• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 201 الي 225


[ 201 ]
فالظاهر أن الآية والآيتين التاليتين ناظرة إلى حالهم في البرزخ تصف رؤيتهم للملائكة فيه، وإحباط أعمالهم فيه، وحال أهل الجنة التى فيه. قوله تعالى: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " قال الراغب في المفردات: العمل كل فعل كون من الحيوان بقصد فهو أخص من الفعل لان الفعل قد ينسب إلى الحيوانات التي يقع منها فعل بغير قصد وقد ينسب إلى الجمادات، والعمل قلما ينسب إلى ذلك، ولم يستعمل العمل في الحيوانات إلا في قولهم البقر العوامل. انتهى. وقال: الهباء دقاق التراب وما انبث في الهواء فلا يبدو إلا في أثناء ضوء الشمس في الكوة. انتهى. والنثر التفريق. والمعنى: وأقبلنا إلكل عمل عملوه - والعمل هو الذي يعيش به الانسان بعد الموت - ففرقناه تفريقا لا ينتفعون به كالهباء المنثور، والكلام مبنى على التمثيل مثل به استيلاء القهر الالهي جميع أعمالهم التى عملوها لسعادة الحياة وإبطالها بحيث لا يؤثر في سعادة حياتهم المؤبدة شيئا بتشبيهه بسلطان غلب عدوه فحل داره بعد ما ظهر عليه فخر بالدار وهدم الآثار وأحرق المتاع والاثاث فأفنى منه كل عين وأثر. ولا منافاة بين ما تدل عليه الآية من حبط الاعمال يومئذ وبين ما تدل عليه آيات أخر أن أعمالهم أحبطت حينما عملوها في الدنيا بكفرهم وإجرامهم فإن معنى الاحباط بعد الموت ظهور الحبطلهم بعد ما كان خفيا في الدنيا عليهم وقد تقدم كلام مشبع في معنى الحبط في الجزء الثاني من الكتاب فراجع. قوله تعالى: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " المراد بأصحاب الجنة المتقون فقد تقدم قوله قبل آيات: " قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون "، والمستقر و المقيل اسما مكان من الاستقرار ومعناه ظاهر ومن القيلولة وهي الاستراحة في منتصف النهار سواء كان معها نوم أم لا - على ما قيل - والجنة لا نوم فيه. و كلمتا " خير " و " أحسن " منسلخان عن معنى التفضى كما في قوله تعالى: " وهو أهون عليه " الروم: 27، وقوله: " ما عند الله خير من اللهو " الجمعة: 11 كذا قيل، وليس يبعد أن يقال: إن " أفعل " أو ما هو في معناه كخير بناء على ما
________________________________________
[ 202 ]
رجحنا أنه صفة مشبهة تدل على التفضيل بمادته لا بهيئته في مثل هذه الموارد غير منسلخ عن معنى التفضيل والعناية في ذلك أنهم لما اختاروا الشرك والاجرام واستحسنوا ذلك ولازمه النار في الآخرة فقد اثبتوا لها خيرية وحسنا فقوبلوا بأن الجنة وما فيها خير وأحسن حتى على لازم قولهم فعليهم أن يختاروها على النار وأن يختاروا الايمان على الكفر على أي حال، وقيل: إن التفضيل مبني على التهكم. قوله تعالى: " ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا " الظاهر أن الظرف منصوب بفعل مقدر، والمعنى واذكر يوم كذا وكذا فإنهم يرون الملائكة فيه أيضا وهذا اليوم هو يوم القيامة بدليل قوله بعد: " الملك يومئذ الحق للرحمان "، وقيل في متعلق الظرف وجوه أخر لا فائدة في نقلها. و " تشقق " أصله تتشقق من باب التفعل من الشق بمعنى الخرم والتشقق التفتح، والغمام السحاب سمي به لستره ضوء الشمس مأخوذ من الغم بمعنى الستر. والباء في قوله: " تشقق السماء بالغمام " أما للملابسة والمعنى تتفتح السماء متلبسة بالغمام أي متغيمة، وإما بمعني عن والمعنى تتفتح عن الغمام أي من قبل الغمام أو تشققه. وكيف كان فظاهر الآية أن السماء تنشق يوم القيامة بما عليها من الغمام الساتر لها ونزل منها الملائكة الذين هم سكانها فيشاهدونهم فالآية قريبة المعنى من قوله في موضع آخر: " وانشقت السماء فهي يومئذ واهية والملك على أرجائها " الحاقة: 17. وليس من البعيد أن يكون الكلام كناية عن انكشاف غمة الجهل وبروز عالم السماء وهو من الغيب وبروز سكانها وهم الملائكة ونزولهم إلى العالم الارضي موطن الانسان. وقيل: المراد أن السماء يشقها الغمام وهو الذي يذكره في قوله: " هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الامر وإلى الله ترجع الامور " البقرة: 210، وقد مر كلام في تفسير الآية. والتعبير عن الواقعة بالتشقق دون التفتح وما يماثله للتهويل، وكذا التنوين في قوله: " تنزيلا " للدلالة على التفخيم. قوله تعالى: " الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا " أي
________________________________________
[ 203 ]
الملك المطلق يومئذ حق ثابت للرحمان وذلك لبطلان الاسباب وزوال ما بينها وبين مسبباتها من الروابط المتنوعة، وقد تقدم غير مرة أن المراد بذلك في يوم القيامة هو ظهور أن الملك والحكم لله والامر إليه وحده، وأن لا إستقلال في شئ من الاسباب على خلاف ما كان يتراءى من ظاهر حالها في نشأة الدنيا قبل قيام الساعة ورجوع كل شي إليه تعالى. وقوله: " وكان يوما على الكافرين عسيرا " الوجه فيه ركونهم إلى ظواهر الاسباب وإخلادهم إلى الحياة الارضية البائدة الداثرة وانقطاعهم عن السبب الحقيقي الذي هو مالك الملك بالحقيقة وعن حياتهم الباقية المؤبدة فيصبحون اليوم ولا ملاذ لهم ولا معاذ. فعلى هذا يكون الملك مبتدأ والحق خبره عرف لافادة الحصر، ويومئذ ظرف لثبوت الخبر للمبتدأ، وفائدة التقييد الدلالة على ظهور حقيقة الامر يومئذ فإن حقيقة الملك لله سبحانه دائما، وإنما يختلف يوم القيامة مع غيره بزوال الملك الصوري عن الاشياء فيه وثبوته لها في غيره. وقال بعضهم: الملك بمعنى المالكية ويومئذ متعلق به والحق خبر الملك، وقيل: يومئذ متعلق بمحذوف هو صفة للحق، وقيل: المراد بيومئذ هو يوم الله، وقيل: يومئذ هو الخبر للملك والحق صفة للمبتدأ، وهذه أقوال ردية لا جدوي لها. قوله تعالى: " ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا " قال الراغب في المفردات: العض ازم بالاسنان، قال تعالى: " عضوا عليكم الانامل " و " ويوم يعض الظالم " وذلك عبارة عن الندم لما جرى به عادة الناس أن يفعلوه عند ذلك. انتهى. ولذلك يتمنى عنده ما فات من واجب العمل كما حكى الله تعالى عنهم قولهم: " يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا ". والظاهر أن المراد بالظالم جنسه وهو كل من لم يهتد بهدي الرسول، وكذا المراد بالرسول جنسه وإن انطبق الظالم بحسب المورد على ظالمي هذه الامة والرسول على محمد صلى الله عليه وآله وسلم. والمعنى: واذكر يوم يندم الظالم ندما شديدا قائلا من فرط ندمه يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ما إلى الهدى أي سبيل كانت.
