• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 376 الي 407

[ 376 ]
(بيان) إجمال قصة لوط عليه السلام وهي كسابقتها في غلبة جانب الانذار على جانب التبشير. قوله تعالى: " ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون " معطوف على موضع " أرسلنا " في القصة السابقة بفعل مضمر والتقدير ولقد أرسلنا لوطا. كذا قيل، ويمكن أن يكون معطوفا على أصل القصة بتقدير اذكر والفاحشة هي الخصلة البالغة في الشناعة والمراد بها اللواط. وقوله: " وأنتم تبصرون " اي وأنتم في حال يرى بعضكم بعضا وينظر بعضكم إلى بعض حين الفحشاء فهو على حد قوله في موضع آخر: " وتأتون في ناديكم المنكر العنكبوت: 29، وقيل: المراد أبصار القلب ومحصله العلم بالشناعة وهو بعيد. قوله تعالى: " أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون " الاستفهام للانكار، ودخول أداتي التأكيد - إن واللام - على الجملة الاستفهامية للدلالة على أن مضمون الجملة من الاستبعاد بحيث لا يصدقه أحد والجملة على أي حال في محل التفسير للفحشاء. وقوله: " بل أنتم قوم تجهلون " أي مستمرون على الجهل لا فائدة في توبيخكم والانكار عليكم فلستم بمرتدعين، ووضع " تجهلون " بصيغة الخطاب موضع " يجهلون " من وضع المسبب موضع السبب كأنه قيل: " بل أنتم قوم يجهلون فأنتم تجهلون ". قوله تعالى: " فما كان جواب قومه إلا ان قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون " أي يتنزهون عن هذا العمل وهو وارد مورد الاستهزاء. قوله تعالى: " فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين " المراد بأهله أهل بيته لقوله تعالى: " فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين " الذاريات: 36، وقوله: " قدرناها من الغابرين " أي جعلناها من الباقين في العذاب. قوله تعالى: " وامطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين " المراد بالمطر الحجارة من سجيل لقوله تعالى: " وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل " الحجر: 74، فقوله: " مطرا " يدل بتنكيره على النوعية أي أنزلنا عليهم مطرا له نبأ عظيم.
________________________________________
[ 377 ]
قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفئ آلله خير أما يشركون - 59. أمن خلق السموات والارض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله بل هم قوم يعدلون - 60. أمن جعل الارض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون - 61. أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض أإله مع الله قليلا ما تذكرون - 62. أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون - 63. أمن يبدؤا الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والارض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين - 64. قل لا يعلم من في السموات والارض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون - 65. بل أدارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون - 66. وقال الذين كفرواءإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون - 67. لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الاولين - 68. قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة
________________________________________
[ 378 ]
المجرمين - 69. ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون - 70. ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين - 71. قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون - 72. وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون - 73. وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون - 74. وما من غائبة في السماء والارض إلا في كتاب مبين - 75. إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون - 76. وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين - 77. إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم - 78. فتوكل على الله إنك على الحق المبين - 79. إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين - 80. وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون - 81. (بيان) انتقال من القصص التي قصتها سبحانه وهي نماذج من سنته الجارية في النوع الانساني من حيث هدايته وإراءته لهم طريق سعادتهم في الحياة وإكرامه من اهتدى منهم إلى الصراط المستقيم بالاصطفاء وعظيم الآلاء وأخذه من أشرك به وأعرض عن ذكره ومكر به بعذاب الاستئصال وأليم النكال. إلى حمده والسلام على عباده المصطفين وتقرير انه هو المستحق للعبودية دون غيره مما يشركون ثم سرد الحديث في التوحيد وإثبات المعاد وما يناسب ذلك من
________________________________________
[ 379 ]
متفرقات المعارف الحقة فسياق آيات السورة شبيه بما في سورة مريم من السياق على ما مر. قوله تعالى: " قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى آلله خير أم ما يشركون " لما قص من قصص الانبياء وأممهم ما قص وفيها بيان سنته الجارية في الامم الماضين وما فعل بالمؤمنين منهم من الاصطفاء ومزيد الاحسان كما في الانبياء منهم وما فعل بالكافرين من العذاب والتدمير - ولم يفعل إلا الخير الجميل ولا جرت سنته إلا على الحكمة البالغة - انتقل منها إلى أمر نبيه بأن يحمده ويثني عليه وأن يسلم على المصطفين من عباده وقررانه تعالى هو المتعين للعبادة. فهو انتقال من القصص إلى التحميد والتسليم والتوحيد وليس باستنتاج وإن كان في حكمه وإلا قيل: فقل الحمد لله " الخ " أو فالله خير " الخ ". فقوله: " قل الحمد لله " أمر بتحميده وفيه إرجاع كل حمد إليه تعالى لما تقرر بالآيات السابقة ان مرجع كل خلق وتدبير إليه وهو المفيض كل خير بحكمته والفاعل لكل جميل بقدرته. وقوله: " وسلام على عباده الذين اصطفى " معطوف على ما قبله من مقول القول وفي التسليم لاولئك العباد المصطفين نفي كل ما في نفس المسلم من جهات التمانع والتضاد لما عندهم من الهداية الالهية وآثارها الجميلة - على ما يقتضيه معنى السلام - ففي الامر بالسلام أمر ضمني بالتهيؤ لقبول ما عندهم من الهدى وآثاره فهو بوجه في معنى قوله تعالى: " أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده " الانعام: 90، فافهمه. وقوله: " ءآلله خير أما يشركون " من تمام الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والاستفهام للتقرير ومحصل المراد انه إذا كان الثناء كله لله وهو المصطفى لعباده المصطفين فهو خير من آلهتهم الذين يعبدونهم ولا خلق ولا تدبير لهم يحمدون عليه ولا خير بأيديهم يفيضونه على عبادهم. قوله تعالى: " أمن خلق السماوات والارض وأنزل لكم من السماء ماء " إلى آخر الآية الحدائق جمع حديقة وهي البستان المحدود المحوط بالحيطان وذات بهجة صفة حدائق، قال في مجمع البيان: ذات بهجة أي ذات منظر حسن يبتهج به من رآه ولم يقل: ذوات بهجة لانه أراد تأنيث الجماعة ولو أراد تأنيث الاعيان لقال:
________________________________________
[ 380 ]
