• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 301 الي 325


[ 301 ]
فالمعنى قال: بل شاهد الحال وهو صيرورة الجميع جذاذا وبقاء كبيرهم سالما يشهد أن قد فعله كبيرهم هذا وهو تمهيد لقوله: " فاسألهم " الخ. وقوله: " فاسألوهم إن كانوا ينطقون " أمر بأن يسألوا الاصنام عن حقيقة الحال وأن الذي فعل بهم هذا من هو ؟ فيخبروهم به إن كانوا ينطقون فقوله: " إن كانوا ينطقون " شرط حزاؤه محذوف يدل عليه قوله فاسأوهم ". فتحصل أن الاية على ظاهرها من غير تكلف إضمار أو تقديم وتأخير أو محذور تعقيد، وأن صدرها المتضمن لدعوى استناد الفعل إلى كبيرهم إلزام للخصم وتوطئة وتمهيد لذيلها وهو أمرهم بسؤال الاطنام إن نطقوا لينتهي إلى اعتراف القوم بأنهم لا ينطقون. وربما قيل: إن قوله: " إن كانوا ينطقون " قيد لقوله: " بل فعله كبيرهم " والتقدير: بل إن كانوا ينطقون فعله كبيرهم، وإذ كان نطقهم محالا فالفعل منه كذلك وقوله: " فاسألوا " جملة معترضة. وربما قيل: إن فاعل قوله: " فعله " محذوف والتقدير بل فعله من فعله ثم ابتدء فقيل: كبيرهم هذا فاسألوهم الخ. وربما قيل: غير ذلك وهي وجوه غير خالية من التكلف لا يخلو الكلام معها من التعقيد المنزه عنه كلامه تعالى. قوله تعالى: " فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون " تفريع على قوله: " فاسألوهم إن كانوا ينطقون " فإنهم لما سمعوا منه ذلك وهو يرون أن الاصنام جمادات لا شعور لها ولا نطق تمت عند ذلك عليهم الحجة فقضى كل منهم على نفسه أنه هو الظالم دون إبراهيم فقوله: " فرجعوا إلى أنفسهم " استعارة بالكناية عن تنبههم وتفكرهم في أنفسهم، وقوله: " فقالوا إنكم أنتم الظالمون " أي قال كل لنفسه مخاطبا لها: إنك أنت الظالم حيث تعبد جمادا لا ينطق. وقيل: المعنى فرجع بعضهم إلى بعض وقال بعضهم لبعض إنكم أنتم الظالمون وأنت خبير بأن ذلك لا يناسب المقام وهو مقام تمام الحجة على الجميع واشتراكهم في الظلم ولو بنى على قول بعضهم لبعض في مقام هذا شأنه لكان الانسب أن يقال: إنا نحن الظالمون كما في نظائره قال تعالى: فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون قالوا يا ويلنا إنا
________________________________________
[ 302 ]
كنا طاغين " القلم: 31، وقال: " فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون " الواقعة: 67. قوله تعالى: " ثم نكسوا على رؤسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون " قال الراغب: النكس قلب الشئ على رأسه ومنه نكس الولد إذا خرج رجله قبل رأسه قال تعالى: " ثم نكسوا على رؤسهم ". انتهى فقوله: " ثم نكسوا على رؤسهم " كناية أو استعارة بالكناية عن قلبهم الباطل على مكان الحق الذي ظهر لهم والحق على مكان الباطل كأن الحق علا في قلوبهم الباطل فنكسوا على رؤسهم فرفعوا الباطل وهو كون إبراهيم ظالما على الحق وهو كونهم هم الظالمين فخصموا إبراهيم بقولهم " لقد علمت ما هؤلاء ينطقون. ومعنى قولهم: " لقد علمت " الخ. أن دفاعك عن نفسك برمى كبير الاصنام بالفعل وهو الجذ وتعليق ذلك باستنطاق الالهة مع العلم بأنهم لا ينطقون دليل على أنك أنت الفاعل الظالم فالجملة كناية عن ثبوت الجرم وقضاء على إبراهيم. قوله تعالى: " قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم - إلى قوله - أفلا تعقلون " لما تفوهوا بقولهم: " ما هؤلاء ينطقون " وسمعه إبراهيم لم يشتغل بالدفاع فلم يكن قاصدا لذلك من أول بل استفاد من كلامهم لدعوته الحقة فخصمهم بلازم قولهم وأتم الحجة عليهم في كون أصنامهم غير مستحقه للعبادة أي غير آلهة. فما حصل تفريع قوله: " أفتعبدون ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم " أن لازم كونهم لا ينطقون أن لا يعلموا شيئا ولا يقدروا على شئ ولازم ذلك أن لا ينفعوكم شيئا ولا يضروكم، ولازم ذلك أن يكون عبادتهم لغوا إذ العبادة إما لرجاء خير أو لخوف شر وليس عندهم شئ من ذلك فليسوا بالهة. وقوله: " أف لكم ولما تعبدون من دون الله " تزجر وتبر منهم ومن آلهتهم بعد إبطال ألوهيتها، وهذا كشهادته على وحدانيته تعالى بعد إثباتها في قوله فيما مر: " وأنا على ذلكم من الشاهدين "، وقوله: " أفلا تعقلون توبيخ لهم. قوله تعالى: " قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين " هو عليه السلام وإن أبطل بكلامه السابق ألوهية الاصنام وكان لازمه الضمنى أن لا يكون كسرهم ظلما
________________________________________
[ 303 ]
وجرما لكنه لوح بكلامه إلى أن رميه كبير الاصنام بالفعل وأمرهم أن يسألوا الالهة عن ذلك لم يكن لدفع الجرم عن نفسه بل كان تمهيدا لابطال ألوهية الالهة وبهذا المقدار من السكوت وعدم الرد قضوا عليه بثبوت الجرم وأن جزاءه أن يحرق بالنار. ولذلك قالوا: حرقوه وانصروا آلهتكم بتعظيم أمرهم ومجازاة من أهان بهم وقولهم: " إن كنتم فاعلين " تهييج وإغراء. قوله تعالى: " قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم " خطاب تكويني للنار تبدلت به خاصة حرارتها وإحراقها وإفنائها بردا وسلاما بالنسبة إلى إبراهيم عليه السلام على طريق خرق العادة، وبذلك يظهر أن لا سبيل لنا إلى الوقوف على حقيقة الامر فيه تفصيلا إذ الابحاث العقلية عن الحوادث الكونية إنما تجري فيما لنا علم بروابط العلية والمعلولية فيه من العاديات المتكررة، وأما الخوارق التى نجهل الروابط فيها فلا مجرى لها فيها. نعم نعلم إجمالا أن لهمم النفوس دخلا فيها وقد تكلمنا في ذلك في مباحث الاعجاز في الجزء الاول من الكتاب. والفصل في قوله: " قلنا " الخ. لكونه في معنى جواب سؤال مقدر وتقدير الكلام بما فيه من الحذف إيجازا نحو من قولنا: فأضرموا نارا وألقوه فيها فكأنه قيل: فماذا كان بعده فقيل: قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم، وعلى هذا النحو الفصل في كل " قال " و " قالوا " في الايات السابقة من القصة. قوله تعالى: وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين " أي احتالوا عليه ليطفئوا نوره ويبطلوا حجته فجعلناهم الاخسرين حيث خسروا ببطلان كيدهم وعدم تأثيره وزادوا خسارة حيث أظهره الله عليهم بالحفظ والانجاء. قوله تعالى: " ونجيناه ولوطا إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين " الارض المذكورة هي أرض الشام التي هاجر إليها إبراهيم، ولوط أول من آمن به وهاجر معه كما قال تعالى: " فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربى " العنكبوت: 26. قوله تعالى: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة " النافلة العطية وقد تكرر البحث عن مضمون الايتين.