________________________________________
[ 204 ]
قوله تعالى: " يا ويلتي ليتني لم اتخذ فلانا خليلا " تتمة تمني الظالم النادم على ظلمه، وفلان كناية عن العلم المذكر وفلانة عن العلم المؤنث، قال الراغب: فلان وفلانة كنايتان عن الانسان، والفلان والفلانة - باللام - كنايتان عن الحيوانات. انتهى. والمعنى: يا ويلتي - يا هلاكي - ليتني لم اتخذ فلانا - وهو من اتخذه صديقا يشاوره ويسمع منه ويقلده - خليلا. وذكر بعضهم: أن فلانا في الآية كناية عن الشيطان، وكأنه نظرا إلى ما في الآية التالية من حديث خذلان الشيطان للانسان غير أن السياق لا يساعد عليه. ومن لطيف التعبير قوله في الآية السابقة: " ياليتني اتخذت " الخ وفي هذه الآية: " يا ويلتي ليتني لم اتخذ " الخ فإن في ذلك تدرجا لطيفا في النداء والاستغاثة فحذف المنادى في الآية السابقة يلوح إلى أنه يريد أي منج ينجيه مما هو فيه من الشقاء وذكر الويل بعد ذلك - في هذه الآية يدل على أنه بان له أن لا يخلصه من العذاب شئ قط إلا الهلاك والفناء، ولذلك نادى الويل. قوله تعالى: " لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا " تعليل للتمني السابق، والمراد بالذكر مطلق ما جاءت به الرسل أو خصوص الكتب السماوية وينطبق بحسب المورد على القرآن. وقوله: " وكان الشيطان للانسان خذولا " من كلامه تعالى ويمكن أن يكون تتمة الكلام الظالم ذكره تأسفا وتحسرا. والخذلان بضم الخاء ترك من يظن به أن ينصرنصرته، وخذلانه أنه يعد الانسان أن ينصره على كل مكروه إن تمسك بالاسباب ونسي ربه فلما تقطعت الاسباب ظهور القهر الالهي يوم الموت جزئيا ويوم القيامة كليا خذله وسلمه إلى الشقاء، قال تعالى: " كمثل الشيطان إذ قال للانسان اكفر فلما كفر قال إني برئ منك " الحشر: 16، وقال فيما يحكي عن الشيطان يوم القيامة: " ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل " إبراهيم: 22. وفي هذه الآيات الثلاث اشعار بل دلالة على أن السبب العمدة في ضلال أهل الضلال ولاية أهل الاهواء وأولياء الشيطان، و المشاهدة يؤيد ذلك.
________________________________________
[ 205 ]
قوله تعالى: " وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقرينة ذكر القرآن، وعبر عنه بالرسول تسجيلا لرسالته وإرغاما لاولئك القادحين في رسالته وكتابه والهجر بالفتح فالسكون الترك. وظاهر السياق أن قوله: " وقال الرسول " الخ معطوف على " يعض الظالم " والقول مما يقوله الرسول يوم القيامة لربه على طريق البث والشكوى، وعلى هذا فالتعبير بالماضي بعناية تحقق الوقوع، والمراد بالقوم عامة العرب بل عامة الامة باعتبار كفرتهم وعصاتهم. وأما كونه استئنافا أو عطفا على قوله: " وقال الذين لا يرجون لقاءنا " وكون ما وقع بينهما اعتراضا فبعيد من السياق، وعليه فلفظة قال على ظاهر معناها والمراد بالقوم هم القادحون في رسالته الطاعنون في كتابه. ونظيره في الضعف قول بعضهم: إن المهجور من الهجر بمعنى: الهذيان وهو ظاهر. قوله تعالى: " وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا " أي كما جعلنا جؤلاء المجرمين عدوا لك كذلك جعلنا لكل نبى عدوا منهم أي هذه من سنتنا الجارية في الانبياء وأممهم فلا يسوءنك ما تلقى من عداوتهم ولا يشقن عليك ذلك، ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. ومعنى: جعل العدومن المجرمين أن الله جازاهم على معاصيهم بالختم على قلوبهم فعاندوا الحق وأبغضوا الداعي إليه وهو النبي فلعداوتهم نسبة إليه تعالى بالمجازاة. وقوله: " وكفى بربك هاديا ونصيرا "، معناه - على ما يعطيه السياق - لا يهولنك أمر عنادهم وعداوتهم ولا تخافنهم على اهتداء الناس ونفوذ دينك فيهم وبينهم فحسبك ربك كفى به هاديا يهدي من استحق من الناس الهداية واستعد له وإن كفر هؤلاء وعتوا فليس اهتداء الناس منوطا بإهتدائهم وكفى به نصيرا ينصرك وينصر دينك الذي بعثك به وإن هجره هؤلاء ولم ينصروك ولا دينك فالجملة مسوقة لاظهار الاستغناء عنهم. فظهر أن صدر الآية مسوق لتسلي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذيله للاستغناء عن المجرمين من
________________________________________
[ 206 ]
قومه، وفي قوله: " وكفى بربك " حيث أخذ بصفة الربوبية: مضافة إلى ضمير الخطاب ولم يقل: وكفى بالله تأييد له. (بحث روائي) في تفسير البرهان عن كتاب الجنة والنار بإسناده عن جابر بن يزيد الجعفي عن أبي جعفر عليه السلام في حديث يذكر فيه قبض روح الكافر قال: فإذا بلغت الحلقوم ضربت الملائكة وجهه ودبره وقيل: " أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون " وذلك قوله: " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا " فيقولون حراما عليكم الجنة محرما (1). وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق والفاريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن على بن أبي طالب قال: الهباء ريح الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى منه شئ فجعل الله أعمالهم كذلك. فيه أخرج سمويه في فوائدة عن سالم مولى أبي حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليجاء يوم القيامة بقوم معهم حسنات مثال جبال تهامة حتى إذا جئ بهم جعل الله تعالى أعمالهم هباء ثم قذفهم في النار. قال سالم: بأبي وأمي يا رسول الله حل لنا هؤلاء القوم، قال: كانوا يصلون ويصومون ويأخذون سنة من الليل ولكن كانوا إذا عرض عليهم شئ من الحرام وثبوا عليه فأدحض الله تعالى أعمالهم. وفي الكافي بإسناده عن سليمان بن خالد قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا قال: أما والله لقد كانت أعمالهم أشد بياضا من القباطي ولكن كانوا إذا عرض لهم حرام لم يدعوه.
