• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 326الي 350


[ 326 ]
وقد دلت البراهين العقلية وأيدها تواتر الانبياء والرسل من قبله تعالى على أن القوانين الاجتماعية وسنن الحياة يجب أن تكون من عنده تعالى وهي أحكام ووظائف انسانية تهدي إليها الفطرة الانسانية وتضمن سعادة حياته وتحفظ مصالح مجتمعه. وهذه الشريعة السماوية الفطرية واضعها هو الله سبحانه ومجريها من حيث الثواب والعقاب - وموطنهما موطن الرجوع إليه تعالى - هو الله سبحانه. ومقتضى تشريعه تعالى هذه الشرائع السماوية واعتباره نفسه مجريا لها أنه أوجب على نفسه إيجابا تشريعيا - وليس بالتكويني - أن لا يناقض نفسه ولا يتخلف بإهمال أو إلغاء جزاء يستوجبه خلاف أو إعمال جزاء لا يستحقه عمل كتعذيب الغافل الجاهل بعذاب المتعمد المعاند، وأخذ المظلوم بإثم الظالم وإلا كان ظلما منه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. ولعل هذا معنى ما يقال: إن الظلم مقدور له تعال لكنه ليس بواقع البته لانه نقص كمال يتنزه تعالى عنه ففرض الظلم منه تعالى من فرض المحال وليس بفرض محال، وهو المستفاد من ظاهر قوله تعالى: " وما كنا ظالمين " الآية 209 من السورة، وقوله: " إن الله لا يظلم الناس شيئا " يونس: 44، وقوله: " وما ربك بظلام للعبيد " فصلت: 46، وقوله: " لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل " النساء: 165، فظاهرها أنها ليست من قبيل السالبة بانتفاع الموضوع كما يومي إليه تفسير من فسرها بأن المعنى أن الله لا يفعل فعلا لو فعله غيره لكان ظالما. فإن قلت: ما ذكر من وجوب إجراء الجزاء ثوابا أو عقابا يخالف ما هو المسلم عندهم أن ترك عقاب العاصي جائز لانه من حق المعاقب ومن الجائز على صاحب الحق تركه وعدم المطالبة به بخلاف ثواب المطيع لانه من حق الغير وهو المطيع فلا يجوز تركه وإبطاله. على أنه قيل: إن الاثابة على الطاعات من الفضل دون الاستحقاق لان العبد وعمله لمولاه فلا يملك شيئا حتى يعاوضه بشئ. قلت: ترك عقاب العاصي في الجملة مما لا كلام فيه لانه من الفضل وأما بالجملة فلا لاستلزامه لغوية التشريع والتقنين وترتيب الجزاء على العمل.
________________________________________
[ 327 ]
وأما كون ثواب الاعمال من الفضل بالنظر إلى كون عمل العبد كنفسه لله فلا ينافي فضلا آخر منه تعالى على عبده باعتبار عمله ملكا له، ثم جعل ما يثيبه عليه أجرا لعمله، والقرآن ملئ بحديث الاجر على الاعمال الصالحة، وقد قال تعالى: " إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة " براءة: 111. قوله تعالى: " وما تنزلت به الشياطين - إلى قوله - لمعزولون " شروع في الجواب عن قول المشركين: إن لمحمد جنا يأتيه بهذا الكلام، وقولهم: إنه شاعر، وقدم الجواب عن الاول وقد وجه الكلام أولا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبين له أن القرآن ليس من تنزيل الشياطين وطيب بذلك نفسه ثم وجه القول إلى القوم فبينه لهم بما في وسعهم أن يفقهوه. فقوله: " وما تنزلت به الشياطين " أي ما نزلته والآية متصلة بقوله: " وإنه لتنزيل رب العالمين " ووجه الكلام كما سمعت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بدليل قوله تلوا: " فلا تدع مع الله إلها آخر " إلى آخر الخطابات المختصة به صلى الله عليه وآله وسلم المتفرعة على قوله: " وما تنزلت به " الخ، على ما سيجئ بيانه. وإنما وجه الكلام إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون القوم لانه معلل بما لا يقبلونه بكفرهم أعني قوله: " إنهم عن السمع لمعزولون " والشيطان الشرير وجمعه الياطين والمراد بهم أشرار الجن. وقوله: " وما ينبغي لهم " أي للشياطين. قال في مجمع البيان: ومعنى قول العرب: ينبغي لك أن تفعل كذا أنه يطلب منك فعله في مقتضى العقل من البغية التي هي الطلب. انتهى. والوجه في أنه لا ينبغي لهم أن يتنزلوا به أنهم خلق شرير لا هم لهم إلا الشر والفساد والاخذ بالباطل وتصويره في صورة الحق ليضلوا به عن سبيل الله، والقرآن كلام حق لا سبيل للباطل إليه فلا يناسب جبلتهم الشيطانية أن يلقوه إلى أحد. وقوله: " وما يستطيعون " أي وما يقدرون على التنزل به لانه كلام سماوي تتلقاه الملائكة من رب العزة فينزلونه بأمره في حفظ وحراسة منه تعالى كما قال: " فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط
________________________________________
[ 328 ]
بما لديهم " الجن: 28، وإلى ذلك يشير قوله: " إنهم عن السمع " الخ. قوله: " إنهم عن السمع لمعزولون " أي إن الشياطين عن سمع الاخبار السماوية والاطلاع على ما يجري في المأ الاعلى معزولون حيث يقذفون بالشهب الثاقبة لو تتسمعوا كما ذكره الله في مواضع من كلامه. قوله تعالى: " فلا تدع مع الله ألها آخر فتكون من المعذبين " خطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ينهاه عن الشرك بالله متفرع على قوله: " وما تنزلت به الشياطين " الخ، أي إذا كان هذا القرآن تنزيلا من رب العالمين ولم تنزل به الشياطين وهو ينهى عن الشرك ويوعد عليه العذاب فلا تشرك بالله فينالك العذاب الموعود عليه وتدخل في زمرة المعذبين. وكونه صلى الله عليه وآله وسلم معصوما بعصمة إلهية يستحيل معها صدور المعصية منه لا ينافي نهيه عن الشرك فإن العصمة لا توجب بطلان تعلق الامر والنهي بالمعصوم وارتفاع التكليف عنه بما أنه بشر مختار في الفعل والترك متصور في حقه الطاعة والمعصية بالنظر إلى نفسه، وقد تكاثرت الآيات في تكليف الانبياء