• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 151 الي 175


[ 151 ]
كالخطف استلاب الشئ بسرعة واختلاسه وقد كانت العرب يومئذ تعيش في التغاور والتناهب ولا يزالون يغير بعضهم على بعض بالقتل والسبي والنهب لكنهم يحترمون الحرم ولا يتعرضون لمن أقام بها فيها. والمعنى: أو لم ينظروا أنا جعلنا حرما آمنا لا يتعرض لمن فيه بقتل أو سبى أو نهب والحال أن الناس يختلسون من حولهم خارج الحرم. وقوله: (أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون) توبيخ آخر لهم حيث يقابلون هذه النعمة وهى نعمة عظيمة بالكفران لكنهم يؤمنون بالاصنام وهى باطلة ليس لها الا الاسم. قوله تعالى: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين) تهديد لهم بالنار بتوسيمهم بأشد الظلم وأعظمه وهو افتراء الكذب على الله بالقول بالالهة وأن الله اتخذهم شركاء لنفسه، وتكذيب الانسان بالحق لما جاءه والوصفان جميعا موجودان فيهم فقد عبدوا الاصنام وكذبوا بالقرآن لما جاءهم فهم كافرون ومثوى الكافرين ومحل اقامتهم في الاخرة جهنم. قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين) الجهد الوسع والطاقة والمجاهدة استفراغ الوسع في مدافعة العدو والجهاد ثلاثة أضرب: مجاهدة العدو الظاهر، ومجاهدة الشيطان، ومجاهدة النفس كذا ذكره الراغب. وقوله: (جاهدوا فينا) أي استقر جهادهم فينا وهو استعارة كنائية عن كون جهده مبذولا فيما يتعلق به تعالى من اعتقاد وعمل، فلا ينصرف عن الايمان به والائتمار بأوامره والانتهاء عن نواهيه بصارف يصرفه. وقوله: (لنهدينهم سبلنا) أثبت لنفسه سبلا وهى أياما كانت تنتهى إليه تعالى فانما السبيل سبيل لتأديته إلى ذى السبيل وهو غايتها فسبله هي الطرق المقربة منه والهادية إليه تعالى، واذ كانت نفس المجاهدة من الهداية كانت الهداية إلى السبل هداية على هداية فتنطبق على مثل قوله تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى) محمد: 17. ومما تقدم يظهر أن لا حاجة في قوله: (فينا) إلى تقدير مضاف كشأن والتقدير في شأننا.
________________________________________
[ 152 ]
وقوله: (وان الله لمع المحسنين) قيل: أي معية النصرة والمعونة وتقدم الجهاد المحتاج اليهما قرينة قوية على ارادة ذلك. انتهى. وهو وجه حسن وأحسن منه أن يفسر بمعية الرحمة والعناية فيشمل معية النصرة والمعونة وغيرهما من أقسام العنايات التى له سبحانه بالمحسنين من عباده لكمال عنايته بهم وشمول رحمته لهم، وهذه المعية أخص من معية الوجود الذى ينبئ عنه قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم) الحديد: 4. وقد تقدمت الاشارة إلى أن الاية خاتمة للسورة منعطفة على فاتحتها. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن أبى الدنيا والبيهقي في شعب الايمان عن أبى جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا عجبا كل العجب للمصدق بدار الحيوان وهو يسعى لدار الغرور. وفيه أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس أنهم قالوا: يا محمد ما يمنعنا أن ندخل في دينك الا مخافة أن يتخطفنا الناس لقلتنا والعرب أكثر منا فمتى بلغهم أنا قد دخلنا في دينك اختطفنا فكنا أكلة رأس فأنزل الله: (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) الاية. وفى تفسير القمى في قوله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين) في رواية أبى الجارود عن أبى جعفر عليه السلام قال: هذه الاية لا محمد عليهم السلام ولاشياعهم.
________________________________________
[ 153 ]
(سورة الروم مكية، وهى ستون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. الم - 1. غلبت الروم - 2. في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون - 3. في بضع سنين لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون - 4. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم - 5. وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون - 6. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون - 7. أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والارض وما بينهما الا بالحق وأجل مسمى وان كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون - 8. أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الارض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون - 9. ثم كان عاقبة الذين أساؤا السو آى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن - 10. الله يبدؤا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون - 11. ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون - 12.
________________________________________
[ 154 ]
ولم يكن لهم من شركائهم شفعؤا وكانوا بشركائهم كافرين - 13. ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون - 14. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة يحبرون - 15. وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الاخرة فأولئك في العذاب محضرون - 16. فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون - 17. وله الحمد في السماوات والارض وعشيا وحين تظهرون - 18. يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ويحيى الارض بعد موتها وكذلك تخرجون - 19. (بيان) تفتتح السورة بوعد من الله وهو أن الروم ستغلب الفرس في بضع سنين بعد انهزامهم أيام نزول السورة عن الفرس ثم تنتقل منه إلى ذكر ميعاد أكبر وهو الوعد بيوم يرجع الكل فيه إلى الله وتقيم الحجة على المعاد ثم تنعطف إلى ذكرآيات الربوبية وتصف صفاته تعالى الخاصة به ثم تختتم السورة بوعد النصر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وتؤكد القول فيه إذ تقول: (فاصبر ان وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) وقد قيل قبيل ذلك: (وكان حقا علينا نصر المؤمنين). فغرض السورة هو الوعد القطعي منه تعالى بنصره دينه وقد قدم عليه نصر الروم على الفرس في بضع سنين من حين النزول ليستدل بانجاز هذا الوعد على انجاز ذلك الوعد، وكذا يحتج به ومن طريق العقل على أنه سينجز وعده بيوم القيامة لا ريب فيه.
