• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 351 الي 375


[ 351 ]
سليمان أمره بالذهاب بالكتاب وإلقائه إليهم ثم النظر فيما يرجعون، وهذه كما لا يخفي على الباحث في أمر المعاني المتعمق فيها معارف جمة لها أصول عريقة يتوقف الوقوف عليها على ألوف وألوف من المعلومات، وأني تفي على إفادة تفصيلها أصوات ساذجة معدودة. على أنه لا دليل على أن كل ما يأتي بها الحيوان في نطقه من الاصوات أو خصوصيات الصوت يفي حسنا بإدراكه أو تمييزه، ويؤيده ما نقل من قول النملة في الآيات التالية وهو من منطق الحيوان قطعا ولا صوت للنملة يناله سمعنا ويؤيده أيضا ما يراه علماء الطبيعة اليوم أن الذي يناله سمع الانسان من الصوت عدد خاص من الارتعاش المادي وهو ما بين ستة عشر ألفا إلى اثنين وثلاثين ألفا في الثانية، وأن الخارج من ذلك في جانبي القلة والكثرة لا يقوى عليه سمع الانسان وربما ناله سائر الحيوان أو بعضها. وقد عثر العلماء الباحثون عن الحيوان من عجيب الفهم ولطيف الادراك عند أنواع من الحيوان كالفرس والكلب والقرد والدب والزنبور والنملة وغيرها على أمور لا يكاد يعثر على نظائرها عند أكثر أفراد الانسان. وقد تبين بما مر أن ظاهر السياق أن للطير منطقا علمه الله سليمان، وظهر به فساد قول من قال إن نطق الطير كان معجزة لسليمان وأما هي في نفسها فليس لها نطق هذا. وقوله: " وأوتينا من كل شئ " أي أعطينا من كل شئ، " وكل شئ " وإن كان شاملا لجميع ما يفرض موجودا - لان مفهوم شئ من أعم المفاهيم وقد دخل عليه كلمة الاستغراق - لكن لما كان المقم مقام التحديث بالنعمة ولا كل نعمة بل النعم التي يمكن أن يؤتاها الانسان فيتنعم بها تقيد به معنى كل شئ وكان معني الجملة: وأعطانا الله من كل نعمة يمكن أن يعطاها الانسان فيتنعم بها مقدارا معتدا به كالعلم والنبوة والملك والحكم وسائر النعم المعنوية والمادية. وقوله: " ذلك هو الفضل المبين " شكر وتأكيد للتحديث بالنعمة من غير عجب ولا كبر واختيال لاسناده الجميع إلى الله بقوله: " علمنا " و " أوتينا "،
________________________________________
[ 352 ]
واحتمل بعضهم أن تكون الجملة من كلام الله سبحانه لا من كلام سليمان والسياق يأباه. قوله تعالى: " وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون " الحشر هو جمع الناس وإخراجهم لامر بإزعاج والوزع المنع وقيل الحبس، والمعنى كما قيل: وجمع لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يمنعون من التفرق واختلاط كل جمع بآخر برد أولهم إلى آخرهم وحبس كل في مكانه. ويستفاد من الآية أنه كان له جنود من الجن والطير يسيرون معه كجنوده من الانس. وكلمة الحشر ووصف المحشورين بأنهم جنود، وسياق الآيات التالية كل ذلك دليل على أن جنوده كانوا طوائف خاصة من الجن والانس والطير سواء كانت " من " في الآية لتبعيض أو للبيان. وقد أغرب في التفسير الكبير فزعم أن الآية تدل على أن جميع الجن والانس والطير كانوا جنوده وقد ملك الارض كلها وأن لله تعالى جعل الطير في زمانه عقلاء مكلفيثم عادت بعد زمانه على ما كانت عليه قبله وقال بمثله في النملة التي تكلمت، قال في تفسير الاية: والمعنى إنه جعل الله تعالى كل هذه الاصناف جنوده، ولا يكون كذلك إلا بأن يتصرف على مراده، ولا يكون كذلك إلا مع العقل الذي يصح معه التكليف أو يكون بمنزلة المراهق الذي قد قارب حد التكليف، فلذلك قلنا: إن الله تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما قد ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها أو خصها الله بها لمنافع العباد كالنحل وغيره. انتهى. ووجوه التحكم فيه غنية عن البيان. وتقديم الجن في الذكر على الانس والطير لكون تسخيرهم ودخولهم تحت الطاعة عجيبا، وذكر الانس بعده دون الطير مع كون تسخيرها أيضا عجيبا، رعاية لامر المقابلة بين الجن والانس. قوله تعالى: " حتى إذا أتوا على وادي النمل " الآية، " حتى " اية لما يفهم من الآية السابقة، وضمير الجمع لسليمان وجنوده، وتعدية الاتيان بعلي قيل: لكون
________________________________________
[ 353 ]
الاتيان من فوق، ووادي النمل واد بالشام على ما قيل، وقيل: في أرض الطائف، وقيل: في أقصى اليمن، والحطم الكسر. والمعنى: فلما سار سليمان وجنوده حتى أعلى وادي النمل قالت نملة مخاطبة لسائر النمل: يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم يكسرنكم سليمان وجنوده أي لا يطأنكم بأقدامهم وهم لا يشعرون. وفيه دليل على أنهم كانوا يسيرون على الارض. قوله تعالى: " فتبسم ضاحكا من قولها " إلى آخر الآية، قيل: التبسم دون الضحك، وعلى هذا فالمراد بالضحك هو الاشراف عليه مجازا. ولا منافاة بين قوله عليه السلام: " علمنا منطق الطير " وبين فهمه كلام النملة إذ لم ينف فهمه كلام سائر الحيوان أو كلام بعضها كالنملة. وقد تسلم جمع منهم دلالة قوله: " علمنا منطق الطير " على نفي ما عداه فتكلفوا في توجيه فهمه عليه السلام قول النملة تارة بأنه كانت قضية في واقعة، وأخرى بتقدير أنها كانت نملة ذات جناحين وهي من الطير، وثالثة بأن كلامها كان من معجزات سليمان عليه السلام، ورابعة بأنه عيه السلام لم يسمع منها صوتا قط وإنما لهم ما في نفس النملة إلهاما من الله تعالى هذا. وما تقدم من معنى منطق الحيوان يزاح به هذه الاوهام. على أن سياق الآيات وحده كاف في دفعها. وقوله: " وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه " الايزاع الالهام. تبسم عليه السلام مبتهجا مسرورا بما أنعم الله عليه حتى أوقفه هذا الموقف وهي النبوة والعلم بمنطق الحيوان والملك والجنود من الجن والانس والطير فسأل الله أن يلهمه شكر نعمته وأن يعمل بما فيه رضاه سبحانه. وقد جعل الشكر للنعمة التي أنعم الله تعالى بها على نفسه مختصة به، وللنعمة التي أنعم بها على والديه فإن الانعام على والديه إنعام عليه بوجه لكونه منهما وقد أنعم الله تعالى على أبيه داود بالنبوة والملك والحكمة وفصل الخطاب وغيرها وأنعم على أمه حيث زوجها من داود النبي ورزقها سليمان النبي وجعلها من أهل بيت النبوة.