عليهم السلام في القرآن الكريم كقوله في الانبياء عليهم السلام: " ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون " الانعام: 88، وقوله في النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " لئن أشركت ليحبطن عملك " الزمر: 65، والآيتان في معنى النهي. وقول بعضهم: إن التكليف للتكميل فيرتفع عند حصول الكمال وتحققه لاستحالة تحصيل الحاصل خطأ فإن الاعمال الصالحة التي يتعلق بها التكاليف من آثار الكمال المطلوب والكمال النفساني كما يجب أن يكتسب بالاتيان بآثاره ومزاولة الاعمال التي تناسبه والارتياض بها كذلك يجب أن يستبقى بذلك فما دام الانسان بشرا له تعلق بالحياة الارضية لا مناص له عن تحمل أعباء التكليف، وقد تقدم كلام في هذا المعنى في بعض الابحاث. قوله تعالى: " وأنذر عشيرتك الاقربين " في مجمع البيان: عشيرة الرجل قرابته سموا بذلك لانه يعاشرهم وهم يعاشرونه انتهى. وخص عشيرته وقرابته الاقربين بالذكر بعد نهي نفسه عن الشرك وإنذاره تنبيها على أنه لا استثناء في الدعوة الدينية
________________________________________
[ 329 ]
ولا مداهنة ولا مساهلة كما هو معهود في السنن الملوكية فلا فرق في تعلق الانذار بين النبي وامته " ولا بين الاقارب والاجانب، فالجميع عبيد والله مولاهم. قوله تعالى: " واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين " أي اشتغل بالمؤمنين بك واجمعهم وضمهم اليك بالرأفة والرحمة كما يجمع الطير أفراخه إليه بخفض جناحه لها، وهذا من الاستعارة بالكناية تقدم نظيره في قوله: " واخفض جناحك للمؤمنين " الحجر: 88. والمراد بالاتباع الطاعة بقرينة قوله في الآية التالية: فإن عصوك فقل إني برئ مما تعملون " فملخص معنى الآيتين: إن آمنوا بك واتبعوك فاجمعهم اليك بالرأفة واشتغل بهم بالتربية وإن عصوك فتبرء من عملهم. قوله تعالى: " وتوكل على العزيز الرحيم " أي ليس لك من أمر طاعتهم ومعصيتهم شئ وراء ما كلفناك فكل ما وراء ذلك إلى الله سبحانه فإنه لعزته سيعذب العاصين وبرحمته سينجي المؤمنين المتبعين. وفي اختصاص اسمي العزيز والرحيم لفات للذهن إلى ما تقدم من القصص ختمت واحدة بعد واحدة بالاسمين الكريمين. فهو في معنى أن يقال: توكل في أمر المتبعين والعاصين جميعا إلى الله فهو العزيز الرحيم الذي فعل بقوم نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب وقوم فرعون ما فعل مما قصصناه فسنته أخذ العاصين وإنجاء المؤمنين. قوله تعالى: " الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين " ظاهر الآتتين - على ما يسبق إلى الذهن - أن المراد بالساجدين الساجدون في الصلاة من المؤمنين وفيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته بهم جماعة، والمراد بقرينة المقابلة القيام في الصلاة فيكون المعنى: الذي يراك وأنت بعينه في حالتي قيامك وسجودك متقلبا في الساجدين وأنت تصلي مع المؤمنين. وفي معنى الآية روايات من طرق الشيعة وأهل السنة سنتعرض لها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله. قوله تعالى: " إنه هو السميع العليم " تعليل لقوله: " وتوكل على العزيز الرحيم "
________________________________________
[ 330 ]
وفي الآيات - على ما تقدم من معناها - تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبشرى للمؤمنين بالنجاة وإيعاد للكفار بالعذاب. قوله تعالى: " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين - إلى قوله - كاذبون "، تعريف لمن تتنزل عليه الشياطين بما يخصه من الصفة ليعلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس منهم ولا أن القرآن من إلقاء الشياطين، والخطاب متوجه إلى المشركين. فقوله: " هل أنبئكم على من تنزل الشياطين " في معنى هل أعرفكم الذين تتنزل عليهم شياطين الجن بالاخبار ؟ وقوله: " تنزل على كل أفاك أثيم " قال في مجمع البيان: الافاك الكذاب وأصل الافك القلب والافاك الكثير القلب للخبر عن جهة الصدق إلى جهة الكذب، والاثيم الفاعل للقبيح يقال: أثم يأثم إثما إذا ارتكب القبيح وتأثم إذا ترك الاثم انتهى. وذلك أن الشياطين لا شأن لهم إلا إظهار الباطل في صورة الحق وتزيين القبيح في زي الحسن فلا يتنزلون إلا على أفاك أثيم. وقوله: " يلقون السمع وأكثرهم كاذبون " الظاهر أن ضميري الجمع في " يلقون " و " أكثرهم " معا للشياطين، والسمع مصدر بمعنى المسموع والمراد به ما سمعه الشياطين من أخبار السماء ولو ناقصا فإنهم ممنوعون من الاستماع مرميون بالشهب فما استرقوه لا يكون إلا ناقصا غير تام ولا كامل ولذا يتسرب إليه الكذب كثيرا. وقوله: " وأكثرهم كاذبون " أي أكثر الشياطين كاذبون لا يخبرون بصدق أصلا وهذا هو الكثرة بحسب الافراد ويمكن أن يكون المراد الكثرة من حيث التنزل أي أكثر المتنزلين منهم كاذبون أي أكثر أخبارهم كاذبة. ومحصل حجة الآيات الثلاث أن الشياطين لابتناء جبلتهم على الشر لا يتنزلون إلا على كل كذاب فاجر وأكثرهم كاذبون في أخبارهم والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بأفاك أثيم ولا ما يوحى إليه من الكلام كذبا مختلقا فليس ممن تتنزل عليه الشياطين ولا الذي يتنزل عليه شيطانا، ولا القرآن النازل عليه من إلقاء الشياطين. قوله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاون - إلى قوله - لا يفعلون " جواب عن رمي المشركين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه شاعر، نبه عليه بعد الجواب عن قولهم إن له شيطانا يوحي إليه القرآن.
