• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 351 الي 375

[ 351 ]
ضرر والذى يصيب عابده من ضرر وخسران فإنما يصيبه من ناحية العبادة التى هي فعل له منسوب إليه. قوله تعالى: " يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير " المولى الولي الناصر والعشير الصاحب المعاشر. ذكروا في تركيب جمل الاية أن " يدعوا " ؟ ؟ بمعنى يقول ؟ وقوله: " لمن ضره أقرب من نفعه " الخ. مقول القول، و " لمن " مبتدء دخلت عليه لام الابتداء وهو موصول صلته " ضره أقرب من نفعه ". وقوله: " لبئس المولى ولبئس العشير " جواب قسم محذوف وهو قائم مقام الخبر دال عليه. والمعنى: يقول هذا الذى يعبد الاصنام يوم القيامة واصفا لصنمه الذي اتخذه مولى وعشيرا، الصنم الذي ضره أقرب من نفعه مولى سوء وعشير سوء أقسم لبئس المولى ولبئس العشير. وإنما يعد ضره أقرب من نفعه لما يشاهد يوم القيامة ما تستتبعه عبادته له من العذاب الخالد والهلاك المؤبد. قوله تعالى: " إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار " الخ. لما ذكر الاصناف الثلاثة من الكفار وهم الائمة المتبوعون المجادلون في الله بغير علم والمقلدة التابعون لكل شيطان مريد المجادلون كأئمتهم والمذبذبون العابدون لله على حرف، ووصفهم بالضلال والخسران قابلهم بهذا الصنف من الناس وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ووصفهم بكريم المثوى وحسن المنقلب وأن الله يريد بهم ذلك. وذكر هؤلاء الاصناف كالتوطئة لما سيذكر من القضاء بينهم وبيان حالهم تفصيلا. قوله تعالى: " من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والاخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ " قال في المجمع: السبب كل ما يتوصل به إلى الشئ ومنه قيل للحبل سبب وللطريق سبب وللباب سبب انتهى و المراد بالسبب في الاية الحبل، والقطع معروف ومن معانيه الاختناق يقال: قطع أ اختنق وكأنه مأخوذ من قطع النفس.
________________________________________
[ 352 ]
قالوا: إن الضمير في " لن ينصره الله " للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أن مشركي مكة كانوا يظنون أن الذى جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الدين أحدوثه كاذبة لا تبتنى على أصل عريق فلا يرتفع ذكره، ولا ينتشر دينه، وليس له عند الله منزلة حتى إذا هاجر صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة فنصره الله سبحانه فبسط دينه ورفع ذكره غاظهم ذلك غيظا شديدا فقرعهم الله سبحانه بهذه الاية وأشار بها إلى أن الله ناصره ولن يذهب غيظهم ولو خنقوا أنفسهم فلن يؤثر كيدهم أثرا. والمعنى: من كان يظن من المشركين أن لن ينصر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا برفع الذكر وبسط الدين وفي الاخرة بالمغفرة والرحمة له وللمؤمنين به ثم غاظه ما يشاهده اليوم من نصر الله له فليمدد بحبل إلى السماء - كأن يربط طرف الحبل على جذع عال ونحوه - ثم ليختنق به فلينظر هل يذهبن كيده وحيلته هذا ما يغيظ أي غيظة. وهذا معنى حسن يؤيده سياق الايات السابقة وما استفدناه سابقا من نزول السورة بعد الهجرة بقليل ومشركوا مكة بعد على قدرتهم وشوكتهم. وذكر بعضهم أن ضمير " لن ينصره " عائد إلى " من " ومعنى القطع قطع المسافة والمراد بمد سبب إلى السماء الصعود عليها لابطال حكم الله، والمعنى من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والاخرة فليصعد السماء بسبب يمده ثم ليقطع المسافة ولينظر هل يذهب كيده ما يغيظه من حكم. ولعل هؤلاء يعنون أن المراد بالاية أن من الواجب على الانسان أن يرجو ربه في دنياه وآخرته وإن لم يرجه وظن أن لن ينصره الله فيهما وغاظه ذلك فليكد ما يكيد فإنه لا ينفعه. وذكر آخرون أن الضمير للموصول كما في القول السابق، والمراد بالنصر الرزق كما يقال: أرض منصورة أي ممطورة والمعنى كما في القول الاول. وهذا أقرب إلى الاعتبار من سابقة وأحسن لكن يرد على الوجهين جميعا لزوم انقطاع الاية عما قبلها من الايات. على أن الانسب على هذين الوجهين في التعبير أن يقال: من ظن أن لن ينصره الله " الخ ". لا أن يقال: " من كان يظن " الظاهر في استمرار
________________________________________
[ 353 ]
الظن منه في الماضي فإنه يؤيد القول الاول. قوله تعالى: " وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد " قد تقدم مرارا أن هذا من تشبيه الكلي بفرده بدعوى البينونة للدلاله على أن ما في الفرد من الحكم جار في باقي أفراده كمن يشير إلى زيد وعمرو وهما يتكلمان ويمشيان على قدميهما ويقول كذلك يكون الانسان أي حكم التكلم والمشي على القدمين جار في جميع الافراد فمعنى قوله: " وكذلك أنزلناه آيات بينات " أنزلنا القرآن وهو آيات واضحة الدلالات كما في الايات السابقة من هذه السورة. وقوله: " وأن الله يهدي من يريد " خبر لمبتدأ محذوف أي والامر أن الله يهدى من يريد وأما من لم يرد أن يهديه فلا هادي له فمجرد كون الايات بينات لا يكفي في هداية من سمعها أو تأمل فيها ما لم يرد الله هدايته. وقيل الجمله معطوفه على ضمير " أنزلناه " والتقدير وكذلك أنزلنا أن الله يهدى من يريد، والوجه الاول أوضح اتصالا بأول الاية وهو ظاهر. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " ويتبع كل شيطان مريد " قال: المريد الخبيث. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن أبي زيد في قوله: " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم " قال نزلت في النضر بن الحارث. أقول: ورواه أيضا عن ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريح والظاهر أنه من التطبيق كما هو دأبهم في غالب الروايات المتعرضة لاسباب النزول، وعلى ذلك فالقول بنزول الاية الاتية: " ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى " الاية فيه كما نقل عن مجاهد أولى من القول بنزول هذه الاية فيه لان الرجل من معاريف القوم وهذه الاية كما تقدم في الاتباع والاية الاخرى في المتبوعين.
