد الحقة وكليات الشرائع الالهية فانه يعيش ببعث وتحريك من فطرته وخصوص خلقته. وأما الاهتداء إلى خصوص العقائد الحقة
________________________________________
[ 188 ]
وتفاصيل الشرائع الالهية فيتوقف على هداية خاصة الهية من طريق النبوة من الجزء الثاني من الكتاب. وفى الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن حماد بن عمرو الصفار قال: سألت قتادة عن قوله تعالى: (فطرة الله التى فطر الناس عليها) فقال: حدثنى أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (فطرة الله التى فطر الناس عليها) قال: دين الله. وفيه أخرج البخاري ومسلم وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن مردويه عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من مولود الا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ؟ قال أبو هريرة: اقرؤا ان شئتم (فطرة الله التى فطر الناس عليها) الاية. أقول: ورواه أيضا عن مالك وأبى داود وابن مردويه عن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه كما تنتج الابل من بهيمة جمعاء هل تحس من جدعاء. ورواه أيضا في الكافي باسناده عن زرارة عن أبى جعفر عليه السلام في حديث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: كل مولود يولد على الفطرة يعنى على المعرفة بأن الله خالقه. الحديث. وفى التوحيد باسناده عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا تضربوا أطفالكم على بكائهم فان بكاءهم أربعة أشهر شهادة أن لا اله الا الله، وأربعة أشهر الصلاة على النبي وأربعة أشهر الدعاء لوالديه. أقول: هو حديث لطيف ومعناه: أن الطفل في الاربعة أشهرالاولى لا يعرف أحدا وانما يحس بالحاجة فيطلب بالبكاء رفعها والرافع لها هو الله سبحانه فهو يتضر عليه السلام إليه ويشهد له بالوحدانية. وفى الاربعة أشهر الثانية يعرف من والديه واسطة ما بينه وبين رافع حاجته من غير أن يعرفهما بشخصيهما والواسطة بينه وبين ربه هو النبي فبكاؤه طلب الرحمة من ربه للنبى حتى يصل بتوسطه إليه. وفى الاربعة أشهر الثالثة يميز والديه بشخصيهما عن غيرهما فبكاؤه دعاء منه لهما وطلب جريان الرحمة من طريقهما إليه. ففى الحديث ألطف الاشارة إلى كيفية جريان
________________________________________
[ 189 ]
الفيض من مجرى الوسائط فافهم ذلك. وفى المجمع في قوله تعالى: (وآت ذا القربى حقه) وروى أبو سعيد الخدرى وغيره أنه لما نزلت هذه الاية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أعطى فاطمة عليها السلام فدكا وسلمه إليها وهو المروى عن أبى جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام. وفى الكافي باسناده عن ابراهيم اليماني عن أبى عبد الله عليه السلام قال: الربا رباءان: ربا يؤكل وربا لا يؤكل، فأما الذى يؤكل فهديتك إلى الرجل تطلب منه الثواب أفضل منها فذلك الربا الذى يؤكل، وهو قول الله عز وجل: (وما آتيتم من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله) وأما الذى لا يؤكل فهو الذى نهى الله عنه وأوعد عليه النار. أقول: ورواه أيضا في التهذيب عن ابراهيم بن عمر عنه عليه السلام، وفى تفسير القمى عن حفص بن عياث عنه عليه السلام، وفى المجمع مرسلا عن أبى جعفر عليه