• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 126 الي 150


[ 126 ]
" وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " العنكبوت: 43. قوله تعالى: " في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها إسمه " الاذن في الشئ هو إعلام إرتفاع المانع عن فعله، والمراد بالرفع رفع القدر والمنزلة وهو التعظيم، وإذ كانت العظمة والعلو لله تعالى لا يشاركه في ذلك غيره إلا أن ينتسب إليه، وبمقدار ما ينتسب إليه فالاذن منه تعالى في أن ترفع هذه البيوت إنما هو لانتساب ما منها إليه. وبذلك يظهر أن السبب لرفعها هو ما عطف عليه من ذكر إسمه فيها، والسياق يدل على الاستمرار أو التهيؤله فيعود المعني إلى مثل قولنا: " أن يذكر فيها اسمه فيرتفع قدرها بذلك ". وقوله: " في بيوت " متعلق بقوله في الآية السابقة: " كمشكاة " أو قوله: " يهدي الله " الخ، والمال واحد، ومن المتيقن من هذه البيوت المساجد فإنها معدة لذكر اسمه فيها ممحضة لذلك، وقد قال تعالى: " ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا " الحج: 40. قوله تعالى: " يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال " إلى آخر الآية. تسبيحه تعالى تنزيهه عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، والغدو جمع غداة وهو الصبح والآصال جمع أصيل وهو العصر، والالهاء صرف الانسان عما يعنيه ويهمه، والتجارة على ما قاله الراغب: التصرف في رأس المال طلب للربح. قال: وليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ. والبيع على ما قال: إعطاء المثمن وأخذ الثمن، وقلب الشئ على ما ذكره صرف الشئ من وجه إلى وجه، والتقليب مبالغة فيه والتقلب قبوله فتقلب القلوب والابصار تحول منها من وجه من الادراك إلى وجه آخر. وقوله: " يسبح له فيها بالغدو والآصال " صفة لبيوت أو استئناف لبيان قوله: " ويذكر فيها اسمه "، وكون التسبيح بالغدو والآصال كناية عن استمرار هم فيه لا أن التسبيح مقصور في الوقتين لا يسبح له في غيرهما. والاكتفاء بالتسبيح من غير ذكر التحميد معه لانه تعالى معلوم بجميع صفاته الكمالية لا سترة عليه إذ المفروض أنه نور والنور هو الظاهر بذاته المظهر لغيره وإنما يحتاج خلوص المعرفة إلى نفي النقائص عنه وتنزيهه عما لا يليق به فإذا تم التسبيح لم
________________________________________
[ 127 ]
يبق معه غيره وتمت المعرفة ثم إذا تمت المعرفة وقع الثناء والحمد وبالجملة التوصيف بصفات الكمال موقعه بعد حصول المعرفة كما قال تعالى: " سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين " الصافات: 160، فنزهه عما يصفونه به إلا ما وصفه به من أخلصهم لنفسه من عباده، وقد تقدم في تفسير سورة الحمد كلام في معنى حمده تعالى. وببيان آخر حمده تعالى وهو ثناؤه بصفة الكمال مساوق لحصول نور المعرفة وتسبيحه وهو التنزيه بنفي ما لا يليق به عنه مقدمة لحصوله، والآية في مقام بيان خصالهم التي تستدعي هدايتهم إلى نوره فلا جرم اقتصر فيها بذكر ما هي المقدمة وهو التسبيح، فافهم ذلك. وقوله: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع " التجارة إذا قوبلت بالبيع كان المفهوم منها بحسب العرف الاستمرار في الاكتساب بالبيع والشراء والبيع هو العمل الاكتسابي الدفعي فالفرق بينهما هو الفرق بين الدفعة والاستمرار فمعنى نفي البيع بعد نفي التجارة مع كونه منفيا بنفيها الدلالة على أنهم لا يلهون عن ربهم في مكاسبهم دائما ولا في وقت من الاوقات، وبعبارة اخري لا تنسيهم ربهم تجارة مستمرة ولا بيع ما من البيوع التي يوقعونها مدة تجارتهم. وقيل: الوجه في نفي البيع بعد نفي إلهاء التجارة أن الربح في البيع ناجز بالفعل بخلاف التجارة التي هي الحرفة، فعدم إلهاء التجارة لا يستلزم عدم إلهاء البيع الرابح بالفعل، ولذلك نفي البيع ثانيا بعد نفي إلهاء التجارة ولذلك كررت لفظة " لا " لتذكير النفي وتأكيده، وهو وجه حسن. وقوله عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة الاقام هو الاقامة بحذف التاء تخفيفا. والمراد بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة الاتيان بجميع الاعمال الصالحة التي كلف الله تعالى عباده بإتيانها في حياتهم الدنيا، وإقامة الصلاة ممثلة لاتيان ما للعبد من وظائف العبودية مع الله سبحانه، وإيتاء الزكاة ممثل لوظائفه مع الخلق وذلك لكون كل منها ركنا في بابه. والمقابلة بين ذكر الله وبين إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهما - وخاصة الصلاة -
________________________________________
[ 128 ]
من ذكر الله يعطي أن يكون المراد بذكر الله الذكر القلبي الذي يقابل النسيان والغفلة وهو ذكر علمي كما أن أمثال الصلاة والزكاة ذكر عملي. فالمقابلة المذكورة تعطي أن المراد بقوله: " عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة " أنهم لا يشتغلون بشئ عن ذكرهم المستمر بقلوبهم لربهم وذكرهم الموقت بأعمالهم من الصلاة والزكاة، وعند ذلك يظهر حسن التقابل بين التجارة والبيع وبين ذكر الله وإقام الصلاة الخ، لرجوع المعنى إلى أنهم لا يلهيهم مله مستمر ولا موقت عن الذكر المستمر والموقت، فافهم ذلك. وقوله: " يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والابصار " هذا هو يوم القيامة، والمراد بالقلوب والابصار ما يعم قلوب المؤمنين والكافرين وابصارهم لكون القلوب والابصار جمعا محلى اللام وهو يفيد العموم. وأما تقلب القلوب والابصار فالآيات الواصفة لشان يوم القيامة تدل على أنه بظهور حقيقة الامر وانكشاف الغطاء كما قال تعالى: " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22، وقال: " وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون " الزمر: 47، إلى غير ذلك من الآيات. فتنصرف القلوب والابصار يومئذ عن المشاهدة والرؤية الدنيوية الشاغلة عن الله ساترة للحق والحقيقة إلى سنخ آخر من المشاهدة والرؤية وهو الرؤية بنور الايمان والمعرفة فيتبصر المؤمن بنور ربه وهو نور الايمان والمعرفة فينظر إلى كرامة الله، ويعمي الكافر ولا يجد إلا ما يسوؤه قال تعالى: " واشرقت الارض بنور ربها " الزمر: 69 وقال: " يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم " الحديد: 12، وقال: " ومن كان في هذه اعمى فهو في الآخرة اعمى " الاسراء: 72، وقال: " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " القيامة: 23 وقال: " كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " المطففين: 15. وقد تبين بما مر: أولا: وجه اختصاص هذا لصفة أعني تقلب القلوب والابصار من بين أوصاف يوم القيامة بالذكر وذلك أن الكلام مسوق لبيان ما يتوسل به إلى هدا يته تعالى إلى