________________________________________
(1) محرمة ظ. (*)
________________________________________
[ 207 ]
أقول: وهذا المعنى مروي فيه وفي غيره عنه وعن أبيه عليه السلام بغير واحد من الطرق. وفي الكافي أيضا بإسناده عن عبد الاعلى وبإسناد آخر عن سويد بن غفلة قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: في حديث وضع المؤمن في قبره. ثم يفسحان يعنى الملكين في قبره مد بصره ثم يفتحان له بابا إلى الجنة ويقولان له: نم قرير العين نوم الشاب الناعم فإن الله يقول: " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا ". أقول: والرواية - كما ترى - تجعل الآية من آيات البرزخ، وتشير بقوله: ويقال له: نم " الخ " إلى نكتة التعبير في الآية بالمقيل فليتنبه. وفي الدر المنثور أخرج أبو نعيم من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: كان عقبة بن أبي معيط لا يقدم من سفر إلا صنع طعاما فدعا إليه أهل مكة كلهم وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله وعليه واله وسلم ويعجبه حديثه وغلب عليه الشقاء. فقدم ذات يوم من سفر فصنع طعاما ثم دعا رسول الله عليه السلام إلى طعامه فقال: ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فقال: إطعم يا ابن أخي. قال: ما أنا بالذي أفعل حتى تقول، فشهد بذلك وطعم من طعامه. فبلغ ذلك أبي بن خلف فأتاه فقال: أصبوت يا عقبة ؟ - وكان خليله - فقال: لا والله ما صبوت ولكن دخل علي رجل فأبي أن يطعم من طعامي إلا أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم فشهدت له فطعم، فقال: ما أنا بالذي أرضي عنك حتى تأتيه فتبزق في وجهه ففعل عقبة فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فأسر عقبة يوم بدر فقتل صبرا ولم يقتل من الاسارى يومئذ غيره. أقول: وقد ورد في غير واحد من الروايات في قوله تعالى: " يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا "، أن السبيل هو علي عليه السلام وهو من بطن القرآن أو من قبيل الجري وليس من التفسير في شئ.
________________________________________
[ 208 ]
* * * وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا - 32. ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا - 33. الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا - 34. ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هرون وزيرا - 35. فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا - 36. وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما - 37. وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا - 38. وكلا ضربنا له الامثال وكلا تبرنا تتبيرا - 39. ولقد أتوا على القرية التى أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا - 40. (بيان) نقل لطعن آخر مما طعنوا به في القرآن وهو أنه لم ينزل جملة واحدة والجواب عنه. قوله تعالى: " وقال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة " المراد بهم مشركون العرب الرادون لدعوة القرآن كما في قدحهم السابق المحكي بقوله: " وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك إفتراه " الخ.
________________________________________
[ 209 ]
وقوله: " لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة " قد تقدم أن الانزال والتنزيل إنما يفترقان في أن الانزال يفيد الدفعة والتنزيل يفيد التدريج لكن ذكر بعضهم أن التنزيل في هذه الآية منسلخ عن معنى التدريج لادائه إلى التدافع إذ يكون المعنى على تقدير إرادة التدريج: لو لا فرق القرآن جملة واحدة والتفريق ينافي الجملية بل المعنى هلا أنزل القرآن عليه دفعه غير مفرق كما أنزل التوراة والانجيل والزبور. لكن ينبغى أن يعلم أن نزول التوراة مثلا كما هو الظاهر المستفاد من القرآن كانت دفعة في كتاب مكتوب في الواح والقرآن إنما كان ينزل عليه صلى الله عليه وآله وسلم بالتلقي من عند الله بتوسط الروح الامين كما يتلقي السامع الكلام من المتكلم، والدفعة في إيتاء كتاب مكتوب وتلقيه تستلزم المعية بين أو له وآخره لكنه إذا كان بقراءة وسماع لم يناف التدريج بين أجزائه وأبعاضه بل من الضروري أن يؤتاه القارئ و يتلقاه السامع آخذا من أوله إلى آخره شيئا فشيئا. وهؤلاء إنما كانوا يقترحون نزول القرآن جملة واحدة على ما كانوا يشاهدون أو يسمعون من كيفية نزول الوحي على النبي صلى الله وعليه وآله وسلم وهو تلقي الآيات بالفاظها من لسان ملك الوحي فكان اقتراحهم أن الذي يتلوه ملك الوحي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم سورة بعد سورة وآية بعد آية ويتلقاه هو كذلك فليقرأ جميع ذلك مرة واحده وليتلقه هو مرة واحدة ولو دامت القراءة ولتلقي مدة من الزمان، وهذا المعني أوفق بالتنزيل الدال على التدريج. وأما كون مرادهم من اقتراح نزوله جملة واحدة أن ينزل كتابا مكتوبا دفعة كما نزلت التوراة وكذا الانجيل والزبور على ما هو المعروف عندهم فلا دلالة في الكلام المنقول عنهم على ذلك. على أنهم ما كانوا مؤمنين بهذه الكتب السماوية حتى يسلموا نزولها دفعة. وكيف كان فقولهم: " لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة إعتراض منهم على القرآن من جهة نحو نزوله، يريدون به أنه ليس بكتاب سماوي نازل من عند الله سبحانه إذ لو كان كتابا سماويا متضمنا لدين سماوي يريده الله من الناس وقد بعث رسولا
________________________________________
[ 210 ]
يبلغه الناس لكان الدين المضمن فيه المراد من الناس دينا تامة أجزاؤه معلومة أصوله وفروعه مجموعة فرائضه وسننه وكان الكتاب المشتمل عليه منظمة أجزاؤه، مركبة بعضه على بعض. وليس كذلك بل هو أقوال متفرقة يأتي بها في وقائع مختلفة وحوادث متشتتة ربما وقع واقع فأتى عند ذلك بشئ من الكلام مرتبط به يسمى جملها المنضودة آيات إلهية ينسبها إلى الله ويدعي أنها قرآن منزل إليه من عند الله سبحانه وليس إلا أنه يتعمل حينا بعد حين عند وقوع وقائع فيختلق قولا يفتريه على الله، وليس إلا رجلا صابئا ضل عن السبيل. هذا تقرير إعتراضهم على ما يستفاد من مجموع الاعتراض والجواب. قوله تعالى: " كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " الثبات ضد الزوال، والاثبات والتثبيت بمعنى واحد والفرق بينهما بالدفعة والتدريج، والفؤاد القلب والمراد به كما مر غير مرة الامر المدرك من الانسان وهو نفسه، والترتيل - كما قالوا - الترسيل والاتيان بالشئ عقيب الشئ، والتفسير - كما قال الراغب - المبالغة في إظهار المعنى المعقول كما أن الفسر بالفتح فالسكون إظهار المعنى المعقول. وظاهر السياق أن قوله: " كذلك " متعلق بفعل مقدر يعلله قوله: " لنثبت " ويعطف عليه قوله: " ورتلناه " والتقدير نزلناه أي القرآن كذلك أي نجوما متفرقة لا جملة واحدة لنثبت به فؤادك، وقول بعضهم: إن " كذلك " من تمام قول الذين كفروا سخيف جدا. فقوله: " كذلك لنثبت به فؤادك " بيان تام لسبب تنزيل القرآن نجوما متفرقة وبيان ذلك أن تعليم علم من العلوم وخاصة ما كان منها مرتبطا بالعمل بإلقاء المعلم مسائله واحدة بعد واحدة إلى المتعلم حتى تتم فصوله وأبوابه إنما يفيد حصولا ما لصور مسائله عند المتعلم وكونها مذخورة بوجه ما عنده يراجعها عند مسيس الحاجة إليها، وأما استقرارها في النفس بحيث تنمو النفس عليها وتترتب عليها آثارها المطلوبة منها فيحتاج إلى مسيس الحاجة والاشراف على العمل وحضور وقته. ففرق بين بين أن يلقى الطبيب المعلم مثلا مسألة طبية إلى متعلم الطب إلقاء