السلام. وفى المجمع في قوله تعالى: (فاولئك هم المضعفون) قال أمير المؤمنين عليه السلام: فرض الله الصلاة تنزيها عن الكبر، والزكاة تسبيبا للرزق، والصيام ابتلاء لاخلاص الخلق، وصلة الارحام منماة للعدد. وفى الفقيه خطبة للزهراء عليها السلام وفيها: ففرض الله الايمان تطهيرا من الشرك والصلاة تنزيها عن الكبر والزكاة زيادة في الرزق. (كلام في معنى كون الدين فطريا، في فصول) 1 - إذا تأملنا هذه الانواع الموجودة التى تتكون وتتكامل تدريجا سواء كانت ذوات حياة وشعور كأنواع الحيوان أو ذات حياة فقط كأنواع النبات أو ميتة غير ذى حياة كسائر الانواع الطبيعية - على ما يظهر لنا - وجدنا كل نوع منها يسير في وجوده سيرا تكوينيا معينا ذا مراحل مختلفة بعضها قبل بعض وبعضها بعد بعض يرد النوع في كل منها بعد المرور بالبعض الذى قبله وقبل الوصول إلى ما بعده ولا يزال يستكمل بطى هذه المنازل حتى ينتهى إلى آخرها وهو نهاية كماله. نجد هذه المراتب المطوية بحركة النوع يلازم كل منها مقامه الخاص به لا يستقدم ولا يستأخر من لدن حركة النوع في وجوده إلى أن تنتهى إلى كماله فبينها
________________________________________
[ 190 ]
رابطة تكوينية يربط بها بعض المراتب ببعض بحيث لا يتجافى ولا ينتقل إلى غير مكانه ومن هنا يستنتج أن للنوع غاية تكوينية يتوجه إليها من أول وجوده حتى يبلغها. فالجوزة الواحدة مثلا إذا استقرت في الارض استقرارا يهيؤها للنمو على اجتماع مما يتوقف عليه النمو من العلل والشرائط كالرطوبة والحرارة وغيرهما أخذ لبها في النمو وشق القشر وشرع في ازدياد من أقطار جسمه ولم يزل يزيد وينمو حتى يصل إلى حد يعود فيه شجرة قوية خضراء مثمرة ولا يختلف حاله في مسيره هذا التكويني وهو في أول وجوده قاصدا قصدا تكوينيا إلى غايته التكوينية التى هي مرتبة الشجرة الكاملة المثمرة. وكذا الواحد من نوع الحيوان كالواحدة من الضان مثلا لا نشك في أنها في أول تكونها جنينا متوجهة إلى غايتها النوعية التى هي مرتبة الضأنة الكاملة التى لها خواصها فلا تضل عن سبيلها التكوينية الخاصة بها إلى سبيل غيرها ولا تنسى غايتها يوما فتسير إلى غير غايتها كغاية الفيلة مثلا أو غاية شجرة الجوز مثلا فكل نوع من الانواع التكوينية له مسير خاص في استكمال الوجود ذو مراتب خاصة مترتبة بعضها على بعض تنتهى إلى مرتبة هي غاية النوع ذاتا يطلبها طلبا تكوينيا بحركته التكوينية والنوع في وجوده مجهز بما هو وسيلة حركته وبلوغه إلى غايته. وهذا التوجه التكويني لاستناده إلى الله يسمى هداية عامة الهية وهى كما عرفت لا تضل ولا تخطئ في تسيير كل نوع مسيره التكويني وسوقه إلى غايته الوجودية بالاستكمال التدريجي وباعمال قواه وأدواته التى جهز بها لتسهيل مسيره إلى غايته، قال تعالى: (ربنا الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى) طه: 50، وقال: (الذى خلق فسوى والذى قدر فهدى والذى أخرج المرعى فجعله غثاء أهوى) الاعلى: 5. 2 - نوع الانسان غير مستثنى من كلية الحكم المذكور أعنى شمول الهداية العامة له فنحن نعلم أن النطفة الانسانية من حين تشرع في التكون متوجهة إلى مرتبة انسان تام كامل له آثاره وخواصه قد قطع في مسيره مراحل الجنينية والطفولية والمراهقة والشباب والكهولة والشيب.
