• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 251 الي 275


[ 251 ]
هو على تقدير مضاف والتقدير فضلت أصحاب أعناقهم خاضعين ها. وهو أسخف الوجوه. قوله تعالى: " وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين " بيان لاستمرارهم على تكذيب آيات الله وتمكن الاعراض عن ذكر الله في نفوسهم بحيث كلما تجدد عليهم ذكر من الرحمن ودعوا إليه دفعه بالاعراض. فالغرض بيان استمرارهم على الاعراض عن كل ذكر أتاهم لا أنهم يعرضون عن محدث الذكر ويقبلون إلى قديمه وفي ذكر صفة الرحمن إشارة إلى أن الذكر الذي يأتيهم إنما ينشأ عن صفة الرحمة العامة التي بها صلاح دنياهم وأخراهم. وقد تقدم في تفسير أول سورة الانبياء كلام في معنى الذكر المحدث فراجع. قوله تعالى: " فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن " تفريع على ما تقدم من استمرار إعراضهم، وقوله: " فسيأتيهم " الخ تفريع على التفريع والانباء جمع نبأ وهو الخبر الخطير، والمعنى لما استمر منهم الاعراض عن كل ذكر يأتيهم تحقق منهم وثبت عليهم أنهم كذبوا، وإذ تحقق منهم التكذيب فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤن من آيات الله، وتلك الانباء العقوبات العاجلة والآجلة التي ستحيق بهم. قوله تعالى: " أو لم يروا إلى الارض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم " الاستفهام للانكار التوبيخي والجملة معطوف على مقدر يدل عليه المقام والتقدير أصروا واستمروا على الاعراض وكذبوا بالآيات ولم ينظروا إلى هذه الازواج الكريمة من النباتات التي أنبتناها في الارض. فالرؤية في قوله: " أو لم يروا " مضمنة معنى النظر ولذا عديت بإلى، والظاهر أن المراد بالزوج الكريم. وهو الحسن على ما قيل: النوع من النبات وقد خلق الله سبحانه أنواعه أزواجا، وقيل: المراد بالزوج الكريم الذي أنبته الله يعم الحيوان وخاصة الانسان بدليل قوله: " والله أنبتكم من الارض نباتا ". قوله تعالى: " إن في ذلك الآية وما كان أكثرهم مؤمنين " الاشارة بذلك إلى ما ذكر في الآية السابقة من إنبات كل زوج كريم حيث أن فيه إيجادا لكل زوج منه وتتميم نقائص كل من الزوجين بالآخر وسوقهما إلى الغاية المقصودة من وجودهما
________________________________________
[ 252 ]
وفيه هداية كل إلى سعادته الاخيرة ومن كانت هذه سنته فكيف يهمل أمر الانسان ولا يهديه إلى سعادته ولا يدعوه إلى ما فيه خير دنياه وآخرته. هذا ما تدل عليه آية النبات. وقوله: " وما كان أكثرهم مؤمنين " أي لم يكن المترقب من حال أكثرهم بما عندهم من ملكة الاعراض وبطلان الاستعداد أن يؤمنوا فظاهر الآية نظير ظاهر قوله: " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل " يونس: 74. وتعليل الكفر والفسوق برسوخ الملكات الرذيله واستحكام الفساد في السريرة من قبل في كلامه تعالى أكثر من أن تحصي. ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: إن المراد ما كان في علم الله أن لا يؤمنوا غير سديد لانه مضافا إلى كونه خلاف المتبادر من الجملة، مما لا دليل على أنه المراد من اللفظ بل الدليل على خلافه السبق الدلالة على أن ملكة الاعراض راسخة لم تزل في نفوسهم. وعن سيبويه أن " كان " في قوله: " وما كان أكثرهم مؤمنين " صلة زائدة والمعنى: وما أكثرهم مؤمنين. وفيه أنه معنى صحيح في نفسه لكن المقام بما تقدم من المعنى أوفق. قوله تعالى: " وإن ربك لهو العزيز الرحيم " فهو تعالى لكونه عزيزا غير مغلوب يأخذ المعرضين عن ذكره المكذبين الآياته المستهزئين بها ويجازيهم بالعقوبات العاجلة والآجلة، ولكونه رحيما ينزل عليهم الذكر ليهديهم ويغفر للمؤمنين به ويمهل الكافرين. (بحث عقلي متعلق بالعلم) قال في روح المعاني في قوله تعالى: " وما كان أكثرهم مؤمنين " قيل: أي وما كان في علم الله تعالى ذلك، واعترض - بناء على أنه يفهم من السياق العليم بأن علمه تعالى ليس علة لعدم إيمانهم لان العلم تابع للمعلوم لا بالعكس.
________________________________________
[ 253 ]
ورد بأن معنى كون علمه تعالى تابعا للمعلوم أن علمه سبحانه في الازل بمعلوم معين حادث تابع لماهيته بمعنى أن خصوصية العلم وامتيازه عن سائر العلوم باعتبار أنه علم بهذه الماهية، وأما وجود الماهية فيما لا يزال فتابع لعلمه تعالى الازلي التابع الماهيته بمعنى أنه تعالى لما علمها في الازل على هذه الخصوصية لزم أن يتحقق ويوجد فيما لا يزال كذلك فنفس موتهم على الكفر وعدم إيمانهم متبوع لعلم الازلي ووقوعه تابع له. انتهى. وهذه حجة كثيرة الورود في كلام المجبرة وخاصة الامام الرازي في تفسيره الكبير يستدلون بها على إثبات الجبرو نفي الاختيار ومحصلها أن الحوادث ومنها أفعال الانسان معلومة لله سبحانه في الازل فهي ضرورية الوقوع وإلا كان علمه جهلا - تعالى عن ذلك - فالانسان مجبر عليها غير مختار. واعترض عليه بأن العلم تابع للمعلوم لا بالعكس وأجيب بما ذكره من أن علمه في الازل تابع الماهية المعلوم لكن المعلوم تابع في وجوده للعلم. والحجة مضافا إلى فساد مقدماتها بناء ومبنى مغالطة بينة. ففيها أولا أن فرض ثبوت ما للماهية في الازل ووجودها فيها لا يزال يقضي بتقدم الماهية على الوجود وأني للماهية هذه الاصالة والتقدم ؟ وثانيا: أن مبنى الحجة وكذا الاعتراض والجواب على كون علمه تعالى بالاشياء علما حصوليا نظير علومنا الحصولية المتعلقة بالمفاهيم وقد أقيم البرهان في محله على بطلانه وأن الاشياء معلومة له تعالى علما حضوريا وعلمه علمان: علم حضوري بالاشياء قبل الايجاد وهو عين الذات وعلم حضوري بها بعد الايجاد وهو عين وجود الاشياء. وتفصيل الكلام في محله. وثالثا: أن العلم الازلي بمعلومه فيما لا يزال إنما يكون علما بحقيقة معنى العلم إذا تعلق به على ما هو عليه أي بجميع قيوده ومشخصته وخصوصياته الوجودية، ومن خصوصيات وجود الفعل أنه حركات خاصة إرادية إختيارية صادرة عن فاعله الخاص مخالفة لسائر الحركات الاضطرارية القائمة بوجوده. وإذا كان كذلك كانت الضرورة اللاحقة للفعل من جهة تعلق العلم به صفة
________________________________________
[ 254 ]
