• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 176 الي 200


[ 176 ]
وقوله تعالى: " وخلق كل شئ فقدره تقديرا " بيان لرجوع تدبير عامة الامور إليه تعالى وحده بالخلق والتقدير فهو رب العالمين لا رب سواه. بيان ذلك أن الخلقة لما كانت بتوسيط الاسباب المتقدمة على الشئ والمقارنة له استلزم ذلك ارتباط وجودات الاشياء بعضها ببعض فيتقدر وجود كل شئ وآثار وجوده حسب ما تقدره العلل والعوامل المتقدمة عليه والمقارنة له فالحوادث الجارية في العالم على النظام المشهود مختلطة بالخلقة تابعة للعلل والعوامل المتقدمة والمقارنة وإذ لا خالق غير الله سبحانه فلا مدبر للامر غيره فلا رب يملك الاشياء ويدبر أمرها غيره. فكونه تعالى له ملك السماوات والارض حاكما متصرفا فيها على الاطلاق يستلزم قيام الخلقة به إذ لو قامت بغيره كان الملك لذلك الغير، وقيام الخلقة به يستلزم قيام التقدير به، لكون التقدير متفرعا على الخلقة، وقيام التقدير به يستلزم قيام التدبير به فله الملك والتدبير فهو الرب عز شأنه. وملكه تعالى للسماوات والارض وإن استلزم استناد الخلق والتقدير إليه لكن لما كان الوثنيون مع تسليمهم عموم ملكه يرون أن ملكه للجميع وربوبيته للكل لا ينافي ملك الهتهم وربوبيتهم للبعض بتفويضه تعالى ذلك إليهم فكل من الآلهة مليك في صقع الوهيته رب لمربوبيته والله سبحانه ملك الملوك ورب الارباب وإله الآلهة. فلذلك لم يكف قوله: " الذي له ملك السماوات والارض " لاثبات اختصاص اللربوبية به تعالى قبالهم بل احتج إلى الاتيان بقوله: " وخلق كل شئ فقدره تقديرا ". فكان قائلا يقول: هب أن ملكه للسماوات والارض يغنيه عن اتخاذ الولد والشريك الموجب لسلب ملكه عن بعض الاشياء لكن لم لا يجوز أن يتخذ بعض خلقه شريكا لنفسه بتفويض بعض أمور العالم إليه مع كونه مالكا له ولما فوضه إليه وهذا هو الذي كانت تراه المشركون فقد كانوا يقولون في تلبية الحج: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. فأجيب عنه بأن الخلق له سبحانه والتقدير يلازمه وإذا اجتمع الزمهما التدبير فله سبحانه تدبير كل شئ فليس مع ملكه ملك ولا مع ربوبيتة ربوبية. فقد تحصل أن قوله: " الذي له ملك السماوات والارض ولم يتخذ ولدا ولم يكن
________________________________________
[ 177 ]
له شريك في الملك " مسوق لتوحيد الربوبية ونفي الولد والشريك من طريق إثبات الملك المطلق، وأن قوله: " وخلق كل شئ فقدره تقديرا " تقرير وبيان لمعنى عموم الملك وأنه ملك متقوم بالخلق والتقدير موجب لتصديه تعالى لكل حكم وتدبير من غير أن يفوض شيئا من الامر إلى أحد من الخلق. وفي الآية والتي قبلها لهم أقوال أخر أغمضنا عن إيرادها لخلوها عن الجدوى. قوله تعالى: " واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون " الخ، لما نعت نفسه بأنه خالق كل شئ ومقدره وأن له ملك السماوات والارض وهكذا كان يجب أن يكون الاله المعبود، أشار إلى ضلاله المشركين حيث عبدوا اصناما ليست بخالقة شيئا بل هي مخلوقة مصنوعة لهم ولا مالكة شيئا لانفسهم ولا لغيرهم. وضمير " واتخذوا " للمشركين على ما يفيده السياق وإن لم يسبق لهم ذكر ومثل هذا التعبير يفيد التحقير والاستهانة. وقوله: " من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون " يريد به أصنامهم التي صنعوها بأيديهم بنحت أو نحوه، وتوصيفها بالآلهة مع تعقيبها بمثل قوله: " لا يخلقون شيئا وهم يخلقون " إشارة إلى أن ليس لها من الالوهية ألا اسم سموها به من غير أن تتحقق من حقيقتها بشئ كما قال تعالى: " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم " النجم: 23.. ووضع النكرة في قوله: " لا يخلقون شيئا " في سياق النفي مبالغة في تقريعهم حيث أعرضوا عن الله سبحانه وهو خالق كل شئ وتعلقوا بأصنام لا يخلقون ولا شيئا من الاشياء بل هم أردأ حالا من ذلك حيث إنهم مصنوعون لعبادهم مخلوقون لاوهامهم، ونظير الكلام جار في قوله: " ضرا ولا نفعا " وقوله: " موتا ولا حياه ولا نشورا ". وقوله: " ولا يملكون لانفسهم ضرا ولا نفعا " نفي للملك عنهم وهو ضروري في الاله إذ كان عبادهم إنما يعبدونهم ليدفعوا عنهم الضر ويجلبوا إليهم النفع وإذ كانوا لا يملكون ضرا ولا نفعا حتى لانفسهم لم تكن عبادتهم إلا خبلا وضلالا.