________________________________________
[ 354 ]
وفى تفسير القمى في قوله تعالى: " مخلقه وغير مخلقة " قال: المخلقه إذا صارت تاما و " غير مخلقة قال: السقط وفي الدر المنثور أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الايمان عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدق إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. فو الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها. أقول: والرواية مروية بطرق أخرى عنه وعن ابن عباس وأنس وحذيفة بن أسيد، وفي متونها بعض الاختلاف وفي بعضها - وهو ما رواه ابن جرير عن ابن مسعود - يقال للملك: انطلق إلى أم الكتاب فاستنسخ منه صفة هذه النطفة فينطلق فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفتها، الحديث. وقد ورد من طرق الشيعه عن أئمه أهل البيت عليهم السلام ما يقرب من ذلك كما في قرب الاسناد للحميري عن أحمد بن محمد عن أحمد بن أبي نصر عن الرضا عليه السلام وفيه: فإذا تمت الاربعة الاشهر بعث الله تبارك وتعالى إليها ملكين خلاقين يصورانه ويكتبان رزقه وأجله وشقيا أو سعيدا. الحديث. وقد قدمنا في تفسير أول سورة آل عمران حديث الكافي عن الباقر عليه السلام في تصوير الجنين وكتابة ما قدر له وفيه أن الملكين يكتبان جميع ما قدر له عن لوح يقرع جبهة أمه فيكتبان جميع ما في اللوح ويشترطان البداء فيما يكتبان، الحديث وفي معناه غيره. ومقتضى هذا الحديث وما في معناه جواز التغير فيما كتب للولد من كتابة كما أن
________________________________________
[ 355 ]
مقتضى ما تقدم خلافه لكن لا تنافي بين المدلولين فإن لكل شئ ومنها الانسان نصيبا في اللوح المحفوظ الذي لا سبيل للتغير والتبدل إلى ما كتب فيه ونصيبا من لوح المحو والاثبات الذى يقبل التغير والتبدل فالقضاء قضاء ان محتوم وغير محتوم، قال تعالى: " يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " الرعد: 39. وقد تقدم الكلام في معنى القضاء واتضح به أن لوح القضاء كائنا ما كان ينطبق على نظام العلية والمعلولية وينحل إلى سلسلتين: سلسلة العلل التامة ومعلولاتها ولا تقبل تغييرا وسلسلة العلل الناقصة مع معاليلها وهي القابلة وكأن الصنف الاول من الروايات يشير إلى ما يقضى للجنين من قضاء محتوم والثاني إلى غيره وقد بينا أيضا فيما تقدم أن حتمية القضاء لفعل العبد لا تنافى اختيارية الفعل فتذكر. وفي الكافي بإسناده عن سلام بن المستنير قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عزوجل: " مخلقة وغير مخلقة " قال: المخلقة هم الذر الذين خلقهم الله في صلب آدم صلى الله عليه، أخذ عليهم الميثاق ثم أجراهم في أصلاب الرجال وأرحام النساء وهم الذين يخرجون إلى الدنيا حتى يسألوا عن الميثاق. وأما قوله: " وغير مخلقة " فهم كل نسمة لم يخلقهم الله عزوجل في صلب آدم حين خلق الذر وأخذ عليهم الميثاق، وهم النطف من العزل والسقط قبل أن ينفخ فيه الروح والحياة والبقاء. أقول وقد تقدم توضيح معنى الحديث في البحث الروائي المتعلق بأيه الذر في سورة الاعراف. وفي تفسير القمي بإسناده عن علي بن المغيرة عن أبي عبد الله عن أبيه عليهما السلام قال: إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك أرذل العمر. أقول: وقد تقدم بعض الروايات في هذا المعنى في تفسير سورة النحل في ذيل الاية 70 وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس قال: كان ناس من الاعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون فإذا رجعوا إلى بلادهم فإن وجدوا عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن قالوا: إن ديننا هذا صالح فتمسكوا به وإن وجدوا عام جدب وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا: ما في ديننا هذا خير فأنزل الله: " ومن الناس من يعبد الله على حرف ".
________________________________________
[ 356 ]
أقول: وهذا المعنى مروي عنه أيضا بغير هذا الطريق. وفي الكافي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن قول الله عزوجل: " ومن الناس من يعبد الله على حرف " قال: نعم قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة من يعبد من دون الله فخرجوا من الشرك ولم يعرفوا أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم رسول الله فهم يعبدون الله على شك في محمد وما جاء به فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: ننظر فإن كثرت أموالنا وعوفينا في أنفسنا وأولادنا علمنا أنه صادق وأنه رسول الله: وإن كان غير ذلك نظرنا. قال الله عزوجل: " فإن أصابه خير أطمأن به " يعنى عافية في الدنيا " وإن أصابته فتنه " يعنى بلاء في نفسه " انقلب على وجهه " انقلب على شكه إلى الشرك " خسر الدنيا والاخرة ذلك هو الخسران المبين يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه " قال: ينقلب مشركا يدعو غير الله ويعبد غيره. الحديث. أقول: ورواه الصدوق في التوحيد باختلاف يسير. وفي الدر المنثور أخرج الفاريابى وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن عباس في قوله: " من كان يظن أن لن ينصره الله " قال: من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا في الدنيا والاخرة فليمدد بسبب " قال: فليربط حبلا " إلى السماء " قال: إلى سماء بيته السقف " ثم ليقطع " قال ثم يختنق به حتى يموت. أقول: هو وإن كان تفسيرا منه لكنه في معنى سبب النزول ولذلك أوردناه. إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيمة إن الله على كل شئ شهيد (17) - ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الارض
________________________________________
[ 357 ]
والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء (18) - هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤسهم الحميم (19) - يصهر به ما في بطونهم والجلود (20) - ولهم مقامع من حديد (21) - كلما ارادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق (22) - إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الانهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير (23) - وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد (24) - (بيان) بعد ما ذكر في الايات السابقة اختلاف الناس واختصامهم في الله سبحانه بين تابع ضال يجادل في الله بغير علم، ومتبوع مضل يجادل في الله بغير علم، ومذبذب يعبد الله على حرف، والذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات، ذكر في هذه الايات أن الله شهيد عليهم وسيفصل بينهم يوم القيامة وهم خاضعون مقهورون له ساجدون قبال عظمته وكبريائه حقيقة وإن كان بعضهم يأبى عن السجود له ظاهرا وهم الذين حق عليهم العذاب. ثم ذكر أجر المؤمنين وجزاء غيرهم بعد فصل القضاء يوم القيامة.