________________________________________
[ 129 ]
نوره وهو نور الايمان والمعرفة الذي يستضاء به يوم القيامة ويبصر به. وثانيا: أن المراد بالقلوب والابصار النفوس وبصائرها. وثالثا: أن توصيف اليوم بقوله: " تتقلب فيه القلوب والابصار " لبيان سبب الخوف فهم إنما يخافون اليوم لما فيه من تقلب القلوب والابصار، وإنما يخافون هذا التقلب لما في أحد شقيه من الحرمان من نور الله والنظر إلى كرامته وهو الشقاء الدائم والعذاب الخالد وفي الحقيقة يخافون أنفسهم. قوله تعالى: " ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب " الظاهر أن لام " ليجزيهم " للغاية، والذي ذكره الله في خلال الكلام هو أعمالهم الصالحة والاجر الجميل على كل صالح مما ينص عليه كلامه تعالى فقوله: إنه يجزيهم أحسن ما عملوا معناه أنه يجزيهم بإزاء عملهم في كل باب جزاء أحسن عمل في ذلك الباب، ومرجع ذلك إلى أنه تعالى يزكى أعمالهم فلا يناقش فيها بالمؤاخذة في جهات توجب نقصها وانحطاط قدرها فيعد الحسن منها أحسن. ويؤيد هذا المعنى قوله في ذيل الآية: " والله يرزق من يشاء بغير حساب " فإن ظاهره عدم المداقة في حساب الحسنات بالاغماض عن جهات نقصها فيلحق الحسن بالاحسن. وقوله: " ويزيدهم من فضله الفضل " العطاء، وهذا نص في إنه تعالى يعطيهم من فضله ما ليس بإزاء أعمالهم الصالحة، وأوضح منه قوله تعالى في موضع آخر: " لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد " ق: 35، حيث إن ظاهره أن هذا المزيد الموعود أمر وراء ما تتعلق به مشيتهم. وقد دل كلامه سبحانه أن أجرهم أن لهم ما يشاؤن قال تعالى: " اولئك هم المتقون لهم ما يشاؤن عند ربهم ذلك جزاء المحسنين " الزمر: 34، وقال: " أم جنة الخلد التى وعد المتقون كانت لهم جزاء ومصيرا لهم فيها ما يشاؤن خالدين " الفرقان: 16، وقال: " لهم فيها ما يشاؤن كذلك يجزى الله المتقين " النحل: 31.
________________________________________
[ 130 ]
فهذا المزيد الذي هووراء جزاء الاعمال أمر أعلى وأعظم من أن تتعلق به مشية الانسان أو يوصل إليه سعيه، وهذا أعجب ما يعده القرآن المؤمنين ويبشرهم به فأجد التدبر فيه. وقوله: " والله يرزق من يشاء بغير حساب " استئناف مآله تعليل الجملتين السابقتين بالمشية نظير قوله فيما تقدم: " يهدي الله لنوره من يشاء " على ما مربيانه. ومحصله أنهم عملوا صالحا وكان لهم من الاجر ما يعادل عملهم كما هو ظاهر قوله: " وتوفى كل نفس ما عملت " النحل: 111، وما في معناه من الآيات لكنه تعالى يجزيهم لكل عمل من أعمالهم جزاء أحسن عمل يؤتى به في بابه من غير أن يداق في الحساب فهذه موهبة ثم يرزقهم أمرا هو أعلى وأرفع من أن تتعلق به مشيتهم وهذه أيضا موهبة ورزق بغير حساب، والرزق من الله موهبة محضة من غير أن يملك المرزوقون منه شيئا أو يستحقوه عليه تعالى فله تعالى أن يخص منه ما يشاء لمن يشاء. غير أنه تعالى وعدهم الرزق وأقسم على إنجازه في قوله: " فو رب السماء والارض إنه لحق " الذاريات: 23، فملكهم الاستحقاق لاصله وهو الذي يجزيهم به على قدر أعمالهم وأما الزائد عليه فلم يملكهم ذلك فله أن يختص به من يشاء فلا يعلل ذلك إلا بمشية، وللكلام تتمه ستوافيك إن شاء الله في بحث مستقل. قوله تعالى: " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمان ماء " إلى آخر الآية. السراب هو ما يلمع في المفازة كالماء ولا حقيقة له، والقيع والقاع هو المستوى من الارض ومفرداهما القيعة والقاعة كالتينة والتمرة، والظمآن هو العطشان. لما ذكرسبحانه المؤمنين ووصفهم بأنهم ذاكرون له في بيوت معظمة لا تلهيهم عنه تجارة ولا بيع، وأن الله الذي هو نور السماوات والارض يهديهم بذلك إلى نوره فيكرمهم بنور معرفته قابل ذلك بذكر الذين كفروا فوصف أعمالهم تارة بأنها لا حقيقة لها كسراب بقيعة فلا غاية لها تنتهي إليها، وتارة بأنها كظلمات بعضها فوق بعض لا نور معها وهي حاجزة عن النور، وهذه الآية هي التي تتضمن الوصف الاول. فقوله: " والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا " شبه أعمالهم - وهي التي يأتون بها من قرابين وإذكار وغيرهما من
________________________________________
[ 131 ]
عباداتهم يتقربون بها إلى آلهتهم - بسراب بقيعة يحسبه الانسان ماء ولا حقيقة له يترتب عليها ما يترتب على الماء من رفع العطش وغير ذلك. وإنما قيل: يحسبه الظلمآن ماء مع أن السراب يتراءى ماء لكل راء لان المطلوب بيان سيره إليه ولا يسير إليه إلا الظلمآن يدفعه إليه ما به من ظماء، ولذلك رتب عليه قوله: " حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، كأنه قيل: كسراب بقيعة يتخيله الظلمآن ماء فيسير إليه ويقبل نحوه ليرتوي ويرفع عطشه به، ولا يزال يسير حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. والتعبير بقوله: " جاءه " دون أن يقال: بلغه أو وصل إليه أو انتهى إليه ونحوها للايماء إلى أن هناك من يريد مجيئه وينتظره انتظارا وهو الله سبحانه، ولذلك أردفه بقوله: " ووجد الله عنده فوفاه حسابه " فأفاد أن هؤلاء يريدون بأعمالهم الظفر بأمر تبعثهم نحو فطرتهم وجبلتهم وهو السعادة التي يريدها كل إنسان بفطرته وجبلته لكن أعمالهم لا توصلهم إليه، ولا أن الآلهة التي يبتغون بأعمالهم جزاء حسنامنهم لهم حقيقة بل الذي ينتهي إليه أعمالهم و يحيط هو بها ويجزيهم هو الله سبحانه فيوفيهم حسابهم، وتوفية الحساب كناية عن الجزاء بما يستوجبه حساب الاعمال وإيصال ما يستحقه صاحب الاعمال. ففي الآية تشبيه أعمالهم بالسراب، وتشبيههم بالظمآن الذي يريد الماء وعنده عذب الماء لكنه يعرض عنه ولا يصغى إلى مولاه الذي ينصحه ويدعوه إلى شربه بل يحسب السراب ماء فيسير إليه ويقبل نحوه، وتشبيه مصيرهم إلى الله سبحانه بحلول الآجال وعند ذلك تمام الاعمال بالظمآن السائر إلى السراب إذا جاءه وعنده مولاه الذي كان ينصحه ويدعوه إلى شرب الماء. فهؤلاء قوم ألهوا عن ذكر ربهم والاعمال الصالحة الهادية إلى نوره وفيه سعادتهم وحسبوا أن سعادتهم عند غيره من الآلهة الذين يدعونهم، والاعمال المقربة إليهم وفيها سعادتهم فأكبوا على تلك الاعمال السرابية استوفوا ما يمكنهم أن يأتوا بها مدة أعمارهم حتى حلت آجالهم وشارفوا الدار الآخرة فلم يجدوا شيئا مما يؤملونه من أعمالهم ولا أثرا من ألوهية آلهتهم فوفاهم الله حسابهم والله سريع الحساب.