________________________________________
[ 191 ]
غير أن الانسان يفارق سائر الانواع الحيوانية والنباتية وغيرها فيما نعلم في أمر (1) وهو أنه لسعة حاجته التكوينية وكثرة نواقصه الوجودية لا يقدر على تتميم نواقصه الوجودية ورفع حوائجه الحيوية وحده بمعنى أن الواحد من الانسان لا تتم له حياته الانسانية وهو وحده بل يحتاج إلى اجتماع منزلي ثم اجتماع مدنى يجتمع فيه مع غيره بالازدواج والتعاون والتعاضد فيسعى الكل بجميع قواهم التى جهزوا بها للكل ثم يقسم الحاصل من عملهم بين الكل فيذهب كل بنصيبه على قدر زنته الاجتماعية. وقد عرفت في سابق مباحث هذا الكتاب أن المدنية ليست بطبيعية للانسان بمعنى أن ينبعث إليه من ناحية طبيعته الانسانية ابتداء بل له طبيعة مستخدمة لغيره لنفع نفسه ما وجد إليه سبيلا فهو يستخدم الامور الطبيعية ثم أقسام النبات والحيوان في سبيل مقاصده الحيوية فهو باستخدام فرد مثله أو أفراد أمثاله أجرأ لكنه يجد سائر الافراد أمثاله في الاميال والمقاصد وفى الجهازات والقوى فيضطر إلى المسالمة وأن يسلم لهم حقوقا مثل ما يراه لنفسه. وينتهى هذا التضارب بين المنافع أن يشارك البعض البعض في العمل التعاوني ثم يقسم الحاصل من الاعمال بين الجميع ويعطى منه لكل ما يستحقه. وكيف كان فالمجتمع الانساني لا يتم انعقاده ولا يعمر الا باصول علمية وقوانين اجتماعية يحترمها الكل وحافظ يحفظها من الضيعة ويجريها في المجتمع وعند ذلك تطيب لهم العيشة وتشرف عليهم السعادة. أما الاصول العلمية فهى معرفته اجمالا بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة وما عليه الانسان من حيث البداية والنهاية، فان المذاهب المختلفة مؤثرة في خصوص السنن المعمول بها في المجتمعات فالمعتقدون في الانسان أنه مادى محض ليس له من الحياة الا الحياة المعجلة المؤجلة بالموت وأن ليس في دار الوجود الا السبب المادى الكائن الفاسد ينظمون سنن اجتماعهم، بحيث تؤديهم إلى اللذائذ المحسوسة والكمالات المادية ما وراءها شئ.
________________________________________
(1) وعامة الحيوان وان كان لها شئ من الاجتماع الحيوى لكنه يسير في جنب الاجتماع لا يعبأ به. (*)
________________________________________
[ 192 ]
والمعتقدون بصانع وراء المادة كالوثنية يبنون سننهم وقوانينهم على ارضاء الالهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيوية والمعتقدون بالمبدأ والمعاد يبنون حياتهم على أساس يسعدهم في الحياة الدنيوية ثم في الحياة المؤبدة التى بعد الموت فصور الحياة الاجتماعية تختلف باختلاف الاصول الاعتقادية في حقيقة العالم والانسان الذى هو جزء من أجزائه. وأما القوانين والسنن الاجتماعية فلو لا وجود قوانين وسنن مشتركة يحترمها المجتمعون جميعهم أو أكثرهم ويتسلمونها تفرق الجمع وانحل المجتمع. وهذه السنن والقوانين قضايا كلية عملية صورها: يجب أن يفعل كذا عند كذا أو يحرم أو يجوز وهى أياما كانت معتبرة في العمل لغايات مصلحة للاجتماع والمجتمع تترتب عليها تسمى مصالح الاعمال ومفاسدها. 3 - قد عرفت أن الانسان انما ينال ما قدر له من كمال وسعادة بعقد مجتمع صالح يحكم فيه سنن وقوانين صالحة تضمن بلوغه ونيله سعادته التى تليق به وهذه السعادة أمر أو امور كمالية تكوينية تلحق الانسان الناقص الذى هو أيضا موجود تكويني فتجعله انسانا كاملا في نوعه تاما في وجوده. فهذه السنن والقوانين - وهى قضايا عملية اعتبارية - واقعة بين نقص الانسان وكماله متوسطة كالعبرة بين المنزلتين وهى كما عرفت تابعة للمصالح التى هي كمال أو كمالات انسانية، وهذه الكمالات امور حقيقية مسانخة ملائمة للنواقص التى هي مصاديق حوائج الانسان الحقيقية. فحوائج الانسان الحقيقية هي التى وضعت هذه القضايا العملية واعتبرت هذه النواميس الاعتبارية، والمراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الانسانية بأميالها وعزائمها ويصدقه العقل الذى هو القوة الوحيدة التى تميز بين الخير والنافع وبين الشر والضار دون ما تطلبه الاهواء النفسانية مما لا يصدقه العقل فانه كمال حيوانى غير انسانى. فاصول هذه السنن والقوانين يجب أن تكون الحوائج الحقيقية التى هي بحسب الواقع حوائج لا بحسب تشخيص الاهواء النفسانية. وقد عرفت أن الصنع والايجاد قد جهز كل نوع من الانواع - ومنها الانسان -