________________________________________
[ 358 ]
قوله تعالى: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة " الخ. المراد بالذين آمنوا بقرينة المقابلة هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وكتابهم القرآن. والذين هادوا هم المؤمنين بموسى من قبله من الرسل الواقفون فيه وكتابهم التوراة وقد أحرقها بخت نصر ملك بابل حينما استولى عليهم في أواسط القرن السابع قبل المسيح فافتقدوها برهة ثم جدد كتابتها لهم عزراء الكاهن في أوائل القرن السادس قبل المسيح حينما فتح كوروش ملك إيران بابل وتخلص بنو إسرائيل من الاسارة ورجعوا إلى الارض المقدسة. والصابئون ليس المراد بهم عبدة الكواكب من الوثنية بدليل ما في الاية من المقابلة بينهم وبين الذين أشركوا بل هم - على ما قيل - قوم متوسطون بين اليهودية والمجوسية ولهم كتاب ينسبونه إلى يحيى بن زكريا النبي ويسمى الواحد منهم اليوم عند العامة " صبى " وقد تقدم لهم ذكر في ذيل قوله: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين: البقره: 62. والنصارى هم المؤمنون بالمسيح عيسى بن مريم عليه السلام ومن قبله من الانبياء وكتبهم المقدسة الاناجيل الاربعة للوقا ومرقس ومتى ويوحنا وكتب العهد القديم على ما اعتبرته وقدسته الكنيسة لكن القرآن يذكر أن كتابهم الانجيل النازل على عيسى عليه السلام. والمجوس المعروف أنهم المؤمنون بزرتشت وكتابهم المقدس " أوستا " غير أن تاريخ حياته وزمان ظهوره مبهم جدا كالمنقطع خبره وقد افتقدوا الكتاب باستيلاء اسكندر على إيران ثم جددت كتابته في زمن ملوك ساسان فأشكل بذلك الحصول على حاق مذهبهم والمسلم أنهم يثبتون لتدبير العالم مبدأين مبدء الخير ومبدء الشر - يزدان وأهريمن أو النور والظلمة - ويقدسون الملائكة ويتقربون إليهم من غير أن يتخذوا لهم أصناما كالوثنية، ويقدسون البسائط العنصرية وخاصة النار وكانت لهم بيوت نيران بايران والصين والهند وغيرها وينهون الجميع إلى " اهورامزدا " موجد الكل. والذين أشركوا هم الوثنية عبدة الاصنام، وأصول مذاهبهم ثلاثة: الوثنية الصابئة والبرهمانية والبوذية، وقد كان هناك أقوام آخرون يعبدون من الاصنام ما
________________________________________
[ 359 ]
شاؤا كما شاؤا من غير أن يبنوه على أصل منظم كعرب الحجاز وطوائف في أطراف المعمورة وقد تقدم تفصيل القول فيهم في الجزء العاشر من الكتاب. وقوله: " إن ربك يفصل بينهم يوم القيامة المراد به فصل القضاء فيما اختلف فيه أصحاب هذه المذاهب واختصموا فينفصل المحق منهم ويتميز من المبطل انفصالا وتميزا لا يستره ساتر ولا يحجبه حاجب. وتكرار إن في الاية للتأكيد دعى إلى ذلك طول الفصل بين " إن " في صدر الاية وبين خبرها ونظيره ما في قوله: " ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم " النحل: 110 وقوله " ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم " النحل: 119. وقوله: " إن الله على كل شئ شهيد " تعليل للفصل أنه فصل بالحق. قوله تعالى: " ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الارض الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب " إلى آخر الاية، الظاهر أن الخطاب لكل من يرى ويصلح لان يخاطب، والمراد بالرؤية العلم، ويمكن أن يختص بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويكون المراد بالرؤية الرؤية القلبية كما قال فيه: " ما كذب الفؤاد ما رآى أفتمارونه على ما يرى " النجم: 12. وتعميم السجدة لمثل الشمس والقمر والنجوم والجبال من غير أولى العقل دليل على أن المراد بها السجدة التكوينية وهي التذلل والصغار قبال عزته وكبريائه تعالى وتحت قهره وسلطنته، ولازمه أن يكون من في الارض " شاملا لنوع الانسان من مؤمن وكافر إذ لا استثناء في السجدة التكوينية والتذلل الوجودى. وعدم ذكر نفس السماوات والارض في جملة الساجدين مع شمول الحكم لهما في الواقع يعطي أن معنى الكلام: أن المخلوقات العلوية والسفلية من ذي عقل وغير ذي عقل ساجده لله متذلله في وجودها تجاه عزته وكبريائه، ولا تزال تسجد له تعالى سجودا تكوينيا اضطراريا. وقوله: " وكثير من الناس " عطف على " من في السماوات " الخ. أي ويسجد
________________________________________
[ 360 ]
له كثير من الناس، وإسناد السجود إلى كثير من الناس بعد شموله في الجملة السابقة لجميعهم دليل على أن المراد بهذا السجود نوع آخر من السجود غير السابق وإن كانا مشتركين في أصل معنى التذلل، وهذا النوع هو السجود التشريعي الاختياري بالخرور على الارض تمثيلا للسجود والتذلل التكويني الاضطراري وإظهارا لمعنى العبودية. وقوله: " وكثير حق عليهم لعذاب " المقابلة بينه وبين سابقه يعطي أن معناه وكثير منهم يأبى عن السجود، وقد وضع موضعه ما هو أثره اللازم المترتب عليه وهو ثبوت العذاب على من استكبر على الله وأبى أن يخضع له تعالى، وإنما وضع ثبوت العذاب موضع الاباء عن السجدة للدلالة على أنه هو عملهم يرد إليهم، وليكون تمهيدا لقوله تلوا: " ومن يهن الله فما له من مكرم " الدال على أن ثبوت العذاب لهم إثر إبائهم عن السجود هو ان وخزي يتصل بهم ليس بعده كرامة وخير. فإباؤهم عن السجود يستتبع بمشية الله تعالى ثبوت العذاب لهم وهو إهانة ليس بعده إكرام أبدا إذ الخير كله بيد الله كما قال، " بيدك الخير " آل عمران: 26 فإذا منعه أحدا لم يكن هناك من يعطيه غيره. وقوله: " إن الله يفعل ما يشاء " كناية عن عموم القدرة وتعليل لما تقدمه من حديث إثباته العذاب للمستكبرين عن السجود له وإهانتهم إهانة لا إكرام بعده. فالمعنى - والله أعلم - أن الله يميز يوم القيامة بين المختلفين فإنك تعلم أن الموجودات العلوية والسفلية يخضون ويثذللون له تكوينا لكن الناس بين من يظهر في مقام العبودية الخضوع والتذلل له وبين من يستكبر عن ذلك وهؤلاء هم الذين حق عليهم العذاب وأهانهم الله إهانة لا إكرام بعده وهو قادر على ما يشاء فعال لما يريد، ومن هنا يظهر أن للاية اتصالا بما قبلها. قوله تعالى: " هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤسهم الحميم " الاشارة بقوله: " هذان " إلى القبيلين الذين دل علهيما قوله سابقا: " إن الله يفصل بينهم يوم القيامة " وقوله بعده: " وكثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب ". ويعلم من حصر المختلفين على كثرة أديانهم ومذاهبهم في خصمين اثنين أنهم جميعا منقسمون إلى محق ومبطل إذ لولا الحق والباطل لم ينحصر املل والنحل على تشتتها في