للفعل الخاص الاختياري بما هو فعل خاص اختياري لا صفة للفعل المطلق إذ لا وجود له أي كان من الواجب أن يصدر الفعل عن إرادة فاعله واختياره وإلا تخلف المعلوم عن العلم لا أن يتعلق العلم بالفعل الاختياري ثم يدفع صفة الاختيار عن متعلقه ويقيم مقامها صفة الضرورة والاجبار. فقد وضع في الحجة الفعل المطلق مكان الفعل الخاص فعد ضروريا مع أن الضروري تحقق الفعل بوصف الاختيار نظير الممكن بالذات الواجب بالغير ففي الحجة مغالطة بالخلط بين الفعل المطلق والفعل المقيد بالاختيار. ومن هنا يتبين عدم استقامة تعليل ضرورة عدم إيمانهم بتعلق العلم الازلي به فإن تعلق العلم الازلي بفعل إنما يوجب ضرورة وقوعه بالوصف الذي هو عليه فإن كان اختياريا وجب تحققه اختياريا وإن كان غير اختياري وجب تحققه كذلك. على أنه لو كان معنى قوله: " وما كان أكثرهم مؤمنين " امتناع إيمانهم التعلق العلم الازلي بعدمه لا تخذوه حجة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعدوه عذرا لانفسهم في استنكافهم عن الايمان كما اعترف به بعض المجبرة. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين " حدثني أبي ابن أبي عمير عن أبي عبد الله عليه السلام قال: تخضع رقابهم يعني بنى أمية - وهي الصيحة من السماء باسم صاحب الامر. أقول: وهذا المعنى رواه الكليني في روضة الكافي والصدوق في كمال الدين والمفيد في الارشاد والشيخ في الغيبة، والظاهر أنه من قبيل الجري دون التفسير لعدم مساعدة سياق الآية عليه. * * * وإذ نادى ربك موسى أن ائت القوم الظالمين - 10. قوم
________________________________________
[ 255 ]
فرعون ألا يتقون - 11. قال رب إني أخاف أن يكذبون - 12. ويضيق صدري ولا ينطلق لساني فأرسل إلى هرون - 13. ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون - 14. قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون - 15. فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين - 16. أن أرسل معنا بني إسرائيل - 17. قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين - 18. وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين - 19. قال فعلتها إذا وأنا من الضالين - 20. ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين - 21. وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل - 22. قال فرعون وما رب العالمين - 23. قال رب السموات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين - 24. قال لمن حوله ألا تستمعون - 25. قال ربكم ورب آبائكم الاولين - 26. قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون - 27. قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون - 28. قال لئن اتخذت إلها غيري لا جعلنك من المسجونين - 29. قال أو لو جئتك بشئ مبين - 30. قال فأت به إن كنت من الصادقين - 31. فألقى عصاه فإذا هي ثعبان بين - 32. ونزع يده فإذا هي بيضاء
________________________________________
[ 256 ]
للناظرين - 33. قال للملا حوله إن هذا لساحر عليم - 34. يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون - 35. قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين - 36. يأتوك بكل سحار عليم - 37. فجمع السحرة لميقات يوم معلوم - 38. وقيل للناس هل أنتم مجتمعون - 39. لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين - 40. فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين - 41. قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين - 42. قال لهم موسى ألقوا ما أنتم ملقون - 43. فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون - 44. فألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون - 45. فألقي السحرة ساجدين - 46. قالوا آمنا برب العالمين - 47. رب موسى وهرون - 48. قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون لاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولا صلبنكم أجمعين - 49. قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون - 50. إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين - 51. وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون - 52. فأرسل فرعون في المدائن حاشرين - 53. - إن هؤلاء لشرذمة قليلون - 54. وإنهم لنا
________________________________________
[ 257 ]
لغائظون - 55. وإنا لجميع حاذرون - 56. فأخرجناهم من جنات وعيون - 57. وكنوز ومقام كريم - 58. كذلك وأورثناها بني إسرائيل - 59. فأتبعوهم مشرقين - 60. فلما تراء الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون - 61. قال كلا إن معي ربي سيهدين - 62. فأوحينا إلى موسى أن أضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم - 63. وأزلفنا ثم الآخرين - 64. وأنجينا موسى ومن معه أجمعين - 65. ثم أغرقنا الآخرين - 66. إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين - 67. وإن ربك لهو العزيز الرحيم - 68. (بيان) شروع في ذكر قصص عدة من أقوام الانبياء الماضين موسى وهارون وإبراهيم ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام ليظهر أن قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم سائرون مسيرهم وسيردون موردهم، لا يؤمن أكثرهم فيؤاخذهم الله تعالى بعقوبة العاجل والآجل، والدليل على ذلك ختم كل واحدة من القصص بقوله: " وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم " كما ختم به الكلام الحاكي لاعراض قوم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول السورة، وليس ذلك إلا لتطبيق القصة على القصة. كل ذلك ليتسلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا يضيق صدره ويعلم أنه ليس بدعا من الرسل ولا المتوقع من قومه غير ما عامل به الامم الماضون رسلهم، وفيه تهديد ضمني لقومه
________________________________________
[ 258 ]