ذوات. انتهى. وأم في الآية منقطعة تفيد معنى الاضراب، " من " مبتدأ خبره محذوف وكذا الشق الآخر من الترديد والاستفهام للتقرير وحملهم على الاقرار بالحق والتقدير على ما يدل عليه السياق بل أمن خلق السماوات والارض " الخ " خير أم ما يشركون. والامر على هذا القياس في الآيات الاربع التالية. ومعنى الآية: بل أمن خلق السماوات والارض وأنزل لكم اي لنفعكم من السماء وهي جهة العلو ماء وهو المطر فأنبتنا به اي بذلك الماء بساتين ذات بهجة ونضارة ما كان لكم اي لا تملكون وليس في قدرتكم ان تنبتوا شجرها أإله آخر مع الله سبحانه - وهو إنكار وتوبيخ. وفي الآية التفات من الغيبة إلى الخطاب بالنسبة إلى المشركين والنكتة فيه تشديد التوبيخ بتبديل الغيبة حضورا فإن مقام الآيات السابقة على هذه الآية مقام التكلم ممن يخاطب أحد خواصه بحضرة من عبيده المتمردين المعرضين عن عبوديته يبث إليه الشكوى وهو يسمعهم حتى إذا تمت الحجة وقامت البينة كما في قوله: " ءآلله خير أما يشركون " هاج به الوجد والاسف فتوجه إليهم بعد الاعراض فأخذ في حملهم على الاقرار بالحق بذكر آية بعد آية وإنكار شركهم وتوبيخهم عليه بعدولهم عنه إلى غيره وعدم علم أكثرهم وقلة تذكرهم مع تعاليه عن شركهم وعدم برهان منهم على ما يدعون. وقوله: " بل هم قوم يعدلون " اي عن الحق إلى الباطل وعن الله سبحانه إلى غيره وقيل: اي يعدلون بالله غيره ويساوون بينهما. وفي الجملة التفات من الخطاب إلى الغيبة بالنسبة إلى المشركين ورجوع إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والاضراب فيه لبيان ان لا جدوى للسير في حملهم على الحق فإنهم عادلون عنه. قوله تعالى: " أمن جعل الارض قرارا " إلى آخر الآية، القرار مصدر بمعنى اسم الفاعل أي القار المستقر، والخلال جمع خلل بفتحتين وهو الفرجة بين الشيئين، والرواسي جمع راسية وهي الثابتة والمراد بها الجبال الثابتات، والحاجز هو المانع
________________________________________
[ 381 ]
المتخلل بين الشيئين. والمعنى: بل أمن جعل الارض مستقرة لا تيمد بكم وجعل في فرجها التي في جوفها أنهارا وجعل لها جبالا ثابتة وجعل بين البحرين مانعا من اختلاطهما وامتزاجهما هو خير أم ما يشركون ؟ والكلام في قوله: " أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون " كالكلام في نظيره من الآية السابقة. قوله تعالى: " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض أإله مع الله قليلا ما تذكرون " المراد بإجابة المضطر إذا دعاه استجابة دعاء الداعين وقضاء حوائجهم وإنما أخذ وصف الاضطرار ليتحقق بذلك من الداعي حقيقة الدعاء والمسألة إذ ما لم يقع الانسان في مضيقة الاضطرار وكان في مندوحة من المطلوب لم يتمحض منه الطلب وهو ظاهر. ثم قيده بقوله: " إذا دعاه " للدلالة على أن المدعو يجب أن يكون هو الله سبحانه وإنما يكون ذلك عند ما ينقطع الداعي عن عامة الاسباب الظاهرية ويتعلق قلبه بربه وحده وأما من تعلق قلبه بالاسباب الظاهرية فقط أو بالمجموع من ربه ومنها فليس يدعو ربه وإنما يدعو غيره. فإذا صدق في الدعاء وكان مدعوه ربه وحده فإنه تعالى يجيبه ويكشف السوء الذي اضطره إلى المسألة كما قال تعالى: " ادعوني أستجب لكم " المؤمن: 60، فلم يشترط للاستجابة إلا أن يكون هناك دعاء حقيقة وأن يكون ذلك الدعاء متعلقا به وحده، وقال أيضا: " وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " البقره: 186، وقد فصلنا القول في معنى الدعاء في الجزء الثاني من الكتاب في ذيل الآية. وبما مر من البيان يظهر فساد قول بعضهم: إن اللام في " المضطر " للجنس دون الاستغراق فكم من مضطر يدعو فلا يجاب فالمراد إجابة دعاء المضطر في الجملة لا بالجملة. وجه الفساد أن مثل قوله: " ادعوني أستجب لكم " وقوله: " فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان " يأبي تخلف الدعاء عن الاستجابة، وقوله: كم من مضطر يدعو
________________________________________
[ 382 ]
فلا يجاب، غير مسلم إذا كان دعاء حقيقة لله سبحانه وحده كما تقدم بيانه. على أن هناك آيات كثيرة تدل على أن الانسان يتوجه عند الاضطرار كركوب السفينة نحو ربه فيدعوه بالاخلاص فيستجاب له كقوله تعالى: " وإذا مس الانسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما " الآية، يونس: 12، وقوله: " حتى إذا كنتم في الفلك - إلى قوله - وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين " يونس: 22، وكيف يتصور تعلق النفس بتوجهها الغريزي الفطري بأمر لا اطمئنان لها به فما قضاء الفطرة في ذلك إلا كقضائها عند إدراك حاجتها الوجودية إلى من يوجدها ويدبر أمرها أن هناك أمرا يرفع حاجتها وهو الله سبحانه. فإن قلت: نحن كثيرا ما نتوسل في حوائجنا من الاسباب الظاهرية بما لا نقطع بفعلية تأثيره في رفع حاجتنا وإنما نتعلق به رجاء أن ينفعنا إن نفع. قلت: هذا توسل فكري مبدؤه الطمع والرجاء وهو غير التوسل الغريزي الفطري نعم في ضمنه نوع من التوجه الغريزي الفطري وهو التسبب بمطلق السبب ومطلق السبب لا يتخلف، فافهم. وظهر أيضا فساد قول من قال: المراد بالمضطر إذا دعاه المذنب إذا استغفره فإن الله يغفر له وهو إجابته. وفيه أن إشكال الاستغراق بحاله فما كل استغفار يستتبع المغفرة ولا كل مستغفر يغفر له. على أنه لا دليل على تقييد إطلاق المضطر بالمذنب العاصي. وذكر بعضهم: ان الاستغراق بحاله لكن ينبغي تقييد الاجابة بالمشية كما وقع ذلك في قوله تعالى: " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " الانعام: 41. وفيه أن الآية واقعة في سياق لا تصلح معه لتقييد الاجابة في آية المضطر وهو قوله تعالى: " قل أرأيتم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " فالساعة من القضاء المحتوم لا يتعلق بكشفها طلب حقيقي، وأما العذاب الالهي فإن طلب كشفه بتوبة وإيمان حقيقي فإن الله يكشفه كما كشف عن قوم يونس وإن لم يكن كذلك بل احتيالا للنجاة منه فلا لعدم كونه طلبا حقيقيا بل مكرا في صورة الطلب كما حكاه الله عن فرعون لما
________________________________________
[ 383 ]
أدركه الغرق " قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين " يونس: 91، وحكى عن أقوام آخرين أخذهم بالعذاب: " قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين " الانبياء: 15. وبالجملة فمورد قوله: " فيكشف ما تدعون إليه إن شاء " لما كان مما يمكن ان يكون الطلب فيه حقيقيا أو غير حقيقي كان من اللازم تقييد الكشف والاجابة فيه بالمشية فيكشف الله عنهم إن شاء وذلك في مورد حقيقة الطلب والايمان ولا يكشف إن لم يشأ وهذا غير مورد آية المضطر وسائر آيات إجابة الدعوة الذي يتضمن حقيقة الدعاء من الله سبحانه وحده. وقوله: " ويجعلكم خلفاء الارض " الذي يعطيه السياق أن يكون المراد بالخلافة الخلافة الارضية التي جعلها الله للانسان يتصرف بها في الارض وما فيها من الخليقة كيف يشاء كما قال تعالى: " وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الارض خليفة " البقرة: 30. وذلك أن تصرفاته التي تصرف بها في الارض وما فيها بخلافته امور مرتبطة بحياته متعلقة بمعاشه فالسوء الذي يوقعه موقع الاضطرار ويسأل الله كشفه لا محالة شئ من الاشياء التي تمنعه التصرف أو بعض التصرف فيها وتغلق عليه باب الحياة والبقاء وما يتعلق بذلك أو بعض أبو ابها ففي كشف السوء عنه تتميم لخلافته. ويتضح هذا المعنى مزيد اتضاح لو حمل الدعاء والمسألة في قوله: " إذا دعاه " على الاعم من الدعاء اللساني كما هو الظاهر من قوله تعالى: " وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " إبراهيم: 34، وقوله: " يسأله من في السماوات والارض " الرحمن: 29، إذ يكون على هذا جميع ما أوتي الانسان ورزقه من التصرفات من مصاديق كشف السوء عن المضطر المحتاج إثر دعائه فجعله خليفة يتبع إجابة دعائه وكشف السوء الذي اضطره عنه. وقيل: المعنى ويجعلكم خلفاء من قبلكم من الامم في الارض تسكنون مساكنهم وتتصرفون فيها بعدهم هذا. وما قدمناه من المعنى أنسب منه للسياق.