________________________________________
[ 155 ]
قوله تعالى: (غلبت الروم في أدنى الارض) الروم جيل من الناس على ساحل البحر الابيض بالمغرب كانت لهم امبراطورية وسيعة منبسطة إلى الشامات وقعت بينهم وبين الفرس حرب عوان في بعض نواحى الشام قريبا من الحجاز فغلبت الفرس وانهزمت الروم، والظاهر أن المراد بالارض أرض الحجاز واللام للعهد. قوله تعالى: (وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين) ضمير الجمع الاول للروم وكذا الثالث وأما الثاني فقد قيل انه للفرس والمعنى: والروم من بعد غلبة الفرس سيغلبون، ويمكن أن يكون الغلب من المصدر المبنى للمفعول والضمير للروم كالضميرين قبلها وبعدها فلا تختلف الضمائر والمعنى: والروم من بعد مغلوبيتهم سيغلبون. والبضع من العدد من ثلاثة إلى تسعة. قوله تعالى: (لله الامر من قبل ومن بعد) قبل وبعد مبنيان على الضم فهناك مضاف إليه مقدر والتقدير لله الامر من قبل أن غلبت الروم ومن بعد أن غلبت يأمر بما يشاء فينصر من يشاء ويخذل من يشاء. وقيل: المعنى لله الامر من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين أي وقت كونهم مغلوبين ووقت كونهم غالبين والمعنى الاول أرحج ان لم يكن راجحا متعينا. قوله تعالى: (ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم) الظرف متعلق بيفرح وكذا قوله (ينصر) والمعنى: ويوم إذ يعلب الروم يفرح المؤمنون بنصر الله الروم، ثم استأنف وقال: (ينصر من يشاء) تقريرا لقوله: (لله الامر من قبل ومن بعد). وقوله: وهو العزيز الرحيم) أي عزيز يعز بنصره من يشاء رحيم يخص برحمته من يشاء. وفى الاية وجوه أخر ضعيفة ذكروها: منها: أن قوله: (ويومئذ) عطف على قوله: (من قبل) والمراد به شمول سلطنته تعالى لجميع الازمنة الثلاثة: الماضي والمستقبل والحال كأنه قيل: لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ ثم ابتدأ وقيل: يفرح المؤمنون بنصر الله. وفيه أنه يبطل
________________________________________
[ 156 ]
انسجام الاية وينقطع به آخرها عن أولها. ومنها: أن قوله: (بنصر) متعلق بقوله: (المؤمنون دون (يفرح) ويدل بالملازمة المقامية أن غلبة الروم بنصر من الله. وفيه أن لازمه أن يفرح المؤمنون يوم غلبة الفرس ويوم غلبة الروم جميعا فان في الغلبة نصرا وكل نصر من الله قال تعالى: (وما النصر الا من عند الله العزيز الحكيم) آل عمران: 126 فقصر فرح المؤمنين بالنصر بيوم غلبة الروم ترجيح بلا مرجح فافهمه. ومنها: أن المراد بنصر الله نصر المؤمنين على المشركين يوم بدر دون نصرالروم على الفرس وان توافق النصران زمانا فكأنه قيل: ان الروم سيغلبون في بضع سنين ويوم يغلبون يغلب المؤمنون المشركين فيفرحون بنصر الله اياهم. وفيه أن هذا المعنى لا يلائم قوله بعد: (ينصر من يشاء). ومنها: أن المراد بالنصر نصر المؤمنين بصدق اخبارهم بغلبة الروم، وقيل: النصر هو استيلاء بعض الكفار على بعض وتفرق كلمتهم وانكسار شوكتهم. وهذان وما يشبههما وجوه لا يعبؤ بها. قوله تعالى: (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (وعد الله) مفعول مطلق محذوف العامل والتقدير وعد الله وعدا واخلاف الوعد خلاف انجازه وقوله: (وعد الله) تأكيد وتقرير للوعد السابق في قوله: (سيغلبون) و (يفرح المؤمنون) كما أن قوله: (لا يخلف الله وعده) تأكيد وتقرير لقوله: (وعد الله). وقوله: (لا يخلف الله وعده) كقوله: (ان الله لا يخلف الميعاد) الرعد: 31 وخلف الوعد وان لم يكن قبيحا بالذات لانه ربما يحسن عند الاضطرار لكنه سبحانه لا يضطره ضرورة فلا يحسن منه خلف الوعد في حال. على أن خلف الوعد يلازم النقص دائما ويستحيل النقص عليه تعالى. على أنه تعالى أخبر في كلامه بأنه لا يخلف الميعاد وهو أصدق الصادقين وهو القائل عز من قائل: (والحق أقول) صلى الله عليه وآله وسلم: 84. وقوله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أي هم جهلاء بشؤونه تعالى لا يثقون بوعده ويقيسونه إلى أمثالهم ممن يصدق ويكذب وينجز ويخلف.
________________________________________
[ 157 ]
قوله تعالى: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون) جملة (يعلمون) على ما ذكره في الكشاف بدل من قوله: (لا يعلمون) وفى هذا الابدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسد مسده ليعلمك أنه لا فرق بين عدم العلم الذى هو الجهل وبين وجود العلم الذى لا يتجاوز الدنيا انتهى. وقيل: الجملة استثنائية لبيان موجب جهلهم بأن وعد الله حق وأن لله الامر من قبل ومن بعد وأنه ينصر المؤمنين على الكافرين. انتهى وهذا أظهر. وتنكير (ظاهرا) للتحقير وظاهر الحياة الدنيا ما يقابل باطنها وهو الذى يناله حواسهم الظاهرة من زينة الحياة فيرشدهم إلى اقتنائها والعكوف عليها والاخلاد إليها ونسيان ما وراءها من الحياة الاخرة والمعارف المتعلقة بها والغفلة عما فيه خيرهم ونفعهم بحقيقة معنى الكلمة. وقيل: الظهور في الاية بمعنى الزوال واستشهد بقوله: وعيرها الواشون أنى أحبها وتلك شكاة ظاهر عنك عارها. والمعنى: يعلمون أمرا زائلا لا بقاء له لكنه معنى شاذ الاستعمال. قوله تعالى: (أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السماوات والارض وما بينهما الا بالحق وأجل مسمى) الخ المراد من خلق السماوات والارض وما بينهما - وذلك جملة العالم المشهود - بالحق أنها لم تخلق عبثا لا غاية لها وراءها بأن يوجد ويعدم ثم يوجد ثم يعدم من غير غرض وغاية فهو تعالى انما خلقها لغاية تترتب عليها. ثم ان العالم بأجزائها ليس بدائم الوجود غير منقطع الاخر حتى يحتمل كون كل جزء لاحق غاية للجزء السابق وكل آت خلفا لماضيه بل هو بأجزائه فان بائد فهناك غاية مقصودة من خلق العالم ستظهر بعد فناء العالم وهذا المعنى هو المراد بتقييد قوله: (ما خلق الله السماوات والارض وما بينهما) بقوله: (وأجل مسمى) بعد تقييده بقوله: (الا بالحق). فقوله: (أو لم يتفكروا في أنفسهم) الاستفهام للتعجيب، وكونهم في أنفسهم استعارة كنائية عن فراغ البال وحضور الذهن كأنهم عند اشتغالهم بامور الدنيا وسعيهم للمعيشة وتشوش البال يغيبون عن أنفسهم فيكونون عند حضور الذهن حاضرين مستقرين
________________________________________
[ 158 ]
