• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 1 الي 25


تفسير الميزان
السيد الطباطبائي ج 15
________________________________________
[ 1 ]
الميزان في تفسير القرآن 1
________________________________________
[ 3 ]
تمتاز هذه الطبعة عن غيرها بالتحقيق والتصحيح الكامل وإضافات وتغييرات هامة من قبل المؤلف قدس سره
________________________________________
[ 4 ]
الميزان في تفسير القران كتاب علمي فني، فلسفي، أدبي تاريخي، روائي، اجتماعي، حديث يفسر القرآن بالقرآن تأليف العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي قدس سره الجزء الخامس العشر منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم المقدسة
________________________________________
[ 5 ]
بسم الله الرحمن الرحيم سورة المؤمنون مكية، وهي مائة وثماني عشرة آية بسم الله الرحمن الرحيم. قد افلح المؤمنون - 1. الذين هم في صلاتهم خاشعون - 2. والذين هم عن اللغو معرضون - 3. والذين هم للزكوة فاعلون - 4. والذين هم لفروجهم حافظون - 5. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين - 6. فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون - 7. والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون - 8. والذين هم على صلواتهم يحافظون - 9. أولئك هم الوارثون - 10. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون - 11 (بيان) في السورة دعوة إلى الايمان بالله واليوم الآخر وتمييز المؤمنين من الكفار بذكر ما لهؤلاء من جميل صفات العبودية وما لاولئك من رذائل الاخلاق وسفاسف الاعمال، وتعقيب ذلك بالتبشير والانذار، وقد تضمن الانذار ذكر عذاب الآخرة وما غشي
________________________________________
[ 6 ]
. الامم المكذبين للدعوة الحقة من عذاب الاستئصال في مسير الدعوة آخذا من زمن نوح إلى زمن المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. والسورة مكية، وسياق آياتها يشهد بذلك. قوله تعالى: " قد أفلح المؤمنون " قال الراغب: الفلح - بالفتح فالسكون - الشق، وقيل: الحديد بالحديد يفلح أي يشق، والفلاح الظفر وإدراك بغية وذلك ضربان: دنيوي وأخروي، فالدنيوي الظفر بالسعادات التي تطيب بها الحياة الدنيا وهو البقاء والغني والعز، والاخروي أربعة أشياء: بقاء بلا فناء، وغنى بلا فقر، وعز بلا ذل، وعلم بلا جهل، ولذلك قيل: لا عيش إلا عيش الآخرة. انتهى ملخصا. فتسمية الظفر بالسعادة فلاحا بعناية أن فيه شقا للمانع وكشفا عن وجه المطلوب. والايمان هو الاذعان التصديق بشئ بالالتزام بلوازمه، فالايمان بالله في عرف القرآن التصديق بوحدانيته ورسله واليوم الاخر وبما جاءت به رسله مع الاتباع في الجملة، ولذا نجد القرآن كلما ذكر المؤمنين بوصف جميل أو أجر جزيل شفع الايمان بالعمل الصالح كقوله: " من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة " النحل: 97، وقوله: " الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن ماب " الرعد: 29، إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة جدا. وليس مجرد الاعتقاد بشئ ايمانا به حتى مع عدم الالتزام بلوازمه وآثاره فإن الايمان علم بالشئ مع السكون والاطمئنان إليه ولا ينفك السكون إلى الشئ من الالتزام بلوازمه لكن العلم ربما ينفك من السكون والالتزام ككثير من المعتادين بالاعمال الشنيعة أو المضرة فإنهم يعترفون بشناعة عملهم أو ضرره لكنهم لا يتركونها معتذرين بالاعتياد وقد قال تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " النمل: 14. والايمان وإن جاز أن يجتمع مع العصيان عن بعض لوازمه في الجملة لصارف من الصوارف النفسانية يصرف عنه لكنه لا يتخلف عن لوازمه بالجملة. قوله تعالى: " الذين هم في صلاتهم خاشعون " الخشوع تأثر خاص من المقهور قبال القاهر بحيث ينقطع عن غيره بالتوجه إليه والظاهر أنه من صفات القلب ثم ينسب إلى الجوارح أو غيرها بنوع من العناية كقوله صلى الله عليه وآله وسلم - على ما روي - فيمن بعبث بلحيته
________________________________________
[ 7 ]
في الصلاة: أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه، وقوله تعالى: " وخشعت الاصوات للرحمان " طه: 108. والخشوع بهذا المعنى جامع لجميع المعاني التي فسربها الخشوع في الاية، كقول بعضهم: هو الخوف وسكون الجوارح، وقول آخرين: غض البصر خفض الجناح، أو تنكيس الرأس، أو عدم الالتفات يمينا وشمالا أو إعظام المقام وجمع الاهتمام، أو التذلل إلى غير ذلك. وهذه الآية إلى تمام ثماني آيات تذكر من أوصاف المؤمنين ما يلازم كون وصف الايمان حيا فعالا يترتب عليه آثاره المطلوبة منه ليترتب عليه الغرض المطلوب منه وهو الفلاح فإن الصلاة توجه ممن ليس له إلا الفقر والذله إلى ساحة العظمة والكبرياء ومنبع العزة والبهاء ولازمه أن يتاثر الانسان الشاعر بالمقام فيستغرق في الذلة والهوان وينتزع قلبه عن كل ما يلهوه ويشغله عما يهمه ويواجهه، فلو كان إيمانه إيمانا صادقا جعل همه حين التوجه إلى ربه هما واحدا وشغله الاشتغال به عن الالتفات إلى غيره فما ذا يفعل الفقير المحض إذا لقي غنى لا يقدر بقدر ؟ والذليل إذا واجه عزة مطلقة لا يشوبها ذلة وهوان ؟ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الحارثة بن النعمان المروي في الكافي وغيره: إن لكل حق حقيقة ولكل صواب نورا. الحديث. (كلام في معنى تأثير الايمان) الدين - كما تقدم مرارا - السنة الاجتماعية التي يسير بها الانسان في حياته الدنيوية الاجتماعية، والسنن الاجتماعية متعلقة بالعمل مبنيا على اساس الاعتقاد في حيقة الكون والانسان الذي هو جزء من أجزائه، ومن هنا ما نرى أن السنن الاجتماعية تختلف باختلاف الاعتقادات فيما ذكر. فمن يثبت للكون ربا يبتدئ منه وسيعود إليه وللانسان حياة باقية لا تبطل بموت ولا فناء يسير في الحياة سيرة يراعي في الاعمال الجارية فيها سعادة الحياة الباقية والتنعم في الدار الاخرة الخالدة.