________________________________________
[ 354 ]
وفي كلامه هذا دليل على أن والدته من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليم (1) وهم احدى الطوائف الاربع المذكورين في قوله تعالى: " الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين " النساء: 69. وقوله: " وأن أعمل صالحا ترضاه " عطف على قوله: " أن أشكر نعمتك " ومسألته هذه: " أوزعني أن أعمل " الخ، أمر أرفع قدرا وأعلى منزلة من سؤال التوفيق للعمل الصالح فإن التوفيق يعمل في الاسباب الخارجية بترتيبها بحيث توافق سعادة الانسان ولايزاع الذي سأله دعوة باطنية في الانسان إلى السعادة، وعلى هذا فليس من البعيد أن يكون المراد به الوحي الذي أكرم الله به إبراهيم وآله فيما يخبر عنه بقوله: " وأوحينا إليهم فعل الخيرات " الآية الانبياء: 73، وهو التأييد بروح القدس على ما مر في تفسير الآية. وقوله: " وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " أي اجعلني منهم، وهذا الصلاح لما لم يتقيد بالعمل كان هو صلاح الذات وهو صلاح النفس في جوهرها الذي يستعد به لقبول أي كرامة إلهية. ومن المعلوم أن صلاح الذات أرفع قدرا من صلاح العمل ففي قوله: " وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين " تدرج في المسأله من الادنى إلى الاعلى وقد كان صلاح العمل منسوبا إلى صنعه واختياره بوجه دون صلاح الذات ولذا سأل صلاح الذات من ربه ولم يسأل نفس صلاح العمل بل أن يوزعه أن يعمل. وفي تبديله سؤال صلاح الذات من سؤال أن يدخله في عباده الصالحين إيذان بسؤاله ما خصهم الله به من المواهب وأغزرها العبودية وقد وصفه الله بها في قوله: " نعم العبد إنه أواب " ص: 30. قوله تعالى: " وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين " قال الراغب: التفقد التعهد لكن حقيقة التفقد تعرف فقدان الشئ والتعه تعرف العهد
________________________________________
(1) وفيه تبرئة ساحتها عما في التوراة الدائرة ففي التوراة أنها كانت امرأة اوريا فجر بها داود ثم كاد في قتل اوريا فقتل في بعض الحروب فأدخلها في أزواجه فولدت له سليمان. (*)
________________________________________
[ 355 ]
المتقدم قال تعالى: " وتفقد الطير ". انتهى. استفهم أولا متعجبا من حال نفسه إذ لا يرى الهدهد بين الطير كأنه لم يكن من المظنون في حقه أن يغيب عن موكبه ويستنكف عن امتثال أمره ثم أضرب عن ذلك بالاستفهام عن غيبته. والمعنى: ما بالي لا أرى الهدهد بين الطيور الملازمة لموكبي بل أكان من الغائبين. قوله تعالى: " لا عذبنه عذابا شديدا أو لا ذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين " اللامات للقسم والسلطان المبين البرهان الواضح، يقضي عليه السلام على الهدهد أحد ثلاث خصال: العذاب الشديد والذبح وفيهما شقاؤه، والاتيان بحجة واضحة وفيه خلاصه ونجاته. قوله تعالى: " فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين " ضمير " فمكث " لسليمان ويحتمل أن يكون للهدهد ويؤيد الاول سابق السياق والثاني لا حقه، والمراد بالاحاطة العلم الكامل، وقوله: " وجئتك " الخ، بمنزلة عطف التفسير لقوله: " أحطت " الخ، وسبأ بلدة باليمن كانت عاصمته يومئذ والنبأ الخبر الذي له أهمية، واليقين ما لا شك فيه. والمعني: فمكث سليمان - أو فمكث الهدهد - زمانا غير بعيد - ثم حضر فسأله سليمان عن غيبته وعاتبه - فقال أحطت من العلم بما لم تحط به وجئتك من سبإ بخبر مهم لا شك فيه. ومنه يظهر أن في الآية حذفا وإيجازا، وقد قيل: إن في قول الهدهد: " أحطت بما لم تحط به " كسرا لسورة سليمان عليه السلام فيما شدد عليه. قوله تعالى: " إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم " الضمير في " تملكهم " لاهل سبإ وما يتبعها وقوله: " وأوتيت من كل شئ " وصف لسعة ملكها وعظمته وهو القرينة على أن المراد بكل شئ في الآية كل شئ هو من لوازم الملك العظيم من حزم وعزم وسطوة ومملكة عريضة وكنوز وجنود مجندة ورعية مطيعة، وخص بالذكر من بينها عرشها العظيم. قوله تعالى: " وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله " الخ، أي إنهم
________________________________________
[ 356 ]
من عبدة الشمس من الوثنيين. وقوله: " وزين لهم الشيطان أعمالهم " بمنزلة عطف التفسير لما سبقه وهو مع ذلك توطئة لقوله بعد: " فصدهم عن السبيل " لان تزيين الشيطان لهم أعمالهم التي هي سجدتهم وسائر تقرباتهم هو الذي صرفهم ومنعهم عن سبيل الله وهي عبادته وحده. وفي إطلاق السبيل من غير إضافتها إليه تعالى إشارة إلى أنها السبيل المتعينة للسبيلية بنفسها للانسان بالنظر إلى فطرته بل لكل شئ بالنظر إلى الخلقة العامة. وقوله: " فهم لا يهتدون " تفريع على صدهم عن السبيل إذ لا سبيل مع الصد عن السبيل فلا اهتداء، فافهمه. قوله تعالى: " ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخب ء في السماوات والارض ويعلم ما تخفون وما تعلنون " القراءة الدائرة " ألا " - بتشديد اللام - مؤلف من " أن ولا " وهو عطف بيان من " أعمالهم "، والمعنى: زين لهم الشيطان أن لا يسجدوا لله وقيل: بتقدير لام التعليل، والمعنى: زين لهم الشيطان ضلالتهم لئلا يسجدوا لله. والخب ء على ما في مجمع البيان المخبوء وهو ما أحاط به غيره حتى منع من إدراكه وهو مصدر وصف به يقال: خبأته أخبئه خبأ وما يوجده الله تعالى فيخرجه من العدم إلى الوجود يكون بهذه المنزلة. انتهى. ففي قوله: " يخرج الخب ء في السماوات والارض " استعارة كأن الاشياء مخبوءة مستورة تحت أطباق العدم فيخرجها الله تعالى إلى الوجود واحد بعد آخر فيكون تسمية الايجاد بعد العدم إخراجا للخب ء قريبا من تسميته بالفطر وتوصيفه تعالى بأنه فاطر السماوات والارض والفطر هو الشق كأنه يشق العدم فيخرج الاشياء. ويمكن حمل الجملة على الحقيقة من غير استعارة لكنه مفتقر إلى بيان موضعه غير هذا الموضع. وقيل: المراد بالخب ء الغيب وإخراجه العلم به وهو كما ترى. وقوله: " ويعلم ما تخفون وما تعلنون " بالتاء على الخطاب أي يعلم سركم وعلانيتكم، وقرأ الاكثرون بالياء على الغيبة وهو أرجح. وملخص الحجة: إنهم إنما يسجدون للشمس دون الله تعظيما لها على ما أودع الله سبحانه في طباعها من الآثار الحسنة والتدبير العام للعالم الارضي وغيره، والله الذي