________________________________________
[ 384 ]
وقيل: المعنى: ويجعلكم خلفاء من الكفار بنزول بلادهم وطاعة الله تعالى بعد شركهم وعنادهم. وفيه أن الخطاب في الآية كسائر الآيات الخمس التي قبلها للكفار لا للمؤمنين كما عليه بناء الوجه. وقوله: " قليلا ما تذكرون " خطاب توبيخي للكفار، وقرئ " يذكرون " بالياء للغيبة وهو أرجح لموافقته ما في ذيل سائر الآيات الخمس كقوله: " بل هم قوم يعدلون " " بل أكثرهم لا يعلمون " وغيرهما، فإن الخطاب فيها جميعا للنبي ص بطريق الالتفات كما مر بيانه. قوله تعالى: " أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته " الخ، والمراد بظلمات البر والبحر ظلمات الليالي في البر والبحر ففيه مجاز عقلي، والمراد بإرسال الرياح بشرا إرسالها مبشرات بالمطر قبيل نزوله، والرحمة المطر، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " أمن يبدء الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والارض " الخ، بدء الخلق إيجاده ابتداء لاول مرة وإعادته إرجاعه إليه بالبعث وتبكيت المشركين بالبدء والاعادة مع إنكارهم البعث كما سيذكره بقوله: " وقال الذين كفروا " الخ، بناء على ثبوت المعاد بالادلة القاطعة في كلامه فأخذ كالمسلم ثم استدرك إنكارهم له أو شكهم فيه في الآيات التالية. وقيل: المراد ببدء الخلق ثم إعادته إيجاد الواحد من نوعه ثم إهلاكه وإيجاد نظيره بعده وبالجملة إيجاد المثل بعد المثل فلا يرد ان المشركين منكرون للمعاد فكيف يحتج به عليهم. هذا وهو بعيد من ظاهر الآية. وما يتضمنه الآية من لطائف الحائق القرآنية يفيد ان لا بطلان في الوجود مطلقا بل ما أوجده الله تعالى بالبدء سيرجع إليه بالاعادة وما نشاهده من الهلاك فيها فقدان منا له بعد وجدانه. وأما ما أجمع عليه المتكلمون من امتناع إعادة المعدوم في بعض الموجودات كالاعراض واختلفوا في جواز إعادة بعض آخر كالجواهر، لا ارتباط له بمسألة البعث على ما تقرره لآية، فإن البعث ليس من باب إعادة المعدوم حتى يمتنع بامتناع إعادته
________________________________________
[ 385 ]
لو امتنعت بل البعث عود الخلق ورجوعه وهو خلق من غير بطلان إلى ربه المبدئ له. وقوله: " ومن يرزقكم من السماء والارض " إشارة إلى ما وقع من تدبيره لامرهم بين البدء والعود وهو رزقهم بأسباب سماوية كالامطار وأسبابها والارضية كعامة ما يتغذى به الانسان من الارضيات. وقوله: " قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين " لما ذكر سبحانه فصولا مشتملة على عامة الخلق والتدبير مع الاشارة إلى ارتباط التدبير بعضه ببعض وارتباط الجميع إلى الخلق وعاد الخلق والتدبير بذلك أمرا واحدا منتسبا إليه قائما به تعالى وثبت بذلك انه تعالى هو رب كل شئ وحده لا شريك له وكان لازم ذلك إبطال الوهية الآلهة التي يدعونها من دون الله -. - وذلك ان الالوهيه وهي استحقاق العبادة تتبع الربوبية التي هي تدبير عن ملك فالعبادة على ما يتداولونها إما لتكون شكرا للنعمة أو اتقاء للنقمة وعلى أي حال ترتبط بالتدبير الذي هو من شؤون الربوبية -. - وكان إبطال الوهية الآلهة من دون الله هو الغرض من الفصول الموردة في هذه الآيات كما يدل على ذلك قوله بعد إيراد كل واحد من الفصول: " أإله مع الله ". أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " قل هاتوا برهانكم " أن يطالبهم بالبرهان على ما يدعونه من ألوهية آلهتهم ليظهر بانقطاعهم أنهم مجازفون في دعواهم إذ لو استدلوا على ألوهيتها بشئ كان من الواجب أن ينسبوا إليها شيئا من تدبير العالم والحال أن جميع الخلق والتدبيرله تعالى وحده. قوله تعالى: " قل لا يعلم من في السماوات والارض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون " لما أمره صلى الله عليه وآله وسلم بعد إبطال ألوهية آلهتهم بانتساب الخلق والتدبير إليه تعالى وحده أن يطالبهم بالبرهان على ما يدعونه أمره ثانيا أن يواجههم ببرهان آخر على بطلان ألوهية آلهتهم وهو عدم علمهم بالغيب وعدم شعورهم بالساعة وأنهم أيان يبعثون مع أنه لا يعلم أحد ممن في السماوات والارض - ومنهم آلهتهم الذين هم الملائكة
________________________________________
[ 386 ]
والجن وقديسوا البشر - الغيب وما يشعرون أيان يبعثون، ولو كانوا آلهة لهم تدبير أمر الخلق - ومن التدبير الجزاء يوم البعث - لعلموا بالساعة. وقد ظهر بهذا البيان أن قوله: " لا يعلم من في السماوات والارض الغيب إلا الله " برهان مستقل على بطلان ألوهية آلهتهم واختصاص الالوهية به تعالى وحده وأن قوله: " وما يشعرون أيان يبعثون " من عطف أوضح أفراد الغيب عليه وأهمها علما بالنسبة إلى أمر التدبير. وظهر أيضا ان ضميري الجمع في " وما يشعرون أيان يبعثون " لمن في السماوات لعدم تمام البيان بدونه. فقول بعضهم: إن الضمير للمشركين وان كان عدم الشعور بما ذكر عاما لئلا يلزم التفكيك بينه وبين الضمائر الآتية الراجعة إليهم قطعا. فيه أنه ينافي ما سيقت له الآية الكريمة من البيان كما قدمنا الاشارة إليه والتفكيك بين الضمائر مع وجود القرينة لا بأس به. قوله تعالى: " بل أدارك علمهم في الاخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون " ادارك في الاصل تدارك والتدارك تتابع أجزاء الشئ بعضها بعد بعض حتى تنقطع ولا يبقى منها شئ، ومعنى تدارك علمهم في الآخرة أنهم صرفوا ما عندهم من العلم في غيرها حتى نفد علمهم فلم يبق منه شئ يدركون به أمر الآخرة على حد قوله تعالى: " فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم " النجم: 30 و " عمون " جمع عمي. لما انتهى احتجاجه تعالى إلى ذكر عدم شعور أحد غيره تعالى بوقت البعث وتبكيت المشركين بذلك رجع إلى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وذكره انهم في معزل عن الخطاب بذلك إذ لا خبر لهم عن شئ عن امور الآخرة فضلا عن وقت قيام الساعة وذلك أنهم صرفوا ما عندهم من العلم في جهات الحياة الدنيا فهم في جهل مطلق بالنسبة إلى امور الآخرة بل هم في شك من الآخرة يرتابون في أمرها كما يظهر من احتجاجاتهم على نفيها المبنية على الاستبعاد بل هم منها عمون والله أعمى قلوبهم عن التصديق بها والاعتقاد بوجودها.
________________________________________
[ 387 ]
وقد ظهر بهذا البيان أن تكرر كلمة الاضراب لبيان مراتب الحرمان من العلم بالآخرة وأنهم في أعلاها، فقوله: " بل ادارك علمهم في الآخرة " أي لا علم لهم بها كأنها لم تقرع سمعهم، وقوله: " بل هم في شك منها " أي انه قرع سمعهم خبرها وورد قلوبهم لكنهم ارتابوا ولم يصدقوا بها، وقوله: " بل هم منها عمون " أي إنهم لم ينقطعوا عن الاعتقاد بها من عند أنفسهم وباختيار منهم بل الله سبحانه أعمى أبصار قلوبهم فصاروا عمين فهيهات أن يدركوا من أمرها شيئا. وقيل: المراد بتدارك علمهم تكامله وبلوغه حد اليقين لتكامل الحجج الدالة على حقية البعث والجملة مسوقة للتهكم، وفيه أنه لا يلائم ما يتبعه من الاضراب بالشك والعمى. قوله تعالى: " وقال الذين كفروا ءإذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون - إلى قوله - الاولين " حكاية حجة منهم لنفي البعث مبنية على الاستبعاد أي كيف يمكن أن نخرج من الارض بشرا تأمين كما نحن اليوم وقد متنا وكنا ترابا نحن وآباؤنا كذلك ؟ وقوله: " لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل " حجة أخرى منهم مبنية على الاستبعاد أي لقد وعدنا هذا وهو البعث بعد الموت نحن وآباؤنا وعدوه قبل أن يعدنا هذا النبي والذين وعدوا قبلا هم الانبياء الماضون فهو وعد قديم لم نزل نوعد به ولو كان خبرا صادقا ووعدا حقا لوقع إلى هذا اليوم وإذ لم يقع فهو من الخرافات التي اختلقها الاولون وكانوا مولعين باختلاق الاوهام والخرافات والاصغاء إليها. قوله تعالى: " قل سيروا في الارض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين " إنذار وتخويف لهم على إنكار هم وعد الانبياء بالبعث بأمرهم أن يسيروا في الارض فينظروا كيف كان عاقبة المجرمين المكذبين للانبياء المنذرين لهم بالبعث فإن في النظر إلى عاقبة أمرهم على ما تدل عليه مساكنهم الخربة وديارهم الخالية كفاية للمعتبرين من أولي الابصار، وفي التعبير عن المكذبين بالمجرمين لطف بالمؤمنين في ترك الجرائم. كذا قيل. ويمكن أن تقرر الآية حجة تدل على المعاد وتقريبها أن انتهاء عاقبة أمر المجرمين
________________________________________
[ 388 ]