________________________________________
[ 331 ]
وهذان أعني قولهم: إن من الجن من يأتيه، وقولهم: إنه شاعر، مما كانوا يكررونه في ألسنتهم بمكة قبل الهجرة يدفعون به الدعوة الحقة، وهذا مما يؤيد نزول هذه الآيات بمكة خلافا لما قيل إنها نزلت بالمدينة. على أن الآيات مشتملة على ختام السورة أعني قوله: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " ولا معنى لبقاء سورة هي من أقدم السور المكية سنين على نعت النقص ثم تمامها بالمدينة، ولا دلالة في الاستثناء على أن المستثنين هم شعراء المؤمنين بعد الهجرة. وكيف كان فالغي خلاف الرشد الذي هو إصابة الواقع فالرشيد هو الذي لا يهتم إلا بما هو حق واقع، والغوي هو السالك سبيل الباطل والمخطئ طريق الحق، والغواية مما يختص به صناعة الشعر المبنية على التخييل وتصوير غير الواقع في صورة الواقع ولذلك لا يهتم به إلا الغوي لمشعوف بالتزيينات الخيالية والتصويرات الوهمية الملهية عن الحق الصارفة عن الرشد، ولا يتبع الشعراء الذين يبتني صناعتهم على الغي والغواية إلا الغاون وذلك قوله تعالى: " والشعراء يتبعهم الغاون ". و قوله: " ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون " يقال: هام يهيم هيمانا إذا ذهب على وجهه والمراد بهيمانهم في كل واد استرسالهم في القول من غير أن يقفوا على حد فربما مدحوا الباطل المذموم كما يمدح الحق المحمود و ربما هجوا الجميل كما يهجي القبيح الدميم وربما دعوا إلى الباطل وصرفوا عن الحق وفي ذلك انحراف عن سبيل الفطرة الانسانية المبنية على الرشد الداعية إلى الحق، وكذا قولهم ما لا يفعلون من العدول عن صراط الفطرة. وملخص حجة الآيات الثلاث أنه صلى الله عليه وآله وسلم ليس بشاعر لان الشعراء يتبعهم الغاون لابتناء صناعتهم على الغواية وخلاف الرشد لكن الذين يتبعونه إنما يتبعونه ابتغاء للرشد وإصابة الواقع وطلبا للحق لابتناء ما عنده من الكلام المشتمل على الدعوة على الحق والرشد دون الباطل والغي. قوله تعالى: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا " الخ، استثناء من الشعراء المذمومين، والمستثنون هم شعراء المؤمنين فإن الايمان وصالحات الاعمال تردع الانسان بالطبع عن ترك الحق واتباع الباطل ثم الذكر الكثير لله سبحانه
________________________________________
[ 332 ]
يجعل الانسان على ذكر منه تعالى مقبلا إلى الحق الذي يرتضيه مدبرا عن الباطل الذي لا يحب الاشتغال به فلا يعرض لهؤلاء ما كان يعرض لاولئك. وبهذا البيان يظهر وجه تقييد المستثنى بالايمان وعمل الصالحات ثم عطف قوله: " وذكروا الله كثيرا " على ذلك. وقوله: " وانتصروا من بعد ما ظلموا " الانتصار الانتقام، قيل: المراد به رد الشعراء من المؤمنين على المشركين أشعارهم التي هجوا بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو طعنوا فيها في الدين وقدحوا في الاسلام والمسلمين، وهو حسن يؤيده المقام. وقوله: " وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون " المنقلب اسم مكان أو مصدر ميمي، والمعنى: وسيعلم الذين ظلموا - وهم المشركون على ما يعطيه السياق - إلى أي مرجع ومنصرف يرجعون وينصرفون وهو النار أو ينقلبون أي انقلاب. وفيه تهديد للمشركين ورجوع مختتم السورة إلى مفتتحها وقد وقع في أولها قوله: " فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن ". (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن الحجال عمن ذكره عن أحدهما ع قال: سألته عن قول الله عزوجل: " بلسان عربي مبين " قال: يبين الالسن ولا تبينه الالسن. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولو نزلناه على بعض الاعجمين " الخ، قال الصادق عليه السلام: لو نزلنا القرآن على العجم ما آمنت به العرب وقد نزل على العرب فآمنت به العجم فهذه فضيلة العجم. وفي الكافي بإسناده عن على بن عيسى القماط عن عمة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: أري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منامه بني أمية يصعدون على منبره من بعده ويضلون الناس عن الصراط القهقرى فأصبح كئيبا حزينا. قال: فهبط جبرائيل فقال: يا رسول الله ما لي أراك كئيبا حزينا ؟ قال
________________________________________
[ 333 ]
يا جبرائيل إني رأيت بني أمية في ليلتي هذه يصعدون منبري من بعدي يضلون الناس عن الصراط القهقرى، فقال: والذي بعثك بالحق نبيا إني ما اطلعت عليه فعرج إلى السماء فلم يلبث أن نزل عليه بآي من القرآن يؤنسه بها. قال: " أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " وأنزل عليه: " إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر " جعل الله ليلة القدر لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم خيرا من ألف شهر ملك بني أمية. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جهضم قال: رؤي النبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنه متحير فسألوه عن ذلك فقال: ولم ورأيت عدوي يلون أمرأمتي من بعدي فنزلت " أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون " فطابت نفسه. أقول: وقوله: ولم ورأيت الخ، فيه حذف والتقدير ولم لا أكون كذلك وقد رأيت " الخ ". وفيه أخرج أحمد وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان وفي الدلائل عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية " وأنذر عشيرتك الاقربين " دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قريشا وعم وخص فقال: يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا معشر بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار فأني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا معشر بني قصي أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا معشر بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار فإني لا أملك لكم ضرا ولا نفعا. يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لك ضرا ولا نفعا. ألا إن لكم رحما وسأبلها ببلالها. وفيه أخرج عبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت " وأنذر عشيرتك الاقربين " جعل يدعوهم قبائل قبائل. وفيه أخرج سعيد بن منصور والبخاري وابن مردويه وابن جرير وابن المنذر