________________________________________
[ 304 ]
قوله تعالى: " وجعلناهم أئمه يهدون بأمرنا " إلى آخر الاية. الظاهر - كما يشير إليه ما يدل من (1) الايات على جعل الامامة في عقب إبراهيم عليه السلام - رجوع الضمير في " جعلناهم " إلى إبراهيم واسحاق ويعقوب. وظاهر قوله، " أئمة يهدون بأمرنا " أن الهداية بالامر يجري مجرى المفسر لمعنى الامامة، وقد تقدم الكلام في معنى هداية الامام بأمر الله في الكلام على قوله تعالى: " إنى جاعلك للناس إماما " البقرة: 124 في الجزء الاول من الكتاب. والذى يخص المقام أن هذه الهداية المجعولة من شئون الامامة ليست هي بمعنى اراءة الطريق لان الله سبحانه جعل إبراهيم عليه السلام إماما بعد ما جعله نبيا - كما أوضحناه في تفسير قوله: " إني جاعلك للناس إماما " فيما تقدم - ولا تنفك النبوة عن الهداية بمعنى إراءة الطريق فلا يبقى للامامة إلا الهداية بمعنى الايصال إلى المطلوب وهي نوع تصرف تكويني في النفوس بتسييرها في سير الكمال ونقلها من موقف معنوي إلى موقف آخر. وإذ كانت تصرفا تكوينيا وعملا باطنيا فالمراد بالامر الذي تكون به الهداية ليس هو الامر التشريعي الاعتباري بل ما يفسره في قوله: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 83 فهو الفيوضات المعنوية والمقامات الباطنية التى يهتدي إليها المؤمنون بأعمالهم الصالحة ويتلبسون بها رحمة من ربهم. وإذ كان الامام يهدى بالامر - والباء للسببية أو الالة - فهو متلبس به أولا ومنه ينتشر في الناس على اختلاف مقاماتهم فالامام هو الرابط بين الناس وبين ربهم في إعطاء الفيوضات الباطنية وأخذها كما أن النبي رابط بين الناس وبين ربهم في أخذ الفيوضات الظاهرية وهي الشرائع الالهية تنزل بالوحي على النبي وتنتشر منه وبتوسطه إلى الناس وفيهم، والامام دليل هاد للنفوس إلى مقاماتها كما أن النبي دليل يهدي الناس إلى الاعتقادات الحقة والاعمال الصالحة، وربما تجتمع النبوة والامامة كما في إبراهيم وابنيه.
________________________________________
(1) كقوله تعالى: " وجعلها كلمة باقية عقبه " الزخرف: 28 وغيره. (*)
________________________________________
[ 305 ]
وقوله وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة " إضافة المصدر إلى معموله تفيد تحقق معناه في الخارج فإن أريد أن لا يفيد الكلام ذلك جئ بالقطع عن الاضافة أو بأن وأن الدالتين على تأويل المصدر نص على ذلك الجرجاني في دلائل الاعجاز فقولنا يعجبنى إحسانك وفعلك الخير، وقوله تعالى: " ما كان الله ليضيع إيمانكم " البقره: 43 أيدل على الوقوع قبلا، وقولنا: " يعجبنى أن تحسن وأن تفعل الخير وقوله تعالى: " أن تصوموا خير لكم " البقرة: 184 لا يدل على تحقق قبلي، ولذا كان المألوف في آيات الدعوة وآيات التشريع الاتيان بأن والفعل دون المصدر المضاف كقوله: " أمرت أن أ عبد الله " الرعد: 36، و " أن لا تعبدوا إلا إياه: يوسف: 40 " وأن أقيموا الصلاة " الانعام: 72. وعلى هذا فقوله: " وأوحينا إليهم فعل الخيرات " الخ. يدل على تحقق الفعل أي أن الوحي تعلق بالفعل الصادر عنهم أي أن الفعل كان يصدر عنهم بوحي مقارن له ودلالة إلهية باطنية هو غير الوحي المشرع الذي يشرع الفعل أولا ويترتب عليه إتيان الفعل على ما شرع. ويؤيد هذا الذي ذكر قوله بعد: " وكانوا لنا عابدين " فإنه يدل بظاهره على أنهم كانوا قبل ذلك عابدين لله ثم أيدوا بالوحى وعبادتهم لله إنما كانت بأعمال شرعها لهم الوحي المشرع قبلا فهذا الوحي المتعلق بفعل الخيرات وحي تسديد ليس وحي تشريع. فالمحصل أنهم كانوا مؤيدين بروح القدس والطهارة مسددين بقوة ربانية تدعوهم إلى فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وهي الانفاق المالي الخاص بشريعتهم. والقوم حملوا الوحي في الاية على وحي التشريع فأشكل عليهم الامر أولا من جهة أن فعل الخيرات بالمعنى المصدرى ليس متعلقا للوحي بل متعلقة حاصل الفعل، وثانيا أن التشريع عام للانبياء وأممهم وقد خص في الاية بهم، ولذا ذكر الزمخشري أن المراد بفعل الخيرات وما يتلوه من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة المصدر المبني للمفعول، والمعنى وأوحينا إليهم أن يفعل الخيرات - بالبناء للمجهول - وهكذا، وبه يندفع الاشكالان إذ المصدر المبني للمفعول وحاصل الفعل كالمترادفين فيندفع الاشكال الاول، والفاعل فيه مجهول ينطبق على الانبياء وأممهم جميعا فيندفع الاشكال الثاني
________________________________________
[ 306 ]
وقد كثر البحث حول ما ذكره. وفيه أولا: منع ما ذكره من اتحاد معنى المصدر المبني للمفعول وحاصل الفعل. وثانيا: ما قد مناه من أن إضافة المصدر إلى معموله تفيد الفعل ولا يتعلق الوحي التشريعي به. وقد تقدمت قصه إبراهيم عليه السلام في تفسير سورة الانعام وقصة يعقوب عليه السلام في تفسير سورة يوسف من الكتاب، وستجئ قصة إسحاق في تفسير سورة الصافات إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " ولوطا آتيناه حكما وعلما " إلى آخر الايتين. الحكم بمعنى فصل الخصومات أو بمعنى الحكمة والقرية التي كانت تعمل الخبائث سدوم التي نزل بها لوط في مهاجرته مع إبراهيم عليهما السلام والمراد بالخبائث الاعمال الخبيثة، والمراد بالرحمة الولاية أو النبوة ولكل وجه، وقد تقدمت قصة لوط عليه السلام في تفسير سورة هود من الكتاب. قوله تعالى: " ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له " إلى آخر الايتين، أي واذكر نوحا إذ نادى ربه قبل إبراهيم ومن ذكر معه فاستجبنا له، ونداؤه ما حكاه سبحانه من قوله: " رب إني مغلوب فانتصر " والمراد بأهله خاصته إلا امرأته وابنه الغريق، والكرب الغم الشديد، وقوله: " ونصرناه من القوم " كأن النصر مضمن معنى الانجاء ونحوه ولذا عدي بمن، والباقي ظاهر. وقد تقدمت قصه نوح عليه السلام في تفسير سورة هود من الكتاب. (بحث روائي) في روضة الكافي: على بن إبراهيم عن أبيه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبان بن عثمان عن حجر عن أبي عبد الله عليه السلام قال: خالف إبراهيم صلى الله عليه قومه وعاب آلهتهم إلى قوله فلما تولوا عنه مدبرين إلى عيد لهم دخل إبراهيم صلى الله