________________________________________
[ 132 ]
وقوله: " والله سريع الحساب " إنما هو لا حاطة علمه بالقليل والكثير والحقير والخطير والدقيق والجليل والمتقدم والمتأخر على حد سواء. واعلم أن الآية وإن كان ظاهرها بيان حال الكفار من أهل الملل وخاصة المشركين من الوثنيين لكن البيان جار في غيرهم من منكري الصانع فإن الانسان كائنا من كان يرى لنفسه سعادة في الحياة ولا يرتاب أن الوسيلة إلى نيلها أعماله التي يأتي بها فإن كان ممن يقول بالصانع ويراه المؤثر في سعادته بوجه من الوجوه توسل بأعماله إلى تحصيل رضاه والفوز بالسعادة التي يقدرها له، وإن كان ممن ينكره وينهي التأثير إلى غيره توسل بأعماله إلى توجيه ما يقول به من المؤثر كالدهر والطبيعة والمادة نحو سعادة حياته الدنيا التي لا يقول بماوراءها. فهؤلاء يرون المؤثر الذيده سعادة حياتهم غيره تعالى ولا مؤثر غيره ويرون مساعيهم الدنيوية موصلة لهم إلى سعادتهم وليست إلا سرابا لا حقيقة له ولا يزالون يسعون حتى إذا تم ما قدر لهم من الاعمال بحلول ما سمي لهم من الآجال لم يجدوا عند هاشيئا وعاينوا أن ما كانوا يتمنون منها لم يكن إلا طائف خيال أو حلم نائم، وعند ذلك يوفيهم الله حسابهم والله سريع الحساب. قوله تعالى: " أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب " تشبيه ثان لاعمالهم يظهر به أنها حجب متراكمة على قلوبهم تحجبهم عن نور المعرفة، وقد تكرر في كلامه تعالى أنهم في الظلمات كقوله: " والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات " البقره: 257، وقوله: " كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها " الانعام: 122، وقوله: " كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " المطففين: 15. وقوله: " أو كظلمات في بحر لجي " معطوف على " سراب " في الآية السابقة، والبحر الجي هو البحر المتردد أمواجه منسوب إلى لجة البحر وهي تردد أمواجه، والمعنى: أعمالهم كظلمات كائنة في بحر لجي. وقوله " يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب " صفة البحر جئ بها لتقرير الظلمات المفروضة فيه فصفتة أنه يغشاه ويحيط به موج كائن من فوقه موج آخر
________________________________________
[ 133 ]
كائن من فوقه سحاب يحجبنه جميعا من الاستضاءة بأضواء الشمس والقمر والنجوم. وقوله: " ظلمات بعضها فوق بعض " تقرير لبيان أن المراد بالظلمات المفروضة الظلمات المتراكمة بعضها على بعض دون المتفرقة، وقد أكد ذلك بقوله: " إذا أخرج يده لم يكد يراها " فإن أقرب ما يشاهده الانسان منه هو نفسه وهو أقدر على رؤية يده منه على سائر أعضائه لانه يقربها تجاه باصرته كيفما أراد فإذا أخرج يده ولم يكد يراها كانت الظلمة بالغة. فهؤلاء وهم سائرون إلى الله وصائرون إليه من جهة أعمالهم كراكب بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب في ظلمات متراكمة كأشد ما يكون ولا نور هناك يستضئ به فيهتدي إلى ساحل النجاة. وقوله: " ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور " نفي للنور عنهم بأن الله لم يجعله لهم، كيف لا ؟ وجاعل النور هو الله الذي هو نور كل شئ، فإذا لم يجعل لشئ نورا لم يكن له نورا إذ لا جاعل غيره تعالى. قوله تعالى: " ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والارض والطير صافات " إلى آخر الآية لما ذكر سبحانه أنه نور تستنير به السماوات والارض وأنه يختص بمزيد نوره المؤمنين من عباده والذين كفروا لا نصيب لهم من ذلك شرع يحتج على ذلك بما في هذه الآية والآيات الاربع التالية لها. فكونه تعالى نور السماوات والارض يدل عليه أن ما في السماوات والارض موجود بوجود ليس من عنده ولا من عند شئ مما فيهما لكونه مثله في الفاقة، فوجود ما فيهما من موجود من الله الذي ينتهي إليه الحاجات. فوجود كل شئ مما فيهما كما يظهر به نفس الوجود يدل على من يظهره بما أفاض عليه من الوجود فهو نور يستنير به الشئ ويدل على منوره بما أشرق عليه من النور وأن هناك نورا يستنير به كل شئ فكل شئ مما فيهما يدل على أن وراءه شيئا منزها من الظلمة التي غشيته، والفاقة التي لزمته، والنقص الذي لا ينفك عنه، وهذا هو تسبيح ما في السماوات والارض له سبحانه، ولازمه نفي الاستقلال عن كل من سواه وسلب أي إله ورب يدبر الامر دونه تعالى.
________________________________________
[ 134 ]
وإلى ذلك يشير قوله: " ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والارض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه " وبه يحتج تعالى على كونه نور السماوات والارض لان النور هو ما يظهر به الشئ المستنير ثم يدل بظهوره على مظهره، وهو تعالى يظهر ويوجد بإظهاره وإيجاده الاشياء ثم يدل على ظهوره ووجوده. وتزيد الآية بالاشارة إلى لطائف يكمل بها البيان: منها: اختصاصهمن في السماوات والارض والطير صافات وهم العقلاء وبعض ذوات الروح بالذكر مع عموم التسبيح لغيرهم لقوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ". ولعل ذلك من باب اختيار أمور من أعاجيب الخلقة للذكر فإن ظهور الموجود العاقل الذي يدل عليه لفظ من في السماوات والارض من عجيب أمر الخلقة الذي يدهش لب ذي اللب، كما أن صفيف الطير الصافات في الجو من أعجب ما يرى من أعمال الحيوان ذي الشعور وأبدعه. ويظهر من بعضهم أن المراد بقوله: " من في السماوات " الخ، جميع الاشياء وإنما عبر بلفظ أولي العقل لكون التسبيح المنسوب إليها من شؤن أولى العقل أو للتنبيه على قوة تلك الدلالة ووضوح تلك الاشارة تنزيلا للسان الحال منزلة المقال. وفيه أنه لا يلائم إسناد العلم إليها في قوله بعد: " كل قد علم صلاته وتسبيحه ". ومنها: تصدير الكلام بقوله: " ألم تر " وفيه دلالة على ظهور تسبيحهم ووضوح دلالتهم على التنزيه بحيث لا يرتاب فيه ذو ريب فكثيراما يعبر عن العلم الجازم بالرؤية كما في قوله تعالى: " ألم تر أن الله خلق السماوات والارض " إبراهيم: 19، والخطاب فيه عام لكل ذي عقل وإن كان خاصا بحسب الفظ. ومن الممكن أن يكون خطابا خاصا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد كان أراه الله تسبيح من في السماوات والارض والطير صافات فيما أراه من ملكوت السماوات والارض وليس ببدع منه صلى الله عليه وآله وسلم وقد أرى الناس تسبيح الحصاة في كفه كما وردت به الاخبار المعتبرة. ومنها: أن الآية تعمم العلم لكل ما ذكر في السماوات والارض والطير، وقد تقدم بعض البحث عنه في تفسير قوله: " وأن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم " الاسراء: 44، وستجئ تتمة الكلام فيه في تفسيرة سورة حم السجدة إن شاء الله.