________________________________________
[ 334 ]
وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما نزلت " وأنذر عشيرتك الاقربين ورهطك منهم المخلصين " خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى صعد على الصفا فنادي يا صباحاه فقالوا: من هذا الذي يهتف ؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو ؟ فجاء أبو لهب وقريش فقال صلى الله عليه وآله وسلم: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا ؟ فنزلت: " تبت يدا أبي لهب وتب ". وفيه أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أمامة قال: لما نزلت " وأنذر عشيرتك الاقربين " جمع رسول الله بني هاشم فأجلسهم على الباب وجمع نساءه وأهله فأجلسهم في البيت ثم اطلع عليهم فقال: يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من النار واسعوا في فكاك رقابكم وافتكوها بأنفسكم من الله فإني لا أملك لكم من الله شيئا. ثم أقبل على أهل بيته فقال: يا عائشة بنت أبي بكرو يا حفصة بنت عمر ويا أم سلمة ويا فاطمة بنت محمد ويا أم الزبير عمة رسول الله اشتروا (1) أنفسكم من الله واسعوا في فكاك رقابكم فإني لا أملك لكم من الله شيئا ولا أغني، الحديث. أقول: وفي معنى هذه الروايات بعض روايات أخر وفي بعضها أنه صلى الله عليه وآله وسلم خص بني عبد مناف بالانذار فيشمل بني أمية وبني هاشم جميعا. والروايات الثلاث الاول لا تنطبق عليها الآية فانها تعمم الانذار قريشا عامة والآية تصرح بالعشيرة الاقربين وهم إما بنو عبد المطلب أو بنو هاشم وأبعد ما يكون من الآية لرواية الثانية حيث تقول: جعل يدعوهم قبائل قبائل. على أن ما تقدم من معنى الآية وهو نفي أن تكون قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم تغنيهم من تقوى الله وفي الروايات إشارة إلى ذلك - حيث تقول: لا اغني عنكم من الله
________________________________________
(1) كذا. (*)
________________________________________
[ 335 ]
شيئا - لا يناسب عمومه لغير الخاصة من قرابته صلى الله عليه وآله وسلم. وأما الرواية الرابعة فقوله تعالى: " أنذر عشيرتك الاقربين " آية مكية في سورة مكية ولم يقل أحد بنزول الآية بالمدينة وأين كانت يوم نزولها عائشة وحفصة وأم سلمة ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهن إلا في المدينة ؟ فالمعتمد من الروايات ما يدل على أنه صلى الله عليه وآله وسلم خص بالانذار يوم نزول الآية بني هاشم أو بني عبد المطلب، ومن عجيب الكلام قول الآلوسي بعد نقل الروايات: وإذا صح الكل فطريق الجمع أن يقال بتعدد الانذار. وفي المجمع عن تفسير الثعلبي بإسناده عن براء بن عازب قال: لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا الرجل منهم يأكل المسنة ويشرب العس فأمر عليا برجل شاة فأدمها ثم قال: ادنوا بسم الله فدنا القوم عشرة عشرة فأكلوا حتى صدروا. ثم دعا بعقب من لبن فجرع منه جرعا ثم قال لهم: اشربوا بسم الله فشربوا حتى رووا فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرجل فسكت صلى الله عليه وآله وسلم يومئذ ولم يتكلم. ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب ثم أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا بني عبد المطلب إني أنا النذير اليكم من الله عزوجل فأسلموا وأطيعوني تهتدوا. ثم قال: من يواخيني ويوازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي في أهلي ويقضي ديني ؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثا كل ذلك يسكت القوم ويقول علي أنا فقال في المرة الثالثة: أنت فقام القوم وهم يقولون لابي طالب: أطع ابنك فقد أمر عليك. قال الطبرسي: وروي عن أبي رافع هذه القصة وأنه جمعهم في الشعب فصنع لهم رجل شاة فأكلوا حتى تضلعوا وسقاهم عسا فشربوا كلهم حتى رووا. ثم قال: إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي ورهطي، وإن الله لم يبعث نبيا إلا جعل له من أهله أخا ووزيرا ووارثا ووصيا وخليفة في أهله فأيكم يقوم فيبا يعني على أنه أخي ووارثي ووزيري ووصيي ويكون مني بمنزلة هارون من موسى ؟ فقال علي: أنا فقال: ادن مني ففتح فاه ومج في فيه من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه فقال أبو لهب: بئس ما
________________________________________
[ 336 ]
حبوت به ابن عمك أن أجابك فملات فاه ووجهه بزاقا فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ملاته حكمة وعلما. أقول: وروي السيوطي في الدر المنثور ما في معنى حديث البراء عن ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي في الدلائل من طرق عن علي رضي الله عنه وفيه: ثم تكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما أعلم أحدا في العرب جاء قومه با فضل مما جئتكم به إني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه فأيكم يوازرني على أمري هذا ؟ فقلت وأنا أحدثهم سنا: إنه أنا، فقام القوم يضحكون وفي علل الشرائع بإسناده عن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: لما نزلت " وأنذر عشيرتك الاقربين " أي رهطك المخلصين دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب وهم إذ ذاك أربعون رجلا يزيدون ر جلا وينقصون رجلا فقال: أيكم يكون أخي ووارثي ووزيري ووصيي وخليفتي فيكم بعدي، فعرض عليهم ذلك رجلا رجلا كلهم يأبي ذلك حتى أتى علي فقلت: أنا يا رسول الله. فقال: يا بني عبد المطلب هذا وارثي ووزيري وخليفتي فيكم بعدي فقام القوم يضحك بعضهم إلى بعض ويقولون لابي طالب: قد أمرك أن تسمعع وتطيع لهذا الغلام. أقول: ومن الممكن أن يستفاد من قوله عليه السلام: أي رهطك المخلصين أن ما نسب إلى قراءة أهل البيت " وأنذر شيرتك الاقربين رهطك منهم المخلصين " ونسب أيضا إلى قرآن ابي بن كعب كان من قبيل التفسير. وفي المجمع في قوله تعالى: " وتقلبك في الساجدين " قيل: معناه وتقلبك في الساجدين الموحدين من نبي لى نبي حتى أخرجك نبيا. عن ابن عباس في رواية عطاء وعكرمة وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا: أصلاب النبيين نبي بعد نبي حتى أخرجه من صلب أبيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم. أقول: ورواه غيره من رواة الشيعة، ورواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم وغيرهم عن ابن عباس وغيرهم. وفي المجمع روي جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا
________________________________________
[ 337 ]
ترفعوا قبلي تضعوا قبلي فاني أراكم من خلفي كما أراكم من أمامي ثم تلي هذه الآية. أقول: يريد صلى الله عليه وآله وسلم وضع الجبهة على الارض ورفعها في السجدة، ورواه في الدر المنثور عن ابن عباس وغيره. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وأحمد عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لان يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا. أقول: وهو مروي من طرق الشيعة أيضا عن الصادق عليه السلام عنه صلى الله عليه وآله وسلم. وفي تفسير القمي قال: يعظون الناس ولا يتعظون وينهون عن المنكرو لا ينتهون ويأمرون بالمعروف ولا يعملون وهم الذين قال الله فيهم: " ألم تر أنهم في كل واد يهيمون " أي في كل مذهب يذهبون " وأنهم يقولون ما لا يفعلون " وهم الذين غصبوا آل محمد حقهم. وفي اعتقادات الصدوق سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عزوجل: " والشعراء يتبعهم الغاون " قال: هم القصاص. أقول: هم من المصاديق والمعنى الجامع ما تقدم في ذيل الآية. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن من الشعر حكما وإن من البيان سحرا. أقول: وروي الجملة الاولى أيضا عنه عن بريدة وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأيضا عن ابن مردويه عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وآله وسلم ولفظه إن من الشعر حكمة، والممدوح من الشعر ما فيه نصرة الحق ولا تشمله الآية. وفي المجمع عن الزهري قال: حدثني عبد الرحمن بن كعب بن مالك أن كعب ابن مالك قال: يا رسول الله ما ذا تقول في الشعراء ؟ قال: إن المؤمن مجاهد بسيفه ولسانه والذي نفسي بيده لكأنما تنضخونهم بالنبل. قال الطبرسي وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحسان بن ثابت: اهجهم أوهاجهم وروح
________________________________________
[ 338 ]
القدس معك رواه البخاري ومسلم في الصحيحين. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي الحسن سالم البراد قال: لما نزلت " والشعراء " الآية جاء عبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وحسان بن ثابت وهم يبكون فقالوا: يا رسول الله لقد أنزل الله هذه الآية وهو يعلم أنا شعراء أهلكنا ؟ فأنزل الله " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " فدعاهم رسول الله فتلاها عليهم. أقول: هذه الرواية وما في معناها هي التي دعا بعضهم إلى القول بكون الآيات الخمس من آخر السورة مدنيات وقد عرفت الكلام في ذلك عند تفسير الآيات. وفي الكافي بإسناده عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: من أشد ما فرض الله على خلقه ذكر الله كثيرا. ثم قال: لا أعني سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، وإن كان منه ولكن ذكر الله عند ما أحل وحرم فإن كان طاعة عمل بها وإن كان معصية تركها. أقول: فيه تأييد لما تقدم في تفسير الآية.
________________________________________
[ 339 ]
(سورة النمل مكية، وهي ثلاث وتسعون آية) بسم الله الرحمن الرحيم. طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين - 1. هدى وبشرى للمؤمنين - 2. الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم بالآخرة هم يوقنون - 3. إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون - 4. أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الاخسرون - 5. وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم - 6. (بيان) غرض السورة - على ما تدل عليه آيات صدرها والآيات الخمس الخاتمة لها - التبشير والانذار وقد استشهد لذلك بطرف من قصص موسى وداود وسليمان وصالح ولوط عليهم السلام ثم عقبها ببيان نبذة من أصول المعارف كوحدانيته تعالى في الربوبية والمعاد وغير ذلك. قوله تعالى: " تلك آيات الكتاب وقرآن مبين " الاشارة بتلك - كما مر في أول سورة الشعراء - إلى آيات السورة مما ستنزل بعد وما نزلت قبل، والتعبير باللفظ الخاص بالبعيد للدلالة على رفعة قدرها وبعد منالها. والقرآن إسم للكتاب باعتبار كونه مقروا، والمبين من الابانة بمعنى الاظهار، وتنكير " قرآن " للتفخيم أي تلك الآيات الرفيعة القدر التي ننزلها آيات الكتاب وآيات كتاب مقرو عظيم الشأن مبين لمقاصده من غير إبهام ولا تعقيد.
________________________________________
[ 340 ]
قال في مجمع البيان: وصفه بالصفتين يعني الكتاب والقرآن ليفيد أنه مما يظهر بالقراءة ويظهر بالكتابة وهو بمنزلة الناطق بما فيه من الامرين جميعا، ووصفه بأنه مبين تشبيه له بالناطق بكذا. انتهى. قوله تعالى: " هدى وبشرى للمؤمنين " المصدر ان أعني " هدى وبشرى " بمعنى اسم الفاعل أو المراد بهما المعنى المصدري للمبالغة. قوله تعالى: " الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة " الخ، المراد إتيان الاعمال الصالحة وإنما اقتصر على الصلاة والزكاة لكون كل منها ركنا في بابه فالصلاة فيما يرجع إلى الله تعالى والزكاة فيما يرجع إلى الناس وبنظر آخر الصلاة في الاعمال البدنية والزكاة في الاعمال المالية. وقوله: " وهم بالآخرة هم يوقنون " وصف آخر للمؤمنين معطوف على ما قبله جئ به للاشارة إلى أن هذه الاعمال الصالحة إنما تقع موقعها وتصيب غرضها مع الايقان بالآخرة فإن العمل يحبط مع تكذيب الآخرة، قال تعالى: " والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم " الاعراف: 147. وتكرار الضمير في قوله: " وهم بالآخرة " الخ للدلالة على أن هذا الايقان من شأنهم وهم أهله المترقب منهم ذلك. قوله تعالى: " إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زينا لهم أعمالهم فهم يعمهون " العمه التحير في الامر ومعنى تزيين العمل جعله بحيث ينجذب إليه الانسان والذين لا يؤمنون بالآخرة لما أنكروها وهي غاية مسيرهم يبقوا في الدنيا وهي سبيل لا غاية فتعلقوا بأعمالهم فيها وكانوا متحيرين في الطريق لا غاية لهم يقصدونها. قوله تعالى: " أولئك لهم سوء العذاب " الخ إيعاد بمطلق العذاب من دنيوي وأخروي بدليل ما في قوله: " وهم في الآخرة هم الاخسرون " ولعل وجه كونهم أخسر الناس أن سائر العصاة لهم صحائف أعمال مثبتة فيها سيئاتهم وحسناتهم يجازون بها وأما هؤلاء فسيئاتهم محفوظة عليهم يجازون بها وحسناتهم حابطة. قوله تعالى: " وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم " التلقية قريبة المعنى من التلقين، وتنكير " حكيم عليم " للتعظيم، والتصريع بكون هذا القرآن من عنده