________________________________________
[ 307 ]
عليه إلى آلهتهم بقدوم فكسرها إلا كبيرا لهم ووضع القدوم في عنقه فرجعوا إلى آلهتهم فنظروا إلى ما صنع بها فقالوا: لا والله ما اجترى عليها ولا كسرها إلا الفتى الذي كان يعيبها ويبرء منها فلم يجدوا له قتلة أعظم من النار. فجمع له الحطب واستجادوه حتى إذا كان اليوم الذي يحرق فيه برز له نمرود وجنوده وقد بنى له بناء لينظر إليه كيف تأخذه النار ؟ ووضع إبراهيم في منجنيق، وقالت الارض يا رب ليس على ظهرى أحد يعبدك غيره يحرق بالنار ؟ قال الرب إن دعاني كفيته. فذكر أبان عن محمد بن مروان عمن رواه عن أبي جعفر صلى الله عليه وآله وسلم: أن دعاء إبراهيم صلى الله عليه يومئذ كان: يا أحد يا أحد يا صمد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ثم قال: توكلت على الله فقال الرب تبارك وتعالى: كفيت فقال للنار: كوني بردا ! قال: فاضطربت أسنان إبراهيم من البرد حتى قال الله عزوجل وسلاما على إبراهيم وانحط جبرئيل فإذا هو جالس مع إبراهيم يحدثه في النار. قال نمرود من اتخذ إلها فليتخذ مثل إله إبراهيم. قال: فقال عظيم من عظمائهم: إنى عزمت على النار أن لا تحرقه فأخذ عنق من النار نحوه حتى أحرقه قال: فآمن له لوط فخرج مهاجرا إلى الشام هو وسارة ولوط. وفيه أيضا عن علي بن إبراهيم عن أبيه وعدة من أصحابنا عن سهل بن زياد جميعا عن الحسن بن محبوب عن إبراهيم بن أبي زياد الكرخي قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إن إبراهيم صلى الله عليه لما كسر أصنام نمرود أمر به نمرود فاوثق وعمل له حيرا وجمع له فيه الحطب وألهب فيه النار ثم قذف إبراهيم في النار لتحرقه ثم أعتزلوها حتى خمدت النار - ثم أشرفوا على الحير فإذا هم بإبراهيم سليما مطلقا من وثاقه. فأخبر نمرود خبره فأمر أن ينفوا إبراهيم من بلاده وأن يمنعوه من الخروج بماشيته وماله فحاجهم إبراهيم عند ذلك فقال: إن أخذتم ماشيتي ومالي فحقي عليكم أن تردوا علي ما ذهب من عمري في بلادكم، واختصموا إلى قاضي نمرود وقضى على إبراهيم أن يسلم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم، وقضى على أصحاب نمرود أن يردوا على إبراهيم ما ذهب من عمره في بلادهم، فأخبر بذلك نمرود فأمرهم أن يخلوا
________________________________________
[ 308 ]
سبيله وسيبل ماشيته وماله وأن يخرجوه، وقال: إنه إن بقي في بلادكم أفسد دينكم وأضر بآلهتكم. الحديث. وفي العلل بإسناده إلى عبد الله بن هلال قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار تلقاه جبرئيل في الهواء وهو يهوي فقال: يا إبراهيم ألك حاجة فقال: أما إليك فلا. أقول: وقد ورد حديث قذفه بالمنجنيق في عدة من الروايات من العامة والخاصة وكذا قول جبريل له: ألك حاجة ؟ وقوله: أما إليك فلا، رواه الفريقان. وفي الدر المنثور أخرج الفاريابي وابن أبي شيبة وابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله: " قلنا يا نار كوني بردا " قال: بردت عليه حتى كادت تؤذيه حتى قيل: وسلاما قال: تؤذيه. وفي الكافي والعيون عن الرضا عليه السلام في حديث في الامامة قال: ثم أكرمه الله عزوجل يعني إبراهيم بأن جعلها يعني الامامة في ذريته وأهل الصفوة والطهارة فقال: عزوجل: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلهنا صالحين وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين " فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا قرنا حتى ورثها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال الله جل جلاله: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين " فكانت خاصة. فقلدها علي عليه السلام بأمر الله عزوجل على رسم ما فرض الله تعالى فصارت في ذريته الاصفياء الذين آتاهم الله العلم والايمان بقوله تعالى: " قال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث " فهي في ولد علي بن أبي طالب عليه السلام خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وفي المعاني بإسناده عن يحيى بن عمران عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عز وجل: " ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة " قال: ولد الولد نافلة. وفي تفسير القمي في قوله: " ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث "
________________________________________
[ 309 ]
قال: كانوا ينكحون الرجال. أقول: والروايات في قصصل إبراهيم عليه السلام كثيرة جدا لكنها مختلفة اختلافا شديدا في الخصوصيات مما لا يرجع إلى منطوق الكتاب، وقد اكتفينا منها بما قدمنا وقد أوردنا ما هو المستخرج من قصصه من كلامه تعالى في تفسير سورة الانعام في الجزء السابع من الكتاب. * * * وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين (78) - ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين (79) - وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون (80) - ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره إلى الارض التى باركنا فيها وكنا بكل شئ عالمين (81) - ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين (82) - وايوب إذ نادى ربه أني مسنى الضر وأنت أرحم الراحمين (83) - فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين (84) - واسمعيل وادريس وذا الكفل كل من الصابرين (85) - وأدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين (86) - وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادى في الظلمات
________________________________________
[ 310 ]