________________________________________
[ 193 ]
من القوى والادوات بما يرتفع بفعاليته حوائجه ويسلك به سبيل الكمال ومنه يستنتج أن للجهازات التكوينية التى جهز بها الانسان اقتضاءات للقضايا العملية المسماة بالسنين والقوانين التى بالعمل بهايستقر الانسان في مقر كماله مثل السنن والقوانين الراجعة إلى التغذى المعتبرة بما أن الانسان مجهز بجهاز التغذى والراجعة إلى النكاح بما أن الانسان مجهز بجهاز التوالد والتناسل. فتبين أن من الواجب أن يتخذ الدين - أي الاصول العلمية والسنن والقوانين العملية التى تضمن باتخاذها والعمل بها سعادة الانسان الحقيقية - من اقتضاءات الخلقة الانسانية وينطبق التشريع على الفطرة والتكوين، وهذا هو المراد بكون الدين فطريا وهو قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم). 4 - قد عرفت معنى كون الدين فطريا فالاسلام يسمى دين الفطرة لما أن الفطرة الانسانية تقتضيه وتهدى إليه. ويسمى اسلاما لما أن فيه تسليم العبد لارادة الله سبحانه منه، ومصداق الارادة وهى صفة الفعل تجمع العلل المؤلفة من خصوص خلقة الانسان وما يحتف به من مقتضيات الكون العام على اقتضاء الفعل أو الترك قال تعالى: (ان الدين عند الله الاسلام). ويسمى دين الله لانه الذى يريده الله من عباده من فعل أو ترك، بما مر من معنى الارادة. ويسمى سبيل الله لما أنه السبيل التى أرادها الله أن يسلكها الانسان لتنتهي به إلى كماله وسعادته، قال تعالى: (الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا) الاعراف: 45. وأما أن الدين الحق يجب أن يؤخذ من طريق الوحى والنبوة ولا يكفى فيه العقل فقد تقدم بيانه في مباحث النبوة وغيرها من مباحث الكتاب.
________________________________________
[ 194 ]
* * * ألله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ سبحانه وتعالى عما يشركون - 40. ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون - 41. قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين - 42. فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون - 43. من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلا نفسهم يمهدون - 44. ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله انه لا يحب الكافرين - 45. ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجرى الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون - 46. ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين - 47. (بيان) هذا هوالفصل الثاني من الفصول الاربعة التى يحتج فيها بالافعال الخاصة به وان شئت فقل: بأسماء الافعال على ابطال الشركاء ونفى ربوبيتهم وألوهيتهم وعلى اثبات المعاد.
________________________________________
[ 195 ]
قوله تعالى: (الله الذى خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شئ) الخ، اسم الجلالة مبتدأ و (الذى خلقكم) خبره، وكذا قوله: (من يفعل) الخ مبتدأ خبره (من شركائكم) المقدم عليه والاستفهام انكاري وقد ذكر في تركيب الاية احتمالات أخر. والمعنى: أن الله سبحانه هو الذى اتصف بكذا وكذا وصفا من أوصاف الالوهية والربوبية فهل من الالهة الذين تدعون أنهم آلهة من يفعل شيئا من ذلكم يعنى من الخلق والرزق والاماتة والاحياء واذ ليس منهم من يفعل شيئا من ذلكم فالله سبحانه هو الهكم وربكم لا اله الا هو. ولعل الوجه في ذكر الخلق مع الرزق