في أنفسهم فيكون تفكرهم حينئذ مجتمعا غير متفرق فيهديهم إلى الحق ويرشدهم إلى الواقع. وقيل: المراد بتفكرهم في أنفسهم أن يتفكروا في خلق أنفسهم وأن الواحد منهم محدث والمحدث - بالفتح - يحتاج إلى محدث - بالكسر - قديم حى قادر عليم حكيم فلا يخلق ما يخلق عبثا بل لغاية مطلوبة وليست تعود إليه نفسه لغناء المطلق بل إلى الخلق وهو الثواب ولا يكون الا لصالح العمل فلا بد من دين مشرع يميز العمل الصالح من السئ فلا بد من دار يمتحنون فيها وهى الدنيا ودار يثابون فيها وهى الاخرة. وفيه أن الجملة أعنى قوله: (أو لم يتفكروا في أنفسهم) صالح في نفسه لان يراد منها هذا المعنى لكن اتصال قوله: (ما خلق الله السماوات) الخ، بها يأباه لاستلزامه بطلان الاتصال لعدم الارتباط بين صدر الاية وذيلها على هذا التقدير. وقوله: (ما خلق الله السماوات والارض وما بينهما الا بالحق وأجل مسمى) هو الفكر الذى يجب عليهم أن يمعنوا فيه النظر في أنفسهم وتقريره على ما تقدم أن الله سبحانه ما خلق هذا العالم كلا ولا بعضا الا خلقا ملابسا للحق أو مصاحبا للحق أي لغاية حقيقية لا عبثا لا غاية له ولا إلى أجل معين فلا يبقى شئ منها إلى ما لا نهاية له بل يفنى وينقطع وإذا كان كل من أجزائه والمجموع مخلوقا ذا غاية تترتب عليها وليس شئ منها دائم الوجود كانت غايته مترتبة عليه بعد انقطاع وجوده وفنائه، وهذا هو الاخرة التى ستظهر بعد انقضاء الدنيا وفنائها. وقوله: (وان كثيرا من الناس بلقاء ربهم كافرون) مسوق سوق التعجيب كما بدأت الاية باستفهام التعجيب، والمراد بلقاء الله هو الرجوع إليه في المعاد، وقد عبر عنه باللقاء ليزداد كفرهم به عجبا فكيف يمكن أن يبتدئوا منه ثم لا ينتهوا إليه، ولذلك أكده بان اشارة إلى أن الكفر بالمعاد من شأنه في نفسه أن لا يصدق به. قوله تعالى: (أو لم يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم) إلى آخر الاية، لما ذكر كفر كثير من الناس بالمعاد وذلك أمر يلغو معه الدين الحق ذكرهم حال الامم الكافرة وما انتهت إليه من سوء العذاب لعلهم يعتبرون بها فيرجعوا عما هم عليه من الكفر. واثارة الارض قلبها ظهر البطن للحرث والتعمير ونحو ذلك.
________________________________________
[ 159 ]
وقوله: (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) أي بالكفر والمعاصي. قوله تعالى: (ثم كان عاقبة الذين أساؤا السوآى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤن) بيان لما انتهى إليه أمر أولئك الظالمين ولذا عبر بثم، و (عاقبة) بالنصب خبر كان واسمه (السوآى) قدم الخبر عليه لافادة الحصر و (أساؤا) مقطوع عن المتعلق بمعنى عملوا السوء، والسوآى الخلة التى يسوء صاحبها والمراد بها سوء العذاب و (أن كذبوا بآيات الله) بحذف لام التعليل والتقدير لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها. والمعنى: ثم كان سوء العذاب هو الذى انتهى إليه أمر أولئك الذين عملوا السوء لم تكن لهم عاقبة غيرها لتكذيبهم بآيات الله واستهزائهم بها. وقيل: ان (السوآى) مفعول لقوله: (أساؤا) وخبر كان هو قوله: (أن كذبوا) الخ، والمراد أن المعاصي ساقتهم إلى الكفر بتكذيب آيات الله والاستهزاء بها. وفيه: أنه في نفسه معنى صحيح لكن المناسب للمقام هو المعنى الاول لان المقام مقام الاعتبار والانذار والمناسب له بيان انتهاء معاصيهم إلى سوء العذاب لا انتهاء معاصيهم المتفرقة إلى التكذيب والاستهزاء الذى هو أعظمها. قوله تعالى: (الله يبدا الخلق ثم يعيده ثم إليه ترجعون) بعد ما ذكر الحجة وتكذيب كثير من الناس لخص القول في نتيجتها وهو أن البدء والعود بيده سبحانه وسيرجع إليه الجميع، والمراد بالخلق المخلوقون، ولذا أرجع إليه ضمير الجمع في (ترجعون). قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون) ذكر حال المجرمين بعد قيام الساعة وهى ساعة الرجوع إليه تعالى للحساب والجزاء، والابلاس اليأس من الله وفيه كل الشقاء. قوله تعالى: (ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء وكانوا بشركائهم كافرين) يريد أنهم على يأسهم من الرحمة من ناحية أعمالهم أنفسهم آيسون من آلهتهم الذين اتخذوهم شركاء لله فعبدوهم ليشفعوا لهم عند الله كما كانوا يقولون في الدنيا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله وكانوا بعبادة شركائهم كافرين ساترين. قوله تعالى: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون - إلى قوله - محضرون) قال
________________________________________
[ 160 ]
في المجمع: الروضة البستان المتناهى منظرا وطيبا. انتهى. وقال في المفردات: الحبر الاثر المستحسن - إلى أن قال - وقوله عز وجل: (في روضة يحبرون) أي يفرحون حتى يظهر عليهم حبار نعيمهم. انتهى. والمراد بتفرق الخلق يومئذ تميز المؤمنين الصالحين من المجرمين ودخول هؤلاء النار ودخول اولئك الجنة على ما يشير إليه الايتان التاليتان. ولزوم هذا التميز والتفرق في الوجود هو الذى أخذه الله سبحانه حجة على ثبوت المعاد حيث قال: (أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون) الجاثية: 21. قوله تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والارض وعشيا وحين تظهرون) لما ذكر أنه يبدء الخلق ثم يعيدهم ويرجعهم للقائه فيفرقهم طائفتين: أهل الجنة والنعمة وأهل النار والعذاب، أما أهل الجنة فهم المؤمنون العاملون للصالحات وأما أهل النار فهم الكفار المكذبون لايات الله وقد ذكر أنهم كانوا في الدنيا أهل قوة ونعمة لكنهم نسواالاخرة وكذبوا بآيات الله واستهزؤا بها حتى انتهى بهم الامر إلى سوء العذاب عذاب الاستئصال جزاء لظلمهم أنفسهم وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. فتحصل من ذلك أن في دار الخلقة تدبيرا الهيا متقنا صالحا جميلا على أجمل ما يكون وأن للانسان على توالى الازمنة والدهور آثاما وخطيئات من العقيدة السيئة في حق ربه واتخاذ شركاء له وانكار لقائه إلى سائر المعاصي. ذيل الكلام بتسبيحه كلما تجدد حين بعد حين وتحميده على صنعه وتدبيره في السماوات والارض وهو مجموع العالم المشهود فهو سبحانه منزه عن هذه الاعتقادات الباطلة والاعمال الردية ومحمود في جميع ما خلقه ودبره في السماوات والارض. ومن هناك يظهر: أولا: أن التسبيح والتحميد في الايتين انشاء تنزيه وثناء منه تعالى لا من غيره حتى يكون المعنى: قولوا سبحان الله وقولوا الحمد لله فقد تكرر في كلامه تعالى تسبيحه وتحميده لنفسه كقوله: (سبحان ربك رب العزة) الصافات: 180 وقوله: (الحمد لله الذى نزل الفرقان على عبده) الفرقان: 1.