________________________________________
[ 178 ]
وبذلك يظهر أن في وقوع " لانفسهم " في السياق زيادة تقريع والكلام في معنى الترقي أي لا يملكون لانفسهم ضرا حتى يدفعوه ولا نفعا حتى يجلبوه فكيف لغيرهم ؟ وقد قدم الضر على النفع لكون دفع الضرر أهم من جلب النفع. وقوله: " ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا " أي لا يملكون موتا حتى يدفعوه عن عبادهم أو عمن شاؤا ولا حياة حتى يسلبوها عمن شاؤا أو يفيضوها على من شاؤا ولا نشورا حتى يبعثوا الناس فيجازوهم على أعمالهم، وملك هذه الامور من لوازم الالوهية. (بحث روائي) في الكافي بإسناده عن ابن سنان عمن ذكره قال: سألت أبا عبد الله ع عن القرآن والفرقان هما شيئان أو شئ واحد فقال: القرآن جملة الكتاب والفرقان المحكم الواجب العمل به. وفي الاختصاص للمفيد،: في حديث عبد الله بن سلام لرسول الله ص قال: فأخبرني هل أنزل الله عليك كتابا ؟ قال: نعم، قال: وأي كتاب هو، قال: الفرقان: قال ولم سماه ربك فرقانا ؟ قال: لانه متفرق الآيات والسور أنزل في غير الالواح وغيره من الصحف والتوراة والانجيل والزبور أنزلت كلها جملة في الالواح والاوراق. قال: صدقت يا محمد. أقول: كل من الروايتين ناظرة إلى واحد من معنيي الفرقان المتقدمين. * * * وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤا ظلما وزورا - 4. وقالوا أساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا - 5. قل أنزله الذي يعلم
________________________________________
[ 179 ]
السر في السموات والارض إنه كان غفورا رحيما - 6. وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا - 7. أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا - 8. أنظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا - 9. تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار ويجعل لك قصورا - 10. بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا - 11. إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا - 12. وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا - 13. لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا - 14. قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا - 15. لهم فيها ما يشاؤن خالدين كان على ربك وعدا مسؤلا - 16. ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل - 17. قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا - 18. فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم
________________________________________
[ 180 ]
منكم نذقه عذابا كبيرا - 19. وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا - 20. (بيان) تحكي الآيات عن المشركين ما طعنوا به في القرآن الكريم في النبي ص وتجيب عنه. قوله تعالى: " قال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون " الخ في التعبير بمثل قوله: " وقال الذين كفروا " من غير أن يقال: وقالوا، مع تقدم ذكر الكفار في قوله: " واتخذوا من دونه آلهة " تلويح إلى أن القائلين بهذا القول هم كفار العرب دون مطلق المشركين. والمشار إليه بقولهم: " إن هذا " القرآن الكريم، وإنما اكتفوا بالاشارة دون أن يذكروه باسمه أو بشئ من أوصافه إزراء به وحطا لقدره. والافك هو الكلام المصروف عن وجهه، ومرادهم بكونه إفكا افتراء كونه كذبا اختلقه النبي ص ونسبه إلى الله سبحانه. والسياق لا يخلو من إيماء إلى أن المراد بالقوم الآخرين بعض أهل الكتاب وقد ورد في بعض الآثار أن القوم الآخرين هم عداس مولى حو يطب بن عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي وجبر مولى عامر كانوا من أهل الكتاب يقرؤن التوراة أسلموا وكان النبي ص يتعهدهم فقيل ما قيل. وقوله: " فقد جاؤا ظلما وزورا " قال في مجمع البيان: إن جاء وأتى ربما كانا بمعنى فعل فيتعديان مثله فمعنى الآية فقد فعلوا ظلما وكذبا، وقيل: إن ظلما منصوب بنزع الخافض والتقدير فقد جاؤا بظلم، وقيل: حال والتقدير فقد جاؤا ظالمين وهو سخيف.
________________________________________
[ 181 ]
وفيه أيضا: ومتى قيل: كيف اكتفى بهذا القدر في جوابهم ؟ قلنا: لما تقدم التحدي وعجزهم عن الاتيان بمثله اكتفى ههنا بالتنبيه على ذلك. انتهى والظاهر أن الجواب عن قولهم: " إن هذا إلا إفك افتراه " - الخ، وقولهم: " أساطير الاولين اكتتبها " الخ، جميعا هو قوله تعالى: " قل أنزله الذي يعلم السر " الخ، على ما سنبين والجملة أعني قوله: " فقد جاؤا ظلما وزورا " رد مطلق لقولهم وهو في معنى المنع مع السند وسنده الآيات المشتملة على التحدي. وبالجملة معنى الآية: وقال الذين كفروا من العرب ليس هذا القرآن إلا كلاما مصروفا عن وجهه - حيث إنه كلام محمد ص وقد نسبه إلى الله - افترى به على الله وأعانه على هذا الكلام قوم آخرون وهم بعض أهل الكتاب فقد فعل هؤلاء الذين كفروا بقولهم هذا ظلما وكذبا. قوله تعالى: " وقالوا أساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا " الاساطير جمع أسطورة بمعنى الخبر المكتوب ويغلب استعماله في الاخبار الخرافية والاكتتاب هو الكتابة ونسبته إليه ص مع كونه اميا لا يكتب إنما هي بنوع من التجوز ككونه مكتوبا باستدعاء منه كما يقول الامير كتبت إلى فلان كذا وكذا وإنما كتبه كاتبه بأمره، والدليل على ذلك قوله بعد: " فهي تملى عليه بكرة وأصيلا " إذ لو كان هو الكاتب لم يكن معنى للاملاء، وقيل: الاكتتاب بمعنى الاستكتاب. والاملاء إلقاء الكلام إلى المخاطب بلفظه ليحفظه ويعيه أو إلى الكاتب ليكتبه والمراد به في الآية هو المعنى الاول على ما يعطيه سياق " اكتتبها فهي تملي عليه " إذ ظاهره تحقق الاكتتاب دفعه والاملاء تدريجا على نحو الاستمرار فهي مكتوبة مجموعة عنده تقرا عليه وقتا بعد وقت وهو يعيها فيقرأ على الناس ما وعاه وحفظه. والبكرة والاصيل الغداة والعشي، وهو كناية عن الوقت بعد الوقت، وقيل المراد أول النهار قبل خروج الناس من منازلهم وآخر النهار بعد دخولهم في منازلهم وهو كناية عن أنها تملى عليه خفية. والآية بمنزلة التفسير للآية السابقة فكأنهم يوضحون قولهم: إنه إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون بأنهم كتبوا له أساطير الاولين ثم يملونها عليه وقتا بعد وقت
________________________________________
[ 182 ]
بقراءة شئ بعد شئ عليه، وهو يقرؤها على الناس وينسبها إلى الله سبحانه. فالآية بتمامها من كلام الذين كفروا، وربما قيل: إن قوله: " اكتتبها فهي تملى عليه " إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تمام كلامهم، وهو استفهام إنكاري لقولهم: أساطير الاولين، والسياق لا يساعد عليه. قوله تعالى: " قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والارض إنه كان غفورا رحيما " أمر للنبي ص برد قولهم وتكذيبهم فيما رموا به القرآن أنه إفك مفترى وأنه أساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه وقتا بعد وقت. وتوصيفه تعالى بأنه يعلم السر أي خفيات الامور وبواطنها في السماوات والارض للايذان بأن هذا الكتاب الذي أنزله منطو على أسرار مطوية عن عقول البشر، وفيه تعريض بمجازاتهم على جناياتهم التي منها رميهم القرآن بأنه إفك مفترى وأنه من الاساطير وهو مما يعلمه تعالى. وقوله: " إنه كان غفورا رحيما " تعليل لما هو المشاهد من إمهالهم وتأخير عقوبتهم على جناياتهم وتكذيبهم للحق وجراتهم على الله سبحانه. والمعنى: قل إن القرآن ليس إفكا مفترى ولا من الاساطير كما يقولون بل كتاب منزل من عند الله سبحانه ضمنه أسرار خفية لا تصل إلى كنهها عقولكم ولا تحيط بها أحلامكم، ورميكم إياه بالافك والاساطير وتكذيبكم لحقائقه جناية عظيمة تستحقون بها العقوبة غير أن الله سبحانه أمهلكم وأخر عقوبة جنايتكم لانه متصف بالمغفرة والرحمة وذلك يستتبع تأخير العذاب، هذا ملخص ما ذكروه في معنى الآية. وفيه أن السياق لا يساعد عليه فإن محصل معنى الآية على ما فسروه يرجع إلى رد دعوى الكفار كون القرآن إفكا مفترى ومن الاساطير بدعوى أنه منزل من عند الله منطو على أسرار خفية لا سبيل لهم إلى الوقوف عليها لا مساغ في مقام المخاصمة لرد الدعوى بدعوى أخرى مثلها أو هي أخفى منها. على أن التعليل بقوله: " إنه كان غفورا رحيما " إنما يناسب انتفاء العقوبة من أصلها دون الامهال والتأخير وإنما المناسب للامهال و التأخير من الاسماء هو مثل الحليم والعليم والحكيم دون الغفور الرحيم.