أن لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين (87) - فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين (88) - وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين (89) - فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه أنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين (90) - والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آيه للعالمين - (91) (بيان) تذكر الايات جماعة آخرين من الانبياء وهم داود وسليمان وأيوب وإسماعيل وادريس وذو الكفل وذو النون وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، ولم يراع في ذكرهم الترتيب بحسب الزمان ولا الانتقال من اللاحق إلى السابق كما في الايات السابقة وقد أشار سبحانه إلى شئ من نعمه العظام على بعضهم واكتفى في بعضهم بمجرد ذكر الاسم. قوله تعالى: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم - إلى قوله - حكما وعلما - الحرث الزرع والحرث أيضا الكرم، والنفش رعى الماشية بالليل، وفي المجمع: النفش بفتح الفاء وسكونها أن تنتشر الابل والغنم بالليل فترعى بلا راع. انتهى. وقوله: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه " السياق يعطى أنها واقعة واحده بعينها رفع حكمها إلى داود لكونه هو الملك الحاكم في بنى إسرائيل
________________________________________
[ 311 ]
وقد جعله الله خليفة في الارض كما قال: " يا داود إنا جعلناك خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق " ص: 26 فإن كان سليمان يداخل في حكم الواقعة فعن إذن منه ولحكمة ما ولعلها إظهار أهليته للخلافة بعد داود. ومن المعلوم أن لا معنى لحكم حاكمين في واقعة واحده شخصية مع استقلال كل واحد منهما في الحكم ونفوذه، ومن هنا يظهر أن المراد بقوله: " إذ يحكمان " إذ يتناظران أو يتشاوران في الحكم لا إصدار الحكم النافذ، ويؤيده كمال التأييد التعبير بقوله: " إذ يحكمان " على نحو حكاية الحال الماضية كأنهما أخذا في الحكم أخذا تدريجيا لم يتم بعد ولن يتم إلا حكما واحدا نافذا وكان الظاهر أن يقال: إذ حكما. ويؤيده أيضا قوله: " وكنا لحكمهم شاهدين " فإن الظاهر أن ضمير " لحكمهم " للانبياء وقد تكرر في كلامه تعالى أنه آتاهم الحكم لا كما قيل: إن الضمير لداود وسليمان والمحكوم لهم إذ لا وجه يوجه به نسبة الحكم إلى المحكوم لهم أصلا، فكان الحكم حكما واحدا هو حكم الانبياء والظاهر أنه ضمان صاحب الغنم للمال الذي أتلفته غنمه. فكان الحكم حكما واحدا اختلفا في كيفية إجرائه عملا إذ لو كان الاختلاف في أصل الحكم لكان فرض صدور حكمين منهما بأحد وجهين إما بكون كلا الحكمين حكما واقعيا لله ناسخا أحدهما - وهو حكم سليمان - الاخر وهو حكم داود لقوله تعالى: " ففهمناها سليمان " وإما بكون الحكمين معا عن اجتهاد منهما بمعنى الرأي الظني مع الجهل بالحكم الواقعي وقد صدق تعالى اجتهاد ؟ سليمان فكان هو حكمه. أما الاول وهو كون حكم سليمان ناسخا لحكم داود فلا ينبغي الارتياب في أن ظاهر جمل الاية لا يساعد عليه إذ الناسخ والمنسوخ متباينان ولو كان حكماهما من قبيل النسخ ومتباينين لقيل: وكنا لحكمهما أو لحكميهما ليدل على التعدد والتباين ولم يقل: " وكنا لحكمهم شاهدين " المشعر بوحدة الحكم وكونه تعالى شاهدا له الظاهر في صونهم عن الخطاء، ولو كان داود حكم في الواقعة بحكم منسوخ لكان على الخطاء ولا يناسبه أيضا قوله: " وكلا آتينا حكما وعلما " وهو مشعر بالتأييد ظاهر في المدح. وأما الثاني وهو كون الحكمين عن اجتهاد منهما مع الجهل بحكم الله الواقعي فهو أبعد من سابقه لانه تعالى يقول: " ففهمناها سليمان " وهو العلم بحكم الله الواقعي
________________________________________
[ 312 ]
وكيف ينطبق على الرأى الظني بما أنه رأي ظني. ثم يقول: وكلا آتينا حكما وعلما فيصدق بذلك أن الذى حكم به داود أيضا كان حكما علميا لا ظنيا ولو لم يشمل قوله: " وكلا آتينا حكما وعلما " حكم داود في الواقعة لم يكن وجه لايراد الجملة في المورد. على أنك سمعت أن قوله: " وكنا لحكمهم شاهدين " لا يخلو من إشعار بل دلالة على أن الحكم كان واحدا ومصونا عن الخطاء فلا يبقى إلا أن يكون حكمهما واحدا في نفسه مختلفا من حيث كيفية الاجراء وكان حكم سليمان أوفق وأرفق. وقد وردت في روايات الشيعة وأهل السنة ما إجماله أن داود حكم لصاحب الحرث برقاب الغنم وسليمان حكم له بمنافعها في تلك السنة من ضرع وصوف ونتاج. ولعل الحكم كان هو ضمان ما أفسدته الغنم من الحرث على صاحبها وكان ذلك مساويا لقيمة رقاب الغنم فحكم داود لذلك برقابها لصاحب الحرث، وحكم سليمان بما هو أرفق منه وهو أن يستوفى ما أتلفت من ماله من منافعها في تلك السنة والمنافع المستوفاة من الغنم كل سنة تعدل قيمتها قيمة الرقبة عادة. فقوله: " وداود وسليمان " أي واذكر داود وسليمان " إذ " حين " يحكمان في الحرث " إذ " حين " نفشت فيه غنم القوم " أي تفرقت فيه ليلا وأفسدته " وكنا لحكمهم " أي لحكم الانبياء، وقيل " الضمير راجع إلى داود وسليمان والمحكوم له، وقد عرفت ما فيه، وقيل: الضمير لداود وسليمان لان الاثنين جمع وهو كما ترى " شاهدين " حاضرين نرى ونسمع ونوقفهم على وجه الصواب فيه " ففهمناها " أي الحكومة والقضية " سليمان وكلا من داود وسليمان " آتينا حكما وعلما " وربما قيل: إن تقدير صدر الاية " وآتينا داود وسليمان حكما وعلما " إذ يحكمان الخ. قوله تعالى: " وسخرنا مع داود الجبال يسبحن معه والطير وكنا فاعلين " التسخير هو تذليل الشئ بحيث يكون عمله على ما هو عليه في سبيل مقاصد المسخر - بكسر الخاء - وهذا غير الاجبار والاكراه والقسر فإن الفاعل فيها خارج عن مقتضى اختياره أو طبعه بخلاف الفاعل المسخر - بفتح الخاء - فإنه جار على مقتضى طبعه واختياره كما أن إحراق الانسان الحطب بالنار فعل تسخيري من النار وليست بمقسورة وكذا فعل الاجير لمؤجره فعل تسخيري من الاجير وليس بمجبر ولا مكره. ومن هنا يظهر أن معنى تسخير الجبال والطير مع داود يسبحن معه أن لهما
________________________________________
[ 313 ]