________________________________________
[ 357 ]
أخرج جميع الاشياء من العدم إلى الوجود ومن الغيب إلى الشهادة فترتب على ذلك نظام التدبير من أصله - ومن جملتها الشمس وتدبيرها - أولى بالتعظيم وأحق يسجد له، مع انه لا معنى لعبادة ما لا شعور له بها ولا شعور لشمس بسجدتهم والله سبحانه يعلم ما يخفون وما يعلنون فالله سبحانه هو المتعين للسجدة والتعظيم لا غير. وبهذا البيان تبين وجه اتصال قوله تلوا: " الله لا إله إلا هو " الخ. قوله تعالى: " لله لا إله إلا هو رب العرش العظيم " من تمام كلام الهدهد وهو بمنزلة التصريح بنتيجة البيان الضمني السابق وإظهار الحق قبال باطلهم ولذا أتى أولا بالتهليل الدال على توحيد العبادة ثم ضم إليه قوله: " رب العرش العظيم " الدال على انتهاء تدبير الامر إليه فإن العرش الملكي هو المقام الذي تجتمع عنده ازمة الامور وتصدر منه الاحكام الجارية في الملك. وفي قوله: " رب العرش العظيم " مناسبة محاذاة اخرى مع قوله في وصف ملكة سبأ: " ولها عرش عظيم " ولعل قول الهدهد هذا هو الذي دعا - أو هو من جملة ما دعا - سليمان عليه السلام ان يأمران يأتوا بعرشها إليه ليخضع لعظمة ربه كل عظمة. قوله تعالى: " قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين " الضمير لسليمان عليه السلام. أحال القضاء في أمر الهدهد إلى المستقبل فلم يصدقه في قوله لعدم بينه عليه بعد ولم يكذبه لعدم الدليل على كذبه بل وعده ان يجرب ويتأمل. قوله تعالى: " اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون " حكاية قول سليمان خطابا للهدهد كأنه قيل: فكتب سليمان كتابا ثم قال للهدهد: اذهب بكتابي هذا إليهم أي إلى ملكة سبأ وملاها فألقه إليهم ثم تول عنهم أي تنح عنهم وقع في مكان تراهم فانظر ماذا يرجعون أي ماذا يرد بعضهم من الجواب على بعض إذا تكلموا فيه. وقوله: " فألقه " بسكون الهاء وصلا ووقفا في جميع القراءات وهي هاء السكت، ومما قيل في الآية: أن قوله " ثم تول عنهم فانظر " الخ، من قبيل التقديم والتأخير والاصل فانظر ماذا يرجعون ثم تول عنهم. وهو كما ترى. قوله تعالى: " قالت يا أيها الملؤ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه
________________________________________
[ 358 ]
بسم الله الرحمن الرحيم " في الكلام حذف وإيجاز والتقدير فأخذ الهدهد الكتاب وحمله إلى ملكة سبأ حتى إذا أتاها ألقاه إليها فأخذتها ولما قرأتها قالت لملاها وأشراف قومها يا أيها الملؤ " الخ ". فقوله: " قالت يا أيها الملؤ إني ألقي إلي كتاب كريم " حكاية ذكرها لمإها أمر الكتاب وكيفية وصوله إليها ومضمونه، وقد عظمته إذ وصفته بالكرم. وقوله: " إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم " ظاهره أنه تعليل لكون الكتاب كريما أي والسبب فيه أنه من سليمان ولم يكد يخفى عليها جبروت سليمان وما أوتيه من الملك العظيم والشوكة العجيبة كما اعترفت بذلك في قولها على ما حكاه الله بعد: " وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين ". وإنه بسم الله الرحمن الرحيم: أي الكتاب باسمه تعالى فهو كريم لذلك والوثنيون جميعا قائلون بالله سبحانه يرونه رب الارباب وإن لم يعبدوه، وعبدة الشمس منهم وهم من شعب الصابئين يعظمونه ويعظمون صفاته وإن كانوا يفسرون الصفات بنفي النقائص والاعدام فيفسرون العلم والقدرة والحياة والرحمة مثلا بانتفاء الجهل والعجز والموت والقسوة فكون الكتاب باسم الله الرحمن الرحيم يستدعي كونه كريما، كما أن كونه من سليمان العظيم يستدعي كونه كريما، وعلى هذا فالكتاب أي مضمونه هو قوله: " أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين " وأن مفسرة. ومن العجيب ما عن جمع من المفسرين أن قوله: " إنه من سليمان " استئناف وقع جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: ممن الكتاب وماذا فيه فقالت: إنه من سليمان الخ، وعلى هذا يكون قوله: وإنه بسم الله بيانا للكتاب أي لمتنه وأن الكتاب هو " بسم الله الرحمن الرحيم أي لا تعلوا علي وأتوني مسلمين ". ويتوجه عليهم أولا: وقوع لفظه أن زائدة لا فايدة لها ولذا قال بعضهم: إنها مصدرية و " لا " نافية لا ناهية وهو وجه سخيف كما سيأتي. وثانيا: بيان الوجه في كون الكتاب كريما فقيل: وجه كرامته أنه كان مختوما ففي الحديث: إكرام الكتاب ختمه حتى ادعى بعضهم أن معنى كرامة الكتاب ختمه، يقال: أكرمت الكتاب فهو كريم إذا ختمته، وقيل: إنها سمته كريما لجودة
________________________________________
[ 359 ]
خطه وحسن بيانه، وقيل: لوصوله إليها على منهاج غير عادي، وقيل: لظنها بسبب إلقاء الطير أنه كتاب سماوي إلى غير ذلك من الوجوه. وأنت خبير بأنها تحكمات غير مقنعة، والظاهر أن الذي أوقعهم فيما وقعوا حملهم قوله: " وإنه بسم الله - إلى قوله - مسلمين " على حكاية متن الكتاب وذلك ينافي حمل قوله: " وإنه من سليمان وإنه بسم الله " الخ، على تعليل كرامة الكتاب ويدفعه أن ظاهر أن المفسرة في قوله: " أن لا تعلوا علي " الخ، أنه نقل لمعنى الكتاب ومضمونه لا حكاية متنه فمحصل الآيتين أن الكتاب كان مبدوا بسم الله الرحمن الرحيم وأن مضمونه النهي عن العلو عليه والامر بأن يأتوه مسلمين فلا محذور أصلا. قوله تعالى: " أن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين " أن مفسرة تفسر مضمون كتاب سليمان كما تقدمت الاشارة إليه. وقول بعضهم: إنها مصدرية و " لا " نافية أي عدم علوكم علي، سخيف لا سلتزمه أولا: تقدير مبتدأ أو خبر محذوف من غير موجب، وثانيا: عطف الانشاء وهو قوله: " وأتوني " على الاخبار. والمراد بعلوهم عليه استكبارهم عليه، وبقوله: " وأتوني مسلمين " إسلامهم