________________________________________
[ 183 ]
والاوفق لمقام المخاصمة والدفاع بإبانة الحق والتعليل بالمغفرة والرحمة أن يكون قوله: " إنه كان غفورا رحيما " تعليلا لانزال الكتاب وقد ذكر قبل ذلك أنه أنزله على عبده ليكون للعالمين نذيرا وهذه هي النبوة، ويكون حينئذ وصفه تعالى بعلم السر في السماوات والارض للايماء إلى أن في سرهم ما يستدعي شمول المغفرة والرحمة الاهيتين لحالهم وهو طلبهم بفطرتهم وجبلتهم للسعادة والعاقبة الحسنى التى ليست حقيقتها إلا السعادة الانسانية بشمول المغفرة والرحمة وإن أخطأ كثير منهم في تطبيقها على التمتع بالحياة الدنيا وزينتها الداثرة فيكون حجة برهانية على حقية الدعوة النبوية المشتملة عليها القرآن، وبطلان دعوى كونه إفكا من أساطير الاولين. وتقرير الحجة أن الله سبحانه يعلم السر في السماوات والارض وهو يعلم أن في سركم المستقر في سرائركم المجبولة عليه فطرتكم حبا للسعادة وطلبا وانتزاعا للعاقبة الحسنى وحقيقتها فوز الدنيا والآخرة، وكان سبحانه غفورا رحيما ومقتضى ذلك أن يجيبكم إلى ما تسألونه في سركم وبلسان فطرتكم فيهديكم إلى سبيله التي تضمن لكم السعادة. وهذا كتاب ينطق عليكم بسبيله فليس إفكا مفترى على الله ولا من قبيل الاساطير بل هو كتاب يتضمن ما تسألونه بفطرتكم وتستدعونه في سركم فإن استجبتم لداعيه شملتكم المغفرة والرحمة وإن توليتم حرمتم ذلك فهو كتاب منزل من عند الله ولو لم يكن نازلا من عنده كما يخبر عنه لم يهد إلى حقيقة السعادة ولم يدع إلى محض الحق ولاختلفت بياناته فدعاكم تارة إلى ما فيه خيركم ونفعكم وهو الذي يجلب اليكم المغفرة والرحمة، وتارة إلى ما هو شر لكم وضار وهو الذي يثير عليكم السخط الالهي ويستوجب لكم العقوبة. قوله تعالى: " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها " هذه حكاية ما طعنوا به في الرسول بعد ما حكى طعنهم في القرآن بقوله: " وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه " الخ. وتعبيرهم عنه ص بقولهم: " هذا الرسول " مع تكذيبهم برسالته مبني على التهكم والاستهزاء.
________________________________________
[ 184 ]
وقولهم: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق " استفهام للتعجيب والوجه فيه أن الوثنيين يرون أن البشر لا يسوغ له الاتصال بالغيب وهو متعلق الوجود بالمادة منغمر في ظلماتها، ومتلوث بقذاراتها، ولذا يتوسلون في التوجه إلى اللاهوت بالملائكة فيعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله ويقربوهم من الله زلفى فالملائكة هم المقربون عند الله المتصلون بالغيب المتعينون للرسالة لو كانت هناك رسالة، وليس للبشر شئ من ذلك. ومن هنا يظهر معنى قولهم: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق " وأن المراد أن الرسالة لا تجامع أكل الطعام والمشي في الاسواق لا كتساب المعاش فإنها اتصال غيبي لا يجامع التعلقات المادية، وليست إلا من شؤن الملائكة ولذا قالوا في غير موضع على ما حكاه الله تعالى: " لو شاء الله لانزل ملائكة " المؤمنون: 24 أو ما في معناه. ومن هنا يظهر أيضا أن قولهم: " لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا " تنزل من المشركين في الاقتراح أي كيف يكون هذا المدعي للرسالة رسولا وهو يأكل الطعام ويمشي في الاسواق والرسول لا يكون إلا ملكا منزها عن هذه الخصال المادية، فإن تنزلنا وسلمنا رسالته وهو بشر فلينزل إليه ملك يكون معه نذيرا ليتصل الانذار وتبليغ الرسالة بالغيب بتوسط الملك. وكذا قولهم: " أو يلقى إليه كنز " تنزل عما قبله من الاقتراح أي إن لم ينزل إليه ملك واستقل بالرسالة وهو بشر فليلق إليه من السماء كنز حتى يصرف منه في وجوه حوائجه المادية ولا يكدح في الاسواق في اكتساب ما يعيش به، ونزول الكنز إليه أسهل من نزول الملك إليه ليعينه في تبليغ الرسالة. وكذا قولهم: " أو تكون له جنة يأكل منها " تنزل عما قبله في الاقتراح، والمعنى: وإن لم يلق إليه كنز فليكن له جنة يأكل منها ولا يحتج إلى كسب المعاش وهذا أسهل من إلقاء الكنز إليه. قوله تعالى: " وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا " المراد بالظالمين هم المقترحون السابقو الذكر - كما قيل - فهو من وضع الظاهر موضع المضمر ووصفهم بالظلم للدلالة على بلوغهم في الظلم والاجتراء على الله ورسوله.