________________________________________
[ 211 ]
فحسب وبين أن يلقيها إليه وعنده مريض مبتلى بما يبحث عنه من الداء وهو يعالجه فيطابق بين ما يقول وما يفعل. ومن هنا يظهر أن القاء أي نظرة علمية عند مسيس الحاجة وحضور وقت العمل إلى من يراد تعليمه وتربيته أثبت في النفس وأوقع في القلب وأشد إستقرارا وأكمل رسوخا في الذهن وخاصة في المعارف التي تهدي إليها الفطرة فإن الفطرة إنما تستعد للقبول وتتهيأ للاذعان إذا أحست بالحاجة. ثم إن المعارف التى تتضمنها الدعوة الاسلاميه الناطق بها القرآن إنما هي شرائع وأحكام عملية وقوانين فردية واجتماعية تسعد الحياة الانسانية مبنية على الاخلاق الفاضلة المرتبطة بالمعارف الكلية الالهية التى تنتهي بالتحليل إلى التوحيد كما أن التوحيد انتهي بالتركيب إليها ثم إلى الاخلاق والاحكام العملية. فأحسن التعليم وأكمل التربية أن تلقي هذه المعارف العالية بالتدريج موزعة على الحوادث الواقعة المتضمنة لمساس أنواع الحاجات مبينة لما يرتبط بها من الاعتقاد الحق والخلق الفاضل والحكم العملي المشروع مع ما يتعلق بها من أسباب الاعتبار والاتعاظ بين قصص الماضين وعاقبة أمر المسرفين وعتو الطاغين والمستكبرين. وهذه سبيل البيانات القرآنية المودعة في آياته النازلة كما قال تعالى: " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " أسرى: 106، وهذا هو المراد بقوله تعالى: " كذلك لنثبت به فؤادك " والله أعلم. نعم يبقى عليه شئ وهو أن تفرق أجزاء التعليم وإلقاءها إلى المتعلم على التمهل والتؤدة يفسد غرض التعليم لانقطاع أثر السابق إلى أن يلحق به اللاحق وسقوط الهمة والعزيمة عن ضبط المطالب ففي اتصال أجزاء العلم الواحد بعضها ببعض إمداد للذهن وتهيئة للفهم على التفقه والضبط لا يحصل بدونه البتة. وقد أجاب تعالى عنه بقوله: " ورتلناه ترتيلا " فمعناه على ما يعطيه السياق أن هذه التعليمات على نزولها نجوما متفرقة عقبنا بعضها ببعض ونزلنا بعضها إثر بعض بحيث لا تبطل الروابط ولا نقطع آثار الابعاض فلا يفسد بذلك غرض التعليم بل هي سور وآيات نازلة بعضها أثر بعض مترتبة مرتلة.
________________________________________
[ 212 ]
على أن هناك أمرا آخر وهو أن القرآن كتاب بيان واحتجاج يحتج على المؤالف والمخالف فيما أشكل عليهم أو استشكلوه على الحق والحقيقة بالتشكيك والاعتراض، ويبين لهم ما التبس عليهم أمره من المعارف والحكم الواقعة في الملل والاديان السابقة وما فسرها به علماؤهم بتحريف الكلم عن مواضعه كما يظهر بقياس ما كان يعتقده الوثنيون في الله تعالى والملائكة والجن وقد يسي البشر وما وقع في العهدين من أخبار الانبياء وما بثوه من معارف المبدء والمعاد، إلى ما بينه القرآن في ذلك. وهذا النوع من الاحتجاج والبيان لا يستوفي حقه إلا بالتنزيل التدريجي على حسب ما كان يبدو من شبههم ويرد على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مسائلهم تدريجا، ويورد على المؤمنين أو على قومهم من تسويلاتهم شيئا بعد شئ وحينا بعد حين. وإلى هذا يشير قوله تعالى: " ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا " - والمثل الوصف - أي لا يأتونك بوصف فيك أو في غيرك حادوا به عن الحق أو أساؤا تفسيره إلا جئناك بما هو الحق فيه أو ما هو أحسن الوجوه في تفسيره فإن ما أتوا به إما باطل محض فالحق يدفعه أو حق محرف عن موضعه فالتفسير الاحسن يرده إلى مستواه ويقومه. فتبين بما تقدم أن قوله: " كذلك لنثبت به فؤادك - إلى قوله - وأحسن تفسيرا " جواب عن قولهم: " لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة " بوجهين: أحدهما: بيان السبب الراجع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو تثبيت فؤاده بالتنزيل التدريجي. وثانيهما: بيان السبب الراجع إلى الناس وهو بيان الحق فيما يوردون على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المثل والوصف الباطل، والتفسير بأحسن الوجوه فيما يوردون عليه من الحق المغير عن وجهه المحرف عن موضعه. ويلحق بهذا الجواب قوله تلوا: " الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا " فهو كالمتمم للجواب على ما سيجئ بيانه. تبين أيضا أن الآيات الثلاث مسوقة جميعا لغرض واحد وهو الجواب عما
________________________________________
[ 213 ]
أو ردوه من القدح في القرآن هذا، والمفسرون فرقوا بين مضامين الآيات الثلاث فجعلوا قوله: " كذلك لنثبت به فؤادك " جوابا عن قولهم: " لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة " وقوله: " ورتلناه ترتيلا " خبرا عن ترسيله في النزول أو في القراءة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير ارتباط بما تقدمه. وجعلوا قوله: " ولا يأتونك بمثل " الخ، كالبيان لقوله: " كذلك لنثبت به فؤادك " وأيضاحا لكيفية تثبيت فؤاده صلى الله عليه وآله وسلم، وجعله بعضهم ناظرا إلى خصوص المثل الذي ضربوه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأن الله بين الحق فيه وجاء بأحسن التفسير وقيل غير ذلك وجعلوا قوله: " الذين يحشرون " الآية أجنبيا عن غرض الآيتين السابقتين بالكلية. والتأمل فيما قدمناه في توجيه مضمون الآيتين الاوليين وما سيأتي من معنى الآية الثالثة يوضح فساد جميع ذلك، ويظهر أن الآيات الثلاث جميعا ذات غرض واحد وهو الجواب عما أوردوه من الطعن في القرآن من جهة نزوله التدريجي. وذكروا أيضا أن الجواب عن قدحهم وإقتراحهم بقوله: " كذلك لنثبت به فؤادك " جواب بذكر بعض ما لتفريق النزول من الفوائد وأن هناك فوائد أخرى غير ما ذكره الله تعالى، وقد أوردوا فوائد أخرى أضافوها إلى ما وقع في الآية: منها: أن الكتب السماوية السابقة على القرآن إنما أنزلت جملة واحدة لانها أنزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤن فنزلت عليهم جملة واحدة مكتوبة والقرآن إنما نزل على نبي أمي لا يكتب ولا يقرأ ولذلك نزل متفرقا. ومنها: أن الكتب المتقدمة لم يكن شاهد صحتها ودليل كونها من عند الله تعالى إعجازها، وأما القرآن فبينة صحته وآية كونه من عند الله تعالى نظمه المعجز الباقي على مر الدهور المتحقق في كل جزء من أجزائه المقدر بمقدار أقصر السور حسبما وقع به التحدي. ولا ريب أن مدار الاعجاز هو المطابقة لما تقتضيه الاحوال، ومن ضرورة تجددها تجدد ما يطابقها.