بمعنى الانقياد على ما يؤيده قوله: " أن لا تعلوا علي " دون الاسلام بالمعنى المصطلح وهو الايمان بالله سبحانه وإن كان أتيانهم منقادين له يستلزم إيمانهم بالله على ما يستفاد من سياق قول الهدهد وسياق الآيات الآتية، ولو كان المراد بالايمان المعنى المصطلح كان المناسب أن يقال: أن لا تعلوا على الله. وكون سليمان عليه السلام نبيا شأنه الدعوة إلى الاسلام لا ينافي ذلك فإنه كان ملكا رسولا وكانت دعوته إلى الانقياد المطلق تستلزم ذلك كما تقدم وقد انتهت إلى إسلامها لله كما حكى الله تعالى عنها " وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ". قوله تعالى: " قالت يا أيها الملؤ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون " الافتاء إظهار الفتوى وهى الرأي، وقطع الامر القضاء به والعزم عليه الشهادة الحضور وهذا استشارة منها لهم تقول: أشيروا علي في هذا الامر الذي واجهته - وهو الذي يشير إليه كتاب سليمان - وإنما أستشير كم فيه لاني لم أكن حتى اليوم
________________________________________
[ 360 ]
استبدبر أيي فيه الامور بل أقضي وأعزم عن إشارة وحضور منكم. فالآية تشير إلى فصل ثان من كلامها مع ملاها بعد الفصل الاول الذي اخبرتهم فيه بكتاب سليمان عليه السلام وكيفيه وصوله وما في. قوله تعالى: " قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والامر اليك فانظري ماذا تأمرين القوة ما يتقوى به على المطلوب وهي ههنا الجند الذي يتقوى به على دفع العدو وقتاله، والبأس الشدة في العمل والمراد به النجدة والشجاعة. والآية تتضمن جواب الملا لها يسمعونها أولا ما يطيب له نفسها ويسكن به قلقها ثم يرجعون إليها الامر يقولون: طيبي نفسا ولا تحزني فإن لنا من القوة والشدة ما لا نهاب به عدوا وإن كان هو سليمان ثم الامر اليك مري بما شئت فنحن مطيعوك. قوله تعالى: " قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون " إفساد القرى تخريبها وإحراقها وهدم أبنيتها، وإذلال أعزة أهلها هو بالقتل والاسر والسبي والاجلاء والتحكم. كان رأيها على ما يستفاد من هاتين الآيتين - زيادة التبصر في أمر سليمان عليه السلام بأن ترسل إليه من يختبر حاله ويشاهد مظاهر نبوته وملكة فيخبر الملكة بما رأى حتى تصمم هي العزم على أحد الامرين: الحرب أو السلم وكان الظاهر من كلام الملاء حيث بدؤا في الكلام معها بقولهم نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد، أنهم يميلون إلى القتال لذلك أخذت أولا تذم الحرب ثم نصت على ما هو رأيها فقالت: " إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها " الخ، أي إن الحرب لا تنتهي إلا إلى غلبة أحد المتحاربين وفيها فساد القرى وذلة أعزتها فليس من الحزم الاقدام عليها مع قوة العدو وشوكته مهما كانت إلى السلم والصلح سبيل إلا لضرورة ورأيي الذي أراه أن أرسل إليهم بهدية ثم أنظر بماذا يرجع المرسلون من الخبر وعند ذلك أقطع بأحد الامرين الحرب أو السلم. فقوله: " إن الملوك إذا دخلوا " الخ، توطئة لقوله بعد: " وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة " الخ. وقوله: " وجعلوا أعزة أهلها أذلة " أبلغ وآكد من قولنا مثلا: استذلوا أعزتها لانه مع الدلالة على تحقق الذلة يدل على تلبسهم بصفة الذلة.
________________________________________
[ 361 ]
وقوله: " وكذلك يفعلون " مسوق للدلالة على الاستمرار بعد دلالة قوله: " أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة " على اصل الوقوع، وقيل: إن الجملة من كلام الله سبحانه لا من تمام كلام ملكة سبأ، وليس بسديد إذ لا اقتضاء في المقام لمثل هذا التصديق. قوله تعالى: " وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون " أي مرسلة إلى سليمان وهذا نوع من التجبر والاعتزاز الملوكي تصون لسانها عن اسمه وتنسب الامر إليه وإلى من معه جميعا وايضا تشير به إلى انه يفعل ما يفعل بأيدي اعضاده وجنوده وإمداد رعيته. وقوله: " فناظرة بم يرجع المرسلون " أي حتى اعمل عند ذلك بما تقتضيه الحال وهذا - كما تقدم - هو رأي ملكة سبأ، ويعلم من قوله: " المرسلون " أن الحامل للهدية كان جمعا من قومها كما يستفاد من قول سليمان بعد: " ارجع إليهم " انه كان للقوم المرسلين رئيس يرأسهم. قوله تعالى: " فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون " ضمير جاء للمال الذي أهدى إليه أو للرسول الذي جاء بالهدية. والاستفهام في قوله: " أتمدونن بمال " للتوبيخ والخطاب للرسول والمرسل بتغليب الحاضر على الغائب، وتوبيخ القوم من غير تعيين الملكة من بينهم نظير قولها فيما تقدم: " وإني مرسلة إليهم بهدية " كما أشرنا إليه. وجوز أن يكون الخطاب للمرسلين وكانوا جماعة وهو خطأ فإن الامداد لم يكن من المرسلين بل ممن أرسلهم فلا معنى لتوجيه التوبيخ إليهم خاصة، وتنكير المال للتحقير، والمراد بما آتاني الله الملك والنبوة. والمعنى: أتمدونني بمال حقير لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله فما آتاني الله من النبوة والملك والثروة خير مما آتاكم. وقوله: " بل أنتم بهديتكم تفرحون " إضراب عن التوبيخ بإمداده بالمال إلى التوبيخ بفرحهم بهديتهم أي إن إمدادكم إياي بمال لا قدر له عندي في جنب ما آتاني الله قبيح وفرحكم بهديتكم لاستعظامكم لها وإعجابكم بها أقبح. وقيل: المراد بهديتكم الهدية التي تهدي إليكم، والمعنى: بل أنتم تفرحون بما
________________________________________
[ 362 ]