________________________________________
[ 185 ]
وقولهم: " إن تتبعون " الخ، خطاب منهم للمؤمنين تعييرا لهم وإغواء عن طريق الحق، ومرادهم بالرجل المسحور النبي ص يريدون أنه مسحور سحره بعض السحرة فصار يخيل إليه أنه رسول يأتيه ملك الوحي بالرسالة والكتاب. قوله تعالى: " انظر كيف ضربوا لك الامثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " الامثال الاشباه وربما قيل: إن المثل هنا بمعنى الوصف على حد قوله تعالى: " مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن " سورة محمد: 15، والمحصل: انظر كيف وصفوك فضلوا فيك ضلالا لا يرجى معه اهتداؤهم إلى الحق كقولهم إنه يأكل الطعام ويمشي في الاسواق فلا يصلح للرسالة لان الرسول يجب أن يكون شخصا غيبيا لا تعلق له بالمادة ولا أقل من عدم احتياجه إلى الاسباب العادية في تحصيل المعاش، وكقولهم: إنه رجل مسحور. وقوله: " فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " أي تفرع على هذه الامثال التي ضربوها لك أنهم ضلوا ضلالا لا يستطيعون معه أن يردوا سبيل الحق ولا يرجى لهم معه الاهتداء فإن من أخطأ الطريق ربما أخطأها بانحراف يسير يرجى معه ركوبها ثانيا، وربما استدبرها فصار كلما أمعن في مسيره زاد منها بعدا، ومن سمى كتاب الله بالاساطير ووصف رسوله بالمسحور ولم يزل يزيد تعنتا ولجاجا واستهزاء بالحق كيف يرجى اهتداؤه وحاله هذه ؟ قوله تعالى: " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار ويجعل لك قصورا " الاشارة في قوله: " من ذلك " إلى ما اقترحوه من قولهم: " أو يكون له جنة يأكل منها " أو إلى مجموع ما ذكروه من الكنز والجنة. والقصور جمع قصر وهو البيت المشيد العالي، وتنكير " قصورا " للدلالة على التعظيم والتفخيم. والآية بمنزلة الجواب عن طعنهم بالنبي ص واقتراحهم أن ينزل إليه ملك أو يلقى إليه كنز أو يكون له جنة غير أن فيها التفاتا من التكلم إلى الغيبة فلم يقل: قل إن شاء ربي جعل لي كذا وكذا بل عدل إلى قوله: " تبارك الذي إن شاء جعل لك " الخ.
________________________________________
[ 186 ]
وفيه تلويح إلى أنهم لا يستحقون جوابا ولا يصلحون لان يخاطبوا لانهم على علم بفساد ما اقترحوا به عليه فالنبي ص لم يذكر لهم إلا أنه بشر مثلهم يوحى إليه، ولم يدع أن له قدره غيبية وسلطنة إلهية على كل ما يريد أو يراد منه، كما قال تعالى بعد ما حكى بعض اقتراحاتهم في سورة الاسراء، " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " أسرى: 93. فأعرض سبحانه عن مخاطبتهم وعن الجواب عما اقترحوه، وانما ذكر لنبيه ص أن ربه الذي اتخذه رسولا وأنزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيرا قادر على أعظم مما يقترحونه فإن شاء جعل له خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار، ويجعل له قصورا لا يبلغ وصفها واصف وذلك خير من أن يكون له جنة يأكل منها أو يلقى إليه كنز ليصرفه في حوائجه. وبهذا المقدار يتحصل جوابهم فيما اقترحوه من الكنز والجنة، وأما نزول الملك إليه ليشاركه في الانذار ويعينه على التبليغ فلم يذكر جواب عنه لظهور بطلانه، وقد أجاب تعالى عنه في مواضع من كلامه بأجوبة مختلفة كقوله: " ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون " الانعام: 9، وقوله: " قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " أسرى: 95، وقوله: " ما ننزل الملائكة الا بالحق وما كانوا إذا منظرين " الحجر: 8، وقد تقدم تقرير حجة كل من الايات في ضمن تفسيرها. ومن هنا يظهر أن المراد بجعل الجنات والقصور له ص جعله في الدنيا على ما يقتضيه مقام المخاصمة ورد قولهم فإن المحصل من السياق أنهم يقترحون عليك كيت وكيت وهم يريدون تعجيزك وتبكيتك وإن ربك قادر على أعظم من ذلك فإن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها الانهار " الخ " وهي لا محالة في الدنيا وإلا لم ينقطع به الخصام. وبذلك يتبين فساد ما نقل عن بعضهم أن المراد جنات الآخرة وقصورها وأفسد منه قول آخرين ان المراد جعل جنات تجري من تحتها الانهار في الدنيا وجعل القصور في الآخرة، وربما استونس لذلك بأن التعبير في الجنات بقوله: " ان شاء جعل " وهو
________________________________________
[ 187 ]
صيغة ماض مفيدة للتحقق مناسبة للدنيا، وفي القصور بقوله: " يجعل " وهو صيغة مستقبل مناسبة للآخرة هذا مع أن الفعل الواقع في حيز الشرط منسلخ عن الزمان، والاختلاف في التعبير تفنن فيه وتجديد لصورة الكلام والله العالم. قوله تعالى: " بل كذبوا بالساعة واعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا "، اضراب عن طعنهم فيه ص واعتراضهم عليه بأكل الطعام والمشي في الاسواق بما يتضمن معنى التكذيب أي ما كذبوك وردوا نبوتك لانك تأكل الطعام وتمشي في الاسواق فإنما هو كلام منهم صوري بل السبب الاصلي في إنكارهم نبوتك وطعنهم فيك أنهم كذبوا بالساعة وأنكروا المعاد، ومن المعلوم أن لا وقع للنبوة مع إنكار الساعة ولا معنى للدين والشريعة لو لا المحاسبة والمجازاة. فالاشارة إلى السبب الاصلي بعد ذكر الاعتراض والاقتراح والجواب ههنا نظير ما وقع في سورة الاسراء بعد ذكر الاقتراحات ثم الجواب من ذكر السبب الاصلي في قوله: " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا وما منع الناس أن يؤمنوا إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ". وذكر جمع من المفسرين أن قوله: " بل كذبوا بالساعة " حكاية لبعض آخر من أباطيلهم كما حكى بعضا آخر منها متعلقا بالتوحيد والكتاب والرسالة في قوله: " واتخذوا من دونه آلهة " وقوله: " وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك " الخ، وقوله: " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل " الخ. ثم تشعبوا في نكتة الاضراب، فذكر بعضهم أن الوجه فيه كون المعاد لا ريب فيه، وقال بعضهم: إن إنكاره أعظم، وقال بعضهم: إنه أعجب إلى غير ذلك. والحق أن السياق لا يساعد عليه فإن السياق المتعرض لطعنهم في الرسول ص والجواب عنه لم يتم بعد بشهادة قوله بعد: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق " الخ، وما يتلوه من الآيات فلا معنى لاعتراض حكاية تكذيبهم بالساعة بين الآيات الحاكية لتكذيبهم بالرسول والمجيبة عنه، وهو ظاهر. وقوله تعالى: " وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا " وضع الموصول والصلة مكان