________________________________________
[ 161 ]
وثانيا: أن المراد بالتسبيح والتحميد معناهما المطلق دون الصلوات اليومية المفروضة كما يقول به أكثر القائلين بكون القول مقدرا. والمعنى: قولوا سبحان الله وقولوا الحمد لله. وثالثا: أن قوله: (وله الحمد في السماوات والارض) معترضة واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه، وقوله: (وعشيا وحين تظهرون) معطوفان على محل (حين تمسون) لا على قوله: (في السماوات والارض) حتى يختص المساء والصباح بالتسبيح والسماوات والارض والعشي والظهيرة بالتحميد بل الاوقات وما فيها للتسبيح والامكنة وما فيها للتحميد. فالسياق يشير الى أن ما في السماوات والارض من خلق وأمر هو لله يستدعى بحسنه حمدا وثناء لله سبحانه وأن للانسان على مر الدهور وتغير الازمنة والاوقات من الشرك والمعصية ما يتنزه عنه ساحة قدسه تعالى وتقدس. نعم ههنا اعتبار آخر يتداخل فيه التحميد والتسبيح وهو أن الازمنة والاوقات على تغيرها وتصرمها من جملة ما في السماوات والارض فهى بوجودها يثنى على الله تعالى، ثم كل ما في السماوات والارض بفقرها إليه تعالى وذلتها دونه ونقصها بالنسبة إلى كماله تعالى تسبحه كما قال: (وان من شئ الا يسبح بحمده) أسرى: 44، لكن هذا الاعتبار غير منظور إليه في الايتين اللتين نحن فيهما. وللمفسرين في الايتين أقوال أخر متفرقة أشرنا إلى المهم منها في الوجوه التى قدمناها. وتغيير السياق في قوله: (وعشيا) لكون العشى لم يبن منه فعل من باب الافعال بخلاف المساء والصباح والظهيرة حيث بنى منها الامساء والاصباح والاظهار بمعنى الدخول في المساء والصباح والظهيرة كذا قيل. والخطاب الذى في الايتين في قوله: (تمسون وتصبحون وتظهرون) ليس من الالتفات في شئ بل تعميم للخطاب الذى للنبى صلى الله عليه وآله وسلم منذ شرعت السورة، والمعنى:
________________________________________
[ 162 ]
فإذا كان الامر على هذه السبيل فالله منزه حينما دخلتم أنتم معاشر البشر في مساء وحينما دخلتم في صباح وفى العشى وحينما دخلتم في ظهيرة وله الثناء الجميل في السماوات والارض. ونظير هذا التعميم ما في قوله سابقا: (إليه ترجعون) ولاحقا في قوله: (وكذلك تخرجون). قوله تعالى: (يخرج الحى من الميت ويخرج الميت من الحى ويحيى الارض بعد موتها وكذلك تخرجون) ظاهر اخراج الحى من الميت وبالعكس خلق ذوى الحياة من الارض الميتة ثم تبديل ذوى الحياة أرضا ميتة، وقد فسر بخلق المؤمن من الكافر وخلق الكافر من المؤمن فانه يعد المؤمن حيا والكافر ميتا، قال تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا) الانعام: 122. وأما احياء الارض بعد موتها فهو انتعاش الارض وابتهاجها بالنبات في الربيع والصيف بعد خمودها في الخريف والشتاء، وقوله: (وكذلك تخرجون) أي تبعثون وتخرجون من قبوركم باحياء جديد كاحياء الارض بعد موتها، وقد تقدم تفسير نظير صدر الاية وذيلها مرارا. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وابن المنذر وابن أبى حاتم والطبراني في الكبير والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل والضياء عن ابن عباس في قوله: (الم غلبت الروم) قال: غلبت وغلبت. قال: كان المشركون يحبون أن يظهر فارس على الروم، لانهم أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم على فارس لانهم أصحاب كتاب، فذكروه لابي بكر فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أما انهم سيغلبون فذكره أبو بكر لهم فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا فان ظهرنا كان لنا كذا وكذا وان ظهرتم كان لكم كذا وكذا فجعل لهم خمس سنين فلم يظهروا فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: ألا جعلته - أراد - قال: دون العشر، فظهرت الروم بعد ذلك فذلك قوله: الم غلبت الروم فغلبت ثم غلبت بعد.