ويؤيده تصدير قصة إبراهيم عليه السلام بقوله: " واتل عليهم نبأ إبراهيم ". قوله تعالى: " وإذ نادي ربك موسى - إلى قوله - ألا يتقون " أي واذكر وقتا نادى فيه ربك موسى وبعثه الرسالة إلى قوم فرعون لانجاء بني إسرائيل على ما فصله في سورة طه وغيرها. وقوله: " أن ائت القوم الظالمين " نوع تفسير للنداء، وتوصيفهم أولا بالظالمين ثم بيانه ثانيا بقوم فرعون للاشارة إلى حكمة الارسال وهي ظلمهم بالشرك وتعذيب بني إسرائيل كما في سورة طه من قوله: " إذهبا إلى فرعون إنه طغى - إلى أن قال - فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم " طه: 47. وقوله: " ألا يتقون " بصيغة الغيبة، وهو توبيخ غيابي منه تعالى لهم وإيراده في مقام عقد الرسالة لموسى عليه السلام في معنى قولنا: قل لهم إن ربي يوبخكم على ترك التقوى ويقول: ألا تتقون. قوله تعالى: " قال رب إني أخاف أن يكذبون - إلى قوله - فأرسل إلى هارون "، قال في مجمع البيان: الخوف انزعاج النفس بتوقع الضر ونقيضه الامن وهو سكون النفس إلى خلوص النفع، انتهى. وأكثر ما يطلق الخوف على إحساس الشر بحيث يؤدي إلى الاتقاء عملا وإن لم تضطرب النفس، والخشية على تأثر النفس من توقع الشر بحيث يورث الاضطراب والقلق، ولذا نفى الله الخشية من غيره عن أنبيائه وربما أثبت الخوف فقال: " ولا يخشون أحدا إلا الله " الاحزاب: 39، وقال: " وإما تخافن منهم خيانة " الانفال: 58. وقوله: " إني أخاف أن يكذبون " أي ينسبني قوم فرعون إلى الكذب، وقوله: " ويضيق صدري ولا ينطلق لساني " الفعلان مرفوعان وهما معطوفان على قوله: " أخاف " فالذي اعتل به أمور ثلاثة: خوف التكذيب وضيق الصدر وعدم انطلاق اللسان، وفي قراءة يعقوب وغيره يضيق وينطلق بالنصب عطفا على " يكذبون " وهو أوفق بطبع المعنى، وعليه فالعلة واحدة وهي خوف التكذيب الذي يترتب عليه ضيق الصدر وعدم انطلاق اللسان. ويطابق ما سيجئ من آية القصص من ذكر علة واحدة هي خوف التكذيب
________________________________________
[ 259 ]
وقوله: " فأرسل إلى هارون " أي أرسل ملك الوحي إلى هارون ليكون معينا لى على تبليغ الرسالة يقال لمن نزلت به نائبة أو أشكل عليه أمر: أرسل إلى فلان أي استمد منه واتخذه عونا لك. فالجملة أعني قوله: " فأرسل إلى هارون " متفرعة على قوله: " إني أخاف " الخ، وذكر خوف التكذيب مع ما معه من ضيق الصدرو عدم انطلاق اللسان توطئة وتقدمة لذكرها وسؤال موهبة الرسالة لهارون. وإنما اعتل بما اعتل به وسأل الرسالة لاخيه ليكون شريكا له في أمره، معينا مصدقا له في التبليع لا فرارا عن تحمل أعباء الرسالة، واستعفاء منها، قال في روح المعاني: ومن الدليل على أن المعنى على ذلك لا أنه تعلل وقوع " فأرسل " بين الاوائل وبين الرابعة أعني قوله: " ولهم علي ذنب " الخ، فآذن بتعلقه بها ولو كان تعللا لآخر، انتهى. وهو حسن وأوضح منه قوله تعالى في سورة القصص في القصة: " قال رب إني تلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون، وأخي هارون هو أفصح مني لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني إني أخاف أن يكذبون " القصص: 34. قوله تعالى: " ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون " قال الراغب في المفردات: الذنب في الاصل الاخذ بذنب الشئ يقال: ذنبته أصبت ذنبه، ويستعمل في كل فعل يستوخم عقباه اعتبارا لما يحصل من عاقبته. انتهى. وفي الآية إشارة إلى قصة قتله عليه السلام، وكونه ذنبا لهم عليه إنما هو بالبناء على اعتقادهم أو الاعتبار بمعناه اللغوي المذكور آنفا، وأما كونه ذنبا بمعنى معصية الله تعالى فلا دليل عليه وسيوافيك فيه كلام عند تفسير سورة القصص إن شاء لله تعالى. قوله تعالى: " قال كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون " كلا للردع وهو متعلق بما ذكره من خوف القتل، ففيه تأمين له وتطييب لنفسه أنهم لا يصلون إليه، وأما سؤاله الارسال إلى هارون فلم يذكر ما أجيب به عنه، غير أن قوله: " فاذهبا بآياتنا " دليل على إجابة مسؤله. وقوله: " فاذهبا بآياتنا " متفرع على الردع فيفيد أن اذهبا إليه بآياتنا ولا تخافا،
________________________________________
[ 260 ]
وقد علل ذلك بقوله: " إنا معكم مستمعون " والمراد بضمير الجمع موسى وهارون والقوم الذين أرسلا إليهم، ولا يعبؤ بقول من قال: إن المراد به موسى وهارون بناء على كون أقل الجمع اثنين فإنه مع فساده في أصله لا تساعد عليه ضمائر التثنية قبله وبعده كما قيل. والاستماع هو الاصغاء إلى الكلام والحديث وهو كناية عن الحضور وكمال العناية بما يجري بينهما وبين فرعون وقومه عند تبليغ الرسالة كما قال في القصة من سورة طه: " لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " طه: 46. ومحصل المعنى: كلا لا يقدرون على قتلك فاذهبا إليهم بآياتنا ولا تخافا إنا حاضرون عند كم شاهدون عليكم معتنون بما يجري بينكم. قوله تعالى: " فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل " بيان لقوله في الآية السابقة: " فاذهبا إليهم بآياتنا ". وقوله: " فقولا إنا رسول رب العالمين " تفريع على إتيان فرعون، والتعبير بالرسول بلفظ المفرد إما بإعتبار كل واحد منهما أو باعتبار كون رسالتا واحدة وهي قولهما: " أن أرسل " الخ، أو بإعتبار أن الرسول مصدر في الاصل فالاصل أن يستوي فيه الواحد والجمع، والتقدير إنا ذوا رسول رب العالمين أي ذوا رسالته كما قيل. وقوله: " أن أرسل معنا بني إسرائيل " تفسير للرسالة المفهومة من السياق والمراد بإرسالهم إطلاقهم لكن لما كان المطلوب أن يعودوا إلى الارض المقدسة التي كتب الله لهم وهي أرض آبائهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب ع سمي إطلاقهم ليعودوا إليها إرسالا منه لهم إليها. قوله تعالى: " قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين " الاستفهام للانكار التوبيخي، و " نربك " من التربية، والوليد الصبي. لما أقبل فرعون على موسى وهارون وسمع كلامهما عرف موسى وخصه بالخطاب قائلا ألم نربك الخ، ومراده الاعتراض عليه أولا من جهة دعواه الرسالة يقول: أنت الذي ربيناك وأنت وليدو لبثت فينا من عمرك سنين عديدة نعرفك باسمك ونعتك ولم ننس شيئا من أحوالك فمن أين لك هذه الرسالة وأنت من نعرفك ولا نجهل أصلك ؟
________________________________________
[ 261 ]
قوله تعالى: " وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " الفعلة بفتح الفاء بناء مرة من الفعل، وتوصيف الفعلة بقوله: " التي فعلت " للدلالة على عظم خطره وكثرة شناعته وفظاعته نظير ما في قوله: " فغشيهم من اليم ما غشيهم " طه: 78، ومراده بهذه الفعلة قتله عليه السلام القبطي. وقوله: " وأنت من الكافرين " ظاهر السياق على ما سيأتي الاشارة إليه أن مراده بالكفر كفران النعمة وأن قتله القبطي وفساده في أرضه كفران لنعمته عليه بالخصوص بما له عنده من الصنيعة حيث كف عن قتله كسائر المواليد من بني إسرائيل ورباه في بيته بل لانه من بني إسرائيل وهو يراهم عبيدا لنفسه ويرى نفسه ربا منعما عليهم فقتل الواحد منهم رجلا من قومه وإفساده في الارض خروج من طور العبودية وكفر بنعمته. فمحصل اعتراضه المشار إليه في الآيتين أنك الذي ربيناك صبيا صغيرا ولبثت فينا من عمرك سنين، وأفسدت في الارض بقتل النفس فكفرت بنعمتي وأنت من عبيدي الاسرائيليين فمن أين جاءتك هذه الرسالة ؟ وكيف تكون رسولا وأنت هذا الذي نعرفك ؟. وبذلك يظهر عدم إستقامة تفسير بعضهم الكفر بالكفر المقابل للايمان، وأن المعنى وأنت من الكافرين بالوهيتي أو أنت من الكافرين بالله على زعمك حيث خالطتنا سنين وأنت في ملتنا، وكذا قول بعضهم: إن المراد وأنت من الكافرين بنعمتي عليك خاصة. قوله تعالى: " قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بني إسرائيل " ضمير " فعلتها " راجع إلى الفعلة، والظاهر أن " إذا " مقطوع عن الجواب والجزاء ويفيد معنى حينئذ كما قيل، وعبده تعبيدا وأعبده إعبادا إذا اتخذه عبد النفسه. والآيات الثلاث جواب موسى عليه السلام عما اعترض به فرعون، والتطبيق بين جوابه ع وما اعتراض به فرعون يعطي أنه عليه السلام حلل كلام فرعون إلى القدح في دعواه الرسالة من ثلاثة أوجه: أحدها استغراب رسالته واستبعادها وهو الذي يعلم حاله