إلى عذاب الاستئصال دليل على أن الاجرام والظلم من شأنه أن يؤاخذ عليه وأن العمل إحسانا كان أو إجراما محفوظ على عامله سيحاسب عليه وإذ لم تقع عامة هذا الحساب والجزاء - وخاصة على الاعمال الصالحة - في الدنيا فذلك لا محالة في نشأة اخرى وهي الدار الآخرة. فتكون الآية في معنى قوله تعالى: " أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الارض أم نجعل المتقين كالفجار " ص: 28، ويؤيد هذا التقرير قوله: " عاقبة المجرمين " ولو كان المراد تهديد مكذبي الرسل وتخويفهم كان الانسب أن يقال: عاقبة المكذبين، كما تقدمت الاشارة إليه. قوله تعالى: " ولا تحزن عليهم ولا تكن في ضيق مما يمكرون " أي لا يحزنك إصرارهم على الكفر والجحود ولا يضق صدرك من مكرهم لابطال دعوتك وصدهم الناس عن سبيل الله فإنهم بعين الله وليسوا بمعجزيه ويجزيهم بأعمالهم. فالآية مسوقة لتطييب نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقوله: " ولا تكن في ضيق " الخ، معطوف على ما قبله عطف التفسير. قوله تعالى: " ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين " الظاهر أن المراد بالوعد الوعد بعذاب المجازاة أعم من الدنيا والآخرة، والسياق يؤيد ذلك والباقي ظاهر. قوله تعالى: " قل عسى أن يكون ردف لكم بعض الذي تستعجلون " قالوا: إن اللام في " ردف لكم " مزيدة للتأكيد، كالباء في قوله: " ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكه " البقرة: 198، والمعنى تبعكم ولحق بكم، وقيل: إن ردف مضمن معنى فعل يعدى باللام. والمراد ببعض الذي يستعجلونه هو عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة فإنهم كانوا يستعجلون إنجاز ما وعدهم الله من الحكم الفصل، وهو ملازم لعذابهم، وعذابهم في الدنيا بعض العذاب الذي يستعجلونه باستنجاز الوعد، ولعل مراد الآية به عذاب يوم بدر كما قيل. قالوا: إن " عسى ولعل " من الله تعالى واجب لان حقيقة الترجي مبنية على
________________________________________
[ 389 ]
الجهل ولا يجوز عليه تعالى ذلك فمعنى قوله: " عسى أن يكون ردف لكم " سيردفكم ويأتيكم العذاب محققا. وفيه أن معنى الترجي والتمني ونحوهما كما جاز أن يقوم بنفس المتكلم يجوز أن يقوم بالمقام أو بالسامع أو غيرهما وهو في كلامه تعالى قائم بغير المتكلم من المقام وغيره وما في الآية من الجواب لما أرجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان الرجاء المدلول عليه بكلمة عسى قائما بنفسه الشريفة والمعنى: قل أرجو ان يكون ردف لكم العذاب. وفي تفسير أبي السعود: وعسى ولعل وسوف في مواعيد الملوك بمنزلة الجزم بها، وإنما يطلقونها إظهارا للوقار، وإشعارا بأن الرمز من امثالهم كالتصريح ممن عداهم وعلى ذلك مجرى وعد الله تعالى ووعيده انتهى وهو وجه وجيه. ومعنى الآية: قل لهؤلاء السائلين عن وقت الوعد: أرجو أن يكون تبعكم بعض الوعد الذي تستعجلونه وهو عذاب الدنيا الذي يقربكم من عذاب الآخرة ويؤديكم إليه، وفي التعبير بقوله: " ردف لكم " إيماء إلى قربه. قوله تعالى: " وإن ربك لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون " معنى الآية في نفسها ظاهر ووقوعها في سياق التهديد والتخويف يفيد ان تأخيره تعالى العذاب عنهم مع استحقاقهم ذلك إنما هو فضل منه عليهم يجب عليهم شكره عليه لكنهم لا يشكرونه ويسألون تعجيله. قوله تعالى: " وإن ربك ليعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون " أي إن تأخير العذاب ليس عن جهل منه تعالى بحالهم وما يستحقونه بالكفر والجحود فإنه يعلم ما تستره وتخفيه صدورهم وما يظهرونه. ثم أكد ذلك بأن كل غائبة - وهي ما من شأنه ان يغيب ويخفي في أي جهة من جهات العالم كان - مكتوب محفوظ عنده تعالى وهو قوله: " وما من غائبة في السماء والارض إلا في كتاب مبين ". قوله تعالى: " إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل - إلى قوله - العزيز العليم " تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتمهيد لما سيذكره من حقية دعوته وتقوية لايمان المؤمنين به، و بهذا الوجه يتصل بقوله قبلا: " ولا تحزن عليهم " الخ المشعر بحقية دعوته.
________________________________________
[ 390 ]
فقوله: " إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون " يشير إلى ما يقصه القرآن من قصص الانبياء ويبين الحق فيما اختلفوا فيه من أمرهم ومنه أمر المسيح ع ويبين الحق فيما اختلفوا فيه من المعارف والاحكام. وقوله: " وإنه لهد ورحمة للمؤمنين " يشير إلى أنه يهدي المؤمنين بما قصه على بني إسرائيل إلى الحق وأنه رحمة لهم تطمئن به قلوبهم ويثبت الايمان بذلك في نفوسهم. وقوله: " إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم " إشارة إلى أن القضاء بينهم إلى الله فهور به العزيز الذي لا يغلب في أمره العليم لا يجهل ولا يخطئ في حكمه فهو القاضي بينهم بحكمه فلترض نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بربه العزيز العليم قاضيا حكما ولترجع الامر إليه كما ينبغي أن تفعل مثل ذلك في حق المشركين ولا تحزن عليهم ولا تكون في ضيق مما يمكرون. قوله تعالى: " فتوكل على الله إنك على الحق المبين " تفريع على مجموع ما أمر به قبال كفر المشركين واختلاف بني إسرائيل أي إن أمرهم جميعا إلى الله لا اليك فاتخذه وكيلا فهو كافيك ولا تخافن شيئا إنك في أمن من الحق. قوله تعالى: " إنك لا تسمع الموتى - إلى قوله - فهم مسلمون " تعليل للامر بالتوكل أي إنما أمرناك بالتوكل على الله في أمر إيمانهم وكفرهم لانهم موتى وليس في وسعك أن تسمع الموتى دعوتك وإنهم صم لا يسمعون وعمي ضالون لا تقدر على إسماع الصم إذا ولوا مدبرين - ولعله قيد عدم إسماع الصم بقوله: " إذا ولوا مدبرين " لانهم لو لم يكونوا مدبرين لامكن تفهيمهم بنوع من الاشارة - ولا على هداية العمي عن ضلالتهم، وإنما الذي تقدر عليه هو أن تسمع من يؤمن بآياتنا الدالة علينا وتهديهم فإنهم لاذعانهم بتلك الحجج الحقة مسلمون لنا مصدقون بما تدل عليه. وقد تبين بهذا البيان أولا: أن المراد بالاسماع الهداية. وثانيا: أن المراد بالآيات الحجج الدالة على التوحيد وما يتبعه من المعارف الحقة. وثالثا: أن من تعقل الحجج الحقة من آيات الآفاق والانفس بسلامة من العقل. ثم استسلم لها بالايمان والانقياد ليس هو من الموتى ولا ممن ختم الله على سمعه وبصره.
________________________________________
[ 391 ]
(بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " وسلام على عباده الذين اصطفى " قال: هم آل محمد ع. أقول: ورواه أيضا في جمع الجوامع عنهم مرسلا مضمرا، وقد عرفت فيما تقدم من البيان في ذيل الآية أن الذي يعطيه السياق أن المراد بهم بحسب مورد الآية الانبياء المنعمون بنعمة الاصطفاء وقد قص الله قصص جمع منهم فقوله عليه السلام - لو صحت الرواية - هم آل محمد عليهم السلام من قبيل الجري والانطباق. ونظيره اما رواه في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الكتب عن ابن عباس في الآية قال: هم أصحاب محمد فهو - لو صحت الرواية - إجراء منه وتطبيق. ومنه يظهر ما فيما رواه أيضا عن عبد بن حميد وابن جرير عن سفيان الثوري في الآية قال: نزلت في أصحاب محمد خاصة، فلا نزول ولا اختصاص. وفي تفسير القمي أيضا في قوله تعالى: " بل هم قوم يعدلون " قال: عن الحق. وفيه في قوله تعالى: " أمن يجيب المضطر إذا دعاه " الآية، حدثني أبي عن الحسن بن علي بن فضال عن صالح بن عقبة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نزلت في القائم من آل محمد عليهم السلام هو والله المضطر إذا صلى في المقام ركعتين ودعا إلى الله عز وجل فأجابه ويكشف السوء ويجعله خليفة في الارض. أقول: والرواية أيضا من الجري والآية عامة. وفي الدر المنثور أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من فارق الجماعة فهو في النار على وجهه لان الله تعالى يقول: " أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الارض " فالخلافة من الله عزوجل فإن كان خيرا فهو يذهب به وإن كان شرا فهو يؤخذ به، عليك أنت بالطاعة فيما أمر الله به. أقول: الرواية لا تخلو من شئ فقد تقدم أن المراد بالخلافة في الآية - على ما يشهد به السياق - الخلافة الارضية المقدرة لكل إنسان وهو السلطة على ما في الارض بأنواع التصرف دون الخلافة بمعنى الحكومة على الامة بإدارة رحي مجتمعهم.