________________________________________
[ 341 ]
تعالى ليكون ذلك حجة على الرسالة وتأييدا لما تقدم من المعارف ولصحة ما سيذكره من قصص الانبياء عليهم السلام. وتخصيص الاسمين الكريمين للدلالة على نزوله من ينبوع الحكمة فلا ينقضه ناقض ولا يوهنه موهن، ومنبع العلم فلا يكذب في خبر لا يخطئ في قضائه. * * * إذ قال موسى لاهله إني آنست نارا سأتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس لعلكم تصطلون - 7. فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومحولها وسبحان الله رب العالمين - 8. يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم - 9. وألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب يا موسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون - 10. إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء إني غفور رحيم - 11. وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين - 12. فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين - 13. وجحدوا بها واستيقنتهم أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين - 14. (بيان) أول القصص الخمس التي أشير إليها في السورة استشهادا لما في صدرها من التبشير و الانذار والوعد والوعيد وتغلب في الثلاث الاول منها وهي قصص موسى وداود
________________________________________
[ 342 ]
وسليمان جهة الوعد على الوعيد وفي الاخيرتين بالعكس. قوله تعالى " إذ قال موسى لاهله " الخ المراد بأهله إمرأته وهي بنت شعيب على ما ذكره الله تعالى في سورة القص قال في المجمع: إن خطابها بقوله: " آتيكم " بصيغة الجمع لاقامتها مقام الجماعة في الانس بها في الامكنة الموحشة. انتهى ومن المحتمل أنه كان معها غيرها من خادم أو مكار أو غيرهما. وفي المجمع: الايناس الابصار، وقيل: آنست أي أحسست بالشئ من جهة يؤنس بها وما آنست به فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه. انتهى والشهاب على ما في المجمع نور كالعمود من النار وكل نور يمتد كالعمود يسمى شهابا والمراد الشعلة من النار، وفي المفردات: الشهاب الشعلة الساطعة من النار الموقدة ومن العارض في الجو وفي المفردات أيضا: القبس المتناول من الشعلة، والاصطلاء بالنار الاستدفاء بها. وسياق الآية يشهد ويؤيده ما وقع من القصة في سور أخرى أنه كان حينذاك يسير بأهله وقد ضل الطريق وأصابه وأهله البرد في ليلة داجية فأبصر نارا من بعيد فأراد أن يذهب إليها فإن وجد عندها إنسانا استخبره أو يأخذ قبسا يأتي به إلى أهله فيوقدوا نارا يصطلون بها. فقال لاهله امكثوا إني أحسست وأبصرت نارا فالزموا مكانكم سأتيكم منها أي من عندها بخبر نهتدي به أو آتيكم بشعلة متناولة من النار لعلكم توقدون بها نارا تصطلون وتستدفؤن بها. ويظهر من السياق أيضا أن النار إنما ظهرت له عليه السلام ولم يشاهدها غيره وإلا عبر عنها بالاشارة دون التنكير. ولعل اختلاف الاتيان بالخبر والاتيان بالنار نوعا هو الموجب لتكرارلفظ الاتيان حيث قال: " سأتيكم منها بخبر أو آتيكم بشهاب قبس ". قوله تعالى: " فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين " أي فلما أتى النار وحضر عندها نودي أن بورك " الخ ". والمراد بالمباركة إعطاء الخير الكثير يقال: باركه وبارك عليه وبارك فيه أي البسه الخير الكثير وحباه به، وقد وقع في سورة طه في هذا الموضع من القصة قوله: " فلما أتاه نودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى وأنا
________________________________________
[ 343 ]
اخترتك فاستمع لما يوحى " طه: 13. ويستأنس منه أن المراد بمن حول النار موسى أو هو ممن حول النار، ومباركته اختياره بعد تقديسه. وأما المراد بمن في النار فقد قيل: إن معناه من ظهر سلطانه وقدرته في النار فإن التكليم كان من الشجرة - على ما في سورة القصص - وقد أحاطت بها النار، وعلى هذا فالمعنى: تبارك من تجلى لك بكلامه من النار وبارك فيك، ويكون قوله: " وسبحان الله رب العالمين " تنزيها له سبحانه من أن يكون جسما أو جسمانيا يحيط به المكان أو يجاوره الحدثان لا لتعجيب موسى كما قيل. وقيل: المراد بمن في النار الملائكة الحاضرون فيها كما أن المراد بمن حولها موسى عليه السلام. و قيل: المراد به موسى عليه السلام وبمن حولها الملائكة. وقيل: في الكلام تقدير والاصل بورك من في المكان الذي فيه النار - وهو البقعة المباركة التي كانت فيها الشجرة كما في سورة القصص ومن فيها هو موسى وحولها هي الارض المقدسة التي هي الشامات، ومن حولها هم الانبياء القاطنون فيها من آل إبراهيم وبني إسرائيل. وقيل: المراد بمن في النار نور الله تعالى وبمن حولها موسى. وقيل: المراد بمن في النار الشجرة فإنها كانت محاطة بالنار بمن حولها الملائكة المسبحون. وأكثر هذه الوجوه لا يخلو من تحكم ظاهر. قوله تعالى: " يا موسى إنه أنا الله العزيز الحكيم " تعرف منه تعالى لموسى عليه السلام ليعلم أن الذي يشافهه بالكلام ربه تعالى فهذه الآية في هذه السورة تحاذى قوله من سورة طه " نودي أن يا موسى إني أنا ربك فاخلع " الخ، فارجع إلى سورة طه وتدبر في الآيات. قوله تعالى: " وألق عصاك فلمارآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب " الخ، الاهتزاز التحرك الشديد، والجان الحية الصغيرة السريعة الحركة، والادبار خلاف الاقبال، والتعقيب الكر بعد الفر من عقب المقاتل إذا كربعد فراره.