________________________________________
[ 262 ]
وقد أشار إليه بقوله: " ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين " والثاني استقباح فعلته ورميه بالافساد والجرم بقوله: " وفعلت فعلتك التي فعلت " والثالث المن عليه بأنه من عبيده ويستفاد ذلك من قوله: " وأنت من الكافرين " وقد اقتضى طبع ما يذكره في الجواب أن يغير الترتيب في الجواب فيجيب أولا عن اعتراضه الثاني ثم عن الاول ثم عن الثالث. فقوله: " فعلتها إذا وأنا من الضالين " جواب عن اعتراضه بقتل القبطي وقد استعظمه حيث لم يصرح باسمه بل كنى عنه بالفعلة التي فعلت صونا للاسماع أن تقرع باسمه فتتألم. والتدبر في متن الجواب ومقابلته الاعتراض يعطي أن قوله: " ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما " من تمام الجواب عن القتل فيتقابل الحكم والضلال ويتضح حينئذ أن المراد بالضلال الجهل المقابل للحكم والحكم إصابة النظر في حقيقة الامر وإتقان الرأي في تطبيق العمل عليه فيرجع معناه إلى القضاء الحق في حسن الفعل وقبحه وتطبيق العمل عليه، وهذا هو الذي كان يؤتاه الانبياء، قال تعالى: " وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ". فالمراد أني فعلتها حينئذ والحال أني في ضلال من الجهل بجهة المصلحة فيه والحق الذي يجب أن يتبع هناك فأقدمت على الدفاع عمن استنصرني ولم أعلم أنه يؤدي إلى قتل الرجل ويؤدي ذلك إلى عاقبة وخيمة تحوجني إلى خروجي من مصر وفراري إلى مدين ولتغرب عن الوطن سنين. ومن هنا يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالضلال الجهل بمعنى الاقدام على الفعل من غير مبالاة العواقب كما في قوله: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا وكذا قول بعض آخر: إن المراد بالضلال المحبة كما فسر به قول بني يعقوب لابيهم: " تالله إنك في ضلالك القديم " أي في محبتك القديمة ليوسف، فالمعنى: فعلتها حينئذ وأنا من المحبين لله لا ألوي عن محبته إلى شئ. أما الوجه الاول ففيه أنه اعتراف بالجرم والمعصية، وآيات سورة القصص ناصة
________________________________________
[ 263 ]
على أن الله سبحانه آتاه حكما علما قبل واقعة القتل وهذا لا يجامع الضلال بهذا المعنى من الجهل. وأما الوجه الثاني ففيه مضافا إلى عدم مساعدة السياق: أن من الممتنع من أدب القرآن أن يسمي محبة الله سبحانه ضلالا. وأما قول: القائل إن المراد بالضلال الجهل بمعنى عدم التعمد وأنه إنما فعل ذلك جاهلا به غير متعمد إياه فإنه عليه السلام إنما تعمد وكز القبطي للتأديب فأدي إلى ما أدي. وكذا قول القائل: إن المراد بالضلال الجهل بالشرائع كما فسر به بعضهم قوله: " ووجدك ضالا فهدى ". وكذا قول القائل: إن المراد بالضلال النسيان كما فسر به قوله تعالى: " أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الاخرى " البقرة: 282. وأن المعنى فعلتها ناسيا حرمتها أو ناسيا أن الوكز مما يفضي إلى القتل عادة. فوجوه يمكن أن يوجه كل منها بما يرجع به إلى ما قدمناه. وقوله: " ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما " متفرع على قصة القتل، والسبب في خوفه وفراره ما أخبر الله به في سورة القصص بقوله: " وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفا يترقب " القصص: 21. وأما الحكم فالمراد به - كما استظهرناه - إصابة النظر في حقيقة الامر وإتقان الرأي في العمل به. فإن قلت: صريح الآية أن موهبة الحكم كانت بعد واقعة القتل ومفاد آيات سورة القصص أنه عليه السلام أعطي الحكم قبلها، قال تعالى: " ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين، ودخل المدينة " الخ، القصص: 15، ثم ساق القصة وذكر القتل والفرار. قلت: إنما ورد لفظ الحكم ههنا وفي سورة القصص منكرا وهو مشعر بمغايرة كل منهما الآخر وقد ورد في خصوص التوراة أنها متضمنة للحكم، قال تعالى:
________________________________________
[ 264 ]
" وعندهم التوراة فيها حكم الله " المائدة: 43، وقد نزلت التوراة بعد غرق فرعون وإنجاء بني إسرائيل. فمن الممكن أن يقال: إن موسى عليه السلام أعطي مراتب من الحكم بعضها فوق بعض قبل قتل القبطي وبعد الفرار قبل العود إلى مصر وبعد غرق فرعون، وقد خصه الله في كل مرة بمرتبة من الحكم حتى تمت له الحكمة بنزول التوراة، وهذا بحسب التمثيل نظير ما يرزق بعض الناس أو ان صباه سلامة في فطرته قلما يميل معها طبعه إلى الشر والفساد ثم إذا نشأ يعطي اعتدالا في التعقل وجودة في التدبير فينبعث إلى اكتساب الفضائل فيرزق ملكة التقوى والصفات الثلاث في الحقيقة سنخ واحد ينمو ويزيد حالا بعد حال. ويظهر بما تقدم عدم استقامة تفسير بعضهم الحكم بالنبوة لعدم دليل عليه من جهة اللفظ ولا المقام. على أن الله سبحانه ذكر الحكم والنبوة في مواضع من كلامه وفرق بينهما كقوله: " أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة " آل عمران: 79، وقوله: " أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة " الانعام: 89، وقوله: " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة " الجاثية: 16 إلى غير ذلك. وقوله: " وجعلني من المرسلين " جواب عن الاعتراض الاول وهو استغراب رسالته واستبعادها وهم يعرفونه، وقد شاهدوا أحواله حينما كانوا يربونه فيهم وليدا ولبث فيهم من عمره سنين، وتقريره أن استغرابهم واستبعادهم رسالته استنادا إلى سابق معرفتهم بحاله إنما يستقيم لو كانت الرسالة أمرا اكتسابيا يمكن أن يحدس به أو يتوقع حصوله بحصول مقدماته الا ختيارية، وليس الامر كذلك بل هي أمر وهبي لا تأثير للاسباب العادية فيها وقد جعله الله من المرسلين كما وهب له الحكم بغير اكتساب هذا ما يعطيه التدبر في السياق. وأما ما ذكروه من أن قوله: " ألم نربك فينا وليدا " الخ، مسوق للمن على موسى عليه السلام دون الاستغراب والاستبعاد كما ذكرناه، فالآية في نفسها وإن لم تأب الحمل على ذلك لكن سياق مجموع الجواب لا يساعد عليه، وذلك أن فيه إفساد السياق