________________________________________
[ 214 ]
ومنها: أن في القرآن ناسخا ومنسوخا ولا يتيسر الجمع بينهما لمكان المضادة والمنافاة، وفيه ما هو جواب لمسائل سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنها، وفيه ما هو إنكار لبعض ما كان، وفيه ما هو حكاية لبعض ما جرى، وفيه ما فيه إخبار عما سيأتي في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كالاخبار عن فتح مكة ودخول المسجد الحرام، والاخبار عن غلبة الروم على الفرس إلى غير ذلك من الفوائد فاقتضت الحكمة تنزيله متفرقا. وهذه وجوه ضعيفة لا تقتضي امتناع النزول جملة واحدة: أما الوجه الاول: فكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب لا يمنع النزول جملة واحدة، وقد كان معه من يكتبه ويحفظه. على أن الله سبحانه وعده أن يعصمه من النسيان ويحفظ الذكر النازل عليه كما قال: " سنقرئك فلا تنسى " الاعلى: 6، وقال: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " الحجر: 9، وقال: " إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " حم السجدة: 42، وقدرته تعالى على حفظ كتابه مع نزوله دفعة أو تدريجا سواء. وأما الوجه الثاني: فكما أن الكلام المفرق يقارنه أحوال تقتضي في نظمه أمورا أن اشتمل عليها الكلام كان بليغا وإلا فلا، كذلك الكلام الجملي وإن كان كتابا يقارنه بحسب فصوله وأجزائه أحوال لها اقتضاءات أن طابقها كان بليغا وإلا فلا فالبلاغة غير موقوفة على غير الكتاب النازل دفعة و الكلام المجموع جملة واحدة. وأما الوجه الثالث فالنسخ ليس إبطالا للحكم السابق وإنما هو بيان انتهاء أمده فمن الممكن الجمع بين الحكمين المنسوخ و الناسخ بالاشارة إلى أن الحكم الاول محدود موقت إن اقتضت المصلحة ذلك. ومن الممكن أيضا أن يقدم بيان المسائل التى سيسألون عنها حتى لا يحتاجوا فيها إلى سؤال ولو سألوا عن شئ منها أرجعوا إلى سابق البيان، وكذا من الممكن أن يقدم ذكر ما هو إنكار لما كان أو حكاية لما جرى أو إخبار عن بعض المغيبات فشئ من ذلك لا يمتنع تقديمه كما هو ظاهر. على أن تفريق النزول لبعض هذه الحكم والمصالح من تثبيت الفؤاد فليست هذه الوجوه المذكورة وجوها على حدتها.
________________________________________
[ 215 ]
فالحق أن البيان الواقع في الآية بيان تام جامع لا حاجة معه إلى شئ من هذه الوجوه البتة. قوله تعالى: " الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا " اتصال الآية بما قبلها من الآيات على ما لها من السياق يعطي أن هؤلاء القادحين في القرآن استنتجوا من قدحهم ما لا يليق بمقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكروه واصفين له بسوء المكانة وضلال السبيل فلم يذكره الله تعالى في ضمن ما حكي من قولهم في القرآن صونا لمقام النبوة أن يذكر بسوء، وإنما أشار إلى ذلك في ما أورد في هذه الآية من الرد ليهم بطريق التكنية. فقوله: " الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم " كناية عن الذين كفروا القادحين في القرآن الواصفين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما وصفوا، والكناية أبلغ من التصريح. فالمراد أن هؤلاء القادحين في القرآن الواصفين لك هم شر مكانا وأضل سبيلا لا أنت فالكلام مبني على قصر القلب، ولفظتا " شر " و " أضل " منسلختان عن معنى التفضيل أو مفيدتان على التهكم ونحوه. وقد كني عنهم بالمحشورين على وجوههم إلى جهنم وهو وصف من أضله الله من المتعنتين المنكرين للمعاد كما قال تعالى: " ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأوا هم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا " الخ، أسرى: 98. ففي هذه التكنية مضافا إلى كونها أبلغ، تهديد لهم بشر المكان وأليم العذاب وأيضا هي في معنى الاحتجاج على ضلالهم إذ لا ضلال أضل من أن يسير الانسان على وجهه وهو لا يشعر بما في قدامه، وهذا الضلال الذي في حشرهم على وجوههم إلى جهنم مثل للضلال الذي كان لهم في الدنيا فكأنه قيل: إن هؤلاء هم الضالون فإنهم محشورون على وجوههم، ولا يبتلى بذلك إلا من كان ضالا في الدنيا. وقد اختلفت كلماتهم في وجه اتصال الآية بما قبلها فسكت عنه بعضهم، وذكر في مجمع البيان أنهم قالوا لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين: أنهم شر خلق الله فقال الله تعالى:
________________________________________
[ 216 ]