________________________________________
[ 344 ]
وفي الآية حذف وإيجاز تفصح عنه الفاء الفصيحة في قوله: " فلمارآها تهتز " والتقدير وألق عصاك فلما ألقاها إذا هي ثعبان مبين يهتز كأنه جان ولما رآها تهتز الخ. ولا منافاة بين يرورة العصا ثعبانا مبينا كما وقع في قصته عليه السلام من سورتي الاعراف والشعراء - والثعبان الحية العظيمة الجثة وبين تشبيهها في هذه السورة بالجان فإن التشبيه إنما وقع في الاهتزاز وسرعة الحركة والاضطراب حيث شاهد العصا وقد تبدلت ثعبانا عظيم الجثة هائل المنظر يهتز ويتحرك بسرعة اهتزاز الجان وتحركه بسرعة وليس تشبيها لنفس العصا أو الثعبان بنفس الجان. وقيل: إن آية العصا كانت مختلفة الظهور فقد ظهرت العصا لاول مرة في صورة الجان كما وقع في سورة طه: " فألقاها فإذا هي حية تسعى " آية 20 من السورة ثم ظهرت لما ألقاها عند فرعون في صورة ثعبان مبين كما في سورتي الاعراف والشعراء. وفيه أن هذا الوجه وإن كان لا يخلو بالنظر إلى سياق الآيات عن وجاهة لكنه لا يندفع به إشكال تشبيه الشئ بنفسه أو عدم تبدلها حية فالمعول في دفع الاشكال على ما تقدم. قوله تعالى: " يموسى لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون " حكاية نفس الخطاب الصادر هناك وهو في معنى قال الله يا موسى لا تخف " الخ ". وقوله: " لا تخف " نهي مطلق يؤمنه عن كل ما يسوء مما يخاف منه ما دام في حضرة القرب والمشافهة سواء كان المخوف منه عصا أو غيرها ولذا علل النهي بقوله: " إني لا يخاف لدي المرسلون فإن تقييد النفي بقوله: " لدي " يفيد أن مقام القرب والحضور يلازم الامن ولا يجامع مكروها يخاف منه، ويؤيده تبديل هذه الجملة في القصة من سورة القصص من قوله: " إنك من الآمنين " فيتحصل المعنى: لا تخف من شئ إنك مرسل والمرسلون - وهم لدي في مقام القرب - في مقام الامن ولا خوف مع الامن. وأما فرار موسى عليه السلام من العصا وقد تصورت بتلك الصورة الهائله وهي تهتز كأنها جان فقد كان جريا منه على ما جبل الله الطبيعة الانسانية عليه إذا فاجأه من المخاطر ما لا سبيل له إلى دفعه عن نفسه إلا الفرار وقد كان أعزل لا سلاح معه إلا
________________________________________
[ 345 ]
عصاه وهي التي يخافها على نفسه ولم يرد عليه من جانبه تعالى أمر سابق يلزم مكانه أو نهي عن الفرار مما يخافه على نفسه إلا قوله تعالى: " وألق عصاك " وقد امتثله، وليس الفرار من المخاطر العظيمة التي لا دافع لها إلا الفرار، من الجبن المذموم حتى يذم عليه. وأما أن الانبياء والمرسلين لا يخافون شيئا وهم عند ربهم - على ما يدل عليه قوله: " إني لا يخاف لدي المرسلون " - فهم لا يملكون هذه الكرامة من عند أنفسهم بل إنما ذلك بتعليم من الله وتأديب وإذ كان موقف ليلة الطور أول موقف من موسى قربه الله إليه فيه وخصه بالتكليم وحباه بالرسالة والكرامة فقوله: " لا تخف إنك من الآمنين " وقوله: " لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون " تعليم وتأديب إلهى له عليه السلام. فتبين بذلك أن قوله: " لا تخف إني لا يخاف لدي المرسلون " تأديب وتربية إلهية لموسى عليه السلام وليس من التوبيخ والتأنيب في شئ قوله تعالى: " إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم " الذي ينبغي أن يقال - والله أعلم - أن الآية السابقة لما أخبرت عن أن المرسلين آمنون لا يخافون فهم منه أن غيرهم من أهل الظلم غير آمنين لهم أن يخافوا استدرك في هذه الآية حال أهل التوبة من جملة أهل الظلم فبين أنهم لتوبتهم وتبديلهم ظلمهم - وهو السوء - حسنا بعد سوء مغفور لهم مرحومون فلا يخافون أيضا. فالاستثناء من المرسلين وهو استثناء منقطع والمراد بالظلم مطلق المعصية وبالحسن بعد السوء التوبة بعد المعصية أو العمل الصالح بعد السئ، والمعنى: لكن من ظلم باقتراف المعصية ثم بدل ذلك حسنا بعد سوء وتوبة بعد معصية أو عملا صالحا بعد سئ فإني غفور رحيم اغفر ظلمه وارحمه فلا يخافن بعد ذلك شيئا. قوله تعالى: " وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء الخ، فسر السوء بالبر ص وقد تقدم، وقوله: " في تسع آيات إلى فرعون وقومه " يمكن أن يستظهر من السياق أولا أن " في تسع " حال من الآيتين جميعا، والمعنى: آتيتك هاتين الآيتين - العصا واليد - حال كونهما في تسع آيات. وثانيا: أن الآيتين من جملة الآيات التسع، وقد تقدم في تفسير قوله تعالى:
________________________________________
[ 346 ]
" ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات " أسرى: 101، كلام في تفصيل الآيات التسع، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين " المبصرة بمعنى الواضحة الجلية، وفي قولهم: " هذا سحر مبين " إزراء وإهانة بالآيات حيث أهملوا الدلالة على خصوصيات الآيات حتى العدد فلم يعبؤا بها إلا بمقدار أنها أمر ما. قوله تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا " الخ، قال الراغب: الجحد نفي ما في القلب إثباته وإثبات ما في القلب نفيه. انتهى. والاستيقان والايقان بمعنى. * * * ولقد آتينا داود وسليمان علما وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين - 15. وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شئ إن هذا لهو الفضل المبين - 16. وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس والطير فهم يوزعون - 17. حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلو امساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون - 18. فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن شكرنعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين - 19. وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين - 20. لا عذبنه عذابا شديدا
________________________________________
[ 347 ]
أو لا ذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين - 21. فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين - 22. إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شئ ولها عرش عظيم - 23. وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون - 24. ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبأ في السموات والارض ويعلم ما تخفون وما تعلنون - 25. ألله لا إله إلا هو رب العرش العظيم - 26. قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين - 27. إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون - 28. قالت يا أيها الملؤ إني ألقي إلي كتاب كريم - 29. إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم - 30. ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين - 31. قالت يا أيها الملؤ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون - 32. قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والامر اليك فانظري ماذا تأمرين - 33. قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون - 34. وإني مرسلة إليهم بهدية فناظره بم يرجع المرسلون - 35. فلما جاء سليمان قال أتمدونن بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون - 36.