________________________________________
[ 265 ]
من حيث يتعين أن يجعل قوله: " وتلك نعمة تمنها علي " الخ، جوابا عن المن وهو لا ينطبق عليه، ويجعل قوله: " فعلتها إذا " الخ، جوابا عن الاعتراض بالقتل، ويبقى قوله: " وجعلني من المرسلين " فضلا لا حاجة إليه فافهم ذلك. وقوله: " وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل " جواب عن منه عليه وتقريعه بأنه من عبيده وقد كفر نعمته وتقرير الجواب أن هذا الذي تعده نعمة وتقرعني بكفرانها سلطة ظلم وتغلب إذ عبدت بني إسرائيل والتعبيد ظلما وتغلبا ليس من النعمة في شئ. فالجملة استفهامية مسوقة للانكار و " أن عبدت بني إسرائيل " بيان لما أشير إليه بقوله: " تلك " والمحصل أن الذي تشير إليه بقولك: " وأنت من الكافرين " من أن لك على نعمة كفرتها إذ كنت ولي نعمتي وسائر بني إسرائيل - أو إذ كنت ولي نعمتنا معشر بني إسرائيل - ليس بحق إذ كونك وليا منعما ليس إلا استنادا إلى التعبيد، والعبيد ظلم والولاية المستندة إليه أيضا ظلم وحاشا أن يكون الظالم وليا منعما له على من عبده نعمة وإلا كان التعبيد نعمة وليس نعمة، ففي قوله: " أن عبدت بني إسرائيل " وضع السبب موضع المسبب. والقوم حللوا كلام فرعون: " ألم نربك " الخ، إلى اعتراضين - كما أشرنا إليه - المن عليه بتربيته وليدا وكفرانه النعمة وإفساده في الارض بقتل القبطي فأشكل عليهم الامر من جهتين - كما أشرنا إليه. إحداهما صيرورة قوله: " وجعلني من المرسلين " فضلا لا حاجة إليه في سوق الجواب. والثانية: عدم صلاحية قوله: " وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل " جوابا عن منه على موسى عليه السلام بتربيته في بيته وليدا. وقد ذكروا في توجيهه وجوها: منها: أنه مسوق للاعتراف بأن تربيته لموسى كانت نعمة عليه وإنكار أن يكون ترك استعباده نعمة وهمزة الانكار مقدرة فكأنه يقول: أو تلك نعمة تمنها علي أن
________________________________________
[ 266 ]
عبدت بني إسرائيل ولم تعبدني هذا، وأنت ترى أن فيه تقديرا لما لا دليل عليه من جهة اللفظ ولا إشارة. ومنها: أنه إنكار لاصل النعمة عليه لمكان تعبيده بني إسرائيل كأنه يقول: إن تربيتك لي ليست نعمة يمن بها علي لانك عبدت قومي فأحبطت به عملك فقوله: " أن عبدت " الخ في مقام التعليل للانكار هذا، وهذا الوجه وإن كان أقرب إلى الذهن من سابقة لكن هذا الجواب غير تام معنى فإن تعبيده لبني إسرائيل لا يغير حقيقة ما له من الصنيعة عند موسى في تربيته وليدا. ومنها: أن المعني أن هذه النعمة التي تمن بها علي من التربية إنما سببه ظلمك بني إسرائيل بتعبيدهم فاضطرت أمي لذلك أن ألقتني في أليم فأخذتني فربيتني فإذ كانت هذه التربية مسببة عن ظلمك بالتعبيد فليست بنعمة هذا والشأن في إستفادة هذا المعنى من لفظ الآية. ومنها: أن الذي رباني أمي وغيرها من بني إسرائيل حيث استعبدتهم فأمرتهم فربوني فليست هذه التربية نعمة منك تمنها علي لانتهائها إلى التعبيد ظلما هذا، وهذا الوجه أبعد من سابقة من لفظ الآية. ومنها: أن ذلك اعتراف منه عليه السلام بنعمة فرعون عليه والمعنى وتلك التربية نعمة منك تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل وتركت تعبيدي هذا وأنت خبير بأن لا دليل على ما قدره من قوله: وتركت تعبيدي. قوله تعالى: " قال فرعون وما رب العالمين - إلى قوله - من المسجونين " لما كلم فرعون موسى عليه السلام في معني رسالته قادحا فيها فتلقى الجواب بما كان فيه إفحامه أخذ يكلمه في خصوص مرسله وقد أخبره أن الذي أرسله هو رب العالمين فراجعه فيه واستوضحه بقوله: " وما رب العالمين " ؟ إلى تمام سبع آيات. واتضاح المراد منها يتوقف على تذكر أصول مذاهب الوثنية في أمر الربوبية وقد تقدمت الاشارة إليها في خلال الابحاث السابقة من هذا الكتاب كرارا. فهؤلاء يرون أن وجود الاشياء ينتهي إلى موجد واجب الوجود هو واحد لا شريك له في وجوب وجوده هو أجل من أن يحده حد في وجوده وأعظم من يحيط
________________________________________
[ 267 ]
به فهم أو يناله إدراك، ولذلك لا يجوز عبادته لان العبادة نوع توجه إلى المعبود والتوجه إدراك. ولذلك بعينه عدلوا عن عبادته والتقرب إليه إلى التقرب إلى أشياء من خلقه ذوي وجودات شريفة نورية أو نارية، هي مقربة إليه فانية فيه من الملائكة والجن والقديسين من البشر المتخلصين من ألواث المادة الفانين في اللاهوت الباقين بها ومنهم الملوك العظام أو بعضهم عند قدماء الوثنية وكان من جملتهم فرعون وموسى وبالجملة كانوا يعبدونهم بعبادة أصنامهم ليقربوهم إلى الله زلفي ويشفعوا لهم بمعني أن يفيضوا إليهم من الخير الذي يفيض عنهم كما في الملائكة أولا يصيبوهم بالشر الذي يترشح عنهم كما في الجن فإن كلا من هؤلاء المعبودين يرجع إليه تدبير أمر من أمور العالم الكلية كالحب والبغض والسلم والجرب والرفاهية وغيرها أو صقع من أصقاعه كالسماء والارض والانسان ونحوها. فهناك أرباب وآلهة يتصرف كل منهم في العالم الذي يرجع إليه تدبيره كإله عالم الارض وإله عالم السماء وهؤلاء هم الملائكة والجن وقديسون البشر، وإله عالم الآلهة وهو الله سبحانه فهو إله الآلهة ورب الارباب. إذا عرفت ما ذكرناه بان لك أن لا معنى صحيحا لقولنا: رب العالمين عند الوثنيين نظرا إلى أصولهم إذلو أريد به بعض هذه الموجودات الشريفة لممكنة بأعيانهم فهو رب عالم من عوالم الخلقة وهو العالم الذي يباشر التصرف فيه كعالم السماء وعالم الارض مثلا ولو أريد به الله سبحانه فهو رب عالم الارباب وإله عالم آلهة فقط دون جميع العالمين ولو اريد غير الطائفتين من الرب الواجب الوجود والارباب الممكنة الوجود فلا مصداق له معقولا. فقوله: " قال فرعون وما رب العالمين " سؤال منه عن حقيقة رب العالمين بيانه أن فرعون كان وثنيا يعبد الاصنام وهو مع ذلك يدعي الالوهية، أما عبادته الاصنام فلقوله تعالى: " ويذرك وآلهتك " الاعراف: 127، وأما دعواه الالوهية فللآية المذكورة ولقوله تعالى: " فقال أنا ربكم الاعلى " النازعات: 24. ولا منافاة عند الوثنية بين كون الشئ إلها ربا وبين كونه مربوب الرب آخر لان