________________________________________
[ 8 ]
ومن يثبت له إلها إو آلهة تدبر الامر بالرضا والسخط من غير معاد إليه يعيش عيشة نظمها على أساس التقرب من الالهة وإرضائها للفوز بأمتعة الحياة والظفر بما يشتهيه من نعم الدنيا. ومن لا يهتم بأمر الربوبية ولا يرى للانسان حياة خالدة كالماديين ومن يحذو حذوهم يبني سنة الحياة والقوانين الموضوعة الجارية في مجتمعه على أساس التمتع من الحياة الدنيا المحدودة بالموت. فالدين سنة عملية مبنية على الاعتقاد في أمر الكون والانسان بما أنه جزء من أجزائه، وليس هذا الاعتقاد هو العلم النظري المتعلق بالكون والانسان فإن العلم النظري لا يستتبع بنفسه عملا وإن توقف عليه العمل بل هو العلم بوجوب الجري على ما يقتضيه هذا النظر وإن شئت فقل: الحكم بوجوب اتباع المعلوم النظري والالتزام به، وهو العلم العملي كقولنا: يجب أن يعبد الانسان الاله تعالى ويراعي في أعماله ما يسعد به في الدنيا والاخرة معا. ومعلوم أن الدعوة الدينية متعلقة بالدين الذي هو السنة العملية المبنية على الاعتقاد، فالايمان الذي يتعلق به الدعوة هو الالتزام بما يقتضيه الاعتقاد الحق في الله سبحانه ورسله واليوم الاخر وما جاءت به رسله وهو علم عملي. والعلوم العملية تشتد وتضعف حسب قوة الدواعي وضعفها فإنا لسنا نعمل عملا قط إلا طمعا في خير أو نفع أو خوفا من شر أو ضرر، وربما رأينا وجوب فعل لداع يدعو إليه ثم صرفنا عنه داع آخر أقوى منه وآثر، كمن يرى وجوب أكل الغذاء لرفع ما به من جوع فيصرفه عن ذلك علمه بأنه مضر له مناف لصحتة، فبالحقيقة يقيد الداعي المانع بما معه من العلم إطلاق العلم الذي مع الداعي الممنوع كأنه يقول مثلا: إن التغذي لرفع الجوع ليس يجب مطلقا بل إنما يجب إذا لم يكن مضرا بالبدن مضادا لصحتة. ومن هنا يظهر أن الايمان بالله إنما يؤثر أثره من الاعمال الصالحة والصفات الجميلة النفسانية كالخشية والخشوع والاخلاص ونحوها إذا لم يغلبه الدواعي الباطلة والتسويلات الشيطانية، وبعبارة أخرى إذا لم يكن إيمانا مقيدا بحال دون حال كما قال تعالى: " ومن الناس من يعبد الله على حرف " الحج: 61.
________________________________________
[ 9 ]
فالمؤمن إنما يكون مؤمنا على الاطلاق إذا جرت أعماله على حاق ما يقتضيه إيمانه من الخشوع في عبادته والاعراض عن اللغو ونحوه. قوله تعالى: " والذين هم عن اللغو معرضون " اللغو من الفعل هو ما لا فائدة فيه ويختلف اختلاف الامور التي تعود عليها الفائدة فرب فعل هو لغو با لنسبة إلى أمر وهو بعينه مفيد مجد بالنسبة إلى أمر آخر. فاللغو من الافعال في نظر الدين الاعمال المباحة التي لا ينتفع بها في الاخرة أو في الدنيا بحيث ينتهي أيضا إلى الاخرة كالاكل والشرب بداعي شهوة التغذي اللذين يتفرع عليهما التقوي على طاعة الله وعبادتة، فإذا كان الفعل لا ينتفع به في آخرة ولا في دنيا تنتهي بنحو إلى آخرة فهو اللغو وبنظر أدق هو ما عدا الواجبات والمستحبات من الافعال. ولم يصف سبحانه المؤمنين بترك اللغو مطلقا فإن الانسان في معرض العثرة ومزلة الخيئة وقد عفا عن السيئات إذا اجتنبت الكبائر كما قال: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما " النساء: 31. بل وصفهم بالاعراض عن اللغو دون مطلق تركه والاعراض يقتضي أمرا بالفعل يدعو إلى الاشتغال به فيتركه الانسان صارفا وجهه عنه إلى غيره لعدم اعتداده به واعتنائه بشأنه، ولازمه ترفع النفس عن الاعمال الخسيسة واعتلاؤها عن الاشتغال بما ينافي الشرف والكرامة وتعلقها بعظائم الامور وجلائل المقاصد. ومن حق الايمان أن يدعو إلى ذلك فإن فيه تعلقا بساحة العظمة والكبرياء ومنبع العزة والمجد والبهاء والمتصف به لا يهتم إلا بحياة سعيدة أبدية خالدة فلا يشتغل إلا بما يستعظمه الحق ولا يستعظم ما يهتم به سفلة الناس وجهلتهم، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وإذا مروا باللغو مروا كراما. ومن هنا يظهر أن وصفهم بالاعراض عن اللغو كناية عن علو همتهم وكرامة نفوسهم. قوله تعالى: " والذين هم للزكاة فاعلون " ذكر الزكاة مع الصلاة قرينة على كون المراد بها الانفاق المالي دون الزكاة بمعنى تطهير النفس ب بإزالة رذائل الاخلاق عنها ولعل المراد بالزكاة المعنى المصدري وهو تطهير المال بالانفاق منه دون المقدار المخرج من المال
________________________________________
[ 10 ]