________________________________________
[ 188 ]
الضمير الراجع للدلالة على أن الجزاء بالسعير ثابت في حق كل من كذب بالساعة هم وغيرهم فيه سواء، وعلى أن سبب إعتاد السعير عليه فيهم تكذيبهم بالساعة. ووضع الساعة ثانيا موضع ضميرها ليكون أنص وأصرح فهو المناسب لمقام التهديد، والسعير النار المشتعلة الملتهبة. قوله تعالى: " إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا " في المفردات: الغيظ أشد غضب - إلى أن قال - و التغيظ هو إظهار الغيظ، وقد يكون ذلك مع صوت مسموع كما قال:، سمعوا لها تغيظا وزفيرا " إنتهى، وفيه أيضا: الزفير تردد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه، إنتهى. والآية تمثل حال النار بالنسبة إليهم إذا برزوا لها يوم الجزاء أنها تشتد إذا ظهروا لها كالاسد يزأر إذا رأى فريسته. قوله تعالى: " وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا " " مكانا " منصوب بتقدير في، والثبور الويل والهلاك. والتقرين التصفيد بالاغلال والسلاسل وقيل: هو جعلهم مع قرناء الشياطين وهو بعيد من اللفظ. والمعنى وإذا ألقوا يوم الجزاء في مكان ضيق من النار وهم مصفدون بالاغلال دعوا هنالك ثبورا لا يوصف وهو قولهم: واثبوراه. قوله تعالى: " لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا " الاستغاثة بالويل والثبور نوع احتيال للتخلص من الشدة وإذ كان اليوم يوم الجزاء فحسب لا ينفع فيه عمل ولا يجدي فيه سبب البتة لم ينفعهم الدعاء بالثبور أصلا ولذا قال تعالى: " لا تدعوا اليوم " الخ، فهو كناية عن أن الثبور لا ينفعكم اليوم سواء استقللتم منه أو استكثرتم. فهو في معنى قوله تعالى: " اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم " الطور: 16، وقوله حكاية عنهم: " سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص " إبراهيم: 21. وقيل: المراد أن عذابكم طويل مؤبد لا ينقطع بثبور واحد بل يحتاج إلى ثبورات كثيرة. وهو بعيد. قوله تعالى: " قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون - إلى قوله -
________________________________________
[ 189 ]
مسؤلا " الاشارة إلى السعير بما له من الوصف، أمر نبيه ص أن يسألهم أيهما أرحج السعير أم جنة الخلد ؟ والسؤال سؤال في أمر بديهي لا يتوقف في جوابه عاقل وهو دائر في المناظرة والمخاصمة يردد الخصم بين أمرين أحدهما بديهي الصحة والآخر بديهي البطلان فيكلف ان يختار أحدهما فإن اختار الحق فقد اعترف بما كان ينكره، وان اختار الباطل افتضح. وقوله: " أم جنة الخلد " اضافة الجنة إلى الخلد وهو الدوام للدلالة على كونها في نفسها خالدة لا تفنى كما أن قوله بعد: " خالدين " للدلالة على ان أهلها خالدون فيها لا سبيل للفناء إليهم. وقوله: " وعد المتقون " تقديره وعدها المتقون لان وعد يتعدى لمفعولين والمتقون مفعول ثان ناب مناب الفاعل. وقوله: " كانت لهم جزاء ومصيرا " أي جزاء لتقواهم ومنقلبا ينقلبون إليه بما هم متقون كما قال تعالى: " إن المتقين في جنات وعيون إلى أن قال - وما هم منها بمخرجين " الحجر: 48: وهو من الاقضية التي قضاها يوم خلق آدم وأمر الملائكة وإبليس بالسجود له، ويتعين به جزاء المتقين ومصيرهم كما تقدم في تفسير سورة الحجر. وقوله: " لهم فيها ما يشاؤن خالدين " أي انهم يملكون فيها بتمليك من الله لهم كل ما تتعلق به مشيتهم، ولا تتعلق مشيتهم إلا بما يحبونه ويشتهونه على خلاف أهل النار كما قال تعالى فيهم: " وحيل بينهم وبين ما يشتهون " سبأ: 54، ولا يحبون ولا يشتهون إلا ما من شأنه أن يتعلق به الحب واقعا وهو الذي يحبه الله لهم وهو ما يستحقونه من الخير والسعادة مما يستكملون به ولا يستضرون به لا هم ولا غيرهم فافهم ذلك. وبهذا البيان يظهر أن لهم اطلاق المشية يعطون ما شاؤا وأرادوا غير أنهم لا يشاؤن الا ما فيه رضى ربهم، ويندفع به ما استشكل على الآيات الناطقة بإطلاق المشية كهذه الآية أن لازم اطلاق المشية أن يجوز لهم أن يريدوا بعض المعاصي والقبائح والشنائع واللغو، وأن يريدوا بعض ما يسوء سائر أهل الجنة، وأن يريدوا نجاة بعض المخلدين في النار، وأن يريدوا مقامات الانبياء والمخلصين من الاولياء ممن هم فوقهم درجة إلى غير ذلك.
________________________________________
[ 190 ]
كيف ؟ وقد قال تعالى: " يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " الفجر: 27 - 30 فهم راضون بما رضي به الله ومرضيون لا يريدون الا ما يرتضيه فلا يريدون معصية ولا قبيحا ولا شنيعا ولا لغوا ولا كذابا، ولا يريدون ما لا يرتضيه غيرهم من أهل الجنة، ولا يريدون ارتفاع العذاب ممن يريد ربهم عذابه، ولا يشاؤن ولا يتمنون مقام من هو أرفع درجة منهم لان الذي خصهم بها هو ربهم وقد رضوا بما فعل وأحبوا ما أحبه. وقوله تعالى: " كان على ربك وعدا مسؤلا " أي كان هذا الوعد الذي وعده المتقون وعدا على ربك يجب عليه أن يفي به، وانما أوجبه هو تعالى على نفسه حيث قضى بذلك أول يوم، وأخبر عن ذلك بمثل قوله: " وأن للمتقين لحسن مآب جنات عدن - إلى أن - قال هذا ما توعدون ليوم الحساب " ص: 53. ووجه اتصاف هذا الوعد بكونه مسؤلا أن المتقين سألوا ربهم ذلك بلسان حالهم واستعدادهم، أو سألوه ذلك في دعائهم، أو الملائكة سألوا ذلك كما فيما يحكيه الله عنهم: " ربنا وأدخلهم جنات عدن " - الخ المؤمن: 8 أو جميع هذه الاسئلة. وذكر الطبرسي " ره " في الآية أن قوله: " كانت لهم جزاء ومصيرا حال من ضمير الجنة المقدر في " وعد المتقون "، وأن قوله: " لهم فيها ما يشاؤن " حال من " المتقون " وهو أقرب إلى الذهن من قول غيره أن الجملتين استينافان في موضع التعليل كالجواب لسؤال مقدر. قوله تعالى: " ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله " إلى آخر الآية ضمائر الجمع الاربعة عائدة إلى الكفار، والمراد بما يعبدون الملائكة والمعبودون من البشر والاصنام ان كان " ما " أعم من غير اولي العقل، والا فالاصنام فقط. والمشار إليهم المعنيون بقوله: " عبادي هؤلاء " الكفار ومعنى الآية ظاهر. قوله تعالى: " قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء " الخ، جواب المعبودين عن قوله: " ءأنتم أضللتم عبادي هؤلاء " الخ، وقد بدؤا بالتسبيح على ما هو من أدب العبودية في موارد يذكر فيها شرك أهل الشرك أو ما يوهم ذلك بوجه.