________________________________________
[ 163 ]
يقول الله: (لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله) قال سفيان: سمعت أنهم قد ظهروا يوم بدر. اقول: وفى هذا المعنى روايات أخر مختلفة المضامين في الجملة ففى بعضها أن المقامرة كانت بين أبى بكر وأبى بن خلف وفى بعضها أنها كانت بين المسلمين والمشركين وكان أبو بكر من قبل المسلمين وأبى من قبل المشركين، وفى بعضها أنها كانت بين الطائفتين، وفى بعضها بين أبى بكر وبين المشركين كما في هذه الرواية. ثم الاجل المضروب في بعضها ثلاث سنين، وفى بعضها خمس، وفى بعضها ست، وفى بعضها سبع سنين. وفى بعضها أن الاجل المضروب أولا انقضى بمكة وهو سبع سنين فمادهم أبو بكر سنتين بأمر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فغلبت الروم، وفى بعضها خلافه. ثم في بعضها أن الاجل الثاني انقضى بمكة وفى بعضها أنه انقضى بعد الهجرة وكانت غلبة الروم يوم بدر، وفى بعضها يوم الحديبية. وفى بعضها أن أبا بكر لما قمرهم بغلبة الروم أخذ منهم الخطر وهو مائة قلوص وجاء به إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: انه سحت تصدق به. والذى تتفق فيه الروايات أنه قامرهم فقمرهم وكان القمار باشارة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووجه ذلك بأنه كان قبل تحريم القمار فانه حرم مع الخمر في سورة المائدة وقد نزلت في آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد تحقق بما قدمناه في تفسير آية الخمر والميسر أن الخمر كانت محرمة من أول البعثة وكان من المعروف من الدين أنه يحرم الخمر والزنا. على ان الخمر والميسر من الاثم بنص آية البقرة: (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما اثم كبير) الاية البقرة: 219. والاثم محرم بنص آية الاعراف: (قل انما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغى) الاية الاعراف: 33، والاعراف من العتائق النازلة بمكة فمن الممتنع أن يشير النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمقامرة. وعلى تقدير تأخر الحرمة إلى آخر عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشكل قوله صلى الله عليه وآله وسلم لابي بكر لما أتى بالخطر إليه انه سحت ثم قوله: تصدق به. فلا سبيل إلى تصحيح شئ من ذلك
________________________________________
[ 164 ]
بالموازين الفقهية وقد تكلفوا في توجيه ذلك بما لا يزيد الا اشكالا. ثم ان ما في الرواية أن الفرس كانوا عبدة الاوثان لا يوافق ما كان عليه القوم فانهم وان كانوا مشركين لكنهم كانوا لا يتخذون أوثانا. وفى تفسير القمى في قوله: (يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الاخرة هم غافلون) قال: يرون حاضر الدنيا ويتغافلون عن الاخرة. وفى الخصال وسئل الصادق عليه السلام عن قول الله تعالى: (أو لم يسيروا في الارض) فقال: أو لم ينظروا في القرآن. وفى تفسير القمى وقوله عز وجل: (ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون) قال: إلى الجنة والنار. * * * ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون - 20. ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون - 21. ومن آياته خلق السماوات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم ان في ذلك لايات للعالمين - 22. ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله ان في ذلك لايات لقوم يسمعون - 23. ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيى به الارض بعد موتها ان في ذلك لايات لقوم يعقلون - 24. ومن آياته أن تقوم السماء والارض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الارض إذا
________________________________________
[ 165 ]
أنتم تخرجون - 25. وله من في السماوات والارض كل له قانتون - 26. (بيان) يذكر في هذا الفصل عدة من الايات الدالة على وحدانيته تعالى في الربوبية والالوهية، ويشار فيها إلى امتزاج الخلق والتدبير وتداخلهما ليتضح بذلك أن الربوبية بمعنى ملك التدبير والالوهية بمعنى المعبودية بالحق لا يستحقهما الا الله الذى خلق الاشياء وأوجدها، لا كما يزعم الوثني أن الخلق لله وحده والتدبير والعبادة لارباب الاصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، وليس له سبحانه الا أنه رب الارباب واله الالهة. قوله تعالى: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) المراد بالخلق من تراب انتهاء خلقة الانسان إلى الارض فان مراتب تكون الانسان من مضغة أو علقة أو نطفة أو غيرها مركبات أرضية تنتهى إلى العناصر الارضية. وقوله: (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) إذا فجائية أي يفاجئكم أنكم اناسي تنتشرون في الارض أي يخلقكم من تركيبات أرضية المترقب منها كينونة أرضية ميتة أخرى مثلها لكن يفاجئكم دفعة أنه يصير بشرا ذوى حياة وشعور عقلي ينتشرون في الارض في سبيل تدمير أمر الحياة فقوله: (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) في معنى قوله: (ثم أنشأناه خلقا آخر) المؤمنون: 14. فخلق الانسان أي جمع أجزائه من الارض وتأليفها آية وكينونة هذا المجموع انسانا ذا حياة وشعور عقلي آية أو آيات أخر تدل على صانع حى عليم يدبر الامر ويجرى هذا النظام العجيب. وقد ظهر بهذا المعنى أن (ثم) للتراخي الرتبى والجملة معطوفة على قوله: (خلقكم) لا على قوله: (أن خلقكم). قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها)
________________________________________
[ 166 ]
إلى آخر الاية، قال الراغب: يقال لكل واحد من القرينين من الذكر والانثى من الحيوانات المتزاوجة: زوج ولكل قرينين فيها وفى غيرها: زوج، قال تعالى: (وجعل منه الزوجين الذكر والانثى) وقال: (وزوجك الجنة) وزوجة لغة رديئة وجمعها زوجات - إلى أن قال - وجمع الزوج أزواج. انتهى. فقوله: (أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها) أي خلق لاجلكم - أو لينفعكم - من جنسكم قرائن وذلك أن كل واحد من الرجل والمرأة مجهز بجهاز التناسل تجهيزا يتم فعله بمقارنة الاخر ويتم بمجموعهما أمر التوالد والتناسل فكل واحد منهما ناقص في نفسه مفتقر إلى الاخر ويحصل من المجموع واحد تام له أن يلد وينسل، ولهذا النقص والافتقار يتحرك الواحد منهما إلى الاخر حتى إذا اتصل به سكن إليه لان كل ناقص مشتاق إلى كماله وكل مفتقر مائل إلى ما يزيل فقره وهذا هو الشبق المودع في كل من هذين القرينين. وقوله: (وجعل بينكم مودة ورحمة) المودة كأنها الحب الظاهر أثره في مقام العمل فنسبة المودة إلى الحب كنسبة الخضوع الظاهر أثره في مقام العمل إلى الخشوع الذى هو نوع تأثر نفساني عن العظمة والكبرياء. والرحمة نوع تأثر نفساني عن مشاهدة حرمان المحروم عن الكمال وحاجته إلى رفع نقيصته يدعو الراحم إلى انجائه من الحرمان ورفع نقصه. ومن أجل موارد المودة والرحمة المجتمع المنزلى فان الزوجين يتلازمان بالمودة والمحبة وهما معا وخاصة الزوجة يرحمان الصغار من الاولاد لما يريان ضعفهم وعجزهم عن القيام بواجب العمل لرفع الحوائج الحيوية فيقومان بواجب العمل في حفظهم وحراستهم وتغذيتهم وكسوتهم وايوائهم وتربيتهم ولو لا هذه الرحمة لا نقطع النسل ولم يعش النوع قط. ونظير هذه المودة والرحمة مشهود في المجتمع الكبير المدنى بين أفراد المجتمع فالواحد منهم يأنس بغيره بالمودة ويرحم المساكين والعجزة والضعفاء الذين لا يستطيعون القيام بواجبات الحياة. والمراد بالمودة والرحمة في الاية الاوليان على ما يعطيه مناسبة السياق أو الاخيرتان على ما يعطيه اطلاق الاية.