________________________________________
[ 135 ]
وقول بعضهم: إن الضمير في قوله: " قد علم " راجع إليه تعالى، يدفعه عدم ملائمته للسياق وخاصة لقوله بعده: " والله عليم بما يفعلون " ونظيره قول آخرين: إن إسناد العلم إلى مجموع ما تقدم من المجاز بتنزيل غير العالم منزلة العالم لقوة دلالته على تسبيحه وتنزيهه. ومنها: تخصيصها التسبيح بالذكر مع أن الاشياء تشير إلى صفات كماله تعالى وهو التحميد كما تسبحه على ما يدل عليه البرهان ويؤيده قوله: " وإن من شئ إلا يسبح بحمده " ولعل الوجه فيه كون الآيات مسوقة للتوحيد ونفي الشركاء وذلك بالتنزيه أمس فإن من يدعو من دون الله إلها آخر أو يركن إلى غيره نوعا من الركون إنما يكفر بإثبات خصوصية وجود ذلك الشئ للاله تعالى فنفيه إنما يتأتى بالتنزيه دون التحميد فافهمه. وأما قوله: " كل قد علم صلاته وتسبيحه " فصلاته دعاؤه والدعاء توجيه من الداعي للمدعو إلى حاجته ففيه دلالة على حاجة عند الداعي المدعو في غنى عنها فهو أقرب إلى الدلالة على التنزيه منه على الثناء والتحميد. ومنها: أن الآية تنسب التسبيح والعلم به إلى من في السماوات والارض فيعم المؤمن والكافر، ويظهر بذلك أن هناك نورين: نور عام يعم الاشياء والمؤمن والكافر فيه سواء، وإلى ذلك تشير آيات كآية الذر: " وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين " الاعراف: 172، وقوله: " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " ق: 22، إلى غير ذلك، ونور خاص وهو الذي تذكرة الآيات ويختص بأوليائه من المؤمنين. فالنور الذي ينور تعالى به خلقه كالرحمة التي يرحمهم بها قسمان: عام وخاص وقد قال تعالى: " ورحمتي وسعت كل شئ " الاعراف: 156، وقوله: " فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته " الجاثية: 30 وقد جمع بينهما في قوله: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا " الحديد: 28، وما ذكر فيه من النور هو النور على نور بحذاء الثاني من كفلي الرحمة.
________________________________________
[ 136 ]
وقوله: " والله عليم بما يفعلون " ومن فعلهم تسبيحهم له سبحانه، وهذا التسبيح وإن كان في بعض المراحل هو نفس وجودهم لكن صدق اسم التسبيح يجوز أن يعد فعلا لهم بهذه العناية. وفي ذكر علمه تعالى بما يفعلون عقيب ذكر تسبيحهم ترغيب للمؤمنين وشكر لهم بأن ربهم يعلم ذلك منهم وسيجزيهم جزاء حسنا، وإيذان بتمام الحجة على الكافرين، فإن من مراتب علمه تعالى كتب الاعمال والكتاب المبين التي تثبت فيها أعمالهم فيثبت فيها تسبيحهم بوجودهم ثم إنكارهم بألسنتهم. قوله تعالى: " ولله ملك السماوات والارض وإلى الله المصير " سياق الآية وقد وقعت بين قوله: " ألم تر أن الله سبح له " الخ، وهو احتجاج على شمول نوره العام لكل شئ، وبين قوله: " ألم تر أن الله يزجي: الخ، وما يتعقبه وهو إحتجاج على اختصاص النور الخاص، يعطي أنها كالمتوسط بين القبيلين أعني بين الامرين يحتج بها على كليهما، فملكه تعالى لكل شئ وكونه مصيرا لها هو دليل على تعميمه نوره العام تخصيصه نوره الخاص يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. فقوله: " ولله ملك السماوات والارض " يخص الملك ويقصره فيه تعالى فله أن يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ولازم قصر الملك فيه كونه هو المصير لكل شئ وإذ كان لا مليك إلا هو واليه مرجع كل شئ ومصيره فله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. ومن هنا يظهر أن المراد - والله أعلم - بقوله: " وإلى الله المصير " مرجعيته تعالى في الامور دون المعاد نظير قوله: " ألا إلى الله تصير الامور " الشورى: 53. قوله تعالى: " ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله " إلى آخر الآية. الازجاء هو الدفع، والركام المتراكم بعضه على بعض، والودق هو المطر، والخلال جمع الخلل وهو الفرجة بين الشيئين. والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعنوان أنه سامع فيشمل كل سامع، والمعنى: ألم تر أنت وكل من يرى أن الله يدفع بالرياح سحابا متفرقا ثم يؤلف بينه ثم يجعله متراكما بعضه على بعض فترى المطر يخرج من خلله وفرجه فينزل على الارض.