والاحياء والاماتة مع تكرر تقدم ذكره في سلك الاحتجاجات السابقة الاشارة إلى أن الرزق لا ينفك عن الخلق بمعنى أن بعض الخلق يسمى بالقياس إلى بعض آخر يديم بقاءه به رزقا فالرزق في الحقيقة من الخلق فالذي يخلق الخلق هو الذى يرزق الرزق. فليس لهم أن يقولوا: ان الرازق وكذا المحيى والمميت بعض آلهتنا كما ربما يدعيه بعضهم أن مدبر عالم الانسان بعض الالهة ومدبر كل شأن من شؤن العالم من الخيرات والشرور بعضهم لكنهم لا يختلفون أن الخلق والايجاد منه تعالى لا يشاركه في ذلك أحد فإذا سلم ذلك ومن المسلم أن الرزق مثلا خلق وكذا سائر الشؤن لا تنفك عن الخلق رجع الامر كالخلق إليه تعالى ولم يبق لا لهتهم شأن من الشؤن. ثم نزه سبحانه نفسه عن شركهم فقال: (سبحانه وتعالى عما يشركون). قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس ليذيقهم بعض الذى عملوا لعلهم يرجعون) الاية بظاهر لفظها عامة لا تختص بزمان دون زمان أو بمكان أو بواقعة خاصة، فالمراد بالبر والبحر معناهما المعروف ويستوعبان سطح الكرة الارضية. والمراد بالفساد الظاهر المصائب والبلايا الظاهرة فيهما الشاملة لمنطقة من مناطق الارض من الزلازل وقطع الامطار والسنين والامراض السارية والحروب والغارات وارتفاع الامن وبالجملة كل ما يفسد النظام الصالح الجارى في العالم الارضى سواء كان
________________________________________
[ 196 ]
مستندا إلى اختيار بعض الناس أو غير مستند إليه. فكل ذلك فساد ظاهر في البر أو البحر مخل بطيب العيش الانساني. وقوله: (بما كسبت أيدى الناس) أي بسبب أعمالهم التى يعملونها من شرك أو معصية وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض) الاية الاعراف: 96، وأيضا في مباحث النبوة من الجزء الثاني من الكتاب أن بين أعمال الناس والحوادث الكونية رابطة مستقيمة يتأثر احداهما من صلاح الاخرى وفسادها. وقوله: (ليذيقهم بعض الذى عملوا) اللام للغاية، أي ظهر ما ظهر لاجل أن يذيقهم الله وبال بعض أعمالهم السيئة بل ليذيقهم نفس ما عملوا وقد ظهر في صورة الوبال وانما كان بعض ما عملوا لان الله سبحانه برحمته يعفو عن بعض كما قال: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير) الشورى: 30. والاية ناظرة إلى الوبال الدنيوي واذاقة بعضه لاكله من غير نظر إلى وبال الاعمال الاخروي فما قيل: ان المراد اذاقة الوبال الدنيوي وتأخير الوبال الاخروي إلى يوم القيامة لا دليل عليه ولعله جعل تقدير الكلام: (ليذيقهم بعض جزاء ما عملوا مع أن التقدير (ليذيقهم جزاء بعض ما عملوا)، لان الذى يحوجنا إلى تقدير المضاف - لو أحوجنا - هو أن الراجع إليهم ثانيا في صورة الفساد هو جزاء أعمالهم لا نفس أعمالهم فالذي أذيقوا هو جزاء بعض ما عملوا لا بعض جزاء ما عملوا. وقوله: (لعلهم يرجعون) أي يذيقهم ما يذيقهم رجاء أن يرجعوا من شركهم ومعاصيهم إلى التوحيد والطاعة. ووجه اتصال الاية بما قبلها أنه لما احتج في الاية السابقة على التوحيد ونزهه عن شركهم أشار في هذه الاية إلى ما يستتبع الشرك - وهو معصية - من الفساد في الارض واذاقة وبال السيئات فبين ذلك بيان عام. ولهم في الاية تفاسير مختلفة عجيبة كقول بعضهم المراد بالارض أرض مكة وقول بعضهم: المراد بالبر القفار التى لا يجرى فيها نهر وبالبحر كل قرية على شاطئ نهر عظيم، وقول بعضهم: البر الفيافي ومواضع القبائل والبحر السواحل والمدن التى عند
________________________________________
[ 197 ]