فإن السورة مكية وتشريع الزكاة المعهودة في الاسلام إنما كان بالمدينة ثم صار لفظ الزكاة علما بالغلبة للمقدار المعين المخرج من المال. وبهذا يستصح تعلق " للزكاة " بقوله: " فاعلون " والمعنى: الذين هم فاعلون للانفاق المالي، وأما لو كان المراد بالزكاة نفس المال المخرج لم يصح تعلقه به إذ المال المخرج ليس فعلا متعلقا بفاعل، ولذا قدر بعض من حمل الزكاة على هذا المعنى لفظ التأدية فكان التقدير عنده والذين هم لتأدية الزكاة فاعلون، ولذا أيضا فسر بعضهم الزكاة بتطهير النفس عن الاخلاق الرذيلة فرارا من تعلق " للزكاة " بقوله: " فاعلون ". وفي التعبير بقوله: " للزكاة فاعلون " دون أن يقول: للزكاة مؤدون أو ما يؤدي معناه دلالة على عنايتهم بها كقول القائل: إني شارب لمن أمره بشرب الماء فإذا أراد أن يفيد عنايته به قال: إني فاعل. ومن حق الايمان بالله أن يدعو إلى هذا الانفاق المالي فإن الانسان لا ينال كمال سعادته إلا في مجتمع سعيد ينال فيه كل ذي حق حقه ولا سعادة لمجتمع إلا مع تقارب الطبقات في التمتع من مزايا الحياة وأمتعة العيش، والانفاق المالي على الفقراء والمساكين من أقوى ما يدرك به هذه البغية. قوله تعالى: " والذين هم لفروجهم حافظون " إلى آخر الآيات الثلاث، الفروج جمع فرج وهو - على ما قيل - ما يسوء ذكره من الرجال والنساء، وحفظ الفروج كناية عن الاجتناب عن المواقعة سواء كانت زنا أو لواطا أو بإتيان البهائم وغير ذلك. وقوله: " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين " استثناء من حفظ الفروج، والازواج الحلائل من النساء، وما ملكت أيمانهم الجواري المملوكة فإنهم غير ملومين في مس الازواج الحلائل والجواري المملوكة. وقوله: " فمن إبتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون " تفريع على ما تقدم من الاستثناء والمستثنى منه أي إذا كان مقتضى الايمان حفظ الفروج مطلقا إلا عن طائفتين من النساء هما الازواج وما ملكت أيمانهم، فمن طلب وراء ذلك أي مس غير الطائفتين فاولئك هم المتجاوزون عن الحد الذي حده الله تعالى لهم. وقد تقدم كلام ما فيما يستقبه الزنا من فساد النوع في ذيل قوله: " ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا " اسرى: 32 في الجزء الثالث عشر من الكتاب.
________________________________________
[ 11 ]
قوله تعالى: " والذين هم لاماناتهم وعهدهم راعون " الامانة مصر في الاصل. وربما أريد به ما ائتمن عليه من مال ونحوه، وهو المراد في الاية، ولعل جمعه للدلالة على أقسام الامانات الدائرة بين الناس، وربما قيل بعموم الامانات لكل تكليف إلهى اؤتمن عليه الانسان وما اؤتمن عليه من أعضائه وجوارحه وقواه أن يستعملها فيما فيه رضى الله وما ائتمنه عليه الناس من الاموال وغيرها، ولا يخلو من بعد بالنظر إلى ظاهر اللفظ وإن كان صحيحا من جهة تحليل المعنى وتعميمه. والعهد بحسب عرف الشرع ما التزم به بصيغة العهد شقيق النذر واليمين، ويمكن أن يراد به مطلق التكليف المتوجه إلى المؤمن فإن الله سبحانه سمى إيمان المؤمن به عهدا وميثاقا منه على ما توجه إليه من تكاليفه تعالى بقوله: " أو كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم " البقرة 100، وقوله: " ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الادبار " الاحزاب: 15، ولعل ارادة هذا المعنى هو السبب في إفراد العهد لان جميع التكاليف يجمعها عهد واحد بأيمان واحد. والرعاية الحفظ، وقد قيل: إن أصل الرعي حفظ الحيوان إما بغذائه الحافظ لحياته أو بذب العدو عنه ثم استعمل في الحفظ مطلقا. انتهى. ولعل العكس أقرب إلى الاعتبار. وبالجملة الآية تصف المؤمنين بحفظ الامانات من أن تخان والعهد من أن يقض، ومن حق الايمان أن يدعو إلى ذلك فإن في إيمانه معنى السكون والاستقرار والاطمئنان فإذا آمن أحد في أمانة أودعها عنده أو عهد عاهده وقطع على ذلك استقر عليه ولم يتزلزل بخيانة أو نقض. قوله تعالى: " والذين هم على صلواتهم يحافظون " جمع الصلاة وتعليق المحافظة عليه دليل على أن المراد المحافظة على العددفهم يحافظون على أن لا يفوتهم شئ من الصلوات المفروضة ويراقبونها دائما ومن حق إيمانهم أن يدعوهم إلى ذلك. ولذلك جمعت الصلاة ههنا وأفردت في قوله " في صلاتهم خاشعون " لان الخشوع في جنس الصلاة على حد سواء فلا موجب لجمعها. قوله تعالى: " أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون "
________________________________________
[ 12 ]
الفردوس أعلى الجنان، وقد تقدم معناها وشئ من وصفها في ذيل قوله تعالى: " كانت لهم جنات الفردوس نزلا " الكهف: 107. وقوله: " الذين يرثون " الخ، بيان لقوله: " الوارثون " ووراثتهم الفردوس هو بقاؤها لهم بعد ما كانت في معرض أن يشاركهم فيها غيرهم أو يملكها دونهم لكنهم زالوا عنها فانتقلت إليهم، وقد ورد في الروايات أن لكل أنسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار فإذا مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله، وستوافيك إن شاء الله في بحث روائي. (بحث روائي) في تفسير القمى وقوله: " الذين هم في صلاتهم خاشعون " قال: غضك بصرك في صلاتك واقبالك عليها. أقول: وقد تقدم أنه من لوازم الخشوع فهو تعريف بلازم المعنى، ونظيره ما رواه في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن على عليه السلام: أن لا تلتفت في صلاتك. وفي الكافي بإسناده عن مسمع بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما زاد خشوع الجسد على ما في القلب فهو عندنا نفاق. أقول: وروى في الدر المنثور عن عدة من أصحاب الجوامع عن أبي الدرداء عنه صلى الله عليه وآله وسلم ما في معناه ولفظه: أستعيذوا بالله من خشوع النفاق. قيل له: وما خشوع النفاق ؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع. وفي المجمع: في الآية روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى رجلا يعبث بلحيته في صلاته فقال: أما إنه لو خشع قلبه لخشعت جوارحه. وفيه روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يرفع بصره إلى السماء في صلاته فلما نزلت الآية طأطأ رأسه ورمى ببصره إلى الارض. أقول: ورواهما في الدر المنثور عن جمع من أصحاب الكتب عنه صلى الله وآله وسلم. وفي معنى الخشوع روايات أخر كثيرة. وفي إرشاد المفيد في كلام لامير المؤمنين عليه السلام: كل قول ليس فيه لله ذكر فهو لغو.
________________________________________
[ 13 ]
وفي المجمع في قوله: " والذين هم عن اللغو معرضون " روي أن أبي عبد الله عليه السلام قال: أن يتقول الرجل عليك بالباطل أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه لله وفي رواية أخرى أنه الغناء والملاهي أقول: ما في روايتي المجمع من قبيل ذكر بعض المصاديق وما في رواية الارشاد من التعميم بالتحليل. وفي الخصال عن جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه ع قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: تحل الفروج بثلاثة وجوه: نكاح بميراث ونكاح بلا ميراث ونكاح بملك يمين. وفي الكافي بإسناده إسحاق بن أبي سارة قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عنها يعني المتعة فقال لي: حلال فلا تتزوج إلا عفيفة إن الله عزوجل يقول: " والذين هم لفروجهم حافظون " فلا تضع فرجك حيث لا تأمن على درهمك. أقول: وفيه تعميم لمعنى حفظ الفروج بحيث يشمل ترك نكاح غير العفيفة. الروايتان كما ترى تعدان المتعة نكاحا وازدواجا والامر على ذلك فيما لا يحصى من روايات أئمة أهل البيت عليهم السلام وعلى ذلك مبنى فقههم. والامر على ذلك في عرف القرآن وفي عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أنه ليس وراء ملك اليمين إلا نوعان: نكاح على الزوجية وزنا وقد حرم الله الزنا وأكد في تحريمه في آيات كثيرة في السور المكية والمدنية كسورتي الفرقان والاسراء وهما مكيتان وسورتي النور والممتحنة وهما مدنيتان. ثم سماه سفاحا وحرمه في سورتي النساء والمائدة ثم سماه فحشاء ومنع عنه وذمه في سور الاعراف والعنكبوت ويوسف وهي مكية وفي سور النحل والبقرة والنور وهي أو الاخيرتان مدنيتان. ثم سماه فاحشة ونهي عنها في سور الاعراف والانعام والاسراء والنمل والعنكبوت والشورى والنجم وهي مكية وفي سور النساء والنور والاحزاب والطلاق وهي مدنية. ونهى عنه أيضا بالتكنية في آية المؤمنون: " فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون " ونظيره في سورة المعارج وكان من المعروف في أول البعثة من أمر الاسلام
________________________________________
[ 14 ]
أنه يحرم الخمر والزن (1). فلو لا لم يكن التمتع ازدواجا والمتمتع بها زوجا مشمولة لقوله: " إلا على أزواجهم " لكان زنا ومن المعلوم بالضرورة أن التمتع كان معمولا به في مكة قبل الهجرة في الجملة وكذا في المدينة بعد الهجرة في الجملة ولازم ذلك أن يكون زنا أباحه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لضرورة أقتضته لو أغمضنا عن قوله تعالى: " فما إستمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن " النساء: - 24 ولازم ذلك أن تكون آية سورة المؤمنون " إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم - إلى قوله - العادون "، ناسخة الاباحة التمتع السابقة ثم يكون تحليل النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو تحليل آية سورة النساء ذلك ناسخا لجميع الآيات المكية الناهية عن الزنا وبعض المدنيات مما نزلت قبل التحليل، وخاصة على قول من يقول: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حلله ثم حرمه مرة (2) بعد مرة فإن لازمه نسخ الايات الناهية عن الزنا ثم إحكامها ثم نسخها ثم إحكامها مرات ولم يقل أحد من المسلمين بكونها منسوخة فضلا عن النسخ بعد النسخ وهل هذا إلا لعب بكلام الله تجل عنه ساحة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟. على أن الآيات الناهية عن الزنا آبية بسياقها وما فيه من التعليل آب عن النسخ وكيف يعقل أن يسمى الله سبحانه فعلا من الافعال فاحشة فحشاء وسبيل سوء ويخبر أن من يفعله يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا ثم يجيز إتكابه ثم يمنع ثم يجيز. على إن أصل نسخ القرآن بالحديث لا معنى له (3). على أن عدة من المرتكبين لنكاح المتعة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا من معاريف الصحابة وهم على ما هم عليه من حفظ ظواهر الاحكام فكيف إستجازوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الفحشاء ؟ وكيف لم يستخبثوه ؟ وكيف رضوا بالعار والشنار وقد تمتع زبيرمن