________________________________________
[ 167 ]
وقوله: (لايات لقوم يتفكرون) لانهم إذا تفكروا في الاصول التكوينية التى يبعث الانسان إلى عقد المجتمع من الذكورة والانوثة الداعيتين إلى الاجتماع المنزلى والمودة والرحمة الباعثتين على الاجتماع المدنى ثم ما يترتب على هذا الاجتماع من بقاء النوع واستكمال الانسان في حياتيه الدنيا والاخرى عثروا من عجائب الايات الالهية في تدبير أمر هذا النوع على ما يبهر به عقولهم وتدهش به أحلامهم. قوله تعالى: (ومن آياته خلق السموات والارض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) إلى آخر الاية. الظاهر أن يكون المراد باختلاف الالسن اختلاف اللغات من العربية والفارسية والاردوية وغيرها وباختلاف الالوان اختلاف الامم في ألوانهم كالبياض والسواد والصفرة والحمرة. ويمكن أن يستفاد اختلاف الالسنة من جهة النغم والاصوات ونحو التكلم والنطق وباختلاف الالوان اختلاف كل فردين من أفراد الانسان بحسب اللون لو دقق فيه النظر على ما يقول به علماء هذا الشأن. فالباحثون عن العالم الكبير يعثرون في نظام الخلقة على آيات دقيقة دالة على أن الصنع والايجاد مع النظام الجارى فيه لا يقوم الا بالله ولا ينتهى الا إليه. قوله تعالى: (ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله) إلى آخر الاية، الفضل الزيادة على مقدار الحاجة ويطلق على العطية لان المعطى انما يعطى ما فضل من مقدار حاجته، والمراد به في الاية الكريمة الرزق فابتغاء الفضل طلب الرزق. وفى خلق الانسان ذا قوى فعالة تبعثه إلى طلب الرزق ورفع حوائج الحياة للبقاء بالحركة والسعى ثم هدايته إلى الاستراحة والسكون لرفع متاعب السعي وتجديد تجهيز القوى وتخصيص الليل والنهار المتعاقبين للسعى والسكون والتسبيب إلى وجود الليل والنهار بأوضاع سماوية قائمة بالارض والشمس لايات نافعة لمن له سمع واع يعقل ما يسمع فإذا وجده حقااتبعه. قال في الكشاف في الاية: هذا من باب اللف وترتيبه: ومن آياته منامكم وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار الا أنه فصل بين القرينين الاولين بالقرينين الاخرين لانهما زمانان والزمان والواقع فيه كشئ واحد مع اعانة اللف على الاتحاد ويجوز أن
________________________________________
[ 168 ]
يراد منامكم في الزمانين وابتغاؤكم فيهما، والظاهر هو الاول لتكرره في القرآن وأسد المعاني ما دل عليه القرآن. انتهى. وقد ظهر مما تقدم معنى تذييل الاية بقوله: (ان في ذلك لايات لقوم يسمعون). قوله تعالى: (ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزل من السماء ماء فيحيى به الارض بعد موتها) الظاهر أن الفعل نزل منزلة المصدر ولذلك لم يصدر بأن المصدرية كما صدر به قوله: (أن خلقكم) وقوله: (أن خلق لكم) وتنزيل الفعل منزلة المصدر لغة عربية جيدة وعليه يحمل المثل السائر: (وتسمع بالمعيدى خير من أن تراه) ولا ضير في حمل كلامه تعالى عليه فهو تعالى يأتي في مفتتح هذه الايات بفنون التعبير كقوله: (منامكم) (يريكم) (أن تقوم). واحتمل في قوله: (يريكم) أن يكون بحذف أن المصدرية والتقدير أن يريكم البرق وأيد بقراءة النصب في يريكم. واحتمل أن يكون من حذف المضاف، والتقدير: ومن آياته آية أن يريكم البرق، واحتمل أن يكون التقدير ومن آياته آية البرق ثم استونف فقيل: يريكم البرق الخ، واحتمل أن يكون (من آياته) متعلقا بقوله: (يريكم)، والتقدير: ويريكم من آياته البرق، واحتمل أن يكون (من آياته) حالا من البرق، والتقدير: ويريكم البرق حال كون البرق من آياته. وهذه وجوه متفرقة لا يخفى عليك بعدها على أن بعضها يخرج الكلام في الاية عن موافقة السياق في الايات السابقة النظيرة له كالوجهين الاخيرين. وقوله: (خوفا وطمعا) أي خوفا من الصاعقة وطمعا في المطر، وقوله: (وينزل من السماء ماء فأحيا به الارض بعد موتها) تقدم تفسيره كرارا، وقوله: (ان في ذلك لايات لقوم يعقلون) أي ان أهل التعقل يفقهون أن هناك عناية متعلقة بهذه المصالح فليس مجرد اتفاق وصدفة. قوله تعالى: (ومن آياته أن تقوم السماء والارض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الارض إذا أنتم تخرجون) القيام مقابل القعود ولما كان أعدل حالات الانسان حيث يقوى به على عامة أعماله استعير لثبوت الشئ واستقراره على أعدل حالاته كما يستعار
________________________________________
[ 169 ]
لتدبير الامر، قال تعالى: (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت) الرعد: 33. والمراد بقيام السماء والارض بأمر من الله ثبوتهما على حالهما من حركة وسكون وتغير وثبات بأمره تعالى وقد عرف أمره بقوله: (انما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) يس: 82. وقوله: (ثم إذا دعاكم دعوة من الارض إذا أنتم تخرجون) (إذا) الاولى شرطية و (إذا) الثانية فجائية قائمة مقام فاء الجزاء و (من الارض) متعلق بقوله: (دعوة) والجملة معطوفة على محل الجملة الاولى لان المراد بالجملة أعنى قوله: (ثم إذا دعاكم) الخ البعث والرجوع إلى الله وليس في عداد الايات بل الجملة اخبار بأمر احتج عليه سابقا وسيحتج عليه لاحقا. وأما قول القائل: ان الجملة على تأويل المفرد وهى معطوفة على (أن تقوم) والتقدير ومن آياته قيام السماء والارض بأمره ثم خروجكم إذا دعاكم دعوة من الارض. فلازمه كون البعث معدودا من الايات وليس منها على أن البعث أحد الاصول الثلاثة التى يحتج بالايات عليه، ولا يحتج به على التوحيد مثلا بل لو احتج فبالتوحيد عليه فافهم ذلك. ولما كانت الايات المذكورة من خلق البشر من تراب وخلقهم أزواجا واختلاف ألسنتهم وألوانهم ومنامهم وابتغائهم من فضله واراءة البرق وتنزيل الماء من السماء كلها آيات راجعة إلى تدبير أمر الانسان كان المراد بقوله: (أن تقوم السماء والارض) بمعونة السياق ثبات السماء والارض على وضعهما الطبيعي وحالهما العادية ملائمتين لحياة النوع الانساني المرتبطة بهما وكان قوله: (ثم إذا دعاكم) الخ مترتبا على ذلك ترتب التأخير أي أن خروجهم من الارض متأخر عن هذا القيام مقارن لخرابهما كما ينبئ به آيات كثيرة في مواضع مختلفة من كلامه تعالى. ويظهر بذلك أيضا أن المراد من قوله السابق (ومن آياته خلق السماوات والارض) خلقهما من جهة ما يرتبطان بالحياة البشرية وينفعانها. وقد رتبت الايات المذكورة آخذة من بدء خلق الانسان وتكونه ثم تصنفه صنفين: الذكر والانثى ثم ارتباط وجوده بالسماء والارض واختلاف ألسنتهم وألوانهم