البحر والنهر، وقول بعضهم: البر البرية والبحر المواضع المخصبة الخضرة، وقول بعضهم: ان هناك مضافا محذوفا والتقدير في البر ومدن البحر، ولعل الذى دعاهم إلى هذه الاقاويل ما ورد أن الاية ناظرة إلى القحط الذى وقع بمكة اثر دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قريش لما لجوا في كفرهم وداموا على عنادهم فأرادوا تطبيق الاية على سبب النزول فوقعوا فيما وقعوا من التكلف. وقول بعضهم: ان المراد بالفساد في البر قتل ابن آدم أخاه وفى البحر أخذ كل سفينة غصبا. وهو كما ترى. قوله تعالى: (قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين) أمر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمرهم أن يسيروا في الارض فينظروا إلى آثار الذين كانوا من قبل حيث خربت ديارهم وعفت آثارهم وبادوا عن آخرهم وانقطع دابرهم بأنواع من النوائب والبلايا كان أكثرهم مشركين فأذاقهم الله بعض ما عملوا ليعتبر به المعتبرون فيرجعوا إلى التوحيد، فالاية في مقام الاستشهاد لمضمون الاية السابقة. قوله تعالى: (فأقم وجهك للدين القيم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله يومئذ يصدعون) تفريع على ما تقدمه أي إذا كان الشرك والكفر بالحق بهذه المثابة وله وبال سيلحق بالمتلبس به فأقم وجهك للدين القيم. وقوله: (من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله) متعلق بقوله: (فأقم) والمرد مصدر ميمى بمعنى الرد وهو بمعنى الراد واليوم الذى لا مرد له من الله يوم القيامة. وقوله: (يومئذ يصدعون) أصله يتصدعون، والتصدع في الاصل تفرق أجزاء الاواني ثم استعمل في مطلق التفرق كما قيل، والمراد به - كما قيل - تفرقهم يومئذ إلى الجنة والنار. وقيل: المراد تفرق الناس بأشخاصهم كما يشير إليه قوله تعالى: (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث) القارعة: 4. ولكل وجه، ولعل الاظهر امتياز الفريقين كما سيأتي. قوله تعالى: (من كفر فعليه كفره ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون) الظاهر أنه تفسير لقوله في الاية السابقة: (يتفرقون) وقوله: (من كفر فعليه كفره) أي وبال
________________________________________
[ 198 ]
كفره بتقدير المضاف أو نفس كفره الذى سينقلب عليه نارا يخلد فيها وهذا أحد الفريقين. وقوله: (ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون) مهد الفراش بسطه وايطاؤه، وهؤلاء الفريق الاخرالذين آمنوا وعملوا الصالحات، وقد جئ بالجزاء (فلانفسهم يمهدون) جمعا نظرا إلى المعنى، كما أنه جئ به مفردا في الشرطية السابقة (فعليه كفره) نظرا إلى اللفظ، واكتفى في الشرط بذكر العمل الصالح ولم يذكر الايمان معه لان العمل انما يصلح بالايمان على أنه مذكور في الاية التالية. والمعنى: والذين عملوا عملا صالحا - بعد الايمان - فلانفسهم يوطؤن ما يعيشون به ويستقرون عليه. قوله تعالى: (ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله انه لا يحب الكافرين) قال الراغب: الجزاء الغناء والكفاية، قال الله تعالى: (لا تجزى نفس عن نفس شيئا)، وقال: (لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا) والجزاء ما فيه الكفاية من المقابلة ان خيرا فخير وان شرا فشر، يقال: جزيته كذا وبكذا. انتهى. وقوله: (ليجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله) اللام للغاية ولا ينافى عد ما يؤتيهم جزاء - وفيه معنى المقابلة - عده من فضله وفيه معنى عدم الاستحقاق وذلك لانهم بأعيانهم وما يصدر عنبهم من أعمالهم ملك طلق لله سبحانه فلا يملكون لانفسهم شيئا حتى يستحقوا به أجرا، وأين العبودية من الملك والاستحقاق فما يؤتونه من الجزاء فضل من غير استحقاق. لكنه سبحانه بفضله ورحمته اعتبر لهم ملكا لاعمالهم في عين أنه يملكهم ويملك أعمالهم فجعل لهم بذلك حقا يستحقونه، وجعل ما ينالونه من الجنة والزلفى أجرا مقابلا لاعمالهم وهذا الحق المجعول أيضا فضل آخر منه سبحانه. ومنشأ ذلك حبه تعالى لهم لانهم لما أحبوا ربهم أقاموا وجوههم للدين القيم واتبعوا الرسول فيما دعا إليه فأحبهم الله كما قال: (قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) آل عمران: 31. ولذا كانت الاية تعد ما يؤتيهم الله من الثواب جزاء وفيه معنى المقابلة والمبادلة