________________________________________
(1) على ما رواه ابن هشام في السيرة وقد أوردنا الرواية في بحث روائي في ذيل قوله تعالى: " انما الخمر والميسر " الآية من سورة المائدة ج 6 ص 146 من الكتاب. (2) وقد أوردنا الروايات الدلالة على ذلك في البحث الروايى الموضوع في ذيل قوله تعالى: " فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن " الآية النسأ: 24 ج 4 ص 308. (3) وقد بين ذلك في علم الاصول بما لا مزيد عليه. (*)
________________________________________
[ 15 ]
أسماء بنت أبي بكر فولدت له عبد الله بن زبير وأخاه عروة بن زبير وورثاه بعد قتله وهم جميعا من الصحابة. على أن الروايات الدالة على نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن المتعة متهافتة، وما تسلموا عليه من قول عمر بن الخطاب حينما نهى ايام خلافته عن المتعة وما ورد عنه حول القصة يكذب هذه الروايات ويدفع حديث النسخ. وقد مر شطر من الكلام في هذا المعنى في تفسير قوله تعالى: " وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة " النساء: 24. ومن لطيف الدلالة على كون المتعة نكاحا غير سفاح إقتران جملة " فما استمتعتم " الخ بقوله قبله متصلا به " محصنين غير مسافحين ". فقد تبين بما ذكرنا أن المتعة في الشرع وفي عرف القرآن نكاح وزوجية لا زنا وسفاح سواء قلنا بكونها منسوخة بعد بكتاب أو سنة كما عليه معظم أهل السنة أو لم نقل كما عليه الشيعة تبعا لائمة أهل البيت عليهم السلام. فالنكاح ينقسم إلى نوعين: نكاح دائم له أحكامه من العدد والارث والاحصان والنفقة والفراش والعدة وغير ذلك. ونكاح موقت مبني على التسهيل له من أحكام النكاح الدائم إختصاص المراة بالرجل ولحقوق الاولاد والعدة. وبذلك يظهر فساد ما ذكره جمع منهم أن المتعة ليست بزوجية ولو كانت زوجية لجرت فيها أحكامها من العدد والميراث والنفقة والاحصان وغير ذلك وذلك أن الزوجية تتقسم إلى دائمة لها أحكامها وموقتة مبنية على التسهيل يجري فيها بعض تلك الاحكام كما تقدم. والاشكال بأن تشريع الازدواج إنما هو للتناسل بدوام الزوجية والغرض من المتعة مجرد دفع الشهوة بصب الماء وسفحة فهي سفاح وليست بنكاح. فيه أن التوسل إلى النسل حكمة لا علة يدور مدارها التشريع والا لم يجز نكاح العاقر واليائسة والصبي والصبية. على أن المتعة لا تنافي الاستيلاد ومن الشاهد على ذلك عبد الله وعروة إبنا زبير أولدا له من أسماء بنت أبي بكر من المتعة.
________________________________________
[ 16 ]
وكذا الاشكال بأن المتعة تجعل المرأة ملعبة يلعب بها الرجال كالكرة الدائرة بين الصوالج ذكره صاحب المنار وغيره. فيه أن هذا يرد أول ما يرد على الشارع فإن من الضروري أن المتعة كانت دائرة في صدر الاسلام برهة من الزمان فما أجاب به الشارع كان هو جوابنا. وثانيا أن جميع ما يقصد بالمتعة من لذة أو دفع شهوة أو استيلاد أو استئناس أو غير ذلك مشتركة بين الرجل والمرأة فلا معنى لجعلها ملعبة له دون العكس إلا أن يكابر مكابر. وللكلام تتمة ستوافيك في بحث مستقل إن شاء الله تعالى. وفي الدر المنثور أخرج ابن المنذر وإبن أبي حاتم والحاكم وصححه عن إبن أبي مليكة قال: سألت عائشة عن متعة النساء قالت: بيني وبينكم كتاب الله وقرأت " والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم " فمن ابتغى وراء ما زوجه الله أو ملكه فقد عدا. أقول: وروى نظيره عن القاسم بن محمد، وقد تبين بما قدمنا أن المتمتع بها زوج وأن الآية تجيزها على خلاف ما في الرواية. وفي تفسير القمي: " فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون " قال: من جاوز ذلك. وفيه: " والذين هم على صلواتهم يحافظون " قال: على أوقاتها وحدودها. وفي الكافي بإسناده عن الفضيل بن يسار قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: " والذين هم على صلواتهم يحافظون " قال: هي الفريضة قلت: " والذين هم على صلاتهم دائمون " قال: هي النافلة. وفي المجمع روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما منكم من أحد إلا له منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله. أقول: وروى مثله القمي في تفسيره بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام في حديث مفصل وتقدم نظيره في قوله تعالى: " وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الامر " مريم: 39 في الجزء السابق من الكتاب.