________________________________________
[ 268 ]
الربوبية هو الاستقلال في تدبير شئ من العالم وهو لا ينافي الامكان والمربوبية لشئ آخر وكل رب عندهم مربوب الآخر إلا الله سبحانه فهو رب الارباب لا رب فوقه وإله الآلهة لا إله له. وكان الملك عند الوثنية ظهورا من اللاهوت في بعض النفوس البشرية بالسلطة ونفوذ الحكم فكان يعبد الملوك كما يعبد أرباب الاصنام وكذلك رؤساء البيوت في بيوتهم، وكان فرعون وثنيا يعبد الآلهة وهو ملك القبط يعبده قومه كسائر الآلهة. فلما سمع من موسى وهارون قولهما: " إنا رسول رب العالمين " تعجب منه إذ لم يعقل له معنى محصلا إذ لو أريد به الواجب وهو الله سبحانه فهو عنده رب عالم الارباب دون جميع العالمين ولو أريد به بعض الممكنات الشريفة من الآلهة كبعض الملائكة وغيرهم فهو أيضا عنده رب عالم من عوالم الخلقة دون جميع العالمين فما معنى رب العالمين. ولذلك قال: " وما رب العالمين " فسأل عن حقيقة الموصوف بهذه الصفة بما هو موصوف بهذه الصفة لم يسأل عن حقيقة لله سبحانه فإنه لوثنيتة كان معتقدا بوجوده مذعنا له وهو يرى كسائر الوثنيين أنه لا سبيل إلى إدراك حقيقتة كيف ؟ وهو أساس مذهبهم الذي يبنون عليه عبادة سائر الآلهة والارباب كما سمعت. وقوله: " قال رب السماوات والارض وما بينهما إن كنتم موقنين " جواب موسى عليه السلام عن سؤاله: " وما رب العالمين " وهو خبر لمبتدأ محذوف، ومحصل المعنى على ما يعطيه المطابقة بين السؤال والجواب: هو رب السماوات والارض وما بينهما التي تدل بوجود التدبير فيها وكونه تدبيرا واحد متصلا مرتبطا على أن لها مدبرا - ربا - واحدا على ما يراه الموقنون السالكون سبيل اليقين من البرهان والوجدان. وبتعبير آخر مرادى بالعالمين السماوات والارض وما بينهما التي تدل بالتدبير الواحد الذي فيها على أن لها ربا مدبرا واحدا، ومرادي برب العالمين ذلك الرب الواحد الذي تدل عليه وهذه دلالة يقينيه يجدها أهل اليقين الذين يتعاطون البرهان والوجدان. فإن قلت: لم يطلب فرعون من موسى عليه السلام إلا أن يعرفه ما هذا الذي يسميه
________________________________________
[ 269 ]
رب العالمين ؟ وما حقيقته ؟ لكونه غير معقول عنده فلم يسأل إلا التصور فما معنى قوله: " إن كنتم موقنين " واليقين علم تصديقي لا توقف للتصور عليه أصلا. على أنه عليه السلام لم يأت في جواب فرعون بشئ غير أنه وضع لفظ السماوات والارض وما بينهما موضع لفظ العالمين فكان تفسيرا للفظ الجمع بأسماء آحاده كتفسير الرجال بزيد وعمرو وبكر فلم يفد بالآخرة إلا التصور الاول ولا تأثير لليقين في ذلك. قلت: كون فرعون يسأله أن يصور له " رب العالمين " تصويرا مسلم لا شك فيه لكن موسى بدل القول بوضع " السماوات والارض وما بينهما " مكان العالمين وهو يدل على إرتباط بعض الاجزاء ببعض والاتصال بينها بحيث يؤدي إلى وحدة التدبير الواقع فيها والنظام الجاري عليها ثم قيده بقوله: " إن كنتم موقنين " ليدل على أن أهل اليقين يصدقون من ذلك بوجود مدبر واحد لجميع العالمين. فكأنه قيل له: ما تريد برب العالمين ؟ فقال: أريد به ما يريده أهل اليقين إذ يستدلون بإرتباط التدبير وإتصاله في عوالم السماوات والارض وما بينهما على أن لجميع هذه العوالم مدبرا واحدا وربا لا شريك له في ربوبيته لها وإذ كانوا يصدقون بوجود رب واحد للعالمين فهم يتصورونه بوجه تصورا إذ لا معنى للتصديق بلا تصور. وبعبارة موجزة: رب العالمين هو الذي يوقن الموقنون بربوبيته لجميع السماوات والارض وما بينهما إذا نظروا إليها وشاهدوا وحدة التدبير الذي فيها. والاحتجاج بتحقق التصديق على تحقق التصور قبله أقوى ما يمكن أن يحتج به على أنه تعالى مدرك بوجه ومتصور تصورا صحيحا وإن استحال أن يدرك بكنهه ولا يحيطون به علما. ود ظهر بذلك كله أولا: أن الجواب إنما هو بإحالته في مسؤله إلى ما يتصوره منه الموقنون إذ يصدقون بوجوده. وثانيا: أن الذي أشير إليه من الحجة في الآية هو البرهان على توحيد الربوبية المأخوذ من وحدة التدبير إذ هو الذي يمسه الحاجة قبال الوثنية المدعين للشركاء في الربوبية. وبذلك يظهر فساد ما ذكروا أن العلم بحقيقة الذات لما كان ممتنعا عدل موسى
________________________________________
[ 270 ]
عليه السلام عن تعريف الحقيقة بالحد إلى تعريفه تعالى بصفاته فقال رب السماوات والارض وما بينهما وأشار بقوله: إن كنتم موقنين " إلى دلالتها بحدوثها على أن محدثها ذات واحدة واجبة الوجود لا يشاركها في وجوب وجودها شئ غيرها. وجه الفساد ما عرفت أن الوثنية قائلون باستحالة العلم بحقيقة الذات وكنهها، وأن الموجد ذات واجبة الوجود لا يشاركها في وجوب وجودها غيره، وأن الآلهة من دون الله موجودات ممكنة الوجود كل منها مدبر لجهة من جهات العالم وهي جميعا مخلوقة لله فما قرروه في معنى الآية لا يجدي في مقام المخاصمة معهم شيئا. وقوله: " قال لمن حوله ألا تستمعون " أي ألا تصغون إلى ما يقول موسى ؟ والاستفهام للتعجيب يريد أن يصغوا إليه تعجبوا من قوله حيث يدعي رسالة رب العالمين وإذ اسئل ما رب العالمين ؟ أعاد الكلمة ثانيا ولم يزد على ما بدأ به شيئا. وهذا تمويه منه عليهم يريد به الستر على الحق الذي لاح من كلام موسى عليه السلام فإنه إنما قال: إن جميع العالمين تدل بوحدة التدبير الذي يشاهده أهل اليقين فيها علي أن لها ربا مدبرا واحدا هو الذي تسألني عنه، وهو يفسر كلامه أنه يقول: أنا رسول رب العالمين، فإذا سألته ما رب العالمين ؟ يجيبني بأنه رب العالمين. وبما تقدم بان عدم سداد قولهم في تفسير هذا التعجيب إن مراده أني سألته عن الذات فأجاب بالصفة وذلك أن السؤال إنما هو عن الذات من حيث صفته على ما تقدم بيانه، ولم يفسر موسى الذات بالوصف بل غير قوله: رب العالمين إلى قوله: " رب السماوات والارض " فوضع ثانيا قوله: " السماوات والارض " مكان قوله أولا: " العالمين " كأنه يومي إلى أن فرعون لم يفهم معنى العالمين. وقوله: " قال ربكم ورب آبائكم الاولين " جواب موسى عليه السلام ثانيا فإنه لما رأي تمويه فرعون على من قوله وقد كان أجاب عن سؤاله " وما رب العالمين " بتفسير العالمين من العالم الكبير كالسماوات والارض وما بينهما عدل ثانيا إلى ما يكون أصرح في المقصود فذكر ربوبيته تعالى لعالمي الانسانية فإن العالم الجماعة من الناس أو الاشياء فعالموا الانسان هو الجماعات من الحاضرين والماضين ولذلك قال: " ربكم ورب آبائكم الاولين ".