________________________________________
[ 137 ]
وقوله: " وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالابصار " السماء جهة العلو، وقوله: " من جبال فيها " بيان للسماء، والجبال جمع جبل وهو معروف، وقوله: " من برد " بيان للجبال، والبرد قطعات الجمد النازل من السماء، وكونه جبالا فيها كناية عن كثرته وتراكمه، والسنا بالقصر الضوء. والكلام معطوف على قوله: " يزجي "، والمعنى: ألم تر أن الله ينزل من السماء من البرد المتراكم فيها كالجبال فيصيب به من يشاء فيفسد المزارع والبساتين وربما قتل النفوس والمواشي ويصرفه عمن يشاء فلا يتضررون به يقرب ضوء برقه من أن يذهب بالابصار. والآية - على ما يعطيه السياق - مسوقة لتعليل ما تقدم من اختصاصه المؤمنين بنوره، والمعنى: أن الامر في ذلك إلى مشيته تعالى كما ترى أنه إذا شاء نزل من السماء مطرا فيه منافع الناس لنفوسهم ومواشيهم ومزارعهم وبساتينهم، وإذا شاء نزل بردا فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء. قوله تعالى: " يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لاولى الابصار " بيان آخر الرجوع الامر إلى مشيته تعالى فقط. وتقليب الليل والنهار تصريفهما بتبديل أحدهما من الآخر، ومعنى الآية ظاهر. قوله تعالى: " والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع " بيان آخر لرجوع الامر إلى مشيته تعالى محضا حيث يخلق كل دابة من ماء ثم تختلف حالهم في المشى فمنهم من يمشي على بطنه كالحيات والديدان، ومنهم من يمشي على رجلين كالاناسي والطيور ومنهم من يمشي، على أربع كالبهائم والسباع، واقتصر سبحانه على هذه الانواع الثلاثة - وفيهم غير ذلك - إيجازا لحصول الغرض بهذا المقدار. وقوله: " يخلق الله ما يشاء " تعليل لما تقدم من اختلاف الدواب، مع وحدة المادة التي خلقت منها يبين أن الامر إلى مشية الله محضا فله أن يعمم فيضا من فيوضه
________________________________________
[ 138 ]
على جميع خلقه كالنور العام والرحمة العامة، وله أن يختص بفيض من فيوضه بعضا من خلقه دون بعض كالنور الخاص والرحمة الخاصة. وقوله: " إن الله على كل شئ قدير " تعليل لقوله: " يخلق الله ما يشاء " فإن إطلاق القدرة على كل شئ يستوجب أن لا يتوقف شئ من الاشياء في كينونته على أمر وراء مشيته وإلا كانت قدرته عليه مشروطة بحصول ذلك الامر وهذا خلف. وهذا باب من التوحيد دقيق سيتضح بعض الاضاح إن شاء الله بما في البحث الآتي. (بحث فلسفي) إنا لا نشك في أن ما نجده من الموجودات الممكنة معلولة منتهية إلى الواجب تعالى وإن كثيرا منها - وخاصة في الماديات - تتوقف في وجودها على شروط لا تحقق لها بدونها كالانسان الذي هو ابن فإن لوجوده توقفا على وجود الوالدين وعلى شرائط أخرى كثيرة زمانية ومكانية وإذ كان من الضروري كون كل مما يتوقف عليه جزء من علته التامة كان الواجب تعالى على هذا جزء علته التامة لا عله تامة أحدها. نعم هو بالنسبة إلى مجموع العالم علة تامة إذ لا يتوقف على شئ غيره وكذا الصادر الاول الذي تتبعه بقية أجزاء المجموع، وأما سائر أجزاء العالم فإنه تعالى جزء علته التامة ضرورة توقفه على ما هو قبله من العلل وما هو معه من الشرائط والمعدات. هذا إذا اعتبرنا كل واحد من الاجزاء بحياله ثم نسبنا وحده إلى الواجب تعالى. وههنا نظر آخر أدق وهو أن الارتباط الوجودي الذي لا سبيل إلى إنكاره بين كل شئ وبين علله الممكنة وشروطه ومعداته يقضي بنوع من الاتحاد والاتصال بينها فالواحد من الاجزاء ليس مطلقا منفصلا بل هو في وجوده المتعين مقيد بجميع ما يرتبطبه متصل الهوية بغيرها. فالانسان الابن الذي كنا نعتبره في المثال المتقدم بالنظر السابق موجودا مستقلا مطلقا فنجده متوقفا على علل وشروط كثيرة والواجب تعالى أحدها يعود بحسب هذه النظرة هوية مقيدة بجميع ما كان يعتبر توقفه عليه من العلل والشرائط غير الواجب
________________________________________
[ 139 ]
تعالى فحقيقة زيد مثلا هو الانسان ابن فلان وفلانة المتولد في زمان كذا ومكان كذا المتقدم عليه كذا وكذا المقارن لوجوده كذا وكذا من الممكنات. فهذه هو حقيقة زيد مثلا ومن الضروري أن ما حقيقته ذلك لا تتوقف على شئ غير الواجب فالواجب هو علته التامة التي لا توقف له على غيره، ولا حاجة له إلى غير مشيته، وقدرته تعالى بالنسبة إليه مطلقة غير مشروطة ولا مقيدة، وهو قوله تعالى: " يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شئ قدير ". قوله تعالى: " لقد أنزلنا آيات مبينات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " يريد آية النور وما يتلوها المبينة لصفة نوره تعالى والصراط المستقيم سبيله التي لا سبيل للغضب والضلال إلى من اهتدى إليها كما قال: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " الحمد: 7، وقد تقدم الكلام فيه في تفسير سورة الحمد. وتذييل الآية بقوله: " والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم " هو الموجب لعدم تقييد قوله: " لقد أنزلنا آيات مبينات " بلفظة اليكم بخلاف قوله قبل آيات: " لقد أنزلنا اليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم وموعظة للمتقين ". إذ لو قيل: لقد أنزلنا اليكم آيات مبينات والله يهدي. تبادر إلى الذهن أن البيان اللفظي هداية إلى الصراط المستقيم وأن المخاطبين عامة مهديون إلى الصراط المستقيم وفيهم المنافق والذين في قلوبهم مرض والله العالم. (بحث روائي) في التوحيد بإسناده عن العباس بن هلال قال: سألت الرضا عليه السلام عن قول الله عز وجل: " الله نور السماوات والارض " فقال: هاد لاهل السماوات وهاد لاهل الارض. وفي رواية برقي: هدى من في السماوات وهدى من في الارض. أقول: إذ كان المراد بالهداية الهداية الخاصة وهي الهداية إلى السعادة الدينية
________________________________________
[ 140 ]
كان من التفسير بمرتبة من المعنى، وإن كان المراد بها الهداية العامة وهي إيصال كل شئ إلى كماله انطبق على ما تقدم. وفي الكافي بإسناده عن إسحاق بن جرير قال: سألتني إمرأة أن أدخلها على أبي عبد الله عليه السلام فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت ومعها مولاة لها فقالت له: يا أبا عبد الله قول الله: " زيتونة لا شرقية ولا غربية " ما عني بهذا ؟ فقال لها: أيتها المرأة إن الله لم يضرب الامثال للشجر إنما ضرب الامثال لبني آدم. وفي تفسير القمي بإسناده عن طلحة بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عليه السلام في هذه الآية " الله نور السماوات والارض " قال: بدء بنور نفسه " مثل نوره " مثل هداه في قلب المؤمن " كمشكاة فيها مصباح " والمصباح جوف المؤمن والقنديل قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله في قلبه. " يوقد من شجرة مباركة " قال: الشجرة المؤمن " زيتونة لا شرقية ولا غربية " قال: على سواد الجبل لا غربية أي لا شرق لها، ولا شرقية أي لا غرب لها إذا طلعت الشمس طلعت عليها وإذا غربت غربت عليها " يكاد زيتها يضئ " يكاد النور الذي في قلبه يضئ وإن لم يتكلم. " نور على نور " فريضة على فريضة، وسنة على سنة " يهدي الله لنوره من يشاء " يهدي الله لفرائضه وسننه من يشاء " ويضرب الله الامثال للناس " فهذا مثل ضربه الله للمؤمن. ثم قال: فالمؤمن يتقلب في خمسة من النور: مدخله نور، ومخرجه نور، وعلمه نور، وكلامه نور، ومصيره يوم القيامة إلى الجنة نور. قلت لجعفر عليه السلام: إنهم يقولون: مثل نور الرب. قال: سبحان الله ليس لله مثل، قال الله: " فلا تضربوا لله الامثال ". أقول: الحديث يؤيد ما تقدم في تفسير الآية، وقد اكتفى عليه السلام في تفسير بعض فقرات الآية بذكر بعض المصاديق كالذي ذكره في ذيل قوله: " يكاد زيتها يضئ " وقوله: " نور على نور ". وأما قوله: " سبحان الله ليس لله مثل " فإنما ينفي به أن يكون المثل مثلا للنور