________________________________________
[ 191 ]
وقوله: " ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء " أي ما صح وما استقام لنا أن نتجاوزك إلى غيرك فنتخذ من دونك من أولياء وهم الذين عبدونا واتخذونا أولياء من دونك، وقوله: " ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا " البور جمع بائر وهو الهالك وقيل: الفاسد. لما نفى المعبودون المسؤولون عن سبب ضلال عبادهم نسبة الاضلال إلى أنفسهم أخذوا في نسبته إلى الكفار أنفسهم مع بيان السبب الذي أضلهم وهو أنهم كانوا قوما هالكين أو فاسدين وقد متعتهم وآباؤهم من أمتعة الحياة الدنيا ونعمها حتى طال عليهم التمتيع امتحانا وابتلاء فتمتعوا منها واشتغلوا بها حتى نسوا الذكر الذي جاءت به الرسل فعدلوا عن التوحيد إلى الشرك. فكونهم قوما هالكين أو فاسدين بسبب انكبابهم على الدنيا وانهماكهم في الشهوات هو السبب في استغراقهم في التمتع وانصراف هممهم إلى الاشتغال بالاسباب وهو السبب لنسيانهم الذكر والعدول عن التوحيد إلى الشرك. فتبين بذلك أن قوله: " وكانوا قوما بورا " من تمام الجواب وأما من جعل الجملة اعتراضا تذييليا مقررا لمضمون ما قبله واستفاد منه أن السبب الاصلي في ضلالهم أنهم كانوا بحسب ذواتهم أشقياء هالكين، وليس ذلك إلا بقضاء حتم منه تعالى في سابق علمه فهو المضل لهم حقيقة، وإنما نسب إلى أنفسهم أدبا. ففيه أولا: إنه إفساد لمعنى الآية إذ لا موجب حينئذ لا يراد الاستدراك بقوله: " ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر " لكونه فضلا لا حاجة إليه. وثانيا: أن نسبة البوار والشقاء إلى ذوات الاشياء ينافي ما أطبق عليه العقلاء بفطرتهم من تأثير التعليم والتربية، والحس والتجربة يؤيدان ذلك، وهو يناقض القول بالاختيار والجبر معا، أما مناقضة القول بالاختيار فظاهر، و أما مناقضة القول بالجبر فلان الجبري يقصر العلية في الواجب تعالى وينفيه عن غيره ويناقضه نسبة الاقتضاء الضروري إلى ذوات الاشياء وماهياتها. وثالثا: أن فيه خلطا في معنى القضاء من حيث متعلقه فكون القضاء حتما لا يوجب خروج الفعل الذي تعلق به من الاختيار إلى الاجبار فإن القضاء إنما تعلق
________________________________________
[ 192 ]
بالفعل بحدوده وهو صدوره عن اختيار الفاعل من حيث إنه صادر عن اختياره فتعلقه يوجب تأكد كونه اختياريا لا أنه يزيل عنه وصف الاختيار. ورابعا: أن قولهم: إن المضل بالحقيقة هو الله وإنما نسبوا الضلال إلى الكفار أنفسهم تأدبا وبمثله صرحوا في نسبة المعاصي والاعمال القبيحة الشنيعة والفجائع الفظيعة إلى فواعلها أنها في عين أنها من أفعاله تعالى إنما تنسب إلى غيره تأدبا كلام متهافت فإن الادب - كما تقدم تفصيل القول فيه في الجزء السادس من الكتاب - هو الهيئة الحسنة التي ينبغي أن يقع عليها فعل ما، وبعبارة اخرى ظرافة الفعل، وإذ كان الحق الصريح في الفعل غير الجميل أنه فعل الله سبحانه ولا يشاركه في فعله غيره بأي وجه فرض كانت نسبته إلى غيره تعالى نسبة باطلة غير حق وكذبا وفرية لا تطابق الواقع فليت شعري أي أدب جميل في إماطة حق صريح وإحياء باطل ؟ وأي ظرافة ولطف في الكذب والفرية بإسناد الفعل إلى غير فاعله ؟ والله سبحانه أجل من أن يعظم بباطل أو بالستر على بعض أفعاله أو بالكذب والفرية بإسناد بعض ما يفعله إلى غيره، وإذ كان جميلا لا يفعل إلا الجميل فما معنى التأدب بنفي بعض أفعاله عنه ؟ قوله تعالى: " فقد كذبوكم بما تقولون فلا تستطيعون صرفا ولا نصرا " إلى آخر الآية، كلام له تعالى يلقيه إلى المشركين بعد براءة المعبودين منهم، وأما كلام المعبودين فقد تم في قوله: " وكانوا قوما بورا ". والمعنى: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون في حقهم إنهم آلهة من دون الله يصرفون عن عبدتهم السوء وينصرونهم، وإذ كذبوكم ونفوا عن أنفسهم الالوهيه والولاية فلا تستطيعون أنتم أيها العبدة أن تصرفوا عن أنفسكم العذاب بسبب عبادتهم، ولا تستطيعون نصرا لانفسكم بسببهم. والترديد بين الصرف والنصر كأنه باعتبار استقلال المعبودين في دفع العذاب عنهم وهو الصرف. وعدم استقلالهم بأن يكونوا جزء السبب وهو النصر. وقرأ غير عاصم من طريق حفص " يستطيعون " بالياء المثناة من تحت وهي قراءة حسنة ملائمة لمقتضى السياق، والمعني: فقد كذبكم المعبودون بما تقولون إنهم
________________________________________
[ 193 ]
آلهة يصرفون عنكم السوء أو ينصرونكم ويتفرع على ذلك أنهم لا يستطيعون لكم صرفا ولا نصرا. وقوله: " ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا " المراد بالظلم مطلق الظلم والمعصية وإن كان مورد الآيات السابقة خصوص الظلم الذي هو الشرك، فقوله: " ومن يظلم منكم " الخ، من قبيل وضع القانون العام موضع الحكم الخاص، ولو كان المراد به الحكم الخاص بهم لكان من حق الكلام أن يقال: " ونذيقكم بما ظلمتم عذابا كثيرا لانهم كلهم ظالمون ظلم الشرك ". والنكتة فيه الاشارة إلى أن الحكم الالهي نافذ جار لا مانع منه ولا معقب له كأنه قيل: وإن كذبكم المعبودون وما استطاعوا صرفا ولا نصرا فالحكم العام الالهي " من يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا " على نفوذه وجريانه لا مانع منه ولا معقب له فأنتم ذائقون العذاب البتة. قوله تعالى: " وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الاسواق " إلى آخر الآية. أجاب تعالى عن قولهم: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الاسواق " الخ، أولا بقوله: " تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك " الخ، مع ما يلحقه من قوله: " بل كذبوا بالساعة " الخ، وهذا جواب ثان محصله أن هذا الرسول ليس بأول رسول أرسل إلى الناس بل أرسل الله قبله جما غفيرا من المرسلين وقد كانوا على العادة البشرية الجارية بين الناس يأكلون الطعام ويمشون في الاسواق ولم يخلق لهم جنة يأكلون منها ولا ألقي إليهم كنز ولا أنزل معهم ملك، وهذا الرسول إنما هو كأحدهم ولم يأت بأمر بدع حتى يتوقع منه ما لا يتوقع من غيره. فالآية في معنى قوله: " قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحي إلى " الاحقاف: 9، قريبة المعنى من قوله: " قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي " الكهف: 110. فإن قيل: هذا في الحقيقة دفع للاعتراض عنه صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وتوجيهه إلى عامة
________________________________________
[ 194 ]