________________________________________
[ 17 ]
(بحث حقوقي إجتماعي) لا ريب ان الذي يدعو الانسان ويبعثه نحو الاستنان بالسنن الاجتماعية أو وضع القوانين الجارية في المجتمع البشري، تنبهه لحوائج الحياة وتوسله بوضعها والعمل بها إلى رفعها. وكلما كأنت الحاجة أبسط وإلى الطبيعة الساذجة أقرب كان التوسل إلى رفعها اوجب والاهمال في دفعها إدهى وأضر فما الحاجة إلى أصل التغذي والحياة تدور معه كالحاجة إلى التنعم بألوان الطعام وأنواع الفواكه وهكذا. ومن الحوائج الاولية الانسانية حاجة كل من صنفية الذكور والاناث إلى الآخرين بالنكاح والمباشرة، ولا ريب أن المطلوب بالنظر إلى الصنع والايجاد بذلك بقاء النسل وقد جهز الانسان بغريزة شهوة النكاح للتوسل به إلى ذلك. ولذلك نجد المجتمعات الانسانية التي نشاهدها أو نسمع بأخبارها مستنة بسنة الازدواج وتكوين البيت، وعلى ذلك كانت منذأ قدم عهودها فلم يضمن بقاء النسل إلا الازدواج. ولا يدفع هذا الذي ذكرنا أن المدنية الحديثة وضعت سنة الازدواج على أصل الاشتراك في الحياة دون أصل التناسل أو إرضاء الغريزة فإن هذا البناء على كونه بناء محدثا غير طبيعي لم يبعث حتى الآن شيئا من المجتمعات المستنة بها على شيوع هذه الشركة الحيوية بين الرجال أنفسهم أو النساء أنفسهن وليس إلا لمباينته ما تبعث إليه الطبيعة الانسانية. وبالجملة الازدواج سنة طبيعية لم تزل ولا تزال دائرة في المجتمعات البشرية ولا يزاحم هذه السنة الطبيعية في مسيرها إلا عمل الزنا الذي هو أقوى مانع من تكون البيوت وتحمل كلفة الازدواج وحمل أثقاله بإنصراف غريزة الشهوة إليه المستلزم لانهدام البيت وانقطاع النسل. ولذا كانت المجتمعات الدينية أو الطبيعية الساذجة تستشنعها وتعدها فاحشة منكرة وتتوسل إلى المنع عنه بأي وسيلة ممكنة، والمجتمعات المتمدنة الحديثة وإن لم
________________________________________
[ 18 ]
تسد سبيله بالجملة ولم تمنع عنه ذلك المنع لكنها مع ذلك لا تستحسنه لما ترى من مضادته العميقة لتكون البيوت وازدياد النفوس وبقاء النسل، وتحتال إلى تقليله بلطائف الحيل وتروج سنة الازدواج وتدعوا إلى تكثير الاولاد بجعل الجوائز وترفيع الدرجات وغير ذلك من المشوقات. غير أنه على الرغم من كون سنة الازدواج الدائم سنة قانونية متبعة في جميع المجتمعات الانسانية في العالم وتحريض الدول عليها واحتيالها لتضعيف أمر الزنا وصرف الناس لا سيما الشبان والفتيات عنه لا يزال يوجد في جميع البلاد صغيرتها وكبيرتها معاهد لهذا العمل الهادم لبنية المجتمع علنية أو سرية على اختلاف السنن الجارية فيها. وهذا أوضح حجة على أن سنة الازدواج الدائم لا تفي برفع هذه الحاجة الحيوية للنوع، وأن الانسانية بعد في حاجة إلى تتميم نقيصتها هذه، وأن من الواجب على من بيده زمام التقنين أن يتوسع في أمر الازدواج. ولذلك شفع شارع الاسلام سنة الازدواج الدائم بسنة الازدواج الموقت تسهيلا للامر وشرط فيه شروطا ترتفع بها محاذير الزنا من اختلاط المياه واختلال الانساب والمواريث وانهدام البيوت وانقطاع النسل وعدم لحوق الاولاد وهي اختصاص المرأة بالرجل والعدة إذا افترقا ولحوق الاولاد ثم لها ما اشترطت على زوجها وليس فيه على الرجل شئ من كلفه الازدواج الدائم ومشقته. ولعمر الحق إنها لمن مفاخر الاسلام في شريعته السهلة السمحة نظير الطلاق وتعدد الزوجات كثير من قوانينه ولكن ما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يسمعون يقول القائل: لان أزنى أحب إلي من أن اتمتع أو أمتع. * * * ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين - 12. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين - 13. ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا
________________________________________
[ 19 ]
آخر فتبارك الله أحسن الخالقين - 14. ثم إنكم بعد ذلك لميتون - 15. ثم إنكم يوم القيمة تبعثون - 16. ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين - 17. وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الارض وإنا على ذهاب به لقادرون - 18. فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون - 19. وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين - 20. وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون - 21. وعليها وعلى الفلك تحملون - 22. (بيان) لما ذكر سبحانه فلاح المؤمنين بما عندهم من الاوصاف الجميلة عقبه بشرح خلقهم وخلق ما أنعم عليهم من النعم مقرونا بتدبير أمرهم تدبيرا مخلوطا بالخلق لينكشف به أنه هو رب للانسان ولكل شئ الواجب أن يعبد وحده لا شريك له. قوله تعالى: " ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين " قال في المجمع: السلالة إسم لما يسل من الشئ كالكساحة اسم لما يكسح انتهى. وظاهر السياق أن المراد بالانسان هو النوع فيشمل آدم ومن دونه ويكون المراد بالخلق الخلق الابتدائي الذي خلق به آدم من الطين ثم جعل النسل من النطفة، وتكون الآية وما بعدها في معنى قوله: " وبدأ خلق الانسان من طين ثم جعل نسله من سلالة مماء مهين " ألم السجدة: 8.