يهدي اليكم من الهدية لحبكم زيادة المال وأما أنا فلا أعتد بمال الدنيا هذا. وبعده ظاهر. قوله تعالى: " ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون " الخطاب لرئيس المرسلين، وضمائر الجمع راجعة إلى ملكة سبأ وقومها، والقبل الطاقة، وضمير " بها " لسبأ، وقوله: " وهم صاغرون " تأيد لما قبله، واللام في " فلنأتينهم " و " لنخرجنهم " للقسم. لما كان ظاهر تبديلهم امتثال أمره - وهو قوله: " وأتوني مسلمين " - من إرسال الهدية هو الاستنكاف عن الاسلام قدر بحسب المقام انهم غير مسلمين له فهددهم بإرسال جنود لا قبل لهم بها ولذلك فرع إتيانهم بالجنود على رجوع الرسول من غير أن يشترطه بعدم إتيانهم مسلمين فقال: " ارجع إليهم فلنأتينهم " الخ، ولم يقل: ارجع فإن لم يأتوني مسلمين فلنأتينهم الخ، وإن كان مرجع المعنى إليه فإن إرسال الجنود وإخراجهم من سبأ على حال الذلة كان مشروطا به على أي حال. و السياق يشهد أنه عليه السلام رد إليهم هديتهم ولم يقبلها منهم. قوله تعالى: " قال يا أيها الملؤ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين " كلام تكلم به بعد الهدية وإرجاع الرسل، وفيه إخباره أنهم سيأتونه مسلمين وإنما أراد الاتيان بعرشها قبل حضورها وقومها عنده ليكون دلالة ظاهرة على بلوغ قدرته الموهوبة من ربه ومعجزة باهرة لنبوته حتى يسلموا لله كما يسلمون له ويستفاد ذلك من الآيات التالية. قوله تعالى: " قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين " العفريت - على ما قيل - المارد الخبيث، وقوله: " آتيك به " اسم فاعل أو فعل مضارع من الاتيان، والاول أنسب للسياق لدلالته على التلبس بالفعل وكونه أنسب لعطف قوله: " وإني عليه " الخ، وهو جملة اسمية عليه. كذا قيل. وقوله: " وإني عليه لقوي أمين " الضمير للاتيان أي أنا لاتيان بعرشها لقوي لا يثقل علي حمله ولا يجهدني نقله، أمين لا أخونك في هذا الامر. قوله تعالى: " قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك " مقابلته لمن قبله دليل
________________________________________
[ 363 ]
على أنه كان من الانس، وقد وردت الروايات عن ائمة أهل البيت عليهم السلام انه كان آصف بن برخيا وزير سليمان ووصيه، وقيل: هو الخضر، وقيل: رجل كان عنده اسم الله الاعظم الذي إذا سئل به أجاب، وقيل: جبريل، وقيل: هو سليمان نفسه، وهي وجوه لا دليل على شئ منها. وأيا ما كان وأي من كان ففصل الكلام مما قبله من غير أن يعطف عليه للاعتناء بشأن هذا العالم الذي أتى بعرشها إليه في أقل من طرفة العين، وقد اعتنى بشأن علمه أيضا إذ نكر فقيل: علم من الكتاب أي علم لا يحتمل اللفظ وصفه. والمراد بالكتاب الذي هو مبدأ هذا العلم العجيب إما جنس الكتب السماوية أو اللوح المحفوظ، والعلم الذي أخذه هذا العالم منه كان علما يسهل له الوصول إلى هذه البغية وقد ذكر المفسرون أنه كان يعلم اسم الله الاعظم الذي إذا سئل به أجاب، وربما ذكر بعضهم أن ذلك الاسم هو الحي القيوم، وقيل: ذو الجلال والاكرام، وقيل: الله الرحمان، وقيل: هو بالعبرانية آهيا شراهيا، وقيل: إنه دعا بقوله: يا إلهنا وإله كل شئ إلها واحدا لا إله إلا أنت إيتني بعرشها. إلى غير ذلك مما قيل. وقد تقدم في البحث عن الاسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب أن من المحال أن يكون الاسم الاعظم الذي له التصرف في كل شئ من قبيل الالفاظ ولا المفاهيم التي تدل عليها وتكشف عنها الالفاظ بل إن كان هناك اسم له هذا الشأن أو بعض هذا الشأن فهو حقيقة الاسم الخارجية التي ينطبق عليها مفهوم اللفظ نوعا من الانطباق وهي الاسم حقيقة واللفظ الدال عليها اسم الاسم. ولم يرد في لفظ الآية نبأ من هذا الاسم الذي ذكروه بل الذي تتضمنه الآية أنه كان عنده علم من الكتاب، وأنه قال: أنا آتيك به، ومن المعلوم مع ذلك أن الفعل فعل الله حقيقة، وبذلك كله يتحصل أنه كان له من العلم بالله والارتباط به ما إذا سأل ربه شيئا بالتوجه إليه لم يتخلف عن الاستجابة وإن شئت فقل: إذا شاءه الله سبحانه. ويتبين مما تقدم أيضا أن هذا العلم لم يكن من سنخ العلوم الفكرية التي تقبل الاكتساب والتعلم. وقوله: " أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك " الطرف - على ما قيل -
________________________________________
[ 364 ]
اللحظ والنظر وارتداد الطرف وصول المنظور إليه إلى النفس وعلم الانسان به، فالمراد أنا آتيك به في أقل من الفاصلة الزمانيه بين النظر إلى الشئ والعلم به. وقيل: الطرف تحريك الاجفان وفتحها للنظر، وارتداده هو انضمامها ولكونه أمرا طبيعيا غير منوط بالقصد أوثر الارتداد على الرد فقيل: قبل أن يرتد اليك طرفك ولم يقل: قبل أن يرد. هذا. وقد أخطأفا لطرف كالتنفس من أفعال الانسان الاختيارية غير أن الذي يبعث إليه هو الطبيعة كما في التنفس ولذلك لا يحتاج في صدوره إلى ترو سابق كما يحتاج إليه في أمثال الاكل والشرب، فالفعل الاختياري ما يرتبط إلى إرادة الانسان وهو أعم مما يسبقه التروي، والذي أوقع هذا القائل فيما وقع ظنه التساوي بين الفعل الصادر عن اختيار والصادر عن ترو، ولعل النكتة في إيثار الارتداد على الرد هي أن الفعل لعدم توقفه على التروي كأنه يقع بنفسه لا عن مشية من اللاحظ. والخطاب في قوله: " أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك " لسليمان عليه السلام فهو الذي يريد الاتيان به إليه وهو الذي يراد الاتيان به إليه. وقيل: الخطاب للعفريت القائل: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك والمراد بالذي عنده علم من الكتاب عند هذا القائل هو سليمان، وإنما قاله له إظهارا لفضل النبوة وان الذي أقدره الله عليه بتعليمه علما من الكتاب أعظم مما يتبجح به العفريت من القدرة، فالمعنى: قال سليمان للعفريت لما قال ما قال: أنا آتيك بالعرش قبل ارتداد طرفك. وقد أصر في التفسير الكبير على هذا القول وأورد لتأييده وجوها وهي وجوه ردية وأصل القول لا يلائم السياق كما أو مأنا إليه. قوله تعالى: " فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي " إلى آخر الآية، أي لما رأى سليمان العرش مستقرا عنده قال هذا، أي حضور العرش واستقراره عندي في أقل من طرفة العين من فضل ربي من غير استحقاق مني ليبلوني أي يمتحنني أأشكر نعمته أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه أي يعود نفعه إليه لا إلى ربي ومن كفر فلم يشكر فإن ربي غني كريم - وفي ذيل الكلام تأكيد لما في صدره من حديث الفضل -.