تسبيحا في نفسهما وتسخيرهما أن يسبحن مع داود بمواطاة تسبيحه فقوله: " يسبحن معه " بيان لقوله: " وسخرنا مع داود " وقوله: " والطير " معطوف على الجبال. وقوله: " وكنا فاعلين " أي كانت أمثال هذه المواهب والعنايات من سنتنا وليس ما أنعمنا به عليهما ببدع منا. قوله تعالى: " وعلمناه صنعه لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون " قال في المجمع: اللبوس اسم للسلاح كله عند العرب - إلى أن قال - وقيل: هو الدرع انتهى. وفي المفردات: وقوله تعالى: " صنعة لبوس لكم " يعنى به الدرع. والبأس شدة القتال وكأن المراد به في الاية شدة وقع السلاح وضمير " وعلمناه " لداود كما قال في موضع آخر: " وألناله الحديد " والمعنى وعلمنا داود صنعة درعكم - أي علمناه كيف يصنع لكم الدرع لتحرزكم وتمنعكم شدة وقع السلاح وقوله: " فهل أنتم شاكرون " تقرير على الشكر. قوله تعالى: " ولسليمان الريح عاصفة تجرى بأمره الخ. عطف على قوله " داود " أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفة أي شديدة الهبوب تجري الريح بأمره إلى الارض التي باركنا فيها وهي أرض الشام التى كان يأوي إليها سليمان وكنا عالمين بكل شئ. وذكر تسخير الريح عاصفة مع أن الريح كانت مسخرة له في حالتي شدتها ورخائها كما قال: " رخاء حيث أصاب " ص: 36 لان تسخير الريح عاصفة أعجب وأدل على القدرة. قيل: ولشيوع كونه عليه السلام ساكنا في تلك الارض لم يذكر جريانها بأمره منها واقتصر على ذكر جريانها إليها وهو أظهر في الامتنان انتهى، ويمكن أن يكون المراد جريانها بأمره إليها لتحمله منها إلى حيث أراد لا جريانها إليها لترده إليها وتنزله فيها بعدما حملته، وعلى هذا يشمل الكلام الخروج منها والرجوع إليها جميعا. قوله تعالى: " ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين " كان الغوص لاستخراج أمتعة البحر من اللئالي وغيرها، والمراد بالعمل
________________________________________
[ 314 ]
الذي دون ذلك ما ذكره بقوله: " يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات: سبأ ": 13، والمراد بحفظ الشياطين حفظهم في خدمته ومنعهم من أن يهربوا أو يمتنعوا أو يفسدوا عليه الامر، والمعنى ظاهر وستجئ قصتا داود وسليمان عليهما السلام في سورة سبأ إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين " الضر بالضم خصوص ما يمس النفس من الضرر كالمرض والهزال ونحوهما وبالفتح أعم. وقد شملته عليه السلام البلية فذهب ماله ومات أولاده وابتلى في بدنه بمرض شديد مدة مديدة ثم دعا الله وشكى إليه حاله فاستحباب الله له ونجاه من مرضه وأعاد عليه ماله وولده ومثلهم معهم وهو قوله في الاية التالية: " فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر " أي نجيناه من مرضه وشفيناه " وآتيناه أهله " أي من مات من أولاده " ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين " ليتذكروا ويعلموا أن الله يبتلى أولياءه امتحانا منه لهم ثم يؤتيهم أجرهم ولا يضيع أجر المحسنين. وستجئ قصة أيوب عليه السلام في سورة ص إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " وإسماعيل وإدريس وذا الكفل " الخ. أما إدريس عليه السلام فقد تقدمت قصته في سورة مريم وأما إسماعيل فستجئ قصته في سورة الصافات، وتأتي قصه ذي الكفل في سورة ص إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه " الخ. النون الحوت وذو النون هو يونس النبي ابن متى صاحب الحوت الذي بعث إلى أهل نينوى فدعاهم فلم يؤمنوا فسأل الله أن يعذبهم فلما أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا فكشفه الله عنهم ففارقهم يونس فابتلاه الله أن ابتلعه حوت فناداه تعالى في بطنه فكشف عنه وأرسله ثانيا إلى قومه. وقوله: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه " أي واذكر ذا النون إذ ذهب مغاضبا أي لقومه حيث لم يؤمنوا به فظن أن لن نقدر عليه أي لن نضيق عليه من قدر عليه رزقه أي ضاق كما قيل.
________________________________________
[ 315 ]
ويمكن أن يكون قوله: " إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه " واردا مورد التمثيل أي كان ذهابه هذا ومفارقة قومه ذهاب من كان مغاضبا لمولاه وهو يظن أن مولاه لن يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وأما كونه عليه السلام مغاضبا ؟ لربه حقيقة وظنه أن الله لا يقدر عليه جدا فمما يجل ساحة الانبياء الكرام عن ذلك قطعا وهم معصومون بعصمه الله. وقوله: " فنادى في الظلمات " الخ. فيه إيجاز بالحذف والكلام متفرع عليه والتقدير فابتلاه الله بالحوت فالتقمه فنادى في بطنه ربه والظاهر أن المراد بالظلمات كما قيل - ظلمة البحر وظلمة بطن الحوت وظلمة الليل. وقوله: " أن لا إله ألا أنت سبحانك " تبر منه عليه السلام مما كان يمثله ذهابه لوجهه ومفارقته قومه من غير أن يؤمر فان ذهابه ذلك كان يمثل وإن لم يكن قاصدا ذلك متعمدا فيه - أن هناك مرجعا يمكن أن يرجع إليه غير ربه فتبرء من ذلك بقوله لا إله ألا أنت، وكان يمثل أن من الجائز أن يعترض على فعله فيغاضب منه وأن من الممكن أن يفوته تعالى فائت فيخرج من حيطة قدرته فتبرء من ذلك بتنزيهه بقوله: سبحانك. وقوله: " إنى كنت من الظالمين " اعتراف بالظلم من حيث إنه أتى بعمل كان يمثل الظلم وإن لم يكن ظلما في نفسه ولا هو عليه السلام قصد به الظلم والمعصية غير أن ذلك كان تأديبا منه تعالى وتربية لنبيه ليطأ بساط القرب بقدم مبرأة في مشيتها من تمثيل الظلم فضلا عن نفس الظلم. قوله تعالى: " فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين هو عليه السلام وإن لم يصرح بشئ من الطلب والدعاء وإنما أتى بالتوحيد والتنزيه واعترف بالظلم لكنه أظهر بذلك حاله وأبدى موقفه من ربه وفيه سؤال النجاة والعافية فاستجاب الله له ونجاه من الغم وهو الكرب الذي نزل به. وقوله: " وكذلك ننجي المؤمنين " وعد بالانجاء لمن ابتلي من المؤمنين بغم ثم نادى ربه بمثل ما نادى به يونس عليه السلام وستجئ قصته عليه السلام في سورة الصافات إن شاء الله.