________________________________________
[ 170 ]
ثم السعي في طلب الرزق وسكون المنام ثم اراءة البرق وتنزيل الامطار حتى تنتهى إلى قيام السماء والارض إلى أجل مسمى ليتم لهذا النوم الانساني ما قدر له من أمد الحياة ويعقب ذلك البعث فهذا بعض ما في ترتيب ذكر هذه الايات من النكات. وقد رتبت الفواصل أعنى قوله (يتفكرون) (للعالمين) (يسمعون) (يعقلون) على هذا الترتيب لان الانسان يتفكر فيصير عالما ثم إذا سمع شيئا من الحقائق وعاه ثم عقله والله أعلم. قوله تعالى: (وله من في السماوات والارض كل له قانتون) كانت الايات المذكورة مسوقة لاثبات ربوبيته تعالى وألوهيته كما تقدمت الاشارة إليه ولما انتهى الكلام إلى ذكر البعث والرجوع إلى الله عقب ذلك بالبرهان على امكانه والحجة مأخوذة من الخلق والتدبير المذكورين في الايات السابقة. فقوله: (وله من في السماوات والارض) اشارة إلى احاطة ملكه الحقيقي لجميع من في السماوات والارض وهم المحشورون إليه وذلك لان وجودهم من جميع الجهات قائم به تعالى قيام فقر وحاجة لا استقلال ولا استغناء لهم عنه بوجه من الوجوه وهذا هو الملك الحقيقي الذى أثره جواز تصرف المالك في ملكه كيف شاء فله تعالى أن يتصرف في مملوكية بنقلهم من النشأة الدنيا إلى النشأة الاخرة. وقد أكد ذلك بقوله: (كل له قانتون) والقنوت لزوم الطاعة مع الخضوع - على ما ذكره الراغب في المفردات - والمراد بالطاعة مع الخضوع الطاعة التكوينية - على ما يعطيه السياق - دون التشريعية التى ربما تخلفت. وذلك أنهم الملائكة والجن والانس فأما الملائكة فليس عندهم الا خضوع الطاعة، وأما الجن والانس فهم مطيعون منقادون للعلل والاسباب الكونية وكلما احتالوا في الغاء أثر علة من العلل أو سبب من الاسباب الكونية توسلوا إلى علة أخرى وسبب آخر كونى ثم علمهم وارادتهم كاختيارهم جميعا من الاسباب الكونية فلا يكون الا ما شاء الله أي الذى تمت علله في الخارج ولا يتحقق مما شاؤا الا ما أذن فيه وشاءه فهو المالك لهم ولما يملكونه.
________________________________________
[ 171 ]
* * * وهو الذى يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الاعلى في السماوات والارض وهو العزيز الحكيم - 27. ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم كذلك نفصل الايات لقوم يعقلون - 28. بل اتبع الذين ظلموا أهواءهم بغير علم فمن يهدى من أضل الله وما لهم من ناصرين - 29. فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التى فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون - 30. منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلواة ولا تكونوا من المشركين - 31. من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون - 32. وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه ثم إذا أذاقهم منه رحمة إذا فريق منهم بربهم يشركون - 33. ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون - 34. أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون - 35. وإذا أذقنا الناس رحمة فرحوا بها وان تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون - 36. أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ان في ذلك لايات لقوم
________________________________________
[ 172 ]
يؤمنون - 37. فلت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ذلك خير للذين يريدون وجه الله وأولئك هم المفلحون - 38. وما آتيتم من ربا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله وما آتيتم من زكوة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون - 39. (بيان) لما انساق الاحتجاج على الوحدانية والمعاد من طريق عد الايات الدالة على ذلك بقوله: (ومن آياته) إلى قوله: (وله من في السماوات والارض) الاية، وهو من صفات الفعل غير سياق الاحتجاج بالايات إلى سياق الاحتجاج بصفاته الفعلية وأوردها إلى آخر السورة في أربعة فصول يورد في كل فصل شيئا من صفات الفعل المستوجبة للوحدانية والمعاد وهى قوله: (وهو الذى يبدء الخلق ثم يعيده) الخ، وقوله: (الله الذى خلقكم ثم رزقكم) الخ، وقوله: (الله الذى يرسل الرياح) الخ، وقوله: (الله الذى خلقكم من ضعف) الخ. وانما لم يبدأ الفصل الاول باسم الجلالة كما بدأ به في الفصول الاخر لسبق ذكره في الاية السابقة عليه المتصلة به أعنى قوله: (وله من في السماوات والارض كل له قانتون) الذى هو كالبرزخ المتوسط بين السياقين، فقوله: (وهو الذى يبدء الخلق ثم يعيده) فصل في صورة الوصل. قوله تعالى: (وهو الذى يبدء الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه) إلى آخر الاية، بدء الخلق انشاؤه ابتداء من غير مثال سابق والاعادة انشاء بعد انشاء. وقوله: (وهو أهون عليه) الضمير الاول للاعادة المفهوم من قوله: (يعيد) والضمير الثاني راجع إليه تعالى على ما يتبادر من السياق. وقد استشكل قوله: (وهو أهون عليه) الدال ظاهرا على كون الاعادة أسهل وأهون عليه من البدء وهو ينافى كون قدرته مطلقة غير محدودة فان القدرة
________________________________________
[ 173 ]