________________________________________
[ 365 ]
وقيل: المشار إليه بقوله: " هذا " هو التمكن من إحضاره بالواسطة أو بالذات. وفيه أن ظاهر قوله: " فلما رآه مستقرا عنده قال " الخ، أن هذا الثناء مرتبط بحال الرؤية والذي في حال الرؤية هو حضور العرش عنده دون التمكن من الاحضار الذي كان متحققا منذ زمان. وفي الكلام حذف وإيجاز، والتقدير فأذن له سليمان في الاتيان به كذلك فأتى به كما قال: " فلما رآه مستقرا عنده " وفي حذف ما حذف دلالة بالغة على سرعة العمل كأنه لم يكن بين دعواه الاتيان به كذلك وبين رؤيته مستقرا عنده فصل أصلا. قوله تعالى: " قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون "، قال في المفردات: تنكير الشئ من حيث المعنى جعله بحيث لا يعرف، قال تعالى: " قال نكروا لها عرشها " وتعريفه جعله بحيث يعرف. انتهى. والسياق يدل على أن سليمان عليه السلام إنما قاله حينما قصدته ملكه سبأ وملاها لما دخلوا عليه، وإنما أراد بذلك اختبار عقلها كما أنه أراد بأصل الاتيان به إظهار آية باهرة من آيات نبوته لها، ولذا أمر بتنكير العرش ثم رتب عليه قوله: " ننظر أتهتدي " الخ، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين " أي فلما جاءت الملكة سليمان عليه السلام قيل له من جانب سليمان: " أهكذا عرشك " وهو كلمة اختبار. ولم يقل: أهذا عرشك بل زيد في التنكير فقيل: أهكذا عرشك ؟ فأستفهم عن مشابهة عرشها لهذا العرش المشار إليه في هيئته وصفاته، وفي نفس هذه الجملة نوع من التنكير. وقوله: " قالت كأنه هو " المراد به أنه هو وإنما عبرت بلفظ التشبيه تحرزا من الطيش والمبادرة إلى التصديق من غير تثبت، ويكني عن الاعتقادات الابتدائية التي لم يتثبت عليها غالبا بالتشبيه. وقوله: " وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين " ضمير " قبلها " لهذه الاية أي الاتيان بالعرش أو لهذه الحالة أي رؤيتها له بعد ما جاءت، وظاهر السياق أنها تتمة
________________________________________
[ 366 ]
كلام الملكة فهي لما رأت العرش وسئلت عن امره احست أن ذلك منهم تلويح إلى ما آتى الله سليمان من القدرة الخارقة للعادة فأجابت بقولها: " وأوتينا العلم من قبلها " الخ، أي لا حاجة إلى هذا التلويح والتذكير فقد علمنا بقدرته قبل هذه الآية أو هذه الحالة وكنا مسلمين لسليمان طائعين له. وقيل: قوله: " وأوتينا العلم " الخ، من كلام سليمان، وقيل: من كلام قوم سليمان، وقيل من كلام الملكة لكن المعنى وأوتينا العلم بإتيان العرش قبل هذه الحال - وهي جميعا وجوه ردية -. قوله تعالى: " وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين " الصد: المنع والصرف، ومتعلق الصد الاسلام لله وهو الذي ستشهد به حين تؤمر بدخول الصرح فتقول: أسلمت مع سليمان لله رب العالمين، وأما قولها في الآية السابقة: " وكنا مسلمين " فهو إسلامها وانقيادها لسليمان عليه السلام. هذا ما عطيه سياق الآيات وللقوم وجوه أخر في معنى الآية أضربنا عنها. وقوله: " إنها كانت من قوم كافرين " في مقام التعليل للصد، والمعنى: ومنعها عن الاسلام لله ما كانت تعبد من دون الله وهي الشمس على ما تقدم في نبأ الهدهد والسبب فيه أنها كانت من قوم كافرين فاتبعتهم في كفرهم. قوله تعالى: " قيل لها ادخلي الصرح " إلى آخر الآية، الصرح هو القصر وكل بناء مشرف والصرح الموضع المنبسط المنكشف من غيرسقف، واللجة المعظم من الماء والممرد اسم مفعول من التمريد وهو التمليس، والقوارير الزجاج. وقوله: " قيل لها ادخلي الصرح " كأن القائل بعض خدم سليمان مع حضور من سليمان ممن كان يهديها إلى الدخول عليه على ما هو الدأب في وفود الملوك والعظماء على أمثالهم. وقوله: " فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها " أي لما رأت الصرح ظنت أنه لجة لما كان عليه الزجاج من الصفاء كالماء وكشفت عن ساقيها بجمع ثيابها لئلا تبتل بالماء أذيالها. وقوله: " قال إنه صرح ممرد من قوارير " القائل هو سليمان نبهها انه ليس بلجة
________________________________________
[ 367 ]
بل صرح مملس من زجاج فلما رأت ما رأت من عظمة ملك سليمان وقد كانت رأت سابقا ما رأت من أمر هدهد ورد الهدية والاتيان بعرشها لم تشك أن ذلك من آيات نبوته من غير أن يؤتى بحزم أو تدبير وقالت عند ذلك: رب إني ظلمت نفسي الخ. وقوله: " وقالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين "، استغاثت أولا بربها بالاعتراف بالظلم إذ لم تعبد الله من بدء أو من حين رأت هذه الآيات ثم شهدت بالاسلام لله مع سليمان. وفي قوله: " وأسلمت مع سليمان لله " التفات بالنسبة إليه تعالى من الخطاب إلى الغيبة ووجهة الانتقال من أجمال الايمان بالله إذ قالت: رب إني ظلمت نفسي إلى التوحيد الصريح فإنها تشهد ان إسلامها لله مع سليمان فهو على نهج إسلام سليمان وهو التوحيد ثم تؤكد التصريح بتوصيفه تعالى برب العالمين فلا رب غيره تعالى لشئ من العالمين وهو توحيد الربوبية المستلزم لتوحيد العبادة الذي لا يقول به مشرك. (كلام في قصة سليمان عليه السلام) 1 - ما ورد من قصصه في القرآن: لم يرد من قصصه عليه السلام في القرآن الكريم إلا نبذة يسيرة غير ان التدبر فيها يهدي إلى عامة قصصه ومظاهر شخصيته الشريفة. منها: وراثته لابيه داود قال تعالى: " ووهبنا لداود سليمان " ص: 30، وقال " وورث سليمان داود " النمل: 16. ومنها: إيتاؤه الملك العظيم وتسخير الجن والطير والريح له وتعليمه منطق الطير وقد تكرر ذكر هذه النعم في كلامه تعالى كما في سورة البقرة الآية 102 والانبياء الآية 81، والنمل الآية 16 - 18، وسبأ الآية 12 - 13 وص الآية 35 - 39. ومنها: الاشارة إلى قصة إلقاء جسد على كرسيه كما في سورة ص الآية 33. ومنها: الاشارة إلى عرض الصافنات الجياد عليه كما في سورة ص الآية 31 - 33. ومنها: الاشارة إلى تفهيمه الحكم في الغنم التي نفشت في الحرث كما في سورة الانبياء الآية 78 - 79. ومنها: الاشارة إلى حديث النملة كما في سورة النمل الآية 18 - 19.
________________________________________
[ 368 ]
ومنها: قصة الهدهد وما يتبعها من قصته عليه السلام مع ملكة سبأ سورة النمل الآية 20 - 44. ومنها: الاشارة إلى كيفية موته عليه السلام كما في سورة سبأ الآية 14. وقد أوردنا ما يخص بكل من هذه القصص من الكلام في ذيل الآيات المشيرة إليها الموضوعة في هذا الكتاب. 2 - الثناء عليه في القرآن: ورد اسمه عليه السلام في بضعة عشر موضعا من كلامه تعالى وقد أكثر الثناء عليه فسماه عبدا أو أبا قال تعالى: " نعم العبد انه أواب " ص: 30، ووصفه بالعلم والحكم قال تعالى: " ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما " الانبياء: 79 وقال " ولقد آتينا داود وسليمان علما " النمل: 15 وقال: " وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير " النمل: 16، وعده من النبيين المهديين قال تعالى: " وأيوب ويونس وهارون وسليمان " النساء: 163 وقال: " ونوحا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان " الانعام: 84. 3 - ذكره عليه السلام في العهد العتيق: قعت قصته في كتاب الملوك الاول وقد أطيل فيه في حشمته وجلالة أمره وسعة ملكه ووفور ثرويه وبلوغ حكمته غير انه لم يذكر فيه شئ من قصصه المشار إليها في القرآن إلا ما ذكر أن ملكة سباء لما سمعت خبر سليمان وبناءه وبيت الرب باور شليم وما اوتيه من الحكمة أتت إليه ومعها هدايا كثيرة فلاقتها وسألتها عن مسائل تمتحنه بها فأجاب عنها ثم رجعت (1). قد أساء العهد العتيق القول فيه عليه السلام فذكر (2) انه عليه السلام انحرف في آخر عمره عن عبادة الله إلى عبادة الاصنام فسجد لاوثان كانت تعبدها بعض أزواجه. وذكر أن والدته كانت زوج أوريا الحتي فعشقها داود عليه السلام ففجر بها فحبلت منه فاحتال في قتل زوجها أوريا حتى قتل في بعض الحروب فضمها إلى ازواجه فحبلت منه ثانيا وولدت له سليمان.