________________________________________
[ 361 ]
اثنين البتة، والمحق والمبطل هما المؤمن بالحق والكافر به فهذه الطوائف على تشتت أقوالهم ينحصرون في خصمين اثنين وعلى انحصارهم في خصمين اثنين لهم أقوال مختلفة فوق اثنين فما أحسن تعبيره بقوله: " خصمان اختصموا " حيث لم يقل " خصوم اختصموا ولم يقل: خصمان اختصما. وقد جعل اختصامهم في ربهم أي أنهم اختلفوا في وصف ربوبيته تعالى فإلى وصف الربوبية يرجع اختلافات لمذاهب بالغة ما بلغت فهم بين من يصف ربه بما يستحقه من الاسماء والصفات وما يليق به من الافعال فيؤمن بما وصف وهو الحق ويعمل على ما يقتضيه وصفه وهو العمل الصالح فهو المؤمن العامل بالصالحات، ومن لا يصفه بما يستحقه من الاسماء والصفات كمن يثبت له شريكا أو ولدا فينفي وحدانيته أو يسند الصنع والايجاد إلى الطبيعة أو الدهر أو ينكر النبوة أو رسالة بعض الرسل أو ضروريا من ضروريات الدين الحق فيكفر بالحق ويستره وهو الكافر فالمؤمن بربه والكافر بالمعنى الذى ذكرهما الخصمان. ثم شرع في جزاء الخصمين وبين عاقبة أمر كل منهما بعد فصل القضاء وقدم الذين كفروا فقال: " فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤسهم الحميم " أي الماء الحار المغلي. قوله تعالى: " يصهر به ما في بطونهم والجلود " الصهر الاذابة أي يذوب وينضج بذاك الحميم ما في بطونهم من الامعاء والجلود. قوله تعالى: " ولهم مقامع من حديد " المقامع جمع مقمعة وهي المدقة والعمود. قوله تعالى: " كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق " ضمير " منها " للنار و " من غم " بيان له أو من بمعنى السببية والحريق بمعنى المحرق كالاليم بمعنى المؤلم. قوله تعالى: " إن الله يدخل الذين آمنوا " إلى آخر الاية، الاساور على ما قيل - جمع أسورة وهي جمع سوار وهو على ما ذكره الراغب معاب " دستواره " والباقي ظاهر. قوله تعالى: " وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد " الطيب من القول ما لا خباثة فيه وخبيث القول باطله على أقسامه وقد جمع القول الطيب كله
________________________________________
[ 362 ]
قوله تعالى إخبارا عنهم: " دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين " يونس: 10 فهدايتهم إلى الطيب من القول تيسيره لهم، وهدايتهم إلى صراط الحميد والحميد من أسمائه تعالى أن لا يصدر عنهم إلا محمود الفعل كما لا يصدر عنهم إلا طيب القول. وبين هذه الاية وقوله: " كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق " مقابلة ظاهره. (بحث روائي) في التوحيد باسناده عن الاصبغ بن نباتة عن علي عليه السلام في حديث: " قال عليه السلام: سلوني قبل أن تفقدوني فقام إليه الاشعث بن قيس فقال يا أمير المؤمنين كيف تؤخذ من المجوس الجزية ولم ينزل إليهم كتاب ولم يبعث إليهم نبي ؟ قال: بلى يا أشعث قد أنزل الله إليهم كتابا وبعث إليهم رسولا حتى كان لهم ملك سكر ذات ليلة فدعا بابنته إلى فراشه فارتكبها. فلما أصبح تسامع به قومه فاجتمعوا إلى بابه فقالوا: أيها الملك دنست علينا ديننا وأهلكته فاخرج نطهرك ونقيم عليك الحد فقال لهم: اجتمعوا واسمعوا قولي فإن يكن لي مخرج مما ارتكبت وإلا فشأنكم فاجتمعوا فقال لهم: هل علمتم أن الله لم يخلق خلقا أكرم عليه من أبينا آدم وأمنا حواء ؟ قالوا: صدقت أيها الملك قال: أو ليس قد زوج بنيه بناته وبناته من بنيه ؟ قالوا: صدقت هذا هو الدين فتعاقدوا على ذلك فمحا الله ما في صدورهم من العلم ورفع عنهم الكتاب فهم الكفرة يدخلون النار بلا حساب والمنافقون أشد حالا منهم. قال الاشعث. والله ما سمعت بمثل هذا الجواب، والله لا عدت إلى مثلها أبدا. أقول: قوله: " والمنافقون أشد حالا منهم " فيه تعريض للاشعث وفي كون المجوس من أهل الكتاب روايات أخر فيها أنهم كان لهم نبي فقتلوه وكتاب فأحرقوه. وفي الدر المنثور في قوله تعالى: " إن الله يفعل ما يشاء " أخرج ابن أبي حاتم واللالكائي في السنة والخلعى في فوائده عن على أنه قيل له: إن ههنا رجلا يتكلم
________________________________________
[ 363 ]
في المشيئة فقال له علي: يا عبد الله خلقك الله لما يشاء أو لما شئت ؟ قال: بل لما يشاء قال: فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال: بل إذا شاء. قال فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت ؟ قال: بل إذا شاء. قال فيدخلك الجنة حيث شاء أو حيث شئت ؟ قال: بل حيث شاء. قال: والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف. أقول: ورواه في التوحيد بإسناده عن عبد الله بن الميمون القداح عن جعفر بن محمد عن أبيه عليهما السلام وفيه " فيدخلك حيث يشاء أو حيث شئت " ولم يذكر الجنة. وقد تقدمت رواية في هذا المعنى شرحناها في ذيل قوله: " ولا يضل به إلا الفاسقين: البقرة: 26 في الجزء الاول من الكتاب. وفي التوحيد بإسناده إلى سليمان بن جعفر الجعفري قال: قال الرضا عليه السلام: المشية من صفات الافعال فمن زعم أن الله لم يزل مريدا شائيا فليس بموحد. أقول: في قوله عليه السلام ثانيا: " لم يزل مريدا شائيا " تلويح إلى اتحاد الارادة والمشية وهو كذلك فإن المشية معنى يوصف به الانسان إذا اعتبر كونه فاعلا شاعرا بفعله المضاف إليه، وإذا تمت فاعليته بحيث لا ينفك عنه الفعل سمي هذا المعنى بعينه إرادة، وعلى أي حال هو وصف خارج عن الذات طار عليه، ولذلك لا يتصف تعالى بها كأتصافه بصفاته الذاتية كالعلم والقدرة لتنزهه عن تغير الذات بعروض العوارض بل هي من صفات فعله منتزعة من نفس الفعل أو من حضور الاسباب عليه. فقولنا: أراد الله كذا معناه أنه فعله عالما بأنه أصلح أو أنه هيأ أسبابه عالما بأنه أصلح، وإذا كانت بمعناها الذي فينا غير الذات فلو قيل: لم يزل الله مريدا كان لازمه إثبات شئ أزلي غير مخلوق له معه وهو خلاف توحيده، وأما قول القائل: إن معنى الارادة هو العلم بالاصلح، والعلم من صفات الذات فلم يزل مريدا أي عالما بما فعله أصلح فهو إرجاع للارادة إلى العلم ولا محذور فيه غير أن عد الارادة على هذا صفة أخرى وراء الحياة والعلم والقدرة لا وجه له. وفي الدر المنثور أخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد والبخاري ومسلم والترمذي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي
________________________________________
[ 364 ]
في الدلائل عن أبي ذر أنه كان يقسم قسما أن هذه الاية هذان خصمان اختصموا في ربهم - إلى قوله - إن الله يفعل ما يريد " نزلت في الثلاثة والثلاثه الذين تبارزوا يوم بدر وهم حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعلى بن أبي طالب، وعتبة وشيبة أبنا ربيعة والوليد بن عتبة. قال علي أنا أول من يجثو للخصومة على ركبتيه بين يدى الله يوم القيامة. أقول ورواه فيه أيضا عن عدة من أصحاب الجوامع عن قيس بن سعد بن عبادة وابن عباس وغيرهما، ورواه في مجمع البيان عن أبي ذر وعطاء. وفي الخصال عن النضر بن مالك قال: قلت للحسين بن علي عليهما السلام: يا ابا عبد الله حدثنى عن قوله تعالى: " هذان خصمان اختصموا في ربهم " فقال: نحن وبنو أمية اختصمنا في الله تعالى: قلنا صدق الله، وقالوا: كذب، فنحن الخصمان يوم القيامة. أقول: وهو من الجري ونظيره ما في الكافي بإسناده عن ابن ابي حمزة عن الباقر عليه السلام: فالذين كفروا بولاية علي عليه السلام قطعت لهم ثياب من نار. وفي تفسير القمى " وهدوا إلى الطيب من القول " قال: التوحيد والاخلاص " وهدوا إلى صراط الحميد " قال: الولاية. أقول: وفى المحاسن بإسناده عن ضريس عن الباقر عليه السلام ما في معناه. وفي المجمع وروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ما أحد أحب إليه الحمد من الله عز ذكره. إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب اليم (25) - وإذ بوأنا لابراهيم مكان البيت أن لا تشرك
________________________________________
[ 365 ]
بي شيئا وطهر بيتى للطائفين والقائمين والركع السجود (26) - وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق (27) - ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير (28) ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق (29). ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الانعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الاوثان وأجتنبوا قول الزور (30) - حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوى به الريح في مكان سحيق (31) - ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب (32) - لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق (33) - ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين (34) - الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون (35) - والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم
________________________________________
[ 366 ]
الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر كذلك سخرناها لكم لعلكم تشكرون (36) - لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هديكم وبشر المحسنين (37) - (بيان) تذكر الايات صد المشركين للمؤمنين عن المسجد الحرام وتقرعهم بالتهديد وتشير إلى تشريع حج البيت لاول مرة لابراهيم عليه السلام وأمره بتأذين الحج في الناس وجملة من أحكام الحج. قوله تعالى: " الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس " الخ. الصد المنع، و " سواء " مصدر بمعنى الفاعل، والعكوف في المكان الاقامة فيه، والبادى من البدو وهو الظهور والمراد به - كما قيل - الطارئ أي الذي يقصده من خارج فيدخله، والالحاد الميل إلى خلاف الاستقامة وأصله إلحاد حافر الدابة. والمراد بالذين كفروا مشركوا مكه الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول البعثة قبل الهجرة وكانوا يمنعون الناس عن الاسلام وهو سبيل الله والمؤمنين عن دخول المسجد الحرام لطواف الكعبة وإقامة الصلاة وسائر المناسك فقوله: " يصدون " للاستمرار ولا ضير في عطفه على الفعل الماضي في قوله: " الذين كفروا " والمعنى الذين كفروا قبل ويستمرون على منع الناس عن سبيل الله والمؤمنين عن المسجد الحرام. وبذلك يظهر أن قوله: " والمسجد الحرام " عطف على " سبيل الله " والمراد بصدهم منعهم المؤمنين عن أداء العبادات والمناسك فيه وكان من لوازمه منع القاصدين للبيت من خارج مكة من دخولها. وبه يتبين أن المراد بقوله: " الذى جعلناه للناس " - وهو وصف المسجد الحرام - جعله لعبادة الناس لا تمليك رقبته لهم فالناس يملكون أن يعبدوا الله فيه ليس لاحد أن يمنع أحدا من ذلك ففيه إشارة إلى أن منعهم وصدهم عن المسجد الحرام تعد منهم إلى حق الناس وإلحاد بظلم كما أن إضافة السبيل إلى الله تعد منهم إلى حق الله تعالى.
________________________________________
[ 367 ]
ويؤيد ذلك أيضا تعقيبه بقوله: " سواء العاكف فيه والباد " أي المقيم فيه والخارج منه متساويان في أن لهما حق العبادة فيه لله، والمراد بالاقامه فيه وفي الخارج منه إما الاقامة بمكة وفي الخارج منها على طريق المجاز العقلي أو ملازمة المسجد للعبادة والطرو عليه لها. وقوله: " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم بيان لجزاء من ظلم الناس في هذا الحق المشروع لهم في المسجد ولازمه تحريم صد الناس عن دخوله للعبادة فيه ومفعول " يرد " محذوف للدلالة على العموم والباء في " بإلحاد " للملابسة وفي " بظلم " للسببية والجملة تدل على خبر قوله: إن الذين كفروا في صدر الاية. والمعنى الذين كفروا ولا يزالون يمنعون الناس عن سبيل الله وهو دين الاسلام ويمنعون المؤمنين عن المسجد الحرام الذى جعلناه معبدا للناس يستوي فيه العاكف فيه والبادي نذيقهم من عذاب أليم لانهم يريدون الناس فيه بالحاد بظلم ومن يرد الناس فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم. وللمفسرين في إعراب مفردات الاية وجملها أقاويل كثيرة جدا ولعل ما أوردناه أنسب للسياق. قوله تعالى: " وإذ بوأنا لابراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتى للطائفين والقائمين والركع السجود " بوء له مكانا كذا أي جعله مباءة ومرجعا له يرجع إليه ويقصده، والمكان ما يستقر عليه الشئ فمكان البيت القطعة من الارض التي بني فيها، والمراد بالقائمين على ما يعطيه السياق هم الناصبون أنفسهم للعباده والصلاة والركع جمع راكع كسجد جمع ساجد والسجود جمع ساجد كالركوع جمع راكع. وقوله: " وإذ بوأنا لابراهيم مكان البيت " الظرف فيه متعلق بمقدر أي واذكر وقت كذا وفيه تذكير لقصة جعل البيت معبدا للناس ليتضح به أن صد المؤمنين عن المسجد الحرام ليس إلا إلحادا بظلم. وتبوئته تعالى مكان البيت لابراهيم هي جعل مكانه مباءة ومرجعا لعبادته لا لان يتخذه بيت سكني يسكن فيه، ويلوح إليه قوله بعد " طهر بيتى " بإضافة البيت إلى نفسه، ولا ريب أن هذا الجعل كان وحيا لابراهيم فقوله: بوأنا لابراهيم مكان البيت " في معنى قولنا: أوحينا إلى إبراهيم أن اتخذ هذا المكان مباءة ومرجعا لعبادتي وإن شئت فقل: أوحينا إليه أن اقصد هذا المكان لعبادتي، وبعبارة أخرى أن اعبدني في