________________________________________
[ 392 ]
ومع الغض عن ذلك فمتن الرواية لا يخلو عن تدافع فإن كان المراد بكون الخلافة من الله تعالى أن سلطانه على الناس بتقدير من الله وبعبارة أخرى انتسابها التكويني إلى الله سبحانه كما ورد في ملك نمرود من قوله تعالى: " أن آتاه الله الملك " البقرة: 258، وقوله حكاية عن فرعون: " أليس لي ملك مصر " الزخرف: 51، فمن البين أن الخلافة بهذا المعنى لا تستتبع وجوب الطاعة وحرمة المخالفة وإلا كان نقضا لاصل الدعوة الدينية وإيجابا لطاعة أمثال نمرود وفرعون وكم لها من نظير، وإن كان المراد به الجعل الوضعي الديني وبعبارة أخرى انتسابها التشريعي إلى الله تعالى ثم وجبت طاعته فيما يأمر به وإن كان معصية كان ذلك نقضا صريحا للاحكام، وإن كان الواجب طاعته في غير معصية الله لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " جازت مفارقة الجماعة في الجملة وهو يناقض صدر الرواية. ونظير الاشكال يجري في قوله ذيلا: " عليك أنت بالطاعة فيما أمر الله به " فلو كان المراد مما أمر الله به طاعته مقام الخلافة وإن كان في معصية كان نقضا صريحا لتشريع الاحكام وإن كان المراد به طاعة الله وإن استلزم معصية مقام الخلافة كان ناقضا لصدر الرواية. وقد اتضح اليوم بالابحاث الاجتماعية أن إمضاء حكومة من لا يحترم القوانين المقدسة الجارية لا يرضي به مجتمع عاقل رشيد فمن الواجب تنزيه ساحة مشرع الدين عن ذلك، والقول بأن مصلحة حفظ وحدة الكلمة وإتفاق الامة أهم من حفظ بعض الاحكام بالمفارقة معناه جواز هدم حقيقة الدين لحفظ اسمه. وفي الدر النثور أيضا أخرج الطيالسي وسعيد بن منصور وأحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات عن مسروق قال: كنت متكئا عند عائشة فقالت عائشة: ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: وما هن ؟ قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية قال: وكنت متكئا فجلست وقلت: يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجلي علي ألم يقل الله: " ولقد رآه في الافق المبين " " ولقد رآه نزلة أخرى " ؟
________________________________________
[ 393 ]
فقالت: أنا أول هذه الامة سأل هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: جبريل. لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الارض. قالت: ألم تسمع الله عزوجل يقول: " لا تدركه الابصار وهو يدرك الابصار وهو اللطيف الخبير " ؟ أولم تسمع الله يقول: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا - إلى قوله - علي حكيم ". ومن زعم أن محمدا كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية والله جل ذكره يقول: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس ". قالت: ومن زعم أنه يخبر الناس بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول: " قل لا يعلم من في السماوات والارض الغيب إلا الله ". أقول: وفي متن الرواية شئ أما آيات الرؤية فإنما تنفي رؤية الحس دون رؤية القلب وهي من الرؤية وراء الايمان الذي هو الاعتقاد وقد أشبعنا الكلام فيها في الموارد المناسبة له. وأما قوله تعالى: " يا أيها الرسول بلغ " الآية فقد أوضحنا في تفسير الآية أنها خاصة غير عامة ولو فرضت عامة فإنما تدل على أن كل ما أنزل إليه مما فيه رسالة وجب عليه تبليغه ومن الجائز أن ينزل إليه ما يختص علمه به صلى الله عليه وآله وسلم فيكتمه عن غيره. وأما قوله: " قل لا يعلم من في السماوات والارض الغيب إلا الله " فلا يدل إلا على اختصاص علم الغيب بالذات به تعالى كسائر آيات اختصاص الغيب به، ولا ينفي علم الغير به بتعليم منه تعالى كما يشير إليه قوله: " عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول " الجن: 27، وقد حكى الله سبحانه نحوا من هذا الاخبار عن المسيح عليه السلام إذ قال: " وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون " آل عمران: 49، ومن المعلوم أن القائل أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخبر الناس بما يكون في غد لا ينفي كون ذلك بتعليم من الله له. وقد تواترت الاخبار على تفرقها وتنوعها من طرق الفريقين على إخباره صلى الله عليه وآله وسلم بكثير من الحوادث المستقبلة.
________________________________________
[ 394 ]
* * * وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون - 82. ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون - 83. حتى إذا جاؤا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أما ذا كنتم تعملون - 84. ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون - 85. ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون - 86. ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الارض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين - 87. وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شئ إنه خبير بما تفعلون - 88. ومن جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون - 89. ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون - 90. إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شئ وأمرت أن أكون من المسلمين - 91. وأن أتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين - 92. وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون - 93.
________________________________________
[ 395 ]
(بيان) هي من تمام الفصل السابق من الآيات تشير إلى البعث وبعض ما يلحق به من الامور الواقعة فيه وبعض أشراطه وتختم السورة بما يرجع إلى مفتتحها من الانذار والتبشير. قوله تعالى: " وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون " مقتضى السياق - بما أن الآية متصلة بما قبلها من الآيات الباحثة عن أمر المشركين المعاصرين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أو خصوص أهل مكة من قريش وقد كانوا أشد الناس عداوة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته - أن ضمائر " عليهم " و " لهم " و " تكلمهم " للمشركين المحدث عنهم لكن لا لخصوصهم بل بما أنهم ناس معنيون بالدعوة فالمراد بالحقيقة عامة الناس من هذه الامة من حيث وحدتهم فيلحق بأولهم من الحكم ما يلحق بآخرهم وهذا النوع من العناية كثير الورود في كلامه تعالى. والمراد بوقوع القول عليهم تحقق مصداق القول فيهم وتعينهم لصدقه عليهم كما في الآية التالية: " ووقع القول عليهم بما ظلموا " أي حق عليهم العذاب، فالجملة في معنى " حق عليهم القول " وقد كثر وروده في كلامه تعالى، والفرق بين التعبيرين أن العناية في " وقع القول عليهم " بتعينهم مصداقا للقول وفي " حق عليهم القول " باستقرار القول وثبوته فيهم بحيث لا يزول. وأما ما هو هذا القول الواقع عليهم فالذي يصلح من كلامه تعالى لان يفسر به قوله: " سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " حم السجدة: 53، فإن المراد بهذه الآيات التي سيريهم غير الآيات السماوية والارضية التي هي بمرآهم ومسمعهم دائما قطعا بل بعض آيات خارقة للعادة تخضع لها وتضطر للايمان بها أنفسهم في حين لا يوقنون بشئ من آيات السماء والارض التي هي تجاة أعينهم وتحت مشاهدتهم. وبهذا يظهر أن قوله: (أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون) تعليل لوقوع القول عليهم والتقدير لان الناس، وقوله: (كانوا) لافادة استقرار عدم الايقان فيهم والمراد بالآيات الآيات المشهودة من السماء والارض غير الآيات الخارقة وقرئ (إن) بكسر
________________________________________
[ 396 ]
الهمزة وهي أرجح من قراءة الفتح فيؤيد ما ذكرناه وتكون الجملة بلفظها تعليلا من دون تقدير اللام. وقوله: (أخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم) بيان لآية خارقة من الآيات الموعودة في قوله: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) وفي كونه وصفا لامر خارق للعادة دلالة على أن المراد بالاخراج من الارض إما الاحياء والبعث بعد الموت وإما أمر يقرب منه، وأما كونها دابة تكلمهم فالدابة ما يدب في الارض من ذوات الحياة إنسانا كان أو حيوانا غيره فإن كان إنسانا كان تكليمه الناس على العادة وإن كان حيوانا أعجم كان تكليمه كخروجه من الارض خرقا للعادة. ولا نجد في كلامه تعالى ما يصلح لتفسير هذه الآية وأن هذه الدابة التي سيخرجها لهم من الارض فتكلمهم ما هي ؟ وما صفتها ؟ وكيف تخرج ؟ وماذا تتكلم به ؟ بل سياق الآية نعم الدليل على أن القصد إلى الابهام فهو كلام مرموز فيه. ومحصل المعنى: إنه إذا آل أمر الناس - وسوف يؤل - إلى أن كانوا لا يوقنون بآياتنا المشهودة لهم وبطل استعدادهم للايمان بنا بالتعقل والاعتبار آن وقت أن نريهم ما وعدنا إراءته لهم من الآيات الخارقة للعادة المبينة لهم الحق بحيث يضطرون إلى الاعتراف بالحق فأخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم. هذا ما يعطيه السياق ويهدي إليه التدبر في الآية من معناها، وقد أغرب المفسرون حيث أمعنوا في الاختلاف في معاني مفردات الآية وجملها والمحصل منها وفي حقيقة هذه الدابة وصفتها ومعنى تكليمها وكيفية خروجها وزمان خروجها وعدد خروجها والمكان الذي تخرج منه في أقوال كثيرة لا معول فيها إلا على التحكم، ولذا أضربنا عن نقلها والبحث عنها، ومن أراد الوقوف عليها فعليه بالمطولات. قوله تعالى: (ويوم نحشر من كل أمة فوجا ممن يكذب بآياتنا فهم يوزعون) الفوج - كما ذكره الراغب - الجماعة المارة المسرعة، والايزاع إيقاف القوم وحبسهم بحيث يرد أولهم على آخرهم. وقوله: (ويوم نحشر) منصوب على الظرفية لمقدر والتقدير واذكر يوم نحشر والمراد بالحشر هو الجمع بعد الموت لان المحشورين فوج من كل أمة ولا اجتماع لجميع
________________________________________
[ 397 ]
الامم في زمان واحد وهم أحياء، و (من) في قوله: (من كل أمة) للتبعيض، وفي قوله: (ممن يكذب) للتبيين أو للتبعيض. والمراد بالآيات في قوله: (يكذب بآياتنا) مطلق الآيات الدالة على المبدء والمعاد ومنها الانبياء والائمة والكتب السماوية دون الساعة وما يقع فيها وعند قيامها ودون الآيات القرآنية فقط لان الحشر ليس مقصورا على الامة الاسلامية بل أفواج من امم شتى. ومن العجيب إصرار بعضهم على أن الكلام نص في أن المراد بالآيات ههنا وفي الآية التالية هي الآيات القرآنية قال: لانها هي المنطوية على دلائل الصدق التي لم يحيطوا بها مع وجوب أن يتأملوا ويتدبروا فيها لا مثل الساعة وما فيها انتهى. وفساده ظاهر لان عدم كون أمثال الساعة وما فيها مرادة لا يستلزم إرادة الآيات القرآنية مع ظهور أن المحشورين أفواج من جميع الامم وليس القرآن إلا كتابا لفوج واحد منهم. وظاهر الآية أن هذا الحشر في غير يوم القيامة لانه حشر للبعض من كل امة لا لجميعهم وقد قال الله تعالى في صفة الحشر يوم القيامة: (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا) الكهف: 47. وقيل: المراد بهذا الحشر هو الحشر للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لجميع الخلق فهو حشر بعد حشر. وفيه أنه لو كان المراد الحشر إلى العذاب لزم ذكر هذه الغاية دفعا للابهام كما في قوله تعالى: (ويوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون حتى إذا ما جاؤها) حم السجدة: 20، مع أنه لم يذكر فيما بعد هذه الآية إلا العتاب والحكم الفصل دون العذاب والآية كما ترى مطلقه لم يشر فيها إلى شئ يلوح إلى هذا الحشر الخاص المذكور ويزيدها إطلاقا قوله بعدها: (حتى إذا جاؤا) فلم يقل: حتى إذا جاؤا العذاب أو النار أو غيرها. ويؤيد ذلك أيضا وقوع الآية الآيتين بعدها بعد نبأ دابة الارض وهي من أشراط الساعة وقبل قوله: (ويوم ينفخ في الصور) إلى آخر الآيات الواصفة لوقائع يوم القيامة، ولا معنى لتقديم ذكر واقعة من وقائع يوم القيامة على ذكر شروعه ووقوع عامة ما يقع فيه فإن الترتيب الوقوعي يقتضي ذكر حشر فوج من كل امة لو كان من وقائع يوم القيامة بعد ذكر نفخ الصور وإتيانهم إليه داخرين.