الرسل فلهم أن يعترضوا على عامة الرسل كما وجهه سابقوهم قد حكى الله عنهم ذلك قال: " قالوا أبشر يهدوننا " التغابن: 6، وقال: " قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا " إبراهيم: 10، وقال: " ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون " المؤمنون: 33. قلنا: الجواب مطابق للاعتراض فإن قولهم: " ما لهذا الرسول يأكل " الخ، يعطي الخصوصية بلا إشكال وأما تعميم الاعتراض لو عمم فيدفعه قوله تعالى: " بل كذبوا بالساعة " الخ، وقوله قبل ذلك: " قل أنزل الذي يعلم السر " الخ، على ما تقدم من التقرير. ومن عجيب القول ما عن بعض المفسرين أن الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كأنه قيل: إن الرسل من قبلك كانوا على الحال التى أنت عليها فلك فيهم أسوة حسنة، وأما كونه جوابا عن تعنتهم فالنظم لا يساعد عليه إذ قد أجيب عنه بقوله: " انظر كيف ضربوا لك الامثال " هذا وهو خطأ. وقوله تعالى: " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون " متمم للجواب السابق بمنزلة التعليل لكون الرسل كسائر الناس في الخواص البشرية من غير أن تتميز حياتهم أو دعوتهم بخواص سماوية ورث القطع بكونهم حاملين للرسالة الالهية كإنزال ملك عليهم أو القاء كنز إليهم أو خلق جنة لهم فكأنه قيل: والسبب في كون الرسل جارين في حياتهم على ما يجري عليه الناس أنا جعلنا بعض الناس لبعض فتنة يمتحنون بها فالرسل فتنة لسائر الناس يمتحنون بهم فيتميز بهم أهل الريب من أهل الايمان والمتبعون للاهواء الذين لا يصبرون على مر الحق من طلاب الحق الصابرين في طاعة الله وسلوك سبيله. وبما مر يتبين أولا: أن المراد بالصبر هو الصبر بأقسامه وهي الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر عند المصائب. وثانيا: أن قوله: " وجعلنا بعضكم لبعض فتنة " من وضع الحكم العام موضع الخاص، والمطلوب الاشارة إلى جعل الرسل - وحالهم هذه الحال - فتنة لسائر الناس. وقوله تعالى: " وكان ربك بصيرا " أي عالما بالصواب في الامور فيضع كل أمر
________________________________________
[ 195 ]
في الموضع المناسب له ويجري بذلك أتم النظام فهدف النظام الانساني كمال كل فرد بقطعه طريق السعادة أو الشقاوة على حسب ما يستعد له ويستحقه ولازمه بسط نظام الامتحان بينهم ولازمه ارتفاع التمايز بين الرسل وغيرهم. وفي الجملة التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة، والنكتة فيه نظيرة ما في قوله السابق: " تبارك الذي إن شاء " الخ. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس إن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البختري والاسود بن المطلب وزمعة بن الاسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أمية وأمية ابن خلف والعاصي بن وائل ونبيه بن الحجاج اجتمعوا فقال بعضهم لبعض: إبعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك. قال: فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له: يا محمد إنا بعثنا اليك لنعذر منك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب الشرف فنحن نسودك، وإن كنت تطلب ملكا ملكناك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: مابي مما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب اموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني اليكم رسولا، وأنزل على كتابا، و أمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا يا محمد فإن كنت غير قابل منا شيئا عرضناه عليك فسل لنفسك وسل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا من ذهب وفضة يغنيك عما تبتغي فإنك تقوم بالاسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم.
________________________________________
[ 196 ]
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا بفاعل. ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت اليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا. فأنزل الله في قولهم ذلك " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام - إلى قوله - وجعلنا بعضكم لبعض فتنة. أتصبرون وكان ربك بصيرا " أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسولي فلا تخالفوه لفعلت. وفيه أخرج الطبراني وابن مردويه من طريق مكحول عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كذب على متعمدا فليتبو أمقعدا من بين عيني جهنم. قالوا: يا رسول الله وهل لجهنم من عين ؟ قال: أما سمعتم الله يقول: " إذا رأتهم من مكان بعيد " فهل تراهم إلا بعينين ؟ أقول: ورواه أيضا عن رجل من الصحابة، وفي حجة الخبر خفاء. وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن يحيي بن أبي أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قول الله: " وإذا القوا منها مكانا ضيقا مقرنين " قال: والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط. * * * وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملئكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا - 21. يوم يرون الملئكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا - 22. وقد منا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا - 23. أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا - 24. ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملئكة تنزيلا - 25. الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا - 26. ويوم يعض الظالم على
________________________________________
[ 197 ]
يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا - 27. يا ويلتى ليتني لم اتخذ فلانا خليلا - 28. لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا - 29. وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا - 30. وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا - 31. (بيان) تحكي الآيات اعتراضا آخر من المشركين على رسالة الرسول يردون به عليه محصله أنه لو جاز أن يكون من البشر بما هو بشر رسول تنزل عليه الملائكة بالوحي من الله سبحانه أو يراه تعالى فيكلمه وحيا لكان الرسول وسائر البشر سواء في هذه الخصيصة فإن كان ما يدعيه من الرسالة حقا لكنا أو كان البعض منا يرى ما يدعي رؤيته ويجد من نفسه ما يجده. وهذا الاعتراض مما سبقهم إليه أمم الانبياء الماضين كما حكاه الله: " قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا " إبراهيم: 10، وقد مر تقريبه مرارا. وهذا مع ما تقدم من إعتراض بقولهم: " ما لهذا الرسول يأكل الطعام " الخ، بمنزلة حجة واحدة تلزم الخصم بأحد محذورين ومحصل تقريره أن الرسالة التى يدعيها هذا الرسول إن كانت موهبة سماوية واتصالا غيبيا لا حظفيها للبشر بما هو بشر فلينزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقي إليه كنز أو يجعل له جنة يأكل منها، وإن كانت خاصة من شأن البشر بما هو بر أن ينالها يتصف بها فما بالنا لا نجدها في أنفسنا ؟ فلولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا. وقد أجاب الله سبحانه عن الشق الاول بما تقدم تقريره، وعن الثاني بأنهم سيرون الملائكة لكن في نشأة غير هذه النشأة الدنيوية، والجواب في معنى قوله: " ما