________________________________________
[ 199 ]
وتعد ذلك من فضله نظرا إلى أن نفس هذه المقابلة والمبادلة فضل منه سبحانه ومنشأه حبه تعالى لهم كما يومى إليه تذييل الاية بقوله: (انه لا يحب الكافرين). ومن هنا يظهر أن قوله: (انه لا يحب الكافرين) يفيد التعليل بالنسبة إلى جانبى النفى والاثبات جميعا أي انه تعالى يخص المؤمنين العاملين للصالحات بهذا الفضل ويحرم الكافرين منه لانه يحب هؤلاء ولا يحب هؤلاء. قوله تعالى: (ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته ولتجرى الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون)، المراد بكون الرياح مبشرات تبشيرها بالمطر حيث تهب قبيل نزوله. وقوله: (وليذيقكم من رحمته) عطف على موضع مبشرات لما فيه من معنى التعليل والتقدير يرسل الرياح لتبشركم وليذيقكم من رحمته والمراد باذاقة الرحمة اصابة أنواع النعم المترتبة على جريان الرياح كتلقيح الاشجار ودفع العفونات وتصفية الاجواء وغير ذلك مما يشمله اطلاق الجملة. وقوله: (ولتجرى الفلك بأمره) أي لجريان الرياح وهبوبها. وقوله: (ولتبتغوا من فضله) أي لتطلبوا من رزقه الذى هو من فضله. وقوله: (ولعلكم تشكرون)، غاية معنوية كما أن الغايات المذكورة من قبل غايات صورية، والشكر هو استعمال النعمة بنحو ينبئ عن انعام منعمه أو الثناء اللفظى عليه بذكر انعامه، وينطبق بالاخرة على عبادته ولذلك جئ بلعل المفيدة للرجاء فان الغايات المعنوية الاعتبارية ربما تخلفت. قوله تعالى: (ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاؤهم بالبينات فانتقمنا من الذين أجرموا وكان حقا علينا نصر المؤمنين) قال الراغب: أصل الجرم - بالفتح فالسكون - قطع الثمرة عن الشجر - إلى أن قال - وأجرم صار ذا جرم نحو أثمر وأتمر وألبن واستعير ذلك لكل اكتساب مكروه، ولا يكاد يقال في عامة كلامهم للكيس المحمود انتهى. والاية كالمعترضة وكأنها مسوقة لبيان أن للمؤمنين حقا على ربهم وهو نصرهم في الدنيا والاخرة ومنه الانتقام من المجرمين، وهذا الحق مجعول من قبله تعالى لهم على
________________________________________
[ 200 ]
نفسه فلا يرد عليه محذور لزوم كونه تعالى مغلوبا في نفسه مقهورا محكوما لغيره. وقوله: (فانتقمنا من الذين أجرموا) الفاء فصيحة أي فآمن بعضهم وأجرم آخرون فانتقمنا من المجرمين وكان حقا علينا نصر المؤمنين بانجائهم من العذاب واهلاك مخالفيهم، وفى الاية بعض الاشعار بأن الانتقام من المجرمين لاجل المؤمنين فانه من النصر. (بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدى الناس) قال: في البر فساد الحيوان إذا لم يمطر وكذلك هلاك دواب البحر بذلك، وقال الصادق عليه السلام: حياة دواب البحر بالمطر فإذا كف المطر ظهر الفساد في البر والبحر، وذلك إذا كثرت الذنوب والمعاصي. أقول: وهو من الجرى. وفى روضة الكافي باسناده عن أبى الربيع الشامي قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل: (قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل) فقال: عنى بذلك أي انظروا في القرآن فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم). وفى المجمع في قوله: (ومن عمل صالحا فلانفسهم يمهدون) روى منصور بن حازم عن أبى عبد الله عليه السلام قال: ان العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنة فيمهد له كما يمهد لاحدهم خادمه فراشه. وفيه وجاءت الرواية عن أم الدرداء أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ما من امرء يرد عن عرض أخيه الا كان حقا على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم قرأ: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين). أقول: ورواه في الدر المنثور عن ابن أبى حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبى الدرداء.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page