________________________________________
[ 141 ]
الذي وإسمه تعالى المحمول عليه فكونه مثلا له تعالى يؤدي إلى الحلول أو الانقلاب تعالى عن ذلك بل هو مثل لنوره المفاض على السماوات والارض، وأما الضمير في قوله: " مثل نوره " فلا ضير في رجوعه إليه تعالى مع الاحتفاظ على المعنى الصحيح. وفي التوحيد وقد روي عن الصادق عليه السلام أنه سئل عن قوله الله عزوجل: " الله نور السماوات والارض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح " فقال: هو مثل ضربه الله لنا فالنبي والائمة ص من دلالات الله وآياته التي يهتدي بها إلى التوحيد ومصالح الدين وشرائع الاسلام والسنن والفرائض، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. أقول: الرواية من قبيل الاشارة إلى بعض المصاديق وهو من أفضل المصاديق وهو النبي صلى الله عليه وآله وسلم والطاهرون من أهل بيته عليهم السلام وإلا فالآية تعم بظاهرها غيرهم من الانبياء عليه السلام والاوصياء والاولياء. نعم ليست الآية بعامة لجميع المؤمنين لاخذها في وصفهم صفات لا تعم الجميع كقوله: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " الخ. وقد وردت عدة من الاخبار من طرق الشيعة في تطبيق مفردات الآية على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليه السلام وهي من التطبيق دون التفسير، ومن الدليل على ذلك اختلافها في نحو التطبيق كرواية الكليني في روضة الكافي بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام وفيها: أن المشكاة قلب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمصباح النور الذي فيه العلم، والزجاجة على أو قلبه، والشجرة المباركة الزيتونة التي لا شرقية ولا غربية إبراهيم عليه السلام ما كان يهوديا ولا نصرانيا، وقوله: " يكاد زيتها يضئ " الخ، يكاد أولادهم أن يتكلموا بالنبوة وإن لم ينزل عليهم ملك. وما رواه في التوحيد بإسناده إلى عيسى بن راشد عن الباقر عليه السلام وفيه أن المشكاة نور العلم في صدر النبي صلى اللله عليه وآله وسلم، والزجاجة صدر على " يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار " يكاد العالم من آل محمد يتكلم بالعلم قبل أن يسأل " نور على نور " إمام مؤيد بنور العلم والحكمة في إثر الامام من آل محمد. وما في الكافي بإسناده عن صالح بن سهل الهمداني عن الصادق عليه السلام وفيه أن المشكاة فاطمة عليهما السلام، والمصباح الحسن عليه السلام، والزجاجة الحسين عليه السلام
________________________________________
[ 142 ]
والشجرة المباركة إبراهيم عليه السلام، لا شرقية ولا غربية ما كان يهوديا ولا نصرانيا، ونور على نور إمام بعد إمام ويهدي الله نوره من يشاء يهدي الله للائمة عليهم السلام من يشاء. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردوية عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: " زيتونة لا شرقية ولا غربية " قال قلب إبراهيم لا يهودي ولا نصراني. أقول: وهو من قبيل ذكر بعض المصاديق، وقد ورد مثله من طرق الشيعة عن بعض ائمة أهل البيت عليهم السلام كما تقدم. وفيه أخرج ابن مردويه عن انس بن مالك وبريدة قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية " في بيوت أذن الله أن ترفع " فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله ؟ قال: بيوت الانبياء فقام إليه ابو بكر فقال: يا رسول الله هذا البيت منها لبيت على وفاطمة ؟ قال: نعم من افاضلها. أقول ورواه في المجمع عنه صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا، وروي هذا المعنى القمي في تفسيره بإسناده عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام ولفظه: قال: هي بيوت الانبياء وبيت على عليه السلام منها. وهو على أي حال من قبيل ذكر بعض المصاديق على ما تقدم. وفي نهج البلاغة من كلام له عليه السلام عند تلاوته " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله " وإن للذكر لاهلا أخذوه من الدنيا بدلا فلم يشغلهم تجارة ولا بيع عنه يقطعون به أيام الحياة، ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في أسماع الغافلين، ويأمرون بالقسط ويأتمرون به وينهون عن المنكر وينتهون عنه كأنما قطعوا الدنيا إلى الآخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك فكأنما أطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الاقامة فيه، وحققت القيامة عليهم عذابها فكشفوا غطاء ذلك لاهل الدنيا حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس ويسمعون ما لا يسمعون. وفي المجمع في قوله تعالى: " رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع " وروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام: أنهم قوم إذا حضرت الصلاة تركوا التجارة وانطلقوا إلى الصلاة وهم أعظم أجرا ممن لم يتجر.
________________________________________
[ 143 ]
أقول: أي لم يتجر واشتغل بذكر الله كما في روايات أخر. وفي الدر المنثور عن ابن مردويه وغيره عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله تعالى: " رجال لا تلهيهم تجارة لا بيع عن ذكر الله " قال: هم الذين يضربون في الارض يبتغون من فضل الله. أقول: كأن الرواية غير تامة وتمامها فيما روي عن ابن عباس قال: كانوا رجالا يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما بأيديهم وقاموا إلى المسجد فصلوا. وفي المجمع في قوله تعالى: " والله سريع الحساب " وسئل امير المؤمنين عليه السلام: كيف يحاسبهم في حالة واحدة ؟ فقال: كما يرزقهم في حالة واحدة. وفي روضة الكافي بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عن أبيه عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله عزوجل جعل السحاب غرابيل المطر هي تذيب البرد حتى يصير ماء لكى لا يضر شيئا يصيبه، والذي ترون فيه من البرد والصواعق نقمة من الله عزوجل يصيب بها من يشاء من عباده. وفي تفسيره القمي في قوله تعالى: " فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع " قال: على رجلين الناس، وعلى بطنه الحيات، وعلى أربع البهائم، وقال أبو عبد الله عليه اللسلام: ومنهم من يمشي على أكثر من ذلك * * * يقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين - 47. وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون - 48. وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين - 49. أفي قلوبهم مرض أم أرتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم لظالمون - 50.
________________________________________
[ 144 ]
إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون - 51. ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون - 52. وأقسموا بالله جهد إيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة إن الله خبير بما تعملون - 53. قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين - 54. وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون - 55. وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون - 56. لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الارض ومأواهم النار ولبئس المصير - 57. (بيان) تتضمن الآيات افتراض طاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأنها لا تفارق طاعة الله تعالى، ووجوب الرجوع إلى حكمه وقضائه وأن الاعراض عنه آيه النفاق، وتختتم بوعد جميل للصالحين من المؤمنين وإيعاد للكافرين.