________________________________________
[ 271 ]
فإن فرعون ما كان يدافع في الحقيقة إلا عن نفسه لما كان يدعي الالوهية فكان يحتال في أن يبطل تعلق ربوبية الرب به في ضمن تعلقه بالعالمين الستلزام ذلك بطلان ربوبية الارباب وهو من جملتهم وإن كان يرى أنه أعلاهم وأهمهم كما حكي الله تعالى عنه: " فقال أنا ربكم الاعلى " النازعات: 24. " وقال فرعون يا أيها الملا ما علمت لكم من إله غيري " القصص: 38. فكأنه كان يقول: إن أردت برب العالمين الله تعالى فهو رب الارباب لا غير وإن أردت غيره من الآلهة فكل منهم رب عالم خاص فما معنى رب العالمين ؟ فأجاب موسى بما حاصله أن ليس في الوجود إلا رب واحد فيكون رب العالمين فهو ربكم وقد أرسلني اليكم. وكان محصل تمويه فرعون أن موسى لم يجبه بشئ إذ كرر اللفظ فأجابه موسى ثانيا بالتصريح على أن رب العالمين هو رب عالمي الانسانية من الحاضرين والماضين وبذلك تنقطع حيلته. وقوله: " قال إن رسولكم الذي أرسل اليكم لمجنون " قول فرعون ثانيا وقد سمي موسى رسولا تهكما واستهزاء وأضافه إلى من حوله ترفعا من أن يكون رسولا إليه، وقد رماه بالجنون مستندا إلى قوله عليه السلام: " ربكم ورب آبائكم " الخ. كأنه يقول: إنه لمجنون لما في كلامه من الاختلال الكاشف عن الاختلال في تعقله يدع رسالة رب العالمين فأساله ما رب العالمين ؟ فيكرر اللفظ تقريبا أولا ثم يفسره بأنه ربكم ورب آبائكم الاولين. وقوله: " قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون " ظاهر السياق أن المراد بالمشرق جهة شروق الشمس وسائر الاجرام النيرة السماوية وطلوعها و بالمغرب الجهة التي تغرب فيها بحسب الحس، وبما بينهما ما بين الجهتين فيشمل العالم المشهود ويساوي السماوات والارض وما بينهما. فيكون إعادة المعنى الجواب الاول بتقرير آخر وهو مشتمل على ما اشتمل عليه من نكتة إتصال التدبير واتحاده فإن للشروق إرتباطا بالغروب والمشرق والمغرب يتحققان طرفين لوسط بينهما، كما أن للسماء أرضا ولهما أمر بينهما وهذا النوع من الاتحاد
________________________________________
[ 272 ]
لا يقبل إلا تدبيرا متصلا واحدا، وكما أن كل أمة حاضرة لها ارتباط وجودي بالامم الماضية ارتباط الاخلاف بالاسلاف فالنوع واحد والتدبير واحد فالمدبر واحد. وقد بدل قوله في الجواب الاول: " إن كنتم موقنين " من قوله ههنا: " إن كنتم تعقلون " تعريضا له حيث قال لمن حوله: " ألا تستمعون " استهزاء به وإهانة له، ثم رماه ثانيا بالجنون واختلال الكلام فأشار عليه السلام بقوله: " إن كنتم تعقلون " إلى أنهم هم المحرومون من نعمة التعقل والتفقه ولو كانوا يعقلون لفهموا أن جوابه الاول ليس بتكرار غير مفيد ولكفاهم حجة على توحيدا لرب وأن القائم بتدبير جميع العالمين من السماوات والارض وما بينهما مدبر واحد لا مدبر سواه ولا رب غيره. وقد تبين بما ذكر أن الآية أعني قوله: " رب المشرق " الخ، تقرير آخر لقوله في الجواب الاول: " رب السماوات والارض وما بينهما " وأنه برهان على وحدة المدبر من طريق وحدة التدبير وفي ذلك تعريف لرب العالمين بأنه المدبر الواحد الذي يدل عليه التدبير الواحد في جميع العالمين، نعم البيان الذي يشير إليه هذه الآية أوضح لاشتماله على معنى الشروق والغروب وكونهما من التدبير ظاهر. وقد ذكروا أن الحجج المودعة في الآيات حجج على وحدانية ذات الواجب بالذات ونفي الشريك في وجوب الوجود وقد تقدم عدم استقامته البتة. وقوله: " قال لئن اتخذت إلها غيري لا جعلنك من المسجونين " تهديد منه لموسى عليه السلام لو دام على ما يقول به من ربوبية رب العالمين مدعيا أنه رسول منه وهذا دأب الجاهل المعاند إذا انقطعن الحجة أخذ في التهديد وتشبث بالوعيد. واتخاذ إله غيره كناية عن القول بربوبية رب العالمين الذي يدعو إليه موسى وإنما لم يذكره صونا للسانه عن التفوه باسمه، ولم يعبأ بسائر الآلهة التي كانوا يعبدونها استكبارا وعلوا، وكأن السجن كان جزاء المعرضين عنه المنكرين لالوهيته. والظاهر أن اللام في المسجونين للعهد، والمعنى: لودمت على ما تقول لا جعلنك في زمرة الذين في سجني على ما تعلم من سوء حالهم وشدة عذابهم، ولهذا لم يعدل عن هذا التعبير إلى مثل قولنا: لا سجننك مع اختصاره. قوله تعالى: " قال أولو جئتك بشئ مبين " القائل هو موسى عليه السلام والمراد
________________________________________
[ 273 ]
بشئ مبين شئ يبين ويظهر صحة دعواه وهو آية الرسالة التي تدل على صحة دعوى الرسالة من مدعية فإن الآية المعجزة إنما تدل على صدق الرسول في دعواه الرسالة وأما المعارف الالهية التي يدعو إليها كالتوحيد والمعاد وما يتعلق بهما فالسبيل إلى إثباته الحجة البرهانية وعلى ذلك كانت تجري سيرة الانبياء في دعوتهم وقد تقدم كلام فيه في الجزء الاول من الكتاب. والمعنى: قال موسى: أتجعلني من المسجونين ولو أتيتك بشئ يوضح صدقي فيما ادعيت من الرسالة. قوله تعالى: " قال فأت به إن كنت من الصادقين " القائل فرعون وقد فرع أمره بإتيانه على استفهام موسى المشعر بأنه يدعي أن عنده شيئا مبينا ولذا قيد الامر بالاتيان بقوله: " إن كنت من الصادقين " أي إن كنت صادقا في أن عندك شيئا كذلك. قوله