" أولئك شر مكانا وأضل سبيلا " وذكر بعضهم أنها متصلة بقوله قبل آيات: " أصحاب الجنة يومئذ خير ستقرا وأحسن مقيلا " وقد عرفت ما يلوح من السياق. وقد اختلفوا أيضا في المراد بحشرهم على وجوههم فقيل: وهو على ظاهره وهو الانتقال مكبوبا، وقيل: هو السحب. وقيل: هو الانتقال من مكان إلى مكان منكوسا وهو خلاف المشي على الاستقامة وفيه أن الاولى حينئذ التعبير بالحشر على الرؤوس لا على الوجوه، وقد قال تعالى في موضع آخر وهو كتوصيف ما يجري بهذا الحشر: " يوم يسحبون في النار على وجوههم " القمر: 48. وقيل: المراد به فرط الذلة الهوان والخزي مجازا. وفيه أن المجاز إنما يصار إليه إذا لم يمكن حمل اللفظ على الحقيقة. وقيل: هو من قول العرب: مر فلان على وجهه إذا لم يدر أين ذهب ؟ وفيه أن مرجعه إلى الجهل بالمكان المحشور إليه ولا يناسب ذلك تقييد الحشر في الآية بقوله: " إلى جهنم ". وقيل: الكلام كناية أو استعارة تمثيلية، والمراد أنهم يحشرون وقلوبهم متعلقة بالسفليات من الدنيا وزخارفها متوجهة وجوههم إليها. وأورد عليه أنهم هناك في شغل شاغل عن التوجه إلى الدنيا وتعلق القلوب بها، ولعل المراد به بقاء آثار ذلك فيهم وعليهم. وفيه أن مقتضي آيات تجسم الاعمال كون العذاب ممثلا للتعلق بالدنيا والتوجه نحوها فهم في الحقيقة لا شغل لهم يومئذ إلا ذلك. قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا " استشهاد على رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الكتاب عليه قبال تكذيب الكفار به وبكتابه برسالة موسى وإيتائه الكتاب وإشراك هارون في أمره للتخلص إلى ذكر تعذيب آل فرعون وإهلاكهم، ومعنى الآية ظاهر. قوله تعالى: " فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا " قال
________________________________________
[ 217 ]
في مجمع البيان: التدمير الاهلاك الامر عجيب، ومنه التنكيل يقال: دمر على فلان إذا هجم عليه بالمكروه. انتهى. والمراد بالآيات آيات الآفاق والانفس الدالة على التوحيد التى كذبوا بها، وذكر أبو السعود في تفسيره أن الآيات هي المعجزات التسع المفصلات الظاهرة على يدي موسى ع ولم يوصف القوم لهما عند إرسالهما إليهم بهذا الوصف ضرورة تأخر تكذيب الآيات عن إظهارها المتأخر عن ذهابهما المتأخر عن الامر به بل إنما وصفوا بذلك عند الحكاية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بيانا لعلة استحقاقهم لما يحكي بعده من التدمير أي فذهبا إليهم فأرياهم آياتنا كلها فكذبوها تكذيبا مستمرا فدمرناهم. نتهى. وهو حسن لو تعين حمل الآيات على آيات موسى عليه السلام. ووجه اتصال الآيتين بما قبلهما هو تهديد القادحين في كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورسالته بتنظير الامر بأمر موسى حيث آتاه الله الكتاب وأرسله مع أخيه إلى قوم فرعون فكذبوه فدمرهم تدميرا. ولهذه النكتة قدم ذكر إيتاء الكتاب على إرسالهما إلى القوم وتدميرهم مع أن التوراة إنما نزلت بعد غرق فرعون وجنوده فلم يكن الغرض من القصة إلا الاشارة إلى إيتاء الكتاب والرسالة موسى وتدمير القوم بالتكذيب. وقيل: الآيتان متصلتان بقوله تعالى قبل: " وكفى بربك هاديا ونصيرا " وهو بعيد. قوله تعالى: " وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية وأعتدنا للظالمين عذابا أليما " الظاهر أن قوله: " قوم نوح " منصوب بفعل مقدر يدل عليه قوله: " أغرقناهم ". والمراد بتكذيبهم الرسل تكذيبهم نوحا فإن تكذيب الواحد من رسل الله تكذيب لجميع لا تفاقهم على كلمة الحق. على أن هؤلاء الامم كانوا أقواما وثنيين وهم ينكرون النبوة ويكذبون الرسالة من رأس. وقوله: " وجعلناهم للناس آية " أي لمن بقي بعدهم من ذراريهم، والباقي ظاهر.
________________________________________
[ 218 ]
قوله تعالى: " وعادا وثمود وأصحاب الرس وقرونا بين ذلك كثيرا " قال في مجمع البيان: الرس البئر التى لم تطو ذكروا أنهم كانوا قوما بعد ثمود نازلين على بئر أرسل الله إليهم رسولا فكذبوا به فأهلكهم الله، وقيل هو اسم نهر كانوا على شاطئه وفي روايات الشيعة ما يؤيد ذلك. وقوله: " وعادا " الخ معطوف على " قوم نوح " والتقدير: ودمرنا أو وأهلكنا عادا وثمود وأصحاب الرس " الخ ". وقوله: " وقرونا بين ذلك كثيرا " القرن أهل عصر واحد وربما يطلق على نفس العصر والاشارة بذلك إلى من مر ذكرهم من الاقوام أولهم قوم نوح وآخرهم أصحاب الرس أو قوم فرعون، والمعنى ودمرنا أو وأهلكنا عادا وهم قوم هود، وثمود وهم قوم صالح، وأصحاب الرس، وقرونا كثيرا متخللين بين هؤلاء الذين ذكرناهم وهم قوم نوح فمن بعدهم. قوله تعالى: " وكلا ضربنا له الامثال وكلا تبرنا تتبيرا " كلا منصوب بفعل يدل عليه قوله: " ضربنا له الامثال " فإن ضرب الامثال في معنى التذكير والموعظة والانذار، والتتبير التفتيت، ومعنى الآية. قوله تعالى: " ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السوء أفلم يكونوا يرونها بل كانوا لا يرجون نشورا " هذه القرية هي قرية قوم لوط أمطر الله عليهم حجارة من سجيل وقد مر تفصيل قصصهم في السور السابقة. قوله: " أفلم يكونوا يرونها " استفهام توبيخي فإن القرية كانت على طريق أهل الحجاز إلى الشام. وقوله: " بل كانوا لا يرجون نشورا " أي لا يخافون معادا أو كانوا آئسين من المعاد، وهذا كقوله تعالى فيما تقدم: " بل كذبوا بالساعة " والمراد به أن المنشأ الاصيل لتكذيبهم بالكتاب والرسالة وعدم اتعاظهم بهذه المواعظ الشافية وعدم إعتبارهم بما يعتبر به المعتبرون أنهم منكرون للمعاد فلا ينجح فيهم دعوة ولا تقع في قلوبهم حكمة ولا موعظة.