________________________________________
[ 20 ]
ويؤيده قوله بعد: " ثم جعلناه نطفة " إذ لو كان المراد بالانسان ابن آدم فحسب وكان المراد بخلقه من طين انتهاء النطفة إلى الطين لكان الظاهر أن يقال: ثم خلقناه نطفة كما قيل: ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة الخ. وبذلك يظهر أن قول بعضهم: إن المراد بالانسان جنس بنى آدم، وكذا القول بأن المراد به آدم عليه السلام غير سديد. وأصل الخلق - كما قيل - التقدير يقال: خلقت الثوب إذا قسته لتقطع منه شيئا من اللباس فالمعنى ولقد قدرنا الانسان أولا من سلالة من أجزاء الارض المخلوطة بالماء. قوله تعالى: " ثم جعلناه نطفة في قرار مكين " النطفة القليل من الماء وربما يطلق على مطلق الماء، والقرار مصدر أريد به المقر مبالغة والمراد به الرحم التي تستقر فيها النطفة، والمكين المتمكن وصفت به الرحم لتمكنها في حفظ النطفة من الضيعة والفساد أو لكون النطفة مستقرة متمكنة فيها. والمعنى ثم جعلنا الانسان نطفة في مستقر متمكن هي الرحم كما خلقناه أولا من سلالة من طين أي بدلنا طريق خلقه من هذا إلى ذاك. قوله تعالى: " ثم خلقنا النطفة علقة - إلى قوله - فكسونا العظام لحما " تقدم بيان مفردات الآية في الآية 5 من سورة الحج في الجزء السابق من الكتاب وفي قوله: " فكسونا العظام لحما " استعارة بالكناية لطيفة. قوله تعالى: " ثم أنشأناه خلقا آخر " الانشاء - كما ذكره الراغب - إيجاد الشئ وتربيته كما أن النش ء والنشأة إحداثه وتربيته كما يقال للشاب الحديث السن ناشئ. وقد غير السياق من الخلق إلى الانشاء فقال: " ثم أنشأناه خلقا آخر " دون أن يقال: ثم خلقناه الخ، للدلالة على حدوث أمر حديث ما كان يتضمنه ولا يقارنه ما تقدمه من مادة فإن العلقة مثلا وإن خالفت النطفة في أوصافها وخواصها من لون وطعم وغير ذلك إلا أن في النطفة مكان كل من هذه الاوصاف والخواص ما يجانسه وإن لم يماثله كالبياض مكان الحمرة وهما جميعا لون بخلاف ما أنشأه الله أخيرا وهو الانسان الذي له حياة وعلم وقدرة فإن ما له من جوهر الذات وهو الذي نحكي عنه بأنا لم يسبق من سنخه في المراحل السابقة أعني النطفة والعلقة والمضغة والعظام المكسوة لحما شئ،
________________________________________
[ 21 ]
ولا سبق فيها شئ يناظر ما له من الخواص والاوصاف كالحياة والقدرة والعلم فهو منشأ حادث مسبوق بالعدم. والضمير في " أنشأناه " - على ما يعطيه السياق - للانسان المخلوق عظاما مكسوة باللحم فهو الذي أنشئ وأحدث خلقا آخر أي بدل وهو مادة ميتة جاهلة عاجزة موجودا ذا حياة وعلم وقدرة فقد كان مادة لها صفاتها وخواصها ثم برز وهو يغاير سابقته في الذات والصفات والخواص، فهو تلك المادة السابقة فإنها التي صارت إنسانا، وليس بها إذ لا يشاركها في ذات ولا صفات، وإنما له نوع اتحاد معها وتعلق بها يستعملها في سبيل مقاصدها استعمال ذي الآلة للآلة كالكاتب للقلم. وهذا هو الذي يستفاد من مثل قوله: " وقالوا أئذا ضللنا في الارض إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " ألم السجدة: 11، فالمتوفى والمأخوذ عند الموت هو الانسان، والمتلاشي الضال في الارض هو البدن وليس به. واختلف العطف في مفردات الآية بالفاء وثم وقد قيل في وجهه أن ما عطف بثم له بينونة كاملة مع ما عطف عليه كما في قوله: " ثم جعلناه نطفة " " ثم خلقنا النطفة علقة "، " ثم أنشانأه خلقا آخر "، وما لم يكن بتلك البينونة والبعد عطف بالفاء كقوله: " فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ". قوله تعالى: " فتبارك الله أحسن الخالقين " قال الراغب: أصل البرك - بالفتح فالسكون - صدر البعير. قال: وبرك البعير ألقى ركبه واعتبر منه معنى اللم. قال: وسمي محبس الماء بركة - بالكسر فالسكون - والبركة ثبوت الخير الالهي في الشئ قال تعالى: " لفتحنا عليهم بركات من السماء والارض " وسمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة، والمبارك ما فيه ذلك الخير. قال: ولما كان الخير الالهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى ولا يحصر قيل لكل ما يشاهد منه زيادة غير محسوسة هو مبارك وفيه بركة. انتهى. فالتبارك منه تعالى اختصاصه بالخير الكثير الذي يجود به ويفيضه على خلقه وقد تقدم أن الخلق في أصله بمعنى التقدير فهذا الخير الكثير كله في تقديره وهو إيجاد
________________________________________
[ 22 ]
الاشياء وتركيب أجزائها بحيث تتناسب فيما بين أنفسها وتناسب ما وراءها ومن ذلك ينتشر الخير الكثير. ووصفه تعالى بأحسن الخالقين يدل على عدم اختصاص الخلق به وهو كذلك لما تقدم أن معناه التقدير وقياس الشئ من الشئ لا يختص به تعالى، وفي كلامه تعالى من الخلق المنسوب إلى غيره قوله: " وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير " المائدة: 110 وقوله: " وتخلقون إفكا " العنكبوت: 17. قوله تعالى: " ثم إنكم بعد ذلك لميتون " بيان لتمام التدبير الالهي وأن الموت من المراحل التي من الواجب أن يقطعها الانسان في مسير التقدير، وأنه حق كما تقدم في قوله تعالى: " كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة " الانبياء: 35. قوله تعالى: " ثم إنكم يوم القيامة تبعثون " وهذا تمام التدبير وهو أعني البعث آخر مرحلة في مسير الانسان إذا حل بها لزمها ولا يزال قاطنا بها. قوله تعالى: " ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين "، المراد بالطرائق السبع بقرينة قوله: " فوقكم " السماوات السبع وقد سماها طرائق - جمع طريقة - وهي السبيل المطروقة لانها ممر الامر النازل من عنده تعالى إلى الارض، قال تعالى: " يتنزل الامر بينهن " الطلاق: 12، وقال: " يدبر الامر من السماء إلى الارض يعرج إليه " الم السجدة: 5. والسبل التي تسلكها الاعمال في صعودها إلى الله والملائكة في هبوطهم وعروجهم كما قال: " إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه " فاطر: 10، وقال: " وما نتنزل إلا بأمر ربك " مريم: 64. وبذلك يتضح اتصال ذيل الآية " وما كنا عن الخلق غافلين " بصدرها أي لستم بمنقطعين عنا ولا بمعزل عن مراقبتنا بل هذه الطرائق السبع منصوبة بيننا وبينكم يتطرقها رسل الملائكة بالنزول والصعود وينزل منها أمرنا اليكم وتصعد منها أعمالكم الينا. وبذلك كله يظهر ما في قول بعضهم: إن الطرائق بمعنى الطباق المنضودة بعضها فوق بعض من طرق النعل إذا وضع طاقاتها بعضها فوق بعض، وقول آخرين: إنها بمعنى المبسوطات من طرق الحديد إذا بسطه بالمطرقة. على أن اتصال ذيل الآية بصدرها على القولين غير بين.