________________________________________
[ 398 ]
وقد تنبه لهذا الاشكال بعض من حمل الآية على الحشر يوم القيامة فقال: لعل تقديم ذكر هذه الواقعة على نفخ الصور ووقوع الواقعة للايذان بأن كلا مما تضمنه هذا وذاك من الاحوال طامة كبرى وداهية دهياء حقيقة بالتذكير على حيالها ولو روعي الترتيب الوقوعي لربما توهم أن الكل داهية واحدة. وأنت خبير بأنه وجه مختلق غير مقنع، ولو كان كما ذكر لكان دفع توهم كون الحشر المذكور في الآية في غير يوم القيامة بوضع الآية بعد آية نفخ الصور مع ذكر ما يرتفع به الابهام المذكور أولى بالرعاية من دفع هذا التوهم الذي توهمه. فقد بأن أن الآية ظاهرة في كون هذا الحشر المذكور فيها قبل يوم القيامة وإن لم تكن نصا لا يقبل التأويل. قوله تعالى: (حتى إذا جاؤا قال أكذبتم بآياتي ولم تحيطوا بها علما أم ماذا كنتم تعملون) المراد بالمجئ - بإعانة من السياق - هو الحضور في موطن الخطاب المدلول عليه بقوله: (قال أكذبتم) الخ والمراد بالآيات - كما تقدم في الآية السابقة - مطلق الآيات الدالة على الحق، وقوله: (ولم تحيطوا بها علما) جملة حالية أي كذبتم بها حال كونكم لا علم لكم بها لاعراضكم عنها فكيف كذبتم بما لا تعلمون أي رميتموها بالكذب وعدم الدلالة من غير علم، وقوله: (أم ماذا كنتم تعملون) أي غير التكذيب. والمعنى: حتى إذا حضروا في موطن الخطاب قال الله سبحانه لهم: أكذبتم بآياتي حال كونكم لم تحيطوا بها علما أم أي شئ كنتم تعملون غير التكذيب، وفي ذلك عتابهم بإنهم لم يشتغلوا بشئ غير تكذيبهم بآيات الله من غير أن يشغلهم عنه شاغل معذر. قوله تعالى: (ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون) الباء في (بما ظلموا) للسببية و (ما) مصدريه أي وقع القول عليهم بسبب كونهم ظالمين، وقوله: (فهم لا ينطقون) تفريع على وقوع القول عليهم. وبذلك يتأيد أن المراد بالقول الذي يقع عليهم قوله تعالى: (إن الله لا يهدي القوم الظالمين) الانعام: 144، والمعنى: ولكونهم ظالمين في تكذيبهم بالآيات لم يهتدوا إلى ما يعتذرون به فانقطعوا عن الكلام فهم لا ينطقون. وربما فسر وقوع القول عليهم بوجوب العذاب عليهم والانسب على هذا أن يكون المراد بالقول الواقع عليهم قضاؤه تعالى بالعذاب في حق الظالمين في مثل قوله:
________________________________________
[ 399 ]
(ألا الضالمين في عذاب مقيم) الشورى: 45، والمعني: ولكونهم ظالمين قضي فيهم بالعذاب فلم يكن عندهم ما ينطقون به، والوجه السابق أوجه. وأما تفسير وقوع القول بحلول العذاب ودخول النار فبعيد من السياق لعدم ملاءمته التفريع في قوله: (فهم لا ينطقون). قوله تعالى: (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه والنهار مبصرا إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) لما وصف في الآيات السابقة أن كثيرا من الناس في صمم وعمي من استماع كلمة الحق والنظر في آيات الله والاعتبار بهما، ثم ذكر دابة الارض وأنه سيخرجها آية خارقة للعادة تكلمهم، ثم ذكر أنه سيحشر فوجا من كل امة من المكذبين فيعاتبهم فتتم عليهم الحجة بقولهم بغير علم بالآيات لاعراضهم عنها وبخهم في هذه الآية ولامهم على تكذيبها بالآيات مع الجهل أنهم كانوا يرون الليل الذي يسكنون فيه بالطبع وأن هناك نهارا مبصرا يظهر لهم بها آيات السماء والارض فلم لم يتبصروا ؟. وقوله: (إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون) أي في جعل الليل سكنا يسكنون فيه والنهار مبصرا يبصرون فيه آيات السماء والارض آيات لقوم فيهم خاصة الاذعان والتصديق للحق اللائح لهم. والمراد بالآيات العلامات والجهات الدالة فيهما على التوحيد وما يتبعه من حقائق المعارف، ومن جملة ذلك دلالتهما على أن الانسان عليه أن يسكن فيما من شأنه أن يسكن فيه، وهو الليل الذي يضرب بحجاب ظلمته على الابصار، ويتحرك فيما من شأنه أن يتحرك فيه وهو النهار المبصر الذي يظهر به الاشياء التي تتضمن منافع الحياة للابصار. فعلي الانسان أن يسكت عما حجبته عنه ظلمة الجهل ولا يقول بغير علم ولا يكذب بما لا يحيط به علما وأن يقول ويؤمن بما تجليه له بينات الايات التي هي كالنهر المبصرة. قوله تعالى: (ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السماوات ومن الارض إلا من شاء الله وكل أتوه داخرين) النفخ في الصور كناية عن إعلام الجماعة الكثيرين كالعسكر بما يجب عليهم أن يعملوا به جمعا كالحضور والارتحال وغير ذلك، والفزع كما قال الراغب انقباض نفار يعتري الانسان من الشئ المخيف وهو من جنس الجزع، والدخور الذلة والصغار.