________________________________________
[ 316 ]
قوله تعالى: " وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين " معطوف على ما عطف عليه ما قبله أي واذكر زكريا حين نادى ربه يسأل ولدا وقوله: " رب لا تذرني فردا " بيان لندائه، والمراد بتركه فردا أن يترك ولا ولد له يرثه. وقوله: " وأنت خير الوارثين " ثناء وتحميد له تعالى بحسب لفظه ونوع تنزيه له بحسب المقام إذ لما قال: " لا تذرني فردا " وهو كناية عن طلب الوارث والله سبحانه هو الذي يرث كل شئ نزهه تعالى عن مشاركة غيره له في معنى الوراثة ورفعه عن مساواة غيره فقال: " وأنت خير الوارثين. قوله تعالى: " فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه " الخ. ظاهر الكلام أن المراد بإصلاح زوجه أي زوج زكريا له جعلها شابة ولودا بعد ما كانت عاقرا كما يصرح به في دعائه " وكانت امرأتي عاقرا " مريم: 8. وقوله: " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين " ظاهر السياق أن ضمير الجمع لبيت زكريا، وكأنه تعليل لمقدر معلوم من سابق الكلام والتقدير نحو من قولنا انعمنا عليهم لانهم كانوا يسارعون في الخيرات. والرغب والرهب مصدران كالرغبة والرهبة بمعنى الطمع والخوف وهما تمييزان إن كانا باقيين على معناهما المصدري وحالان إن كانا بمعنى الفاعل، والخشوع هو تأثر القلب من مشاهدة العظمة والكبرياء. والمعنى: أنعمنا عليهم لانهم كانوا يسارعون في الخيرات من الاعمال ويدعوننا رغبة في رحمتنا أو ثوابنا رهبة من غضبنا أو عقابنا أو يدعوننا راغبين راهبين وكانوا لنا خاشعين بقلوبهم. وقد تقدمت قصة زكريا ويحيى عليهما السلام في أوائل سورة مريم. قوله تعالى: " والتى أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين " المراد بالتى أحصنت فرجها مريم ابنة عمران وفيه مدح لها بالعفة والصيانة ورد لما اتهمها به اليهود. وقوله: فنفخنا فيها من روحنا " الضمير لمريم والنفخ فيها من الروح كناية عن عدم استناد ولادة عيسى عليه السلام إلى العادة الجارية في كينونة الولد من تصور
________________________________________
[ 317 ]
النطفة أولا ثم نفخ الروح فيها فإذا لم يكن هناك نطفة مصورة لم يبق إلا نفخ الروح فيها وهي الكلمة الالهية كما قال: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون " آل عمران: 59 أي مثلهما واحد في استغناء خلقهما عن النطفة. وقوله: " وجعلناها وابنها آية للعالمين " أفرد الاية فعدهما أعني مريم وعيسى عليهما السلام معا آية واحدة للعالمين لان الاية هي الولادة كذلك وهي قائمة بهما معا ومريم أسبق قدما في إقامة هذه الاية ولذا قال تعالى: " وجعلناها وابنها آية ولم يقل: وجعلنا ابنها وإياها آية وكفى لها فخرا أن يدخل ذكرها في ذكر الانبياء عليهم السلام في كلامه تعالى وليست منهم. (بحث روائي) في الفقيه روى جميل بن دراج عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام: في قول الله عز وجل: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم قال: لم يحكما إنما كانا يتناظران ففهمها سليمان. أقول: تقدم في بيان معنى الاية ما يتضح به معنى الحديث. وفي الكافي بإسناده عن الحسين بن سعيد عن بعض أصحابنا عن المعلى أبي عثمان عن أبى بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم " فقال لا يكون النفش إلا بالليل إن على صاحب الحرث أن يحفظ الحرث بالنهار، وليس على صاحب الماشية حفظها بالنهار إنما رعاها (1) بالنهار وأرزاقها فما أفسدت فليس عليها، وعلى صاحب الماشية حفظ الماشية بالليل عن حرث الناس فما أفسدت بالليل فقد ضمنوا وهو النفش. وإن داود حكم للذي أصاب زرعه رقاب الغنم، وحكم سليمان الرسل والثلاثة وهو اللبن والصوف في ذلك العام.
________________________________________
(1) بضم الراء جمع راعي. (*)
________________________________________
[ 318 ]
أقول: وروى فيه أيضا بإسناده عن أبي بصير عنه عليه السلام وفي الحديث: فحكم داود بما حكمت به الانبياء عليه السلام من قبله، وأوحى الله إلى سليمان عليه السلام: وأي غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزرع إلا ما خرج من بطونها. وكذلك جرت السنة بعد سليمان وهو قول الله عزوجل: " وكلا آتينا حكما وعلما " فحكم كل واحد منهما بحكم الله عزوجل. وفي تفسير القمي بإسناده عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام في حديث ذكر فيه أن الحرث كان كرما نفشت فيه الغنم وذكر حكم سليمان ثم قال: وكان هذا حكم داود وإنما أراد أن يعرف بنى إسرائيل أن سليمان وصيه بعده، ولم يختلفا في الحكم ولو اختلف حكمهما لقال: وكنا لحكمهما شاهدين. وفي المجمع " واختلف في الحكم الذي حكما به فقيل: إنه كان كرما قد بدت عناقيده - فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم فقال سليمان: غير هذا يا نبي الله أرفق. قال: وما ذاك ؟ قال: تدفع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان ثم دفع كل واحد منهما إلى صاحبه ماله، وروي ذلك عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليه السلام. أقول: وروي كون الحرث كرما من طرق أهل السنة عن عبد الله بن مسعود وهناك روايات أخر عن أئمة أهل البيت عليه السلام قريبة المضامين مما أوردناه، وما مر في بيان معنى الاية يكفى في توضيح مضامين الروايات. وفي تفسير القمى وقوله عزوجل: " ولسليمان الريح عاصفة " قال: تجري من كل جانب " إلى الارض التي باركنا فيها قال: إلى بيت المقدس والشام. وفيه أيضا بإسناده عن عبد الله بن بكير وغيره عن أبى عبد الله عليه السلام في قول الله عزوجل: " وآتيناه أهله ومثلهم معهم " قال أحيا الله عزوجل له أهله الذين كانوا قبل البلية وأحيا له الذين ماتوا وهو في البلية. وفيه أيضا وفي رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " وذا النون إذ ذهب مغاضبا " يقول: من أعمال قومه " فظن أن لن نقدر عليه " يقول: ظن أن لن يعاقب بما صنع.