________________________________________
[ 368 ]
هذا المكان. وبذلك يتضح أن " أن " في قوله: " أن لا تشرك بي شيئا " مفسرة تفسر الوحي السابق باعتباره أنه قول من غير حاجة إلى تقدير أوحينا أو قلنا ونحوه. ويتضح أيضا أن قوله: أن لا تشرك بي شيئا " ليس المراد به - وهو واقع في هذا السياق - النهي عن الشرك مطلقا وإن كان منهيا عنه مطلقا بل المنهي عنه فيه هو الشرك في العبادة التي يأتي بها حينما يقصد البيت للعبادة وبعبارة واضحة الشرك فيما يأتي به من أعمال الحج كالتلبية للاوثان والاهلال لها ونحوهما. وكذا قوله: " وطهر بيتى للطائفين والقائمين والركع السجود " والتطهير إزالة الاقذار والادناس عن الشئ ليعود إلى ما يقتضيه طبعه الاولي، وقد أضاف البيت إلى نفسه إذ قال: " بيتي " أي بيتا يختص بعبادتي، وتطهير المعبد بما أنه معبد تنزيهه من الاعمال الدنسة والارجاس التى تفسد العبادة وليست إلا الشرك ومظاهره. فتطهير بيته إما تنزيهه من الارجاس المعنوية خاصه بأن يشرع إبراهيم عليه السلام للناس ويعلمهم طريقا من العبادة لا يداخلها قذارة شرك ولا يدنسها دنسه كما امر لنفسه بذلك، وإما إزالة مطلق النجاسات عن البيت أعم من الصورية والمعنوية لكن الذي يمس سياق الاية منها هو الرجس المعنوي فمحصل تطهير المعبد عن الارجاس المعنوية وتنزيهه عنها للعباد الذين يقصدونه بالعبادة وضع عبادة فيه خالصة لوجه الله لا يشوبها شائب شرك يعبدون الله سبحانه بها ولا يشركون به شيئا. فالمعنى بناء على ما يهدي إليه السياق واذكر إذ أوحينا إلى إبراهيم أن اعبدني في بيتى هذا بأخذه مباءة ومرجعا لعبادتي ولا تشرك بي شيئا في عبادتي وسن لعبادي القاصدين بيتى من الطائفين والقائمين والركع السجود عبادة في بيتي خالصة من الشرك. وفي الاية تلويح إلى أن عمدة عبادة القاصدين له طواف وقيام وركوع وسجود وإشعار بأن الركوع والسجود متقاربان كالمتلازمين لا ينفك أحدهما عن الاخر. ومما قيل في الاية أن قوله: " بوأنا " معناه قلنا تبوء " وقيل: معناه " أعلمنا " ومن ذلك أن " أن " في قوله: " أن لا " مصدرية وقيل: مخففة من الثقيلة ومن ذلك أن المراد بالطائفين الطارؤن وبالقائمين المقيمون بمكة، وقيل: المراد بالقائمين والركع السجود: المصلون، وهي جميعا وجوه بعيده.
________________________________________
[ 369 ]
قوله تعالى: وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق " التأذين الاعلام برفع الصوت ولذا فسر بالنداء، والحج القصد سمى به العمل الخاص الذي شرعه أولا إبراهيم عليه السلام وجرت عليه شريعة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لما فيه من قصد البيت الحرام، ورجال جمع راجل خلاف الراكب، والضامر المهزول الذي أضمره السير، والفج العميق - على ما قيل - الطريق البعيد. وقوله: " وأذن في الناس بالحج " أي ناد الناس بقصد البيت أو بعمل الحج والجملة معطوفة على قوله: " لا تشرك بي شيئا " والمخاطب به إبراهيم وما قيل: إن المخاطب نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بعيد من السياق. وقوله: " يأتوك رجالا " الخ، جواب الامر أي أذن فيهم وإن تؤذن فيهم يأتوك راجلين وعلى كل بعير مهزول يأتين من كل طريق بعيد، ولفظة " كل " تفيد في أمثال هذه الموارد معنى الكثرة دون الاستغراق. قوله تعالى: ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات " الخ، اللام للتعليل أو الغاية والجار والمجرور متعلق بقوله: " يأتوك " والمعنى يأتوك لشهادة منافع لهم أو يأتوك فيشهدوا منافع لهم وقد أطلقت المنافع ولم تتقيد بالدنيوية أو الاخروية. والمنافع نوعان: منافع دنيوية وهي التى تتقدم بها حياة الانسان الاجتماعية ويصفو بها العيش وترفع بها الحوائج المتنوعة وتكمل بها النواقص المختلفة من أنواع التجارة والسياسة والولاية والتدبير وأقسام الرسوم والاداب والسنن والعادات ومختلف التعاونات والتعاضدات الاجتماعية وغيرها. فإذا اجتمعت أقوام وأمم من مختلف مناطق الارض وأصقاعها على ما لهم من اختلاف الانساب والالوان والسنن والاداب ثم تعارفوا بينهم وكلمتهم واحدة هي كلمة الحق وإلههم واحد وهو الله عز اسمه ووجهتهم واحدة هي الكعبة البيت الحرام حملهم اتحاد الارواح على تقارب الاشباح ووحدة القول على تشابه الفعل فأخذ هذا من ذاك ما يرتضيه وأعطاه ما يرضيه، واستعان قوم بآخرين في حل مشكلتهم وأعانوهم بما في مقدرتهم فيبدل كل مجتمع جزئي مجتمعا أرقي، ثم امتزجت المجتمعات فكونت مجتمعا وسيعا له من القوة والعدة مالا تقوم له الجبال الرواسى، ولا تقوى عليه أي قوه
________________________________________
[ 370 ]