________________________________________
[ 219 ]
(بحث روائي) في العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي عن الرضا عن أمير المؤمنين عليهما السلام حديث طويل يذكر فيه قصة أصحاب الرس، ملخصه أنهم كانوا قوما يعبدون شجرة صنوبرة يقال لها شاه درخت كان يافث بن نوح غرسها بعد الطوفان على شفير عين يقال لها: روشن آب وكان لهم اثنتا عشرة قرية معمورة على شاطئ نهر يقال له الرس يسمين بأسماء: أبان، آذر، دي، بهمن، إسفندار، فروردين، أردي بهشت، خرداد، مرداد، تير، مهر، شهريور، ومنها أشتق العجم أسماء شهور هم. وقد غرسوا في كل قرية منها من طلع تلك الصنوبرة حبة. أجروا عليها نهرا من العين التى عند الصنوبرة، وحرموا شرب مائها على أنفسهم وأنعامهم ومن شرب منه قتلوه ويقولون: إنه حياة الآلهة فلا ينبغي لاحد أن ينقص حياتها. وقد جعلوا في كل شهر من السنة يوما في كل قرية عيدا يخرجون فيه إلى الصنوبرة التى خارج القرية يقربون إليها القرابين ويذبحون الذبائح ثم يحرقونها في نار أضرموها فيسجدون للشجرة عند إرتفاع دخانها سطوعه في السماء ويبكون ويتضرعون والشيطان يكلمهم من الشجرة. وهذا دأبهم في القري حتى إذا كان يوم عيد قريتهم العظمى التى كان يسكنها ملكهم واسمها إسفندار اجتمع إليها أهل القرى جميعا وعيدوا إثنى عشر يوما، وجاؤا بأكثر ما يستطيعونه من القرابين والعبادات للشجرة وكلمهم إبليس وهو يعدهم ويمنيهم أكثر مما كان من الشياطين في سائر الاعياد من سائر الشجر. ولما طال منهم الكفر بالله وعبادة الشجرة بعث الله إليهم رسولا من بني إسرائيل من ولد يهودا فدعاهم إلى عباده الله وترك الشرك برهه فلم يؤمنوا فدعا على الشجرة فيبست فلمار أوا ذلك ساءهم فقال بعضهم: إن هذا الرجل سحر آلهتنا، وقال آخرون: إن آلهتنا غضبت علينا بذلك لما رأت هذا الرجل يدعونا إلى الكفر بها فتركناه وشأنه من غير أن نغضب عليه لآلهتنا. فاجتمعت آراؤهم على قتله فحفروا بئرا عميقا وألقوه فيها وشدوا رأسها فلم
________________________________________
[ 220 ]
يزالوا عليها يسمعون أنينه حتى مات فاتبعهم الله بعذاب شديد أهلكهم عن آخرهم. وفي نهج البلاغة قال عليه السلام: أين أصحاب مدائن الرس الذين قتلوا النبيين وأطفأوا سنن المرسلين وأحيوا سنن الجبارين. وفي الكافي بإسناده عن محمد بن أبي حمزة وهشام وحفص عن أبي عبد الله عليه السلام أنه دخل عليه نسوة فسألته إمرأة منهن عن السحق فقال: حدها حد الزاني فقالت المرأة: ما ذكره الله عزوجل في القرآن، فقال: بلى، فقالت: وأين هو ؟ قال: هن الرس. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبيهقي وابن عساكر عن جعفر بن محمد بن على أن إمرأتين سألتاه: هل تجد غشيان المرأة المرأة محرما في كتاب الله ؟ قال: نعم هن اللواتي كن على عهد تبع، وهن صواحب الرس، وكل نهر وبئر رس. قال: يقطع لهن جلباب من نار، ودرع من نار، ونطاق من نار، وتاج من نار وخفان من نار، ومن فوق ذلك ثوب غليظ جاف جاسف منتن من نار. قال جعفر: علموا هذا نساءكم. أقول: وروى القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير، عن جميل عن أبي عبد الله عليه السلام ما في معناه. وفي تفسير القمي بإسناده عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: " وكلا تبرنا تتبيرا " يعني " كسرنا تكسيرا " قال: هي لفظة بالنبطية. وفيه وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال: وأما القرية التى أمطرت مطر السوء فهى سدو قرية قوم لوط أمطر الله عليهم حجارة من سجيل يعني من طين. * * * وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا - 41. إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لو لا أن صبرنا عليها
________________________________________
[ 221 ]
وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا - 42. أرأيت من اتخذ إله هواه أفأنت تكون عليه وكيلا - 43. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا - 44. ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا - 45. ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا - 46. وهو الذي جعل لكم الليل لباسا والنوم سباتا وجعل النهار نشورا - 47. وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا - 48. لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا - 49. ولقد صرفناه بينهم ليذكروا فأبى أكثر الناس إلا كفورا - 50. ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا - 51. فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا - 52. وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرأت وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا - 53. وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا وكان ربك قديرا - 54. ويعبدون من دون الله ما لا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا - 55. وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا - 56. قل ما أسئلكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا - 57. وتوكل على الحي
________________________________________
[ 222 ]
الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا - 58. الذي خلق السماوات والارض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فسئل به خبيرا - 59. وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا - 60. تبارك الذي جعل في السماء بروجا وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا - 61. وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا - 62. (بيان) تذكر الآيات بعض صفات أولئك الكفار القادحين في الكتاب والرسالة والمنكرين للتوحيد والمعاد مما يناسب سنخ اعتراضاتهم واقتراحاتهم كاستهزائهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم واتباعهم الهوى وعبادتهم لما لا ينفعهم ولا يضرهم واستكبارهم عن السجود لله سبحانه. قوله تعالى: " وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي بعث الله رسولا " ضمير الجمع للذين كفروا السابق ذكرهم، والهزؤ الاستهزاء والسخرية فالمصدر بمعنى المفعول، والمعنى: وإذا رآك الذين كفروا لا يتخذونك إلا مهزوا به. وقوله: " أهذا الذي بعث الله رسولا " بيان لاستهزائهم أي يقولون كذا استهزاء بك. قوله تعالى: " إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لو لا أن صبرنا عليها " الخ " إن " مخففة من الثقيلة والاضلال كأنه مضمن معنى الصرف ولذا عدي بعن، وجواب لو لا محذوف