________________________________________
[ 145 ]
قوله تعالى: " ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك " الخ، بيان حال بعض المنافقين حيث أظهروا الايمان والطاعة أولا ثم تولوا ثانيا فالايمان بالله هو العقد على توحيده وما شرع من الدين، والايمان بالرسول هو العقد على كونه رسولا مبعوثا من عند ربه أمره أمره ونهيه نهيه وحكمه حكمه من غير أن يكون له من الامر شئ، وطاعة الله هي تطبيق العمل بما شرعه، وطاعة الرسول الايتمار والنإتهاء عند أمره ونهيه وقبول ما حكم به وقضى عليه. فالايمان بالله وطاعته موردهما نفس الدين والتشرع به، والايمان بالرسول وطاعته موردهما ما أخبر به الرسول من الدين بما أنه يخبر به وما حكم به وقضى عليه في المنازعات والانقياد له في ذلك كله. فبين الايمانين والطاعتين فرق ما من حيث سعة المورد وضيقه، ويشير إلى ذلك ما في العبارة من نوع من التفصيل حيث قيل: " آمنا بالله وبالرسول " فاشير إلى تعدد الايمان والطاعة ولم يقل: آمنا بالله والرسول بحذف الباء، الايمانان مع ذلك متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، قال تعالى: " ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله " النساء: 150. وفقوله: " ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا " أي عقدنا القلوب على دين الله وتشرعنا به وعلى أن الرسول لا يخبر إلا بالحق. ولا يحكم إلا بالحق قوله: " ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك " أي ثم يعرض طائفة من هؤلاء القائلين: " آمنا بالله وبالرسول وأطعنا " عن مقتضي قولهم من بعد ما قالوا ذلك. وقوله: " وما أولئك بالمؤمنين " أي ليس أولئك القائلون بالمؤمنين، والمشار إليه بإسم الاشارة لقائلون جميعا لا خصوص الفريق المتولين على ما يعطيه السياق لان الكلام مسوق لذم الجميع. قوله تعالى: " وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون " يشهد سياق الآية أن الآيات إنما نزلت في بعض من المنافقين دعوا إلى حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منازعة وقعت بينه وبين غيره فأبي الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي ذلك نزلت الآيات.
________________________________________
[ 146 ]
والنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان يحكم بينهم بحكم الله على ما أراه الله كما قال تعالى: " إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله " النساء: 105. للحكم نسبة إليه بالمباشرة ونسبة إلى الله سبحانه من حيث كان الحكم في ضوء شريعته وبنصبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحكم والقضاء. وبذلك يظهر أن المراد بالدعوة إلى الله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى المتابعة لما يقتضيه شرعه تعالى في مورد النزاع، وبالدعوة إلى رسوله ليحكم بينهم هي الدعوة إلى متابعة ما يقضي عليه بالمباشرة وأن الظاهر أن ضمير " ليحكم " للرسول، وإنما أفرد الفاعل ولم يثن إشارة إلى أن حكم الرسول حكمه تعالى. والآية بالنسبة إلى الآية السابقة كالخاص بالنسبة إلى العام فهي تقص إعراضنا معينا منهم والاعراض المذكور في الآية السابقة منهم إعراض مطلق. قوله تعالى: " وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين " الاذعان الانقياد، وظاهر السياق وخاصة قوله: " يأتوا إليه " أن المراد بالحق حكم الرسول بدعوي أنه حق لا ينفك عنه، والمعنى وإن يكون الحق الذي هو حكم الرسول لهم لا عليهم يأتوا إلى حكمه منقادين فليسوا بمعرضين عنه إلا لكونه عليهم لا لا لهم، ولازم ذلك أنهم يتبعون الهوى ولا يريدون اتباع الحق. قوله تعالى: " أفى قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله " إلى آخر الآية. الحيف الجور. وظاهر سياق الآيات أن المراد بمرض القلوب ضعف الايمان كما في قوله تعالى: " فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض " الاحزاب: 32، وقوله: " لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم " الاحزاب: 60، وغير ذلك من الآيات. وأما كون المراد بمرض القلوب النفاق كما فسر به فيدفعه قوله في صدر الآيات: " وما اولئك بالمؤمنين " فإنه حكم بنفاقهم، ولا معنى مع إثبات النفاق للاستفهام عن النفاق ثم الاضراب عنه بقوله: " بل اولئك هم الظالمون ". و قوله: " أم أرتابوا " ظاهر إطلاق الارتياب وهو الشك أن يكون المراد هو
________________________________________
[ 147 ]
شكهم في دينهم بعد الايمان دون الشك في صلاحية النبي صلى الله عليه وآله وسلم للحكم أو عدله ونحو ذلك لكونها بحسب الطبع محتاجة إلى بيان بنصب قرينة. وقوله: " أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله " أي أم يعرضون عن ذلك لانهم يخافون أن يجور الله عليهم ورسوله لكون الشريعة الالهية التي يتبعها حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبنية على الجور وإماتة الحقوق الحقة، أو لكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يراعي الحق في قضائه. وقوله: " بل اولئك هم الظالمون أضراب عن الترديد السابق بشقوقه الثلاثة وذلك أن سبب أعراضهم لو كان مرض قلوبهم أو إرتيابهم لم يأتوا إليه مذعنين على تقدير كون الحق لهم بل كانوا يعرضون كان الحق لهم أو عليهم، وأما الخوف من أن يحيف الله عليهم ورسوله فلا موجب له فالله برئ من الحيف ورسوله فليس إعراضهم عن إجابة الدعوة إلى حكم الله ورسوله إلا لكونهم حق عليهم أنهم ظالمون. والظاهر أن المراد بالظلم التعدي عن طور الايمان مع الاقرار به قولا كما قال آنفا: " وما اولئك بالمؤمنين " أو خصوص التعدي إلى الحقوق غير المالية، ولو كان المراد مطلق الظلم لم يصح الاضراب عن الشقوق الثلاثة السابقة إليه لانها من مطلق الظلم ويدل عليه أيضا الآية التالية. وقد بأن بما تقدم أن الترديد في أسباب الاعراض على تقدير عدم النفاق بين الامور الثلاثة حاصر والاقسام متغايرة فإن محصل المعنى أنهم منافقون غير مؤمنين إذ لو لم يكونوا كذلك كان إعراضهم أما لضعف إيمانهم وإما لزواله بالارتياب وإما للخوف من غير سبب يوجبه فإن الخوف من الرجوع إلى حكم الحاكم إنما يكون إذا احتمل حيفه في حكمه وميله عن الحق إلى الباطل ولا يحتمل ذلك في حكم الله ورسوله. وقد طال البحث في كلامهم عما في الآية من الترديد والاضراب ولعل فيما ذكرناه كفاية، ومن أراد أزيد من ذلك فليراجع المطولات. قوله تعالى: " إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا " إلى آخر الآية سياق قوله: " إنما كان قول المؤمنين " وقد أخذ فيه " كان " ووصف الايمان في " المؤمنين " يدل على أن ذلك من مقتضيات طبيعة