اللامتناهية لا تختلف حالها في تعلقها بشئ دون شئ فتعلقها بالصعب والسهل على السواء فلا معنى لاسم التفضيل ههنا. وقد أجيب عنه بوجوه: منها: أن ضمير (عليه) راجع إلى الخلق دونه تعالى والاعادة أهون على الخلق لانه مسبوق بالابتداء الذى يسهل الفعل على الفاعل بتحققه منه مرة أو أزيد بخلاف الابتداء الذى لا يسبقه فعل، فالابتداء أصعب بالطبع بالنسبة إلى الاعادة والاعادة بالعكس، فالمعنى: أن الاعادة أهون من البدء بالنسبة إلى الخلق وإذا كان كذلك بالنسبة إلى الخلق فما ظنك بالخالق. وفيه أن رجوع الضمير إلى الخلق خلاف ظاهر الاية. ومنها: أن أفعل ههنا منسلخ عن معنى التفضيل فأهون عليه بمعنى هين عليه نظير قوله: (ما عند الله خير من اللهو). وفيه أنه تحكم ظاهر لا دليل عليه. ومنها: أن التفضيل انما هو للاعادة في نفسها بالقياس إلى الانشاء الابتدائي لا بالنسبة إليه تعالى ووقوع التفضيل بين فعل منه وفعل لا بأس به كما في قوله تعالى: (لخلق السماوات والارض أكبر من خلق الناس) المؤمن: 57. وهذا هو الذي يستفاد من كلام الزمخشري إذ يقول: فان قلت: ما بال الاعادة استعظمت في قوله: (ثم إذا دعاكم) حتى كأنها فضلت على قيام السماوات والارض بأمره ثم هونت بعد ذلك ؟ قلت: الاعادة في نفسها عظيمة لكنها هونت بالقياس إلى الانشاء. انتهى. وفيه أن تقييد الوصف بقوله: (عليه) أصدق شاهد على أن القياس الواقع بين الاعادة والانشاء انما هو بالنسبة إليه تعالى لا بين نفس الاعادة والانشاء فالاشكال على ما كان. ومنها: أن التفضيل انما هو بالنظر إلى الاصول الدائرة بين الناس والموازين المتبعة عندهم لا بالنظر إلى الامر في نفسه، لما يرون أن تكرر الوقوع حتى لمرة واحدة يوجب سهولته على الفاعل بالنسبة إلى الفعل غير المسبوق بمثله فكأنه قيل: والاعادة
________________________________________
[ 174 ]
أهون عليه بالنظر إلى أصولكم العلمية المتبعة عندكم والا فالانشاء والاعادة بالنسبة إليه تعالى على السواء. وفيه: أنه معنى صحيح في نفسه لكن الشأن في استفادته من اللفظ ولا شاهد عليه من جهة لفظ الاية. ومنها: ما ذكره أيضا في الكشاف قال: ووجه آخر وهو أن الانشاء من قبيل التفضل الذى يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله والاعادة من قبيل الواجب الذى لا بد له من فعله لانها لجزاء الاعمال وجزاؤها واجب والافعال اما محال والمحال ممتنع أصلا خارج عن المقدور واما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح وهو رديف المحال لان الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الاحالة، واما تفضل والتفضل حالة بين بين للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله، واما واجب لا بد من فعله ولا سبيل إلى الاخلال به. فكان الواجب أبعد الافعال من الامتناع وأقربها من الحصول فلما كانت الاعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الافعال من الامتناع وإذا كانت أبعدها من الامتناع كانت أدخلها في التأتى والتسهل فكانت أهون منها وإذا كانت أهون منها كانت أهون من الانشاء انتهى. وفيه أولا: أنه مبنى على تحقق الاشياء بالاولوية دون الوجوب وقد تحقق في محله بطلانه. وثانيا: أن القرب والبعد اللذين ذكرهما تصوير عقلي محض والسهولة والصعوبة وصفان وجوديان يتصف بهما وجود الشئ من حيث صدوره عن فاعله الموجد له ولا يبتنى الوصف الوجودى على الاعتبار العقلي. وثالثا: أن الانشاء أيضا كالا عادة في الابتناء على المصلحة وهى الغاية فما لم يكن الانشاء ذا مصلحة موجبة لم يتحقق كما أن الاعادة كذلك فهما في القرب والبعد من الامتناع على السواء كما قيل. ورابعا: أن مقتضى هذا الوجه كون الاعادة أهون من الانشاء بالنظر إلى أنفسهما فيعود في الحقيقة إلى الوجه الثالث ويتوجه إليه ما توجه إليه.
________________________________________
[ 175 ]
والذى ينبغى أن يقال أن الجملة أعنى قوله: (وهو أهون عليه) معلل بقوله بعده: (ولله المثل الاعلى في السماوات والارض وهو العزيز الحكيم) فهو الحجة المثبتة لقوله: (وهو أهون عليه). والمستفاد من قوله: (ولله المثل الاعلى) الخ، أن كل وصف كمالي يمثل به شئ في السماوات والارض كالحياة والقدرة والعلم والملك والجود والكرم والعظمة والكبرياء وغيرها فلله سبحانه أعلى ذلك الوصف وأرفعها من مرتبة تلك الموجودات المحدودة كما قال: (ولله الاسماء الحسنى) الاعراف: 180. وذلك أن كل وصف من أوصاف الكمال اتصف به شئ مما في السماوات والارض فله في حد نفسه ما يقابله فانه مما أفاضه الله عليه وهو في نفسه خال عنه فالحي منها ميت في ذاته والقادر منها عاجز في ذاته ولذلك كان الوصف فيها محدودا مقيدا بشئ دون شئ وحال دون حال، وهكذا فالعلم فيها مثلا ليس مطلقا غير محدود بل محدود مخلوط بالجهل بما وراءه وكذلك الحياة والقدرة والملك والعظمة وغيرها. والله سبحانه هو المفيض لهذه الصفات من فضله والذى له من معنى هذه الصفات مطلق غير محدود وصرف غير مخلوط فلا جهل في مقابل علمه ولا ممات يقابل حياته وهكذا فله سبحانه من كل صفة يتصف به الموجودات السماوية والارضية - وهى صفات غير ممحضة ولا مطلقة ما هو أعلاها أي مطلقها ومحضها. فكل صفة توجد فيه تعالى وفى غيره من المخلوقات، فالذي فيه أعلاها وأفضلها والذى في غيره مفضول بالنسبة إلى ما عنده. ولما كانت الاعادة متصفة بالهون إذا قيس إلى الانشاء فيما عند الخلق فهو عنده تعالى أهون أي هون محض غير مخلوط بصعوبة ومشقة بخلاف ما عندنا معاشر الخلق ولا يلزم منه أن يكون في الانشاء صعوبة ومشقة عليه تعالى لان المشقة والصعوبة في الفعل تتبع قدرة الفاعل بالتعاكس فكلما قلت القدرة كثرت المشقة وكلما كثرت قلت حتى إذا كانت القدرة غير متناهية انعدمت المشقة من رأس، وقدرته تعالى غير متناهية فلا يشق عليه فعل أصلا وهو المستفاد من قوله: (ان الله على كل شئ قدير) فان القدرة إذا جاز تعلقها بكل شئ لم تكن الا غير متناهية فافهم ذلك.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page