________________________________________
[ 400 ]
قيل: المراد بهذا النفخ النفخة الثانية للصور التي بها تنفخ الحياة في الاجساد فيبعثون لفصل القضاء، ويؤيده قوله في ذيل الآية: (وكل أتوه داخرين) والمراد به حضورهم عند الله سبحانه، ويؤيده أيضا استثناؤه (من شاء الله) من حكم الفزع ثم قوله فيمن جاء بالحسنة: (وهم من فزع يومئذ آمنون) حيث يدل على أن الفزع المذكور هو الفزع في النفخة الثانية. وقيل: المراد به النفخة الاولى التي يموت بها الاحياء بدليل قوله: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الارض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون) الزمر: 68، فإن الصعقة من الفزع وقد رتب على النفخة الاولى وعلى هذا يكون المراد بقوله: (وكل أتوه داخرين) رجوعهم إلى الله سبحانه بالموت. ولا يبعد أن يكون المراد بالنفخ في الصور يومئذ مطلق النفخ أعم مما يميت أو يحيي فإن النفخ كيفما كان من مختصات الساعة، ويكون ما ذكر من فزع بعضهم وأمن بعضهم من الفزع وسير الجبال من خواص النفخة الاولى وما ذكر من إتيانهم داخرين من خواص النفخة الثانية ويندفع بذلك ما يورد على كل واحد من الوجهين السابقين. وقد استثنى سبحانه جمعا من عباده من حكم الفزع العام الشامل لمن في السماوات والارض، وسيجئ كلام في معنى هذا الاستثناء في الكلام على قوله الآتي: (وهم من فزع يومئذ آمنون). والظاهر أن المراد بقوله: (وكل أتوه داخرين) رجوع جميع من في السماوات والارض حتى المستثنين من حكم الفزع وحضورهم عنده تعالى، وأما قوله: (فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين) الصافات: 127، فالظاهر أن المراد نفي إحضارهم في الجمع للحساب والسؤال لا نفي بعثهم ورجوعهم إلى الله وحضورهم عنده فآيات القيامة ناصة على عموم البعث لجميع الخلائق بحيث لا يشذ منهم شاذ. ونسبة الدخور والذلة إلى أوليائه تعالى لا تنافي ما لهم من العزة عند الله فإن عزة العبد عند الله ذلته عنده وغناه بالله فقره إليه نعم ذلة أعدائه بما يرون لانفسهم من العزة الكاذبة ذلة هوان. قوله تعالى: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي
________________________________________
[ 401 ]
أتقن كل شئ إنه خبير بما تفعلون " الآية بما أنها واقعة في سياق آيات القيامة محفوفة بها تصف بعض ما يقع يومئذ من الآيات وهو سير الجبال وقد قال تعالى في هذا المعنى أيضا: (وسيرت الجبال فكانت سرابا) النبأ: 20، إلى غير ذلك. فقوله: (وترى الجبال) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد به تمثيل الواقعة، كما في قوله: (وترى الناس سكارى) الحج: 2، أي هذا حالها المشهودة في هذا اليوم تشاهدها كنت مشاهدا، وقوله: (تحسبها جامدة) أي تظنها الآن ولم تقم القيامة بعد جامدة غير متحركة، والجملة معترضة أو حالية. وقوله: (وهي تمر مر السحاب) حال من الجبال وعاملها (ترى) أي تراها إذا نفخ في الصور حال كونها تسير سير السحاب في السماء. وقوله: (صنع الله الذي أتقن كل شئ) مفعول مطلق لمقدر أي صنعه صنعا وفي الجملة تلويح إلى أن هذا الصنع والفعل منه تعالى تخريب للدنيا وهدم للعالم، لكنه في الحقيقة تكميل لها وإتقان لنظامها لما يترتب عليه من إنهاء كل شئ إلى غايته وإيصاله إلى وجهته التي هو موليها من سعادة أو شقاوة لان ذلك صنع الله الذي أتقن كل شئ فهو سبحانه لا يسلب الاتقان عما أتقنه ولا يسلط الفساد على ما أصلحه ففي تخريب الدنيا تعمير الآخرة. وقوله: (إنه خبير بما تفعلون) قيل: إنه تعليل لكون ما ذكر من النفخ في الصور وما بعده صنعا محكما له تعالى فإن علمه بظواهر أفعال المكلفين وبواطنها مما يستدعي إظهارها وبيان كيفياتها على ما هي عليه من الحسن والسوء وترتيب آثارها من الثواب والعقاب عليها بعد البعث والحشر وتسيير الجبال. وأنت ترى ما فيه من التكلف وأن السياق بعد ذلك كله لا يقبله. وقيل: إن قوله: (إنه خبير بما تفعلون) استئناف في حكم الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا يكون بعد هذه القوارع ؟ فقيل: إن الله خبير بعمل العاملين فيجازيهم على أعمالهم وفصل بقوله: (من جاء بالحسنة فله خير منها) إلى آخر الآيتين. وههنا وجه آخر مستفاد من الامعان في سياق الآيات السابقة فإن الله سبحانه أمر فيها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يتوكل عليه ويرجع أمر المشركين وبني إسرائيل إليه فإنه إنما
________________________________________
[ 402 ]
يستطيع هداية المؤمنين بآياته المستسلمين للحق وأما المشركون في جحودهم وبنو إسرائيل في اختلافهم فإنهم موتى لا يسمعون وصم عمي لا يسمعون ولا يهتدون إلى الحق بالنظر في آيات السماء والارض والاعتبار بها باختيار منهم. ثم ذكر ما سيواجههم به - وحالهم هذه الحال لا يؤثر فيهم الآيات - وأنه سيخرج لهم دابة من الارض تكلمهم وهي آية خارقة تضطرهم إلى قبول الحق وأنه يحشر من كل امة فوجا من المكذبين فيتم عليهم الحجة، وبالآخرة هو خبير بأفعالهم سيجزي من جاء بحسنة أو سيئة بعمله يوم ينفخ في الصور ففزعوا وأتوه داخرين. وبالتأمل في هذا السياق يظهر أن الانسب كون (يوم ينفخ) ظرفا لقوله: (إنه خبير بما يفعلون) وقراءة (يفعلون) بياء الغيبة أرجح من القراءة المتداولة على الخطاب. والمعنى: وإنه تعالى خبير بما يفعله أهل السماوات والارض يوم ينفخ في الصور ويأتونه داخرين يجزي من جاء بالحسنة بخير منها ومن جاء بالسيئة بكب وجوههم في النار كل مجزي بعمله، وعلى هذا تكون الآية في معنى قوله تعالى: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور إن ربهم بهم يومئذ لخبير) العاديات: 11، وقوله: (يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شئ) المؤمن: 16، ويكون قوله: (من جاء بالحسنة الخ، تفصيلا لقوله: (إنه خبير بما يفعلون) من حيث لازم الخبرة وهو الجزاء بما فعل وعمل كما أشار إليه ذيلا بقوله: (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) والالتفات من الغيبة إلى الخطاب في قوله: (هل تجزون) الخ، لتشديد التقريع والتأنيب. وفي الآية أعني قوله: (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب) الخ، قولان آخران: أحدهما: حملها على الحركة الجوهرية وأن الاشياء كالجبال تتحرك بجوهرها إلى غاية وجودها وهي حشرها ورجوعها إلى الله سبحانه. وهذا المعنى أنسب بالنظر إلى ما في قوله: (تحسبها جامدة) من التلويح إلى أنها اليوم متحركة ولما تقم القيامة، وأما جعل يوم القيامة ظرفا لحسبان الجمود وللمرور كالسحاب جميعا فمما لا يلتفت إليه. وثانيهما: حملها على حركة الارض الانتقالية وهو بالنظر إلى الآية في نفسها معنى
________________________________________
[ 403 ]
جيد إلا أنه أولا: يوجب انقطاع الآية عما قبلها وما بعدها من آيات القيامة وثانيا: ينقطع بذلك اتصال قوله: (إنه خبير بما يفعلون) بما قبله. قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون) هذه الآية وما بعدها - كما تقدمت الاشارة إليه - تفصيل لقوله: (إنه خبير بما يفعلون) من حيث أثره الذي هو الجزاء، والمراد بقوله: (من جاء بالحسنة فله خير منها) أن له جزاء هو خير مما جاء به من الحسنة وذلك لان العمل أيا ما كان مقدمة للجزاء مقصود لاجله والغرض والغاية على أي حال أفضل من المقدمة. وقوله: (وهم من فزع يومئذ آمنون) ظاهر السياق أن هذا الفزع هو الفزع بعد نفخ الصور الثاني دون الاول فيكون في معنى قوله: (لا يحزنهم الفزع الاكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون) الانبياء: 103. قوله تعالى: (ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) يقال: كبه على وجهه فانكب أي ألقاه على وجهه فوقع عليه فنسبة الكب إلى وجوههم من المجاز العقلي والاصل فكبوا على وجوههم. وقوله: (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) الاستفهام للانكار، والمعنى: ليس جزاؤكم هذا إلا نفس العمل الذي عملتموه ظهر لكم فلزمكم فلا ظلم في الجزاء ولا جور في الحكم. والآيتان في مقام بيان ما في طبع الحسنة والسيئة من الجزاء ففيهما حكم من جاء بالحسنة فقط ومن أحاطت به الخطيئة واستغرقته السيئة وأما من حمل حسنة وسيئة فيعلم بذلك حكمه إجمالا وأما التفصيل ففي غير هذا الموضع. قوله تعالى: (إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شئ) الآيات الثلاث - من هنا إلى آخر السورة ختام السورة يبين فيها أن هذه الدعوة الحقة تبشير وإنذار فيه إتمام للحجة من غير أن يرجع إليه صلى الله عليه وآله وسلم من أمرهم شئ وإنما الامر إلى الله وسيريهم آياته فيعرفونها ليس بغافل عن أعمالهم. وفي قوله: (إنما أمرت) الخ، تكلم عن لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو في معنى: قل إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة، والمشار إليها بهذه الاشارة مكة المشرفة، وفي الكلام تشريفها من وجهين: إضافة الرب إليها، وتوصيفها بالحرمة حيث قال:
________________________________________
[ 404 ]