________________________________________
[ 319 ]
وفي العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي في حديث الرضا عليه السلام مع المأمون في عصمة الانبياء قال عليه السلام: وأما قوله: وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه " إنما " ظن " بمعنى استيقن أن لن يضيق عليه رزقه ألا تسمع قول الله عزوجل: " وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه " أي ضيق عليه رزقه. ولو ظن أن الله لا يقدر عليه لكان قد كفر. وفي التهذيب بإسناده عن الزيات عن رجل عن كرام عن أبى عبد الله عليه السلام قال: أربع لاربع - إلى أن قال - والرابعة للغم والهم " لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين " قال الله سبحانه: " فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين ". أقول: وروى هذا المعنى في الخصال عنه صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا. وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن سعد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اسم الله الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى دعوة يونس بن متى قلت: يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال: هي ليونس خاصة وللمؤمنين إذا دعوا بها. ألم تسمع قول الله: " وكذلك ننجي المؤمنين " فهو شرط من الله لمن دعاه. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " وأصلحنا " له زوجه " قال: كانت لا تحيض فحاضت. وفي المعاني بإسناده إلى علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر عليه السلام قال: الرغبة أن تستقبل براحتيك السماء وتستقبل بهما وجهك، والرهبة أن تلقي كفيك وترفعهما إلى الوجه. أقول: وروى مثله في الكافي بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي عبد الله عليه السلام ولفظه قال: الرغبة أن تستقبل ببطن كفيك إلى السماء والرهبة أن تجعل ظهر كفيك إلى السماء. وفي تفسير القمى: " يدعوننا رغبا ورهبا " قال: راغبين راهبين، وقوله: " التى أحصنت فرجها " قال " مريم لم ينظر إليها شئ وقوله " فنفخنا فيها من روحنا " قال: روح مخلوقة يعني من أمرنا.
________________________________________
[ 320 ]
إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (92) - وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون (93) - فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون (94) وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون (95) - حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون (96) - واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين (97) - إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون (98) - لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون (99). لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون (100) - إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (101). لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون (102) - لا يحزنهم الفزع الاكبر وتتلقيهم الملائكة هذا يومكم الذى كنتم توعدون (103) - يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين (104) - ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون (105) - إن في هذا
________________________________________
[ 321 ]
لبلاغا لقوم عابدين (106) - وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (107). قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون (108). فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء وإن أدرى أقريب ام بعيد ما توعدون (109) - إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون (110) - وإن أدرى ؟ ؟ لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين (111) - قال رب أحكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون (112): (بيان) في الايات رجوع إلى أول الكلام فقد بين فيما تقدم أن للبشر إلها واحدا وهو الذي فطر السماوات والارض فعليهم أن يعبدوه من طريق النبوة وإجابة دعوتها ويستعدوا بذلك لحساب يوم الحساب، ولم تندب النبوة إلا إلى دين واحد وهو دين التوحيد كما دعا إليه موسى من قبل ومن قبله إبراهيم ومن قبله نوح ومن جاء بعد موسى وقبل نوح ممن أشار الله سبحانه إلى أسمائهم ونبذة مما أنعم به عليهم كأيوب وإدريس وغيرهما. فالبشر ليس الا أمة واحدة لها رب واحد هو الله عز اسمه ودين واحد هو دين التوحيد يعبد فيه الله وحده قطعت به الدعوة الالهيه لكن الناس تقطعوا أمرهم بينهم وتشتتوا في أديانهم واختلقوا لهم آلهة دون الله وأديانا غير دين الله فاختلف بذلك شأنهم وتباينت غاية مسيرهم في الدنيا والاخرة. أما في الاخرة فإن الصالحين منهم سيشكر الله سعيهم ولا يشاهدون ما يسوؤهم ولن يزالوا في نعمة وكرامة، وأما غيرهم فإلى العذاب والعقاب.
________________________________________
[ 322 ]
وأما في الدنيا فإن الله وعد الصالحين منهم أن يورثهم الارض ويجعل لهم عاقبة الدار والطالحون إلى هلاك ودمار وخسران وسعي وبوار. قوله تعالى: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " الامة جماعة يجمعها مقصد واحد، والخطاب في الاية على ما يشهد به سياق الايات - خطاب عام يشمل جميع الافراد المكلفين من الانسان، والمراد بالامة النوع الانساني الذي هو نوع واحد، وتأنيث الاشارة في قوله " هذه أمتكم " لتأنيث الخبر. والمعنى: أن هذا النوع الانساني أمتكم معشر البشر وهي أمة واحدة وانا - الله الواحد عز اسمه - ربكم إذ ملكتكم ودبرت أمركم فاعبدوني لا غير. وفي قوله: " أمة واحدة " إشارة إلى حجة الخطاب بالعبادة لله سبحانه فإن النوع الانساني لما كان نوعا واحدا وامة واحدة ذات مقصد واحد وهو سعادة الحياة الانسانية لم يكن له إلا رب واحد إذ الربوبية والالوهية ليست من المناصب التشريفية الوضعية حتى يختار الانسان منها لنفسه ما يشاء وكم يشاء وكيف يشاء بل هي مبدئية تكوينية لتدبير أمره، والانسان حقيقة نوعية واحدة، والنظام الجارى في تدبير أمره نظام واحد متصل مرتبط بعض أجزائه ببعض ونظام التدبير الواحد لا يقوم به إلا مدبر واحد فلا معنى لان يختلف الانسان في أمر الربوبية فيتخذ بعضهم ربا غير ما يتخذه الاخر أو يسلك قوم في عبادته غير ما يسلكه الاخرون فالانسان نوع واحد يجب أن يتخذ ربا واحدا هو رب بحقيقة الربوبية. وهو الله عز اسمه. وقيل المراد بالامة، الدين والاشارة بهذه إلى دين الاسلام الذي كان دين الانبياء والمراد بكونه أمة واحدة اجتماع الانبياء بل إجماعهم عليه، والمعنى أن ملة الاسلام ملتكم التي يجب أن تحافظوا على حدودها وهي ملة اتفقت الانبياء عليهم السلام عليها. وهو بعيد فإن استعمال الامة في الدين لو جاز لكان تجوز الايصال إليه إلا بقرينة صارفة ولا وجه للانصراف عن المعنى الحقيقي بعد صحته واستقامته وتأيده بسائر كلامه تعالى كقوله: " وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا " يونس: 19 وهو - كما ترى - يتضمن إجمال ما يتضمنه هذه الاية والاية التى تليها.