________________________________________
[ 148 ]
الايمان فإن مقتضى الايمان بالله ورسوله وعقد القلب على اتباع ما حكم به الله ورسوله التلبية للدعوة إلى حكم الله ورسوله دون الرد. وعلى هذا فالمراد بقوله: " إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم " دعوة بعض الناس ممن ينازعهم كدعوة بعض المتنازعين المتخاصمين الآخر إلى التحاكم إلى الله ورسوله ليحكم بينهم، ويدل عليه تصدير الجملة بلفظة " إذا " ولو كان المراد به دعوة الله ورسوله بمعنى إيجاب رجوع المؤمنين في منازعاتهم إلى حكم الله ورسوله كان ذلك حكما مؤبدا لا حاجة فيه إلى التقييد بالزمان. وبذلك يظهر ضعف ما قيل: إن فاعل " دعوا " المحذوف هو الله ورسوله، والمعنى: إذا دعاهم الله ورسوله. نعم مرجع الدعوة بأخرة إلى دعوة الله ورسوله. وكيف كان تقصر الآية قول المؤمنين على تقدير الدعوة إلى حكم الله ورسوله في قولهم: سمعنا وأطعنا وهو سمع وطاعة للدعوة الالهية سواء فرض الداعي هو أحد المتناز عين للاخر أو فرض الداعي هو الله ورسوله أو كان المراد هو السمع والطاعة لحكم الله ورسوله وإن كان بعيدا. وانحصار قول المؤمنين عند الدعوة في " سمعنا وأطعنا " يوجب كون الرد للدعوة ليس من قول المؤمنين فيكون تعديا عن طور الايمان، كما يفيده قوله: " بل اولئك هم الظالمون " على ما تقدم، فتكون الآية في مقام التعليل للاضراب في ذيل الآية السابقة. وقد ختمت الآية بقوله: " وأولئك هم المفلحون " وفيه قصر الفلاح فيهم لا قصرهم في الفلاح. قوله تعالى: " ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون " ورود الآية في سياق الآيات السابقة وانضمامها إلى سابقتها يعطي أنها في مقام التعليل - كالكبرى الكلية - للآية السابقة حيث حكمت بفلاح من أجاب الدعوة إلى حكم الله ورسوله بالسمع والطاعة بقيد الايمان كأنه قيل: إنما أفلح من أجاب إلى حكم الله ورسوله وهو مؤمن لانه مطيع لله ولرسوله وهو مؤمن حقا في باطنه خشية الله وفي
________________________________________
[ 149 ]
ظاهره تقواه ومن يطع الله ورسوله فيما قضى عليه ويخش الله ويتقه فاولئك هم الفائزون، والفوز هو الفلاح. وتشمل الآية الداعي إلى حكم الله ورسوله من المتنازعين كما يشمل المدعو منهما إذا أجاب بالسمع والطاعة ففيها زيادة على تعليل حكم الآية السابقة تعميم الوعد الحسن للداعي والمدعو جميعا. قوله تعالى: " وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا طاعة معروفة " إلى آخر الآية، الجهد الطاقة، والتقدير في قوله: " أقسموا بالله جهد أيمانهم " أقسموا بالله مبلغ جهدهم في أيمانهم والمراد أقسموا باغلظ أيمانهم. والظاهر أن المراد بقوله: " ليخرجن " الخروج إلى الجهاد على ما وقع في عدة من الآيات كقوله: " ولو أرادوا الخروج لا عدوا له عدة ولكن كره الله أنبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا " التوبه: 47. وقوله: " قل لا تقسموا " نهي عن الاقسام، وقوله: " طاعة معروفة " خبر لمبتدأ محذوف هو الضمير الراجع إلى الخروج والجملة في مقام التعليل للنهي عن الاقسام ولذا جئ بالفصل، وقوله: " والله خبير بما تعملون " من تمام التعليل. ومعنى الآية: وأقسموا بالله بأغلظ أيمانهم لئن أمرتهم بالخروج إلى الجهاد ليخرجن قل لهم: لا تقسموا فالخروج إلى الجهاد طاعة معروفة من الدين - وهو واجب لا حاجة إلى إيجابه بيمين مغلظ - وإن تكونوا تقسمون لاجل أن ترضوا الله ورسوله بذلك فالله خبير بما تعملون لا يغره اغلاظكم في الايمان. وقيل: المراد بالخروج خروجهم من ديارهم وأموالهم لو حكم الرسول بذلك، وقوله: " طاعة معروفة " مبتدا لخبر محذوف، والتقدير طاعة معروفة للنبي خير من إقسامكم، ومعنى الآية: وأقسموا بالله بأغلظ الايمان لئن أمرتهم وحكمت عليهم في منازعاتهم بالخروج من ديارهم وأموالهم ليخرجن منها قل لهم: لا تقسموا لان طاعة حسنة منكم للنبي خير من إقسامكم بالله والله خبيربما تعملون. وفيه أن هذا المعنى وإن كان يؤكد إتصال الآية بما قبلها بخلاف المعنى لسابق لكنه لا يلائم التصريح السابق بردهم الدعوة إلى الله ورسوله ليحكم بينهم لانهم إذ كانوا
________________________________________
[ 150 ]
تولوا وأعرضوا عن حكم الله ورسوله لم يكن يسعهم أن يقسموا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لئن أمرهم في حكمه بالخروج من ديارهم وأموالهم ليخرجن وهو ظاهر، اللهم إلا أن يكون المقسمون فريقا آخر منهم غير الرادين للدعوة المعرضين عن الحكم، وحينئذ كان حمل " ليخرجن " على هذا المعنى لا دليل يدل عليه. قوله تعالى: " قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " آخر الآية، أمر بطاعة الله فيما أنزل من الدين وأمر بطاعة الرسول فيما يأتيهم به من ربهم ويأمرهم به في أمر دينهم ودنياهم، وتصدير الكلام بقوله: " قل " إشارة إلى أن الطاعة جميعا لله، وقد أكده بقوله: " وأطيعوا الرسول " دون أن يقول: وأطيعوني لان طاعة الرسول بما هوطاعة الرسول طاعة المرسل، وبذلك تتم الحجة. ولذلك عقب الكلام: أولا بقوله: " فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم " أي فإن تتولوا وتعرضوا عن طاعة الرسول لم يضر ذلك الرسول فإنما عليه ما حمل من لتكليف ولا يمسكم منه شئ وعليكم ما حملتم من التكليف ولا يمسه منه شئ فإن الطاعة جميعا لله سبحانه. وثانيا بقوله: " وإن تطيعوه تهتدوا " أي وإن كان لكل منكم ومنه ما حمل لكن إن تطيعوا الرسول تهتدوا لان ما يجئ به اليكم وما يأمركم به من الله وبأمره، والطاعة لله وفيه الهداية. وثالثا بقوله: " وما على الرسول إلا البلاغ المبين " وهو بمنزلة التعليل لما تقدمه أي إن ما حمله الرسول من التكليف هو التبليغ فحسب فلا بأس عليه إن خالفتم ما بلغ، وإذ كان رسولا لم يحتمل إلا التبليغ فطاعته طاعة من أرسله وفي طاعة من أرسله وهو الله سبحانه إهتداؤكم. قوله تعالى: " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الارض كما استخلف الذين من قبلهم " إلى آخر الآية.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page