رب هذه البلدة الذي حرمها. وفيه تعريض لهم حيث كفروا بهذه النعمة نعمة حرمة بلدتهم ولم يشكروا الله بعبادته بل عدلوا إلى عبادة الاصنام. وقوله: (وله كل شئ) إشارة إلى سعة ملكه تعالى دفعا لما يمكن أن يتوهم أنه إنما يملك مكة التي هو ربها فيكون حاله حال سائر الاصنام يملك الواحد منها على عقيدتهم جزءا من أجزاء العالم كالسماء والارض وبلدة كذا وقوم كذا وأسرة كذا، فيكون تعالى معبودا كأحد الآلهة واقعا في صفهم وفي عرضهم. وقوله: (وأمرت أن أكون من المسلمين) أي من الذين أسلموا له فيما أراد ولا يريد إلا ما يهدي إليه الخلقة ويهتف به الفطرة وهو الدين الحنيف الفطري الذي هوملة إبراهيم. قوله تعالى: (وأن أتلوا القرآن فمن اهتدي فإنما يهتدى لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) معطوف على قوله: (أن أعبد) أي أمرت أن أقرأ القرآن والمراد تلاوته عليهم بدليل تفريع قوله: (فمن اهتدى) الخ، عليه. وقوله: (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه) أي فمن اهتدى بهذا القرآن فالذي ينتفع به هو نفسه ولا يعود نفعه إلي. وقوله: (ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين) أي ومن لم يهتد به بالاعراض عن ذكر ربه وهو الضلال فعليه ضلاله ووبال كفره لا علي لاني لست إلا منذرا مأمورا بذلك ولست عليه وكيلا والله هو الوكيل عليه. فالعدول عن مثل قولنا: ومن ضل فإنما أنا من المنذرين وهو الذي كان يقتضيه الظاهر إلى قوله: (فقل إنما أنا من المنذرين) لتذكيره صلى الله عليه وآله وسلم بما تقدم من العهد إليه أنه ليس إلا منذرا وليس إليه من أمرهم شئ فعليه أن يتوكل على ربه ويرجع أمرهم إليه كما قال: (فتوكل على الله إنك على الحق المبين إنك لا تسمع الموتى) الخ، فكأنه قيل: ومن ضل فقل له قد سمعت أن ربي لم يجعل علي إلا الانذار فلست بمسؤول عن ضلال من ضل. قوله تعالى: (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون) معطوف على قوله: (فقل إنما أنا من المنذرين) وفيه انعطاف إلى ما ذكره بعد أمر نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بالتوكل عليه في أمرهم من أنه سيجعل للمشركين عاقبة سوء
________________________________________
[ 405 ]
ويقضي بين بني إسرائيل فيما اختلفوا فيه ويريهم من آياته ما يضطرون إلى تصديقه ثم يجزيهم بأعمالهم. ومحصل المعنى: وقل الثناء الجميل لله تعالى فيما يجريه في ملكه حيث دعى الناس إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم وهدى الذين آمنوا بآياته وأسلموا له وأما المكذبون فأمات قلوبهم وأصم آذانهم وأعمى أبصارهم فضلوا وكذبوا بآياته. وقوله: (سيريكم آياته فتعرفونها) إشارة إلى ما تقدم من قوله: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الارض) وما بعده، وظهور قوله: (آياته) في العموم دليل على شموله لجميع الآيات التي تضطرهم إلى قبول الحق مما يظهر لهم قبل قيام الساعة وبعده. وقوله: (وما ربك بغافل عما تعملون) الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بمنزلة التعليل لما تقدمه أي إن أعمالكم معاشر العباد بعين ربك فلا يفوته شي مما تقتضيه الحكمة قبال أعمالكم من الدعوة والهداية والاضلال وإراءة الآيات ثجزاء المحسنين منكم والمسيئين يوم القيامة. وقرئ (عما يعملون) بياء الغيبة ولعلها أرجح ومفادها تهديد المكذبين وفي قوله: (ربك) بإضافة الرب إلى الكاف تطييب لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتقويه لجانبه. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: (وإذا وقع القول عليهم) الآية حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: انتهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أمير المؤمنين عليه السلام وهو نائم في المسجد قد جمع رملا ووضع رأسه عليه فحركه برجله ثم قال: قم يا دابة الارض فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله أيسمي بعضنا بعضا بهذا الاسم ؟ فقال: لا والله ما هو إلا له خاصة وهو الدابة الذي ذكره الله في كتابه فقال: (وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الارض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون). ثم قال: يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ومعك ميسم تسم به أعداءك.
________________________________________
[ 406 ]
فقال رجل لابي عبد الله عليه السلام: إن العامة يقولون: إن هذه الآية إنما (تكلمهم) فقال أبو عبد الله عليه السلام: كلمهم الله في نار جهنم إنما هو تكلمهم من الكلام. أقول: والروايات في هذا المعنى كثيرة من طرق الشيعة. وفي المجمع وروى محمد بن كعب القرطي قال: سئل علي عن الدابة فقال: أما والله ما لها ذنب وإن لها للحية. أقول: وهناك روايات كثيرة تصف خلقتها تتضمن عجائب وهي مع ذلك متعارضة متدافعة من أرادها فليراجع جوامع الحديث كالدر المنثور أو مطولات التفاسير كروح المعاني. وفي تفسير القمي حدثني أبي عن ابن أبي عمير عن حماد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: ما يقول الناس في هذه الآية (يوم نحشر من كل امة فوجا) ؟ قلت: يقولون إنه في القيامة. قال: ليس كما يقولون إنها في الرجعة أيحشر الله في القيامة من كل امة فوجا ويدع الباقين ؟ إنما آية القيامة (وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا). أقول: وأخبار الرجعة من طرق الشيعة كثيرة جدا. وفي المجمع في قوله تعالى: (ونفخ في الصور): واختلف في معنى الصور - إلى أن قال - وقيل: هو قرن ينفخ فيه شبه البوق وقد ورد ذلك في الحديث. وفيه في قوله تعالى: (إلا من شاء الله) قيل: يعني الشهداء فإنهم لا يفزعون في ذلك اليوم وروي ذلك في خبر مرفوع. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (صنع الله الذي أتقن كل شئ) قال: فعل الله الذي أحكم كل شئ وفيه في قوله تعالى: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار) قال: الحسنة والله ولاية أمير المؤمنين عليه السلام والسيئة والله عداوته. أقول: وهو من الجري وليس بتفسير وهناك روايات كثيرة في هذا المضمون ربما أمكن حملها على ما سيأتي. وفي الخصال عن يونس بن ظبيان قال: قال الصادق جعفر بن محمد عليه السلام: إن الناس يعبدون الله على ثلاثة أوجه: فطبقة يعبدونه رغبة في ثوابه فتلك عبادة الحرصاء
________________________________________
[ 407 ]
وهو الطمع، وآخرون يعبدونه فرقا من النار فتلك عبادة العبيد وهي الرهبة، ولكني أعبده حبا له فتلك عبادة الكرام وهو الامن لقوله تعالى: (وهم من فزع يومئذ آمنون)، ولقوله: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم) فمن أحب الله أحبه الله ومن أحبه الله كان الآمنين أقول: لازم ما فيه من الاستدلال تفسير الحسنة في الآية بالولاية التي هي عبادته تعالى من طريق المحبة الموجبة لفناء إرادة العبد في إرادته وتوليه تعالى بنفسه أمر عبده وتصرفه فيه وهذا أحد معنيي ولاية علي عليه السلام فهو عليه السلام صاحب الولاية وأول فاتح لهذا الباب من الامة وبه يمكن أن يفسر أكثر الروايات الواردة في أن المراد بالحسنة في الآية ولاية على عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قول الله: (من جاء بالحسنة فله خير منها) يعني بها شهادة أن لا إله إلا الله، ومن جاء بالسيئة يعني بها الشرك يقال: هذه تنجي وهذه تردي. أقول: وهذا المعنى مروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم بألفاظ مختلفة من طرق شتى وينبغي تقييد تفسير الحسنة بلا إله إلا الله بسائر الاحكام الشرعية التي هي من لوازم التوحيد وإلا لغى تشريعها وهو ظاهر. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (إنما امرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) قال: مكة. وفيه عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم افتتحها فتح باب الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست فأخذ بعضادتي الباب فقال: ألا أن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والارض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لا ينفر صيدها ويعضد شجرها ولا يختلي خلالها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس: يا رسول الله الا الاذخر فإنه للقبر والبيوت فقال رسول الله إلا الاذخر. أقول: وهو مروي من طرق أهل السنة أيضا. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما كان في أقول: لازم ما فيه من الاستدلال تفسير الحسنة في الآية بالولاية التي هي عبادته تعالى من طريق المحبة الموجبة لفناء إرادة العبد في إرادته وتوليه تعالى بنفسه أمر عبده وتصرفه فيه وهذا أحد معنيي ولاية علي عليه السلام فهو عليه السلام صاحب الولاية وأول فاتح لهذا الباب من الامة وبه يمكن أن يفسر أكثر الروايات الواردة في أن المراد بالحسنة في الآية ولاية على عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج أبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قول الله: (من جاء بالحسنة فله خير منها) يعني بها شهادة أن لا إله إلا الله، ومن جاء بالسيئة يعني بها الشرك يقال: هذه تنجي وهذه تردي. أقول: وهذا المعنى مروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم بألفاظ مختلفة من طرق شتى وينبغي تقييد تفسير الحسنة بلا إله إلا الله بسائر الاحكام الشرعية التي هي من لوازم التوحيد وإلا لغى تشريعها وهو ظاهر. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: (إنما امرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها) قال: مكة. وفيه عن أبيه عن حماد بن عيسى عن حريز عن أبي عبد الله عليه السلام قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مكة يوم افتتحها فتح باب الكعبة فأمر بصور في الكعبة فطمست فأخذ بعضادتي الباب فقال: ألا أن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والارض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة لا ينفر صيدها ويعضد شجرها ولا يختلي خلالها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد. فقال العباس: يا رسول الله الا الاذخر فإنه للقبر والبيوت فقال رسول الله إلا الاذخر. أقول: وهو مروي من طرق أهل السنة أيضا. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ما كان في القرآن (وما الله بغافل عما تعملون) بالتاء، وما كان (وما ربك بغافل عما يعملون) بالياء. تم والحمد لله


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page