جبارة طاحنة، ولا وسيلة إلى حل مشكلات الحياة كالتعاضد ولا سبيل إلى التعاضد كالتفاهم، ولا تفاهم كتفاهم الدين. ومنافع أخروية وهي وجوه التقرب إلى الله تعالى بما يمثل عبودية الانسان من قول وفعل وعمل الحج بما له من المناسك يتضمن أنواع العبادات من التوجه إلى الله وترك لذائذ الحياة وشواغل العيش والسعى إليه بتحمل المشاق والطواف حول بيته والصلاة والتضحية والانفاق والصيام وغير ذلك. وقد تقدم فيما مر أن عمل الحج بما له من الاركان والاجزاء يمثل دورة كاملة مما جرى على إبراهيم عليه السلام في مسيرة في مراحل التوحيد ونفي الشريك وإخلاص العبودية لله سبحانه. فإتيان الناس إبراهيم عليه السلام أي حضورهم عند البيت لزيارته يستعقب شهودهم هذه المنافع أخرويها ودنيويها وإذا شهدوها تعلقوا بها فالانسان مجبول على حب النفع. وقوله: " ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام قال الراغب: والبهيمة ما لا نطق له وذلك لما في صوته من الابهام لكن خص في التعارف بما عدا السباع والطير فقال تعالى: " أحلت لكم بهيمة الانعام ". انتهى. وقال: والنعم مختص بالابل وجمعه أنعام وتسميته بذلك لكون الابل عندهم أعظم نعمة لكن الانعام تقال للابل والبقر والغنم، ولا يقال لها: أنعام حتى تكون في جملتها الابل. انتهى. فالمراد ببهيمة الانعام الانواع الثلاثة الابل والبقر والغنم من معز أو ضأن والاضافة بيانية. والجملة أعني قوله: " ويذكروا " الخ، معطوف على قوله: " يشهدوا " أي و ليذكروا اسم الله في أيام معلومات أي في أيام التشريق على ما فسرها أئمه أهل البيت عليهم السلام وهي يوم الاضحى عاشر ذي الحجة وثلاثة أيام بعده. وظاهر قوله: على ما رزقهم من بهيمة الانعام " أنه متعلق بقوله: " يذكروا " وقوله: " من بهيمة الانعام " بيان للموصول والمراد ذكرهم اسم الله على البهيمة - الاضحية - عند ذبحها أو نحرها على خلاف ما كان المشركون يهلونها لاصنامهم. وقد ذكر الزمخشري أن قوله: " ويذكروا اسم الله " الخ كناية عن الذبح والنحر
________________________________________
[ 371 ]
ويبعده أن في الكلام عناية خاصة بذكر اسمه تعالى بالخصوص والعناية في الكناية متعلقة بالمكني عنه دون نفس الكناية، ويظهر من بعضهم أن المراد مطلق ذكر اسم الله في أيام الحج وهو كما ترى. وقوله: " فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير " البائس من البؤس وهو شدة الضر والحاجة والذي اشتمل عليه الكلام حكم ترخيصي إلزامي. قوله تعالى: " ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق " التفث شعث البدن، وقضاء التفث إزالة ما طرأ بالاحرام من الشعث بتقليم الاظفار وأخذ الشعر ونحو ذلك وهو كناية عن الخروج من الاحرام. و المراد بقوله: " وليوفوا نذورهم " إتمام ما لزمهم بنذر أو نحوه، وبقوله: وليطوفوا بالبيت العتيق " طواف النساء على ما في تفسير أئمة أهل البيت عليهم السلام فإن الخروج من الاحرام يحلل له كل ما حرم به إلا النساء فتحل بطواف النساء وهو آخر العمل. والبيت العتيق هو الكعبة المشرفة سميت به لقدمه فإنه أول بيت بني لعبادة الله كما قال تعالى: " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين " آل عمران: 96، وقد مضى على هذا البيت اليوم زهاء أربعة آلاف سنة وهو معمور وكان له يوم نزول الايات أكثر من ألفين وخمسمائة سنة. قوله تعالى: " ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه " إلى آخر الاية الحرمة ما لا يجوز انتهاكه ووجب رعايته، والاوثان جمع وثن وهو الصنم، والزور الميل عن الحق ولذا يسمى الكذب وقول الباطل زورا. وقوله: " ذلك " أي الامر ذلك أي الذى شرعناه لابراهيم عليه السلام ومن بعده من نسك الحج هو ذلك الذي ذكرناه وأشرنا إليه من الاحرام والطواف والصلاة والتضحية بالاخلاص لله والتجنب عن الشرك. وقوله: " ومن يعظم حرمات الله فهو خير له " ندب إلى تعظيم حرمات الله وهي الامور التي نهى عنها وضرب دونها حدودا منع عن تعديها واقتراف ما وراءها وتعظيمها الكف عن التجاوز إليها. والذي يعطيه السياق أن هذه الجملة توطئة وتمهيد لما بعدها من قوله: " وأحلت
________________________________________
[ 372 ]
لكم الانعام إلا ما يتلى عليكم " فإن انضمام هذه الجملة إلى الجملة قبلها يفيد أن الانعام - على كونها مما رزقهم الله وقد أحلها لهم - فيها حرمة إلهية وهي التي يدل عليها الاستثناء - إلا ما يتلى عليكم -. والمراد بقوله: " ما يتلى عليكم " استمرار التلاوة فإن محرمات الاكل نزلت في سورة الانعام وهي مكية وفي سورة النحل وهي نازلة في آخر عهده صلى الله عليه وآله وسلم بمكة وأول عهده بالمدينة، وفي سورة البقرة وقد نزلت في أوائل الهجرة بعد مضي ستة أشهر منها - على ما روي - ولا موجب لجعل " يتلى " للاستقبال وأخذه إشاره إلى آية سورة المائدة كما فعلوه. والايات المتضمنة لمحرمات الاكل وأن تضمنت منها عدة امور كالميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله إلا أن العناية في الاية بشهادة سياق ما قبلها وما بعدها بخصوص ما أهل به لغير الله فان المشركين كانوا يتقربون في حجهم - وهو السنة الوحيدة الباقية بينهم من ملة إبراهيم - بالاصنام المنصوبة على الكعبة وعلى الصفا وعلى المروة وبمنى ويهلون بضحاياهم لها فالتجنب منها ومن الاهلال بذكر أسمائها هو الغرض المعني به من الاية وإن كان أكل الميتة والدم ولحم الخنزير أيضا من جملة حرمات الله. ويؤيد ذلك أيضا تعقيب الكلام بقوله: " فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور " فإن اجتناب الاوثان واجتناب قول الزور وإن كانا من تعظيم حرمات الله ولذلك تفرع " فاجتنبوا الرجس " على ما تقدمه من قوله: " ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه " لكن تخصيص هاتين الحرمتين من بين جميع الحرمات في سياق آيات الحج بالذكر ليس إلا لكونهما مبتلي بهما في الحج يومئذ وإصرار المشركين على التقرب من الاصنام هناك وإهلال الضحايا باسمها. وبذلك يظهر أن قوله: " فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور " نهي عام عن التقرب إلى الاصنام وقول الباطل أورد لغرض التقرب إلى الاصنام في عمل الحج كما كانت عادة المشركين جارية عليه، وعن التسمية باسم الاصنام على الذبائح من الضحايا، وعلى ذلك يبتنى التفريع بالفاء. وفي تعليق حكم الاجتناب أولا بالرجس ثم بيانه بقوله: " من الاوثان " إشعار بالعلية كأنه قيل: إجتنبوا الاوثان لانها رجس، وفي تعليقه بنفس الاوثان دون عبادتها
________________________________________
[ 373 ]