________________________________________
[ 223 ]
يدل عليه ما تقدمه، والمعنى أنه قرب أن يصرفنا عن آلهتنا مضلا لنا لو لا أن صبرنا على آلهتنا أي على عبادتها لصرفنا عنها. وقوله: " وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا " توعد وتهديد منه تعالى لهم وتنبيه أنهم على غفلة مما سيستقبلهم من معاينة العذاب واليقين بالضلال والغي. قوله تعالى: " أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا " الهوي ميل النفس إلى الشهوة من غير تعديله بالعقل، والمراد باتخاذ الهوى إلها طاعته واتباعه من دون الله وقد أكثر الله سبحانه في كلامه ذم اتباع الهوى وعد طاعة الشئ عبادة له في قوله: " ألم أعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن أعبدوني " يس: 61. وقوله: " أفأنت تكون عليه وكيلا " استفهام إنكاري أي لست أنت وكيلا عليه قائما على نفسه وبأموره حتى تهديه إلى سبيل الرشد فليس في مقدرتك ذلك وقد أضله الله وقطع عنه أسباب الهداية وفي معناه قوله: " إنك لا تهدي من أحببت " القصص: 56، وقوله: " وما أنت بمسمع من في القبور " الفاطر: 22، والآية كالاجمال للتفصيل الذي في قوله: " أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله " الجاثية: 23. ويظهر مما تقدم من المعنى إن قوله: " اتخذ إلهه هواه " على نظمه الطبيعي أي إن " اتخذ " فعل متعد إلى مفعولين و " إلهه " مفعوله الاول و " هواه " مفعول ثان له فهذا هو الذي يلائم السياق وذلك أن الكلام حول شرك المشركين وعدولهم عن عبادة الله إلى عبادة الاصنام، وإعراضهم عن طاعة الحق التى هي طاعة الله إلى طاعة الهوى الذي يزين لهم الشرك، وهؤلاء يسلمون أن لهم إلها مطاعا وقد أصابوا في ذلك، لكنهم يرون أن هذا المطاع هو الهوى فيتخذونه مطاعا بدلا من أن يتخذوا الحق مطاعا فقد وضعوا الهوى موضع الحق لا أنهم وضعوا المطاع موضع غيره فافهم. ومن هنا يظهر ما في قول عدة من المفسرين أن " هواه " مفعول أول لقوله " اتخذ " و " إلهه " مفعول ثان مقدم، وإنما قدم للاعتناء به من حيث إنه الذي يدور
________________________________________
[ 224 ]
عليه أمر التعجيب في قوله: " أرأيت من اتخذ " الخ، كما قاله بعضهم، أو إنما قدم للحصر على ما قاله آخرون، ولهم في ذلك مباحثات طويلة أغمضنا عن إيرادها وفيما ذكرناه كفاية إن شاء الله. قوله تعالى: " أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالانعام بل هم أضل سبيلا " أم منقطعة، والحسبان بمعنى الظن وضمائر الجمع راجعة إلى الموصول في الآية السابقة باعتبار المعنى. والترديد بين السمع والعقل من جهة أن وسيلة الانسان إلى سعادة الحياة أحد أمرين إما أن يستقل بالتعقل فيعقل الحق فيتبعه أو يرجع إلى قول من يعقله وينصحه فيتبعه أن لم يستقل بالتعقل فالطريق إلى الرشد السمع أو عقل فالآية في معنى قوله: " وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير "، الملك: 10. والمعنى: بل أتظن أن أكثرهم لهم استعداد استماع الحق ليتبعه أو استعداد عقل الحق ليتبعه فترجو إهتداءهم فتبالغ في دعوتهم. وقوله: " إن هم إلا كالانعام " بيان للجملة السابقة فإنه في معنى: أن أكثرهم لا يسمعون ولا يعقلون فتنبه أنهم ليسوا إلا كالانعام والبهائم في أنها لا تعقل ولا تسمع إلا اللفظ دون المعنى. وقوله: " بل هم أضل سبيلا " أي من الانعام وذلك أن الانعام لا تقتحم على ما يضرها وهؤلاء يرجحون ما يضرهم على ما ينفعهم، وأيضا الانعام إن ضلت عن سبيل الحق فإنها لم تجهز في خلقتها بما يهديها إليه وهؤلاء مجهزون وقد ضلوا. واستدل بعضهم بالآية على أن الانعام لا علم لها بربها. وفيه أن الآية لا تنفي عنها ولا عن الكفار أصل العلم بالله وإنما تنفي عن الكفار اتباع الحق الذي يهدي إليه عقل الانسان الفطري لاحتجابه باتباع الهوى، وتشبههم في ذلك بالانعام التى لم تجهز بهذا النوع من الادراك. وأما ما أجاب به بعضهم أن الكلام خارج مخرج الظاهر فقول لا سبيل إلى إثباته بالاستدلال.
________________________________________
[ 225 ]
قوله تعالى: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم جعلنا الشمس عليه دليلا ثم قبضناه الينا قبضا يسيرا " هاتان الآيتان وما بعدهما إلى تمام تسع آيات في معنى التنظ ير لما تضمنته الآيتان السابقتان بل الآيات الاربع السابقة من أن الله سبحانه جعل رسالة الرسول لهداية الناس إلى سبيل الرشد وإنقاذهم من الضلال فيهتدي بها بعضهم ممن شاء الله وأما غيرهم ممن اتخذ إلهه هواه فصار لا يسمع ولا يعقل فليس في وسع أحد أن يهديهم من بعد الله. فهى تبين أن ليس هذا ببدع من الله سبحانه ففي عجائب صنعه وبينات آياته نظائر لذلك ففعله متشابه وهو على صراط مستقيم، وذلك كمد الظل وجعل الشمس، دليلا عليه تنسخه، وكجعل الليل لباسا والنوم سباتا والنهار نشورا، وكجعل الرياح بشرا وإنزال المطر وإحياء الارض الميتة وإرواء الانعام والاناسي به. ثم ما مثل المؤمن والكافر في اهتداء هذا وضلال ذاك - وهم جميعا عباد الله يعيشون في أرض واحدة - إلا كمثل المائين العذب الفرات والملح الاجاج مرجهما الله تعالى لكن جعل بينهما برزخا وحجرا محجورا، وكالماء خلق الله سبحانه منه بشرا ثم جعله نسبا وصهرا فاختلف بذلك المواليد وكان ربك قديرا. هذا ما يهدي إليه التدبر في مضامين الآيات وخصوصيات نظمها، وبه يظهر وجه إتصالها بما تقدمها، وأما ما ذكروه من أن الآيات مسوقة لبيان بعض أدلة التوحيد إثر بيان جهالة المعرضين عنها وضلالهم فالسياق لا يساعد عليه وسنزيد لك أيضاحا. فقوله: " ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا " تنظير - كما تقدمت الاشارة إليه - لشمول الجهل والضلال للناس ورفعه تعالى ذلك بالرسالة والدعوة الحقة كما يشاء ولازم ذلك أن يكون المراد بمد الظل ما يعرض الظل الحادث بعد الزوال من التمدد شيئا فشيئا من المغرب إلى المشرق حسب اقتراب الشمس من الافق حتى إذا غربت كانت فيه نهاية الامتداد وهو الليل، وهو في جميع أحواله متحرك ولو شاء الله لجعله ساكنا. وقوله: " ثم جعلنا الشمس عليه دليلا " والدليل هي الشمس من حيث دلالتها


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page