________________________________________
(1) الاصحاح العاشر من الملوك الاول. (2) الاصحاح الحادي عشر والثاني عشر من كتاب صموئيل الثاني. (*)
________________________________________
[ 369 ]
والقرآن الكريم ينزه ساحته عليه السلام عن أول الرميتين بما ينزه به ساحة جميع الانبياء بالنص على هدايتهم وعصمتهم وقال فيه خاصة: " وما كفر سليمان " البقرة: 102. وعن الثانية بما يحكيه من دعائه عليه السلام لما سمع قول النملة: " رب أوزعني ان أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي " النمل: 19، فقد بينا في تفسيره ان فيه دلالة على ان والدته كانت من أهل الصراط المستقيم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. 4 - الروايات الواردة في قصصه علليه السلام: الاخبار المروية في قصصه وخاصة في قصة الهدهد وما يتبعها من اخباره مع ملكة سبأ يتضمن أكثرها امورا غريبة قلما يوجد نظائرها في الاساطير الخرافية يأباها العقل السليم ويكذبها التاريخ القطعي وأكثرها مبالغة ما روي عن امثال كعب ووهب. وقد بلغوا من المبالغة أن ما رووا انه عليه السلام ملك جميع الارض، وكان ملكه سبعمائة سنة، وأن جميع الانس والجن والوحش والطير كانوا جنوده، وأنه كان يوضع في مجلسه حول عرشه ستمائة ألف كرسي يجلس عليها ألوف من النبيين ومئات الالوف من أمراء الانس والجن. وأن ملكة سبأ كانت أمها من الجن، وكانت قدمها كحافر الحمارة وكانت تستر قدميها عن أعين النظار حتى كشفت عن ساقيها حينما أرادت دخول الصرح فبان أمرها، وقد بلغ من شوكتها انه كان تحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة تحت يد كل ملك أربعمائة ألف مقاتل ولها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها ولها إثنا عشر ألف قائد تحت يد كل قائد إثنا عشر ألف مقاتل إلى غير ذلك من أعاجيب الاخبار التي لا يسعنا إلا ان نعدها من الاسرائيليات ونصفح عنها (1).
________________________________________
(1) وعلى من يريد الوقوف عليها أن يراجع جوامع الاخبار كالدر المنثور والعرائس والبحار ومطولات التفاسير. (*)
________________________________________
[ 370 ]
(بحث روائي) في الاحتجاج روى عبد الله بن الحسن بإسناده عن آبائه عليهم السلام انه لما أجمع أبو بكر على منع فاطمة عليها السلام فدك وبلغها ذلك جاءت إليه وقالت له: يا ابن أبي قحافة أفي كتاب الله ان ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئا فريا أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم إذ يقول: وورث سليمان داود. الحديث. وفي تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله عزوجل: " فهم يوزعون " قال: يحبس أولهم على آخرهم. وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث قال والناظرة في بعض اللغة هي المنتظرة ألم تسمع إلى قوله: " فناظرة بم يرجع المرسلون ". وفي البصائر بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن إسم الله الاعظم على ثلاث وسبعين حرفا وإنما كان عند آصف منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالارض ما بينه وبين سرير بلقيس ثم تناول السرير بيده ثم عادت الارض كما كانت أسرع من طرفة عين، وعندنا نحن من الاسم اثنان وسبعون حرفا، وحرف عند الله استأثر به في علم الغيب عنده ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أقول: وروي هذا المعنى أيضا عن أبي عبد الله عليه السلام، ورواه في الكافي عن جابر عن أبي جعفر وعن النوفلي عن أبي الحسن صاحب العسكر عليهما السلام. وقوله: " إن الاسم الاعظم كذا حرفا وكان عند آصف حرف تكلم به " لا ينافي ما قدمنا أن هذا الاسم ليس من قبيل الالفاظ فإن نفس هذا السياق يدل على أن المراد بالحرف غير الحرف اللفظي والتعبير به من جهة أن المعهود عند الناس من الاسم الاسم اللفظي المؤلف من الحروف الملفوظة. وفي المجمع في قوله تعالى: " قبل ان يرتد اليك طرفك ذكر في ذلك وجوه - إلى أن قال - والخامس أن الارض طويت له وهو المروي عن أبي عبد الله عليه السلام. أقول: وما رواه من الطي لا يغاير ما تقدمت روايته من الخسف.
________________________________________
[ 371 ]
والذي نقله من الوجوه الاخر خمسة أحدها: إن الملائكة حملته إليه. الثاني: ان الريح حملته. الثالث: ان الله خلق فيه حركات متوالية. الرابع: انه انخرق مكانه حيث هو هناك ثم نبع بين يدي سليمان. الخامس: ان الله أعدمه في موضعه وأعاده في مجلس سليمان. وهناك وجه آخر ذكره بعضهم وهو ان الوجود بتجدد الامثال بإيجاده وقد أفاض الله الوجود لعرشها في سبإ ثم في الآن التالي عند سليمان. وهذه الوجوه بين ممتنع كالخامس وبين ما لا دليل عليه كالباقي. وفيه وروى العياشي في تفسيره بالاسناد قال: التقي موسى بن محمد بن علي بن موسى ويحيى بن أكثم فسأله. قال: فدخلت على أخي علي بن محمد عليه السلام إذ دار بيني وبينه من المواعظ حتى انتهيت إلى طاعته فقلت له: جعلت فداك إن ابن أكثم سألني عن مسائل أفتيه فيها فضحك ثم قال: هل أفتيته فيها قلت: لا. قال: ولم ؟ قلت: لم أعرفها قال: ما هي ؟ قلت: قال: أخبرني عن سليمان أكان محتاجا إلى علم آصف بن برخيا ؟ ثم ذكرت المسائل الاخر: قال: اكتب يا أخي بسم الله الرحمن الرحيم سألت عن قول الله تعالى في كتابه: " قال الذي عنده علم من الكتاب " فهو آصف بن برخيا ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف لكنه أحب أن تعرف أمته من الجن والانس أنه الحجة من بعده وذلك من علم سليمان أودعه آصف بأمر الله ففهمه الله ذلك لئلا يختلف في إمامته ودلالته كما فهم سليمان في حياة داود ليعرف إمامته ونبوته من بعده لتأكيد الحجة على الخلق. أقول: وأورد الرواية في روح المعاني عن المجمع ثم قال: وهو كما ترى انتهى ولا ترى لاعتراضه هذا وجها غير أنه رأى حديث الامامة فيها فلم يعجبه. وفي نور الثقلين عن الكافي عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجوا - إلى ان قال - وخرجت ملكة سبأ فأسلمت مع سليمان عليه السلام. * * * ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا أن اعبدوا الله فإذا هم
________________________________________
[ 372 ]