________________________________________
[ 198 ]
ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين " الحجر: 8 وسيجئ تقريره وفي الآيات إشارة إلى ما بعد الموت ويوم القيامة. قوله تعالى: " وقال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا " قال في مجمع البيان: الرجاء ترقب الخير الذي يقوى في النفس وقوعه ومثله الطمع والامل، واللقاء المصير إلى الشئ من غير حائل، والعتو الخروج إلى أفحش الظلم. انتهى. المراد باللقاء الرجوع إلى الله يوم القيامة سمي به لبروزهم إليه تعالى بحيث لا يبقي في البين حائل جهل أو غفلة لظهور العظمة الالهية كما قال تعالى: " ويعلمون أن الله هو الحق المبين ". فالمراد بعدم رجائهم اللقاء انكارهم للمعاد وتكذيبهم بالساعة ولم يعبر عنه بتكذيب الساعة ونحوه كما عبر في الآيات السابقة المكان ذكرهم مشاهدة الملائكة ورؤية الرب تعالى وتقدس ففيه إشارة إلى أنهم إنما قالوا ما قالوا وطلبوا إنزال الملائكة أو رؤية الرب ليأسهم من اللقاء وزعمهم استحالة ذلك فقد الزموا بما هو مستحيل على زعمهم. فقولهم: " لو لا أنزل الينا الملائكة أو نرى ربنا " إعتراض منهم على رسالة الرسول أوردوه في صورة التحضيض كقولهم في موضع آخر: " لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين " الحجر: 7، وتقرير الحجة كما تقدمت الاشارة إليه أنه لو كانت الرسالة - وهي نزول الملائكة بالوحي أو تكليمه تعالى البشر بالمشافهة - مما يتيسر للبشر نيله ونحن بشر امثال هذا المدعي للرسالة فما بالنا لا ينزل علينا الملائكة ولا نرى ربنا ؟ فهلا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا. ويؤيد ما ذكرناه من التقرير إطلاق إنزال الملائكة ورؤية الرب من غير أن يقولوا: لو لا أنزل علينا الملائكة فيصدقوك أو نرى ربنا فيصدقك. على أنهم ذكروا في اعتراضهم السابق نزول الملك ليكون معه نذيرا وفيه تصديقه. وفي التعبير عنه تعالى بلفظ ربنا نوع تهكم منهم فإن المشركين ما كانوا يرونه تعالى ربا لهم بل كان عندهم أن أربابهم ما كانوا يعبدونهم والله سبحانه رب الارباب
________________________________________
[ 199 ]
فكأنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنك ترى أن الله ربك وقد نحن اليك فخصك بالمشافهة والتكليم، وأنه ربنا، فليحن الينا وليشافهنا بالرؤية كما فعل بك. على أنهم إنما عدلوا عن عبادة أرباب الاصنام وهم الملائكة وروحانيات الكواكب ونحوهم إلى عبادة الاصنام والتماثيل لتكون محسوسة غير غائبة عن المشاهدة عند العبادة والتقرب بالقرابين. وقوله تعالى: " لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا " أي أقسم لقد طلبوا الكبر لانفسهم بغير حق وطغوا طغيانا عظيما. قوله تعالى: " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا " في المفردات: الحجر الممنوع منه بتحريمه قال تعالى: " وقالوا هذه أنعام وحرث حجر " " ويقولون حجرا محجورا " كان الرجل إذا لقي من يخاف يقول ذلك فذكر تعالى أن الكفار إذا رأوا الملائكة قالوا ذلك ظنا أن ذلك ينفعهم. انتهى. وعن الخليل كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الاشهر الحرم فيقول: حجرا محجورا أي حرام عليك التعرض لي في هذا الشهر فلا يبدؤه بشر وعن أبي عبيدة: هي عوذة للعرب يقولها من يخاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة. فقوله: " يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين " يوم - على ما قيل - ظرف لقوله: " لا بشرى " وقوله: " يومئذ " تأكيد له، والمراد بقوله: " لا بشرى " نفي للجنس، والمراد بالمجرمين كل متصف بالإجرام غير أن مورد الكلام إجرام الشرك والمجرمون هم الذين لا يرجون اللقاء، وقد تقدم ذكرهم والمعنى: يوم يرى هؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا الملائكة لا بشرى - على طريق نفي الجنس - يومئذ للمجرمين وهم منهم. وقوله: " ويقولون حجرا محجورا " فاعل يقولون هم المشركون أي يقول المشركون يومئذ للملائكة وهم قاصدوهم بالعذاب: حجرا محجورا أي لنكن في معاذ منكم، وقيل: ضمير الجميع للملائكة، والمعنى: ويقول الملائكة للمشركين حراما محرما عليكم سماع البشرى، أو حراما محرما عليكم أن تدخلوا الجن أو حراما محرما
________________________________________
[ 200 ]
عليكم أن تتعوذوا من العذاب إلى شئ فلا معاذ لكم هذا، والمعنى: الاول أقرب إلى السياق. والآية في موضع الجواب عن قولهم: " لولا أنزل إلينا الملائكة " وقد أعرضت عن جواب قولهم: " أو نرى ربنا " فإن الرؤية التي كانوا يقصدونها بقولهم هي الرؤية البصرية التي تستلزم التجسم والمادية تعالى عن ذلك، وأما الرؤية بعين اليقين وهي الرؤية القلبية فلم يكونوا ممن يفقه ذلك وعلى تقديره ما كانوا يقصدونه. وأما توضيح الجواب عن أمر إنزال الملائكة ورؤيتهم فقد أخذ أصل الرؤية مفروغا منه مسلما أن هناك يوما يرون فيه الملائكة غير أنه وضع الاخبار عن وصفهم يوم الرؤية موضع الاخبار عن أصل رؤيتهم للاشارة إلى أن طلبهم لرؤية الملائكة ليس يجرى على نفعهم فإنهم لا يرون الملائكة إلا يوم يشافهون عذاب النار وذلك بعد تبدل النشأة الدنيوية من النشأة الاخرى كما أشار إليه في موضع آخر بقوله: " ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين " الحجر: 8، فهم في مسألتهم هذه يستعجلون بالعذاب وهم يحسبون أنهم يعجزون الله ورسوله بالحجة. وأما ما هو هذا اليوم الذي أشير إليه بقوله: " يوم يرون الملائكة " فقد ذكر المفسرون أنه يوم القيامة لكن الذي يعطيه السياق مع ما ينضم إليه من الآيات الواصفة ليوم الموت وما بعده كقوله: " ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون " الآية، الانعام: 93، وقوله: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها " النساء: 97 إلى غير ذلك من الآيات. أن المراد به الموت وهو المسمي في عرف القرآن برزخا فإن في الآيات دلالة قاطعة على أنهم يرون الملائكة ويشافهونهم بعد الموت قبل يوم القيامة، والمتعين - على ما يقتضيه طبع المخاصمة - في جواب من يجحد رؤية الملائكة أن يذكر له أول يوم يراهم بما يسوؤه وهو يوم الموت لا أن يخاصم بذكر رؤيتهم يوم القيامة وقوله لهم: حجرا محجورا، وقد رآهم قبل ذلك وعذب بأيديهم أمدا بعيدا وهو ظاهر.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page