أو التقرب أو التوجه إليها أو مسها ونحو ذلك - مع أن الاجتناب إنما يتعلق على الحقيقة بالاعمال دون الاعيان - مبالغة ظاهرة. وقد تبين بما مر أن " من " في قوله: " من الاوثان " بيانية، وذكر بعضهم أنها ابتدائية والمعنى: اجتنبوا الرجس الكائن من الاوثان وهو عبادتها، وذكر آخرون أنها تبعيضية، والمعنى: اجتنبوا الرجس الذي هو بعض جهات الاوثان وهو عبادتها، وفي الوجهين من التكلف وإخراج معنى الكلام عن استقامته ما لا يخفى. قوله تعالى: " حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما حر من السماء فتخطفه الطير " الخ، الحنفاء جمع حنيف وهو المائل من الاطراف إلي حاق الوسط. وكونهم حنفاء لله ميلهم عن الاغيار وهي الالهة من دون الله إليه فيتحد مع قوله غير مشركين به معنى. وهما أعني قوله: حنفاء لله " وقوله: " غير مشركين به " حالان عن فاعل " فاجتنبوا " أي اجتنبوا التقرب من الاوثان والاهلال لها حال كونكم مائلين إليه ممن سواه غير مشركين به في حجكم فقد كان المشركون يلبون في الحج بقولهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. وقوله: " ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير " أي تأخذه بسرعة، شبة المشرك في شركه وسقوطه به من أعلى درجات الانسانية إلى هاوية الضلال فيصيده الشيطان، بمن سقط من السماء فتأخذه الطير. وقوله، " أو تهوى به الريح في مكان سحيق أي بعيد في الغاية وهو معطوف على " تخطفه الطير " تشبيه آخر من جهة البعد. قوله تعالى: " ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " " ذلك " خبر لمبتدأ محذوف أي الامر ذلك الذي قلنا، والشعائر جمع شعيرة وهي العلامة، وشعائر الله الاعلام التي نصبها الله تعالى لطاعته كما قال: إن الصفا والمروة من شعائر الله "، وقال: " والبدن جعلناها لكم من شعائر الله الاية. والمراد بها البدن التي تساق هديا وتشعر أي يشق سنامها من الجانب الايمن ليعلم أنها هدي على ما في تفسير أئمة أهل البيت عليهم السلام ويؤيده ظاهر قوله تلوا: " لكم فيها منافع " الخ، وقوله بعد: " والبدن جعلناها الاية، وقيل: المراد بها جميع
________________________________________
[ 374 ]
الاعلام المنصوبة للطاعة، والسياق لا يلائمه. وقوله: فإنها من تقوى القلوب أي تعظيم الشعائر الالهية من التقوى، فالضمير لتعظيم الشعائر المفهوم من الكلام ثم كأنه حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فارجع إليه الضمير. وإضافة التقوى إلى القلوب للاشارة إلى أن حقيقة التقوى وهي التحرز والتجنب عن سخطه تعالى والتورع عن محارمه أمر معنوى يرجع إلى القلوب وهي النفوس وليست هي جسد الاعمال التي هي حركات وسكنات فإنها مشتركة بين الطاعة والمعصية كالمس في النكاح والزنا، وإزهاق الروح في القتل قصاصا أو ظلما والصلاة المأتي بها قربة أو رياء وغير ذلك، ولا هي العناوين المنتزعة من الافعال كالاحسان والطاعة ونحوها. قوله تعالى: " لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق " المحل بكسر الحاء اسم زمان بمعنى وقت حلول الاجل: وضمير " فيها " للشعائر، والمعنى على تقدير كون المراد بالشعائر بدن الهدي أن لكم في هذه الشعائر - وهي البدن - منافع من ركوب ظهرها وشرب ألبانها عند الحاجة إلى أجل مسمى هو وقت نحرها ثم محلها أي وقت حلول أجلها للنحر منته إلى البيت العتيق أو بانتهائها إليه، والجملة في معنى قوله: " هديا بالغ الكعبة " هذا على تفسير أئمة أهل البيت عليهم السلام. وأما على القول بكون المراد بالشعائر مناسك الحج فقيل: المراد بالمنافع التجارة إلى أجل مسمى ثم محل هذه المناسك ومنتهاها إلى البيت العتيق لان آخر ما يأتي به من الاعمال الطواف بالبيت. قوله تعالى: " ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الانعام " إلى آخر الاية. المنسك مصدر ميمي وإسم زمان ومكان، وظاهر قوله: " ليذكروا اسم الله " الخ أنه مصدر ميمي بمعنى العبادة وهي العبادة التي فيها ذبح وتقريب قربان. والمعنى: ولكل أمة - من الامم السالفة المؤمنة - جعلنا عبادة من تقريب القرابين ليذكروا اسم الله على بهيمة الانعام التي رزقهم الله أي لستم معشر أتباع إبراهيم أول أمة شرعت لهم التضحية وتقريب القربان فقد شرعنا لمن قبلكم ذلك. وقوله: " فإلهكم إله واحد فله أسلموا " أي إذ كان الله سبحانه هو الذي شرع
________________________________________
[ 375 ]
لكم وللامم قبلكم هذا الحكم فإلهكم وإله من قبلكم إله واحد فأسلموا واستسلموا له بإخلاص عملكم له ولا تتقربوا في قرابينكم إلى غيره فالفاء في " فإلهكم " لتفريع السبب على المسبب وفي قوله: " فله أسلموا " لتفريع المسبب على السبب. وقوله: " وبشر المخبتين فيه تلويح إلى أن من أسلم لله في حجه مخلصا فهو من المخبتين، وقد فسره بقوله: " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون وانطباق الصفات المعدودة في الاية وهي الوجل والصبر وإقامة الصلاة والانفاق، على من حج البيت مسلما لربه معلوم. قوله تعالى: " والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها " خير إلى آخر الاية البدن بالضم فالسكون جمع بدنة بفتحتين وهي السمينة الضخمة من الابل، والسياق أنها من الشعائر باعتبار جعلها هديا. وقوله: " فاذكروا اسم الله عليها صواف " الصواف جمع صافة ومعنى كونها صافة أن تكون قائمة قد صفت يداها ورجلاها وجمعت وقد ربطت يداها. وقوله: " فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر " الوجوب السقوط يقال وجبت الشمس أي سقطت وغابت، والجنوب جمع جنب، والمراد بوجوب جنوبها سقوطها على الارض على جنوبها وهو كناية عن موتها، والامر في قوله: " فكلوا منها " للاباحة وإرتفاع الحظر، والقانع هو الفقير الذي يقنع بما أعطيه سواء سأل أم لا، والمعتر هو الذي أتاك وقصدك من الفقراء، ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " إلى آخر الاية بمنزلة دفع الدخل كأن متوهما بسيط الفهم يتوهم أن لله سبحانه نفعا في هذه الضحايا ولحومها ودمائها فاجيب أن الله سبحانه لن يناله شئ من لحومها ودمائها لتنزهه عن الجسمية وعن كل حاجة وإنما يناله التقوى نيلا معنويا فيقرب المتصفين به منه تعالى. أو يتوهم أن الله سبحانه لما كان منزها عن الجسمية وعن كل نقص وحاجة ولا ينتفع بلحم أو دم فما معنى التضحية بهذه الضحايا فاجيب بتقرير الكلام وأن الامر كذلك لكن هذه التضحية يصحبها صفة معنوية لمن يتقرب بها وهذه الصفة المعنوية من شأنها أن تنال الله سبحانه بمعنى أن تصعد إليه تعالى وتقرب صاحبها منه تقريبا لا يبقى معه بينه وبينه حجاب يحجبه عنه


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page