________________________________________
[ 323 ]
على أن التعبير في قوله: " وأنا ربكم بالرب دون الالة يبقى على ما ذكروه بلا وجه بخلاف أخذ الامة بمعنى الجماعة فإن المعنى عليه إنكم نوع واحد وأنا المالك المدبر لامركم فاعبدوني لتكونوا متخذين لي إلها. وفي الاية وجوه كثيرة أخر ذكروها لكنها جميعا بعيدة من السياق تركنا إيرادها من أراد الوقوف عليها فليراجع المطولات. قوله تعالى: " فتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون " التقطع على ما قال في مجمع البيان بمعنى التقطيع وهو التفريق، وقيل: هو بمعناه المتبادر وهو التفرق والاختلاف و " أمرهم " منصوب بنزع الخافض، والتقدير فتقطعوا في أمرهم وقيل " تقطعوا " مضمن معنى الجعل ولذا عدي إلى المفعول بنفسه. وكيف كان فقوله: " فتقطعوا أمرهم بينهم " استعارة بالكناية والمراد به أنهم جعلوا هذا الامر الواحد وهو دين التوحيد المندوب إليه من طريق النبوة وهو أمر وحداني قطعا متقطعة وزعوة فيما بينهم أخذ كل منهم شيئا منه وتر شيئا كالوثنيين واليهود والنصارى والمجوس والصابئين على اختلاف طوائفهم وهذا نوع تقريع للناس وذم لاختلافهم في الدين وتركهم الامر الالهي أن يعبدوه وحده. وقوله: " كل إلينا راجعون " فيه بيان أن اختلافهم في أمر الدين لا يترك سدى لا أثر له بل هؤلاء راجعون إلى الله جميعا وهم مجزيون حسب ما اختلفوا كما يلوح إليه التفصيل المذكور في قوله بعد: " فمن يعمل من الصالحات " الخ. والفصل في جملة: " كل إلينا راجعون " لكونها في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: فإلى م ينتهى اختلافهم في أمر الدين وما ذا ينتج فقيل: كل إلينا راجعون فنجازيهم كما علموا. قوله تعالى: " فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون " تفصيل لحال المختلفين بحسب الجزاء الاخروي وسيأتي ما في معنى تفصيل جزائهم في الدنيا من قوله: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الارض يرثها عبادي الصالحون ".
________________________________________
[ 324 ]
فقوله: " فمن يعمل من الصالحات " أي من يعمل منهم شيئا من الاعمال الصالحات وقد قيد عمل بعض الصالحات بالايمان إذ قال: " وهو مؤمن " فلا أثر للعمل الصالح بغير إيمان. والمراد بالايمان - على ما يظهر من السياق وخاصة قوله في الاية الماضية: " وأنا ربكم فاعبدون " - الايمان بالله قطعا غير أن الايمان بالله لا يفارق الايمان بأنبيائه من دون استثناء لقوله: " إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض - إلى قوله - أولئك هم الكافرون حقا النساء: 151. وقوله: " فلا كفران لسعيه " أي لا ستر على ما عمله من الصالحات والكفران يقابل الشكر ولذا عبر عن هذا المعنى في موضع آخر بقوله: " وكان سعيكم مشكورا " الدهر: 22. وقوله: " وإنا له كاتبون " أي مثبتون في صحائف الاعمال إثباتا لا ينسى معه فالمراد بقوله: " فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون " أن عمله الصالح لا ينسى ولا يكفر. والاية من الايات الدالة على أن قبول العمل الصالح مشروط بالايمان كما تؤيده آيات حبط الاعمال مع الكفر، وتدل أيضا على أن المؤمن العامل لبعض الصالحات من أهل النجاة. قوله تعالى: " وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون " الذي يستبق من الاية إلى الذهن بمعونة من سياق التفصيل أن يكون المراد أن أهل القرية التي أهلكناها لا يرجعون ثانيا إلى الدنيا ليحصلوا على ما فقدوه من نعمة الحياة ويتداركوا ما فوتوه من الصالحات وهو واقع محل أحد طرفي التفصيل الذي تضمن طرفه الاخر قوله: " فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن " الخ. فيكون الطرف الاخر من طرفي التفصيل أن من لم يكن مؤمنا قد عمل من الصالحات فليس له عمل مكتوب وسعي مشكور وإنما هو خائب خاسر ضل سعيه في الدنيا ولا سبيل له إلى حياة ثانية في الدنيا يتدارك فيها ما فاته. غير أنه تعالى وضع المجتمع موضع الفرد إذ قال: " وحرام على قرية أهلكناها
________________________________________
[ 325 ]
ولم يقل وحرام على من أهلكناه لان فساد الفرد يسري بالطبع إلى المجتمع وينتهى إلى طغيانهم فيحق عليهم كلمة العذاب فيهلكون كما قال: " وإن من قريه إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا " أسرى: 58. ويمكن - على بعد - أن يكون المراد بالاهلاك الاهلاك بالذنوب بمعنى بطلان استعداد السعادة والهدى كما في قوله: " وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون " الانعام: 26 فتكون الاية في معنى قوله: " فإن الله لا يهدي من يضل " النحل: 37 والمعنى وحرام على قوم أهلكناهم بذنوبهم وقضينا عليهم الضلال أن يرجعوا إلى التوبة وحال الاستقامة. ومعنى الاية والقرية التي لم تعمل من الصالحات وهي مؤمنة وانجز أمرها إلى الاهلاك ممتنع عليهم أن يرجعوا فيتداركوا ما فاتهم من السعي المشكور والعمل المكتوب المقبول. وأما قوله: " أنهم لا يرجعون " وكان الظاهر أن يقال: أنهم يرجعون فالحق أنه مجاز عقلي وضع فيه نتيجة تعلق الفعل بشئ - أعنى ما يؤول إليه حال المتعلق بعد تعلقه - به موضع نفس المتعلق فنتيجة تعلق الحرمة برجوعهم عدم الرجوع فوضعت هذه النتيجة موضع نفس الرجوع الذي هو متعلق الحرمة وفي هذا الصنع إفاده نفوذ الفعل كأن الرجوع يصير بمجرد تعلق الحرمة عدم رجوع من غير تخلل فصل. ونظيره أيضا قوله: " ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " الاعراف: 12 حيث إن تعلق المنع بالسجدة يؤول إلى عدم السجدة فوضع عدم السجدة الذى هو النتيجة موضع نفس السجدة التي هي متعلق المنع. ونظيره أيضا قوله: " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا " الانعام: 151 حيث إن تعلق التحريم بالشرك ينتج عدم الشرك فوضع عدم الشرك الذي هو النتيجة مكان نفس الشرك الذي هو المتعلق وقد وجهنا هاتين الايتين فيما مر بتوجيه آخر أيضا. وللقوم في توجيه الاية وجوه: منها: أن لا زائدة والاصل أنهم يرجعون.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page