فريقان يختصمون - 45. قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة لو لا تستغفرون الله لعلكم ترحمون - 46. قالوا اطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله بل أنتم قوم تفتنون - 47. وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الارض ولا يصلحون - 48. قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون - 49. ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون - 50. فانظر كيف كان عاقبه مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين - 51. فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا إن في ذلك لآية لقوم يعلمون - 52. وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون - 53. (بيان) اجمال من قصة صالح النبي عليه السلام وقومه، وجانب الانذار في الآيات يغلب على جانب التبشير كما تقدمت الاشارة إليه. قوله تعالى: " ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا - إلى قوله - يختصمون " الاختصام والتخاصم التنازع وتوصيف التثنية بالجمع أعني قوله: " فريقان " بقوله: " يختصمون " لكون المراد بالفريقين مجموع الامة و " إذا " فجائية. والمعنى: وأقسم لقد أرسلنا إلى قوم ثمود أخاهم ونسيبهم صالحا وكان المرجوان يجتمعوا على الايمان لكن فأجاهم أن تفرقوا فريقين مؤمن وكافر يختصمون ويتنازعون في الحق كل يقول: الحق معي، ولعل المراد باختصامهم ما حكاه الله عنهم في موضع آخر بقوله: " قال الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون
________________________________________
[ 373 ]
ان صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون " الاعراف: 76. ومن هنا يظهر ان أحد الفريقين جمع من المستضعفين آمنوا به والآخر المستكبرون وباقي المستضعفين ممن اتبعوا كبارهم. قوله تعالى: " قال يا قوم لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة " الخ الاستعجال بالسيئة قبل الحسنة المبادرة إلى سؤال العذاب قبل الرحمة التي سببها الايمان والاستغفار. وبه يظهر أن صالحا عليه السلام إنما وبخهم بقوله هذا بعد ما عقروا الناقة وقالوا له: يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين فيكون قوله: " لو لا تستغفرون الله لعلكم ترحمون " تحضيضا إلى الايمان والتوبة لعل الله يرحمهم فيرفع عنهم ما وعدهم من العذاب وعدا غير مكذوب. قوله تعالى: " قالوا أطيرنا بك وبمن معك قال طائركم عند الله " الخ التطير هو التشأم، وكانوا يتشأمون كثيرا بالطير ولذا سموا التشأم تطيرا ونصيب الانسان من الشر طائرا كما قيل. فقولهم خطابا لصالح: " أطيرنا بك وبمن معك " أي تشأمنا بك وبمن معك ممن آمن بك ولزمك لما ان قيامك بالدعوة وإيمانهم بك قارن ما ابتلينا به من المحن والبلايا فلسنا نؤمن بك. وقوله خطابا للقوم: " طائركم عند الله " أي نصيبكم من الشر وهو الذي تستوجبه أعمالكم من العذاب عند الله سبحانه. ولذا أضرب عن قوله: " طائركم عند الله " بقوله: " بل أنتم قوم تفتنون " أي تختبرون بالخير والشر ليمتاز مؤمنكم من كافركم ومطيعكم من عاصيكم. ومعنى الآية: قال القوم: تطيرنا بك يا صالح وبمن معك فلن نؤمن ولن نستغفر قال صالح: طائركم الذي فيه نصيبكم من الشر عند الله وهو كتاب أعمالكم ولست أنا ومن معي ذوي أثر فيكم حتى نسوق اليكم هذه الابتلاءات بل أنتم قوم تختبرون وتمتحنون بهذه الامور ليمتاز مؤمنكم من كافركم ومطيعكم من عاصيكم. وربما قيل: إن الطائر هو السبب الذي منه يصيب الانسان ما يصيبه من الخير
________________________________________
[ 374 ]
والشر، فإنهم كما كانوا يتشأمون بالطير كانوا أيضا يتيمنون به والطائر عندهم الامر الذي يستقبل الانسان بالخير والشر كما في قوله تعالى: " وكل إنسان الزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا " أسرى: 13، وإذ كان ما يستقبل الانسان من خير أو شر هو بقضاء من الله سبحانه مكتوب في كتاب فالطائر هو الكتاب المحفوظ فيه ما قدر للانسان. وفيه ان ظاهر ذيل آية الاسراء أن المراد بالطائر هو كتاب الاعمال دون كتاب القضاء كما يدل عليه قوله: " اقرء كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ". وقيل: معنى " بل أنتم قوم تفتنون " اي تعذبون، وما ذكرناه أولا أنسب. قوله تعالى: " وكان في المدينة تسعة رهط " الخ قال الراغب: الرهط العصابة دون العشرة وقيل إلى الاربعين انتهى، وقيل: الفرق بين الرهط والنفر ان الرهط من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة والنفر من الثلاثة إلى التسعة انتهى. قيل: المراد بالرهط الاشخاص ولذا وقع تمييزا للتسعة لكونه في معنى الجمع فقد كان المتقاسمون تسعة رجال. قوله تعالى: " قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون " التقاسم المشاركة في القسم، والتبييت القصد بالسوء ليلا، وأهل الرجل من يجمعه وإياهم بيت أو نسب أو دين، ولعل المراد بأهله زوجه وولده بقرينة قوله بعد: " ثم لنقولن لوليه ما شهدنا "، وقوله: " وإنا لصادقون " معطوف على قوله: " ما شهدنا " فيكون من مقول القول. والمعنى: قال الرهط المفسدون وقد تقاسموا بالله: لنقتلنه وأهله بالليل ثم نقول لوليه إذا عقبنا وطلب الثار: ما شهدنا هلاك أهله وإنا لصادقون في هذا القول، ونفي مشاهدة مهلك أهله نفي لمشاهدة مهلك نفسه بالملازمة أو الاولوية، على ما قيل. وربما قيل: إن قوله: " وإنا لصادقون " حال من فاعل نقول اي نقول لوليه كذا والحال أنا صادقون في هذا القول لانا شهدنا مهلكه وأهله جميعا لا مهلك أهله فقط. ولا يخفي ما فيه من التكلف وقد وجه بوجوه أخر أشد تكلفا منه ولا ملزم لاصل الحالية.
________________________________________
[ 375 ]
قوله تعالى: " ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون " أما مكرهم فهو التواطي على تبييته وأهله والتقاسم بشهادة السياق السابق وأما مكره تعالى فهو تقديره هلاكهم جميعا بشهادة السياق اللاحق. قوله تعالى: " فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم اجمعين " التدمير الاهلاك، وضمائر الجمع للرهط، وكون عاقبة مكرهم هو إهلاكهم وقومهم من جهة أن مكرهم استدعى المكر الالهي على سبيل المجازاة، واستوجب ذلك إهلاكهم وقومهم. قوله تعالى: " فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا " الخ، الخاوية الخالية من الخواء بعمنى الخلاء، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " وأنجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون " فيه تبشير للمؤمنين بالانجاء، وقد أردفه بقوله: " وكانوا يتقون " إذ التقوى كالمجن للايمان وقد قال تعالى: " والعاقبة للمتقين " الاعراف: 128، وقال: " والعاقبة للتقوى " طه: 133. * * * ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة وأنتم تبصرون - 54. أئنكم لتأتون الشهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون - 55. فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون - 56. فأنجيناه وأهله إلا امرأته قدرناها من الغابرين - 57. وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين - 58.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page