________________________________________
[ 348 ]
إرجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ونخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون - 37. قال يا أيها الملؤ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين - 38. قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين - 39. قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد اليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلونئ أشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم - 40. قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون - 41. فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين - 42. وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين - 43. قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين - 44. (بيان) نبذة من قصص داود وسليمان عليهما السلام وفيها شئ من عجائب أخبار سليمان بما آتاه الله من الملك.
________________________________________
[ 349 ]
قوله تعالى: " ولقد آتينا داود وسليمان علما " الخ، في تنكير العلم إلى تفخيم أمره ومما أشير فيه إلى علم داود من كلامه تعالى قوله: " وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب " ص: 20. ومما أشير فيه إلى علم سليمان قوله: " ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما " الانبياء: 79، وذيل الآية، يشملهما جميعا وقوله: " وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين " المراد بالتفضيل إما التفضيل بالعلم على ما ربما يؤيده سياق الآية وإما التفضيل بمطلق ما خصهما الله به من المواهب كتسخير الجبال والطير لداود وتليين الحديد له وإيتائه الملك، وتسخير الجن والوحش والطير وكذا الريح لسليمان وتعليمه منطق الطير وإيتائه الملك على ما يستدعيه إطلاق التفضيل. والآية أعني قوله: " وقالا الحمد لله " الخ، على أي حال بمنزلة حكاية اعترافهما على التفضيل الالهي فيكون كالشاهد على المدعى الذي تشير إليه بشارة صدر السورة أن الله سبحانه سيخص المؤمنين بما تقربه عيونهم ومثلها ما سيأتي من إعترافات سليمان في مواضع من كلامه. قوله تعالى: " وورث سليمان داود " الخ، أي ورثه ماله وملكه، وأما قول بعضهم: المراد به وراثة النبوة والعلم ففيه أن النبوة لا تقبل الوراثة لعدم قبولها الانتقال، والعلم وإن قبل الانتقال بنوع من العناية غير أنه إنما يصح في العلم الفكري الاكتسابي والعلم الذي يختص به الانبياء والرسل كرامة من الله لهم وهبي ليس مما يكتسب بالفكر فغير النبي يرث العلم من النبي لكن النبي لا يرث علمه من نبي آخر ولا من غير نبي. وقوله: " وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير " ظاهر السياق أنه عليه السلام يباهي عن نفسه وأبيه وهو منه عليه السلام تحديث بنعمة الله كما قال تعالى: " وأما بنعمة ربك فحدث " الضحى: 11، وأما إصرار بعض المفسرين على أن الضمير في قوله: " علمنا " و " أوتينا " لنفسه لا له ولابيه على ما هو عادة الملوك والعظماء في الاخبار عن أنفسهم - فإنهم يخبرون عنهم وعن خدمهم وأعوانهم رعاية لسياسة الملك - فالسياق السابق لا يساعد عليه كل المساعدة.
________________________________________
[ 350 ]
والمراد بالناس ظاهر معناه وهو عامة المجتمعين من غير تميز لبعضهم من بعض وقول بعضهم إن المراد بهم عظماء أهل مملكته أو علماؤهم غير سديد. والمنطق والنطق على ما نتعارفه هو الصوت أو الاصوات المؤلفة الدالة بالوضع على معان مقصودة للناطق المسماة كلاما ولا يكاد يقال - على ما ذكره الراغب - إلا للانسان لكن القرآن الكريم يستعمله في معنى أوسع من ذلك وهو دلالة الشئ على معنى مقصود لنفسه، قال تعالى: " وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شئ " حم السجدة: 21، وهو إما من باب تحليل المعنى كما يستعمله القرآن في أغلب المعاني والمفاهيم المقصورة في الاستعمالات على المصاديق الجسمانية المادية كالرؤية والنظر والسمع واللوح القلم والعرش والكرسي وغيرها، وإما لان للفظ معنى أعم وإختصاصه بالانسان من باب الانصراف لكثرة الاستعمال. وكيف كان فمنطق الطير هو ما تدل به الطير بعضها على مقاصدها، والذي نجده عند التأمل في أحوالها الحيوية هو أن لكل صنف أو نوع منها أصواتا ساذجة خاصة في حالاتها الخاصة الاجتماعية حسب تنوع اجتماعاتها كحال الهياج للسفاد وحال المغالبة والغلبة وحال الوحشة والفزع وحال التضرع أو الاستغاثة إلى غير ذلك ونظير الطير في ذلك سائر الحيوان. لكن لا ينبغي الارتياب في أن المراد بمنطق الطير في الآية معنى أدق وأوسع من ذلك. أما أولا: فلشهادة سياق الآية على أنه صلى الله عليه وآله وسلم يتحدث عن أمر اختصاصي ليس في وسع عامة الناس أن ينالوه وإنما ناله بعناية خاصة إلهية، وهذا المقدار المذكور من منطق الطير مما يسع لكل أحد أن يطلع عليه ويعرفه. وأما ثانيا: فلان ما حكاه الله تعالى في الآيات التالية من محاورة سليمان والهدهد يتظمن معارف عالية متنوعة لا يسع لما نجده عند الهدهد من الاصوات المعدودة أن تدل عليها بتميز بعضها من بعض نفي كلام الهدهد ذكر الله سبحانه ووحدانيته وقدرته وعلمه وربوبيته وعرشه العظيم وذكر الشيطان وتزيينه الاعمال والهدى والضلال وغير ذلك، وفيه ذكر الملك والعرش والمرأة وقومها وسجدتهم للشمس، وفي كلام


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page