تعالى: " فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين " هاتان الآيتان اللتان أوتيهما موسى ليلة الطور، والثعبان: الحية العظيمة وكونه مبينا ظهور واقعيته بحيث لا يرتاب فيه، والمراد بنزع يده نزعه من جيبه بعد وضعها فيه كما في سورتي: النمل الآية 12 والقصص الآية 32. قوله تعالى: " قال للملا حوله إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره فماذا تأمرون " القائل فرعون وقد قال لموسى: " فأت به إن كنت من الصادقين " رجاء أن يأتي بأمر فيه موضع معارضة ومناقشة فلما أتى بما لا مغمض فيه لم يجد بدا دون أن يبهت بأنه ساحر عليم. ولذا اتبع رميه بالسحر بقوله: " يريد أن يخرجكم من أرضكم بسحره " إغراء لهم عليه وحثا لهم على أن يتفقوا معه على دفعه بأي وسيلة ممكنة. وقوله: " فماذا تأمرون " لعل المراد بالامر الاشارة عليه لما أن المشير يشير على من يستشيره بلفظ الامر فالمعنى إذا كان الشأن هذا فماذا تشيرون علي أن أعامله به حتى أعمل به وذلك أنه كان يرى نفسه ربهم الاعلى ويراهم عبيده ولا يناسب ذلك حمل الامر على معناه المتعارف.
________________________________________
[ 274 ]
ويؤيد هذا المعنى أنه تعالى حكى في موضع آخر هذا الكلام عن الملا أنفسهم إذ قال: " قال الملا من قوم فرعون إن هذا لساحر عليم يريد أن يخرجكم من أرضكم فماذا تأمرون " الاعراف: 110. وظاهر أن المراد بأمرهم إشارتهم على فرعون أن افعل بهما كذا. وقيل: إن سلطان المعجزة بهره وأدهشه فضل عن عجبه وتكبره وغشيته المسكنة فلم ماذا يقول ؟ ولا كيف يتكلم ؟ قوله تعالى: " قالوا أرجه وأخاه وابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم " القائلون هم الملا حوله وهم أشراف قومه، وقوله: " أرجه " بسكون الهاء على القراءة الدائرة وهو أمر من الارجاء بمعنى التأخير أي أخر موسى وأخاه وأمهلهما ولا تعجل اليهما بسياسة أو سجن ونحوه حتى تعارض سحرهما بسحر مثله. وقرئ " أرجه " بكسر الهاء و " أرجئه " بالهمزة وضم الهاء وهما أفصح من القراءة الدائرة، والمعنى واحد على أي حال. وقوله: " وابعث في المدائن حاشرين " المدائن جمع مدينة وهي البلدة والحاشر من الحشر وهو إخراج إلى مكان بإزعاج أي ابعث في البلاد عدة من شرطائك وجنودك يحشرون كل سحار عليم فيها ويأتوك بهم لتعارضهما بسحرهم. والتعبير بالسحارون الساحر للاشارة إلى أن هناك من هو أعلم منه بفنون السحر وأكثر عملا. قوله تعالى: " فجمع السحرة لميقات يوم معلوم "، هو يوم الزينة الذي اتفق موسى وفرعون على جعله ميقاتا للمعارضة كما في سورة طه ففي الكلام إيجاز وتلخيص. قوله تعالى: " وقيل للناس هل أنتم مجتمعون لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين " الاستفهام لحث الناس وترغيبهم على الاجتماع. قال في الكشاف ما حاصله أن المراد باتباع السحرة اتباعهم في دينهم - وكانوا متظاهرين بعبادة فرعون كما يظهر من سياق الآيات التالية - وليس مرادهم بذلك إلا أن لا يتبعوا موسى لا اتباع السحرة، وإنما ساقوا كلامهم مساق الكناية ليحملوا به السحرة على الاهتمام والجد في المغالبة.
________________________________________
[ 275 ]
قوله تعالى: " فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين " الاستفهام في معنى الطلب، وقد قالوا: " إن كنا " ولم يقولوا، إذا كنا نحن الغالبين ليفيد القطع بالغلبة كما يفيده قولهم بعد: " بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون " بل ألقوه في صورة الشك ليكون أدعى لفرعون إلى جعل الاجر. وقد أثر ذلك أثره حيث جعل لهم أجرا وزاد عليه الوعد بجعلهم من المقربين. قوله تعالى: " قال لهم موسى ألقوا - إلى قوله - تلقف ما يأفكون " الحبال جمع حبل، والعصي جمع عصى، واللقف الابتلاع بسرعة، وما يأفكون من الافك بمعنى صرف الشئ عن وجهه سمي السحر إفكا لان فيه صرف الشئ عن صورته الواقعية إلى صورة خيالية، ومعنى الآيات ظاهر. قوله تعالى: " فألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون " يريد أن السحرة لما رأوا ما رأوا من الآيات الباهرة بهرهم وأدهشهم ذلك فلم يتمالكوا أنفسهم دون أن خروا على الارض ساجدين لله سبحانه فاستعير الالقاء لخرورهم على الارض للدلالة على عدم تمالك أنفسهم كأنهم قد طرحوا على الارض طرحا. وقوله: " قالوا آمنا برب العالمين " فيه إيمان بالله سبحانه إيمان توحيد لما تقدم أن الاعتراف بكونه تعالى رب العالمين لا يتم إلا مع التوحيد ونفي الآلهة من دونه. وقوله: " رب موسى وهارون " فيه إشارة إلى الايمان بالرسالة مضافا إلى التوحيد. قوله تعالى: " قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلسوف تعلمون " إلى آخر الآية، القائل فرعون، والمراد بقوله: " آمنتم لله قبل أن آذن لكم " آمنتم من دون إذن مني كما في قوله تعالى: " لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي " وليس مفاده أن الاذن كان ممكنا أو متوقعا منه كما قيل. وقوله: " إنه لكبيركم الذي علمكم السحر " بهتان آخر يبهت به موسى عليه السلام ليصرف به قلوب قومه وخاصة ملاهم عنه.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page