________________________________________
[ 23 ]
قوله تعالى: " وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الارض وإنا على ذهاب به لقادرون " المراد بالسماء جهة العلو فإن ما علاك وأظلك فهو سماء، والمراد بالماء النازل منها ماء المطر. وفي قوله: " بقدر " دلالة على أن الذي نزل إنما نزل على حسب ما يقتضيه التدبير التام الالهي الذي يقدره بقدر لا يزيد قطرة على ما قدر ولا ينقص، وفيه تلميح أيضا إلى قوله: " وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله الا بقدر معلوم " الحجر: 21. والمعنى: وأنزلنا من جهة العلو ماء بقدر وهو ماء المطر فأسكناه في الارض وهو الذخائر المدخرة من الماء في الجبال والسهول تتفجر عنه العيون والانهار وتكشف عنه الآبار، وإنا لقادرون على أن نذهب بهذا الماء الذي أسكناه في الارض نوعا من الذهاب لا تهتدون إلى علمه. قوله تعالى: " فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب " إلى آخر الآية، إنشاء الجنات إحداثها وتربيتها، ومعنى الآية ظاهر. قوله تعالى: " إلى شجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " معطوف على " جنات " أي وأنشأنا لكم به شجرة في طور سيناء، والمراد بها شجرة الزيتون التي تكثر في طورسيناء، وقوله: " تنبت بالدهن " أي تثمر ثمرة فيها الدهن وهو الزيت فهي تنبت بالدهن، وقوله: " وصبغ للآكلين " أي وتنبت بصبغ للآكلين، والصبغ بالكسر فالسكون الادام الذي يؤتدم به، وإنما خص شجرة الزيتون بالذكر لعجيب أمرها، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " وإن لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها " الخ، العبرة الدلالة يستدل بها على أنه تعالى مدبر لامر خلقه حنين بهم رؤف رحيم، والمراد بسقيه تعالى مما في طونها أنه رزقهم من البانها، والمراد بالمنافع الكثيرة ما ينتفعون من صوفها وشعرها ووبرها وجلودها وغير ذلك، ومنها يأكلون. قوله تعالى: " وعليها وعلى الفلك تحملون " ضمير " عليها " للانعام والحمل على الانعام هو الحمل على الابل، وهو حمل في البر ويقابله الحمل في البحر وهو الحمل على الفلك، فالآية في معنى قوله: " وحملناهم في البر والبحر " أسرى: 70، والفلك جمع فلكة وهي السفينة.
________________________________________
[ 24 ]
(بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن علي قال: إذا تمت النطفة أربعة أشهر بعث إليها ملك فنفخ فيها الروح في الظلمات الثلاث، فذلك قوله: " ثم أنشأناه خلقا آخر " يعني نفخ الروح فيه. في الكافي بإسناده عن ابن فضال عن الحسن بن الجهم قال: سمعت أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: قال أبو جعفر عليه السلام: إن النطفة تكون في الرحم أربعين يوما، ثم تصير علقة أربعين يوما، ثم تصير مضغة أربعين وما، فإذا كمل أربعة أشهر بعث الله ملكين خلاقين فيقولان: يا رب ما نخلق ذكرا أو أنثى ؟ فيؤمران فيقولان: يا رب شقي أو سعيد ؟ فيؤمران فيقولان: يا رب ما أجله وما رزقه وكل شئ من حاله ؟ وعدد من ذلك اشياء، ويكتبان الميثاق بن عينيه. فإذا كمل الاجل بعث الله إليه ملكا فزجره زجرة فيخرج وقد نسي الميثاق، فقال الحسن بن الجهم: أفيجوز أن يدعو الله فيحول الانثى ذكرا أو الذكر أنثى ؟ فقال: إن الله يفعل ما يشاء. أقول: والرواية مروية عن أبي جعفر عليه السلام بطرق أخرى وألفا ظمتقا ربة. وفي تفسير القمي قوله عزوجل: " وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " قال شجرة الزيتون، وهو مثل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومثل أمير المؤمنين عليه السلام فالطور الجبل وسيناء الشجرة. وفي المجمع " تنبت بالدهن وصبغ للآكلين " وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: الزيت شجرة مباركة فائتدموا منه وادهنوا. * * * ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون - 23. فقال الملؤ الذين كفروا من قومه
________________________________________
[ 25 ]
ما هذا إلابشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لانزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين - 24. إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين - 25. قال رب انصرني بما كذبون - 26. فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون - 27. فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين - 28. وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين - 29. إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين - 30. ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين - 31. فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون - 32. وقال الملؤ من قومه الذين كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة وأترفناهم في الحيوة الدنيا ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون - 33. ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون - 34. أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون - 35. هيهات هيهات لما توعدون - 36. إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين - 37. إن هو


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page