• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 276 الي 300


[ 276 ]
الاية أن الملائكة لا يعرفون النهي إذ النهي فرع جواز الاتيان بالفعل المنهي عنه وهم لا يفعلون إلا عن أمر. ويمكن أن يستفاد من قوله تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شئ " يس: 83، وقوله: " وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر " القمر: 50، حقيقة معنى أمره تعالى وقد تقدم في بعض المباحث السابقة كلام في ذلك وسيجئ استيفاء البحث في كلام خاص بالملائكة فيما يعطيه القرآن في حقيقة الملك. قوله تعالى: " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون " فسروا " ما بين أيديهم وما خلفهم " بما قدموا من أعمالهم وما أخروا، والمعنى: يعلم ما عملوا وما هم عاملون. فقوله: " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " استئناف في مقام التعليل لما تقدمه من قوله: " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " كأنه قيل: إنما لم يقدموا على قول أو عمل بغير أمره تعالى لانه يعلم ما قدموا من قول وعمل وما أخروا فلا يزالون يراقبون أحوالهم حيث إنهم يعلمون ذلك. وهو معنى جيد في نفسه لكنه إنما يصلح لتعليل عدم إقدامهم على المعصية لا لتعليل قصر عملهم على مورد الامر وهو المطلوب، على أن لفظ الاية لا دلالة فيه على أنهم يعلمون ذلك ولولا ذلك لم يتم البيان. وقد تقدم في تفسير قوله تعالى: " وما نتنزل إلا بامر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسيا " مريم: 64، أن الا وجه حمل قوله: " ما بين أيدينا " على الاعمال والاثار المتفرعة على وجودهم، وقوله: " وما خلفنا " على ما هو من أسباب وجودهم مما تقدمهم وتحقق قبلهم فلو حمل اللفظتان في هذه الاية على ما حملتا عليه هناك كانت الجملة تعليلا واضحا لمجموع قوله: " بل عباد مكرمون - إلى قوله - بأمره يعملون " الذي يذكرهم بشرافة الذات وشرافة آثار الذات من القول والفعل ويكون المعنى: إنما أكرم الله ذواتهم وحمد آثارهم لانه يعلم أعمالهم وأقوالهم وهي ما بين أيديهم ويعلم السبب الذي به وجدوا والاصل الذي عليه نشأوا وهو ما خلفهم كما يقال: فلان كريم النفس حميد السيرة لانه مرضي الاعمال من أسره كريمة.
________________________________________
[ 277 ]
وقوله: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " تعرض لشفاعتهم لغيرهم وهو الذي تعلق به الوثنيون في عبادتهم الملائكة كما ينبئ عنه قولهم: " هؤلاء شفعاؤنا عند الله " " إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى " فرد تعالى عليهم بأن الملائكة إنما يشفعون لمن ارتضاه الله والمراد به ارتضاء دينه لقوله تعالى: " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " النساء: 48، فالايمان بالله من غير شرك هو الارتضاء، والوثنيون مشركون، ومن عجيب أمرهم أنهم يشركون بنفس الملائكة الذين لا يشفعون إلا لغير المشركين من الموحدين. وقوله: " وهم من خشيته مشفقون " هي الخشية من سخطه وعذابه مع الامن منه بسبب عدم المعصية وذلك لان جعله تعالى إياهم في أمن من العذاب بما أفاض عليهم من العصمة لا يحدد قدرته تعالى ولا ينتزع الملك من يده، فهو يملك بعد الامن عين ما كان يملكه قبله، وهو على كل شئ قدير، وبذلك يستقيم معنى الاية التالية. قوله تعالى: " ومن يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين " أي من قال كذا كان ظالما ونجزيه جهنم لانها جزاء الظالم، والاية قضية شرطية والشرطية لا تقتضي تحقق الشرط. قوله تعالى: " أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون " المراد بالرؤية العلم الفكري وإنما عبر بالرؤية لظهوره من حيث إنه نتيجة التفكير في أمر محسوس. والرتق والفتق معنيان متقابلان، قال الراغب في المفردات: الرتق الضم والالتحام خلقة كان أم صنعة، قال تعالى: " كانتا رتقا ففتقناهما " وقال: الفتق الفصل بين المتصلين وهو ضد الرتق. انتهى. وضمير التثنية في " كانتا رتقا ففتقناهما " للسماوات والارض بعد السماوات طائفة والارض طائفة فهما طائفتان اثنتان، ومجئ الخبر أعنى رتقا مفردا لكونه مصدرا وإن كان بمعنى المفعول والمعنى كانت هاتان الطائفتان منضمتين متصلتين ففصلناهما. وهذه الاية والايات الثلاث التالية لها برهان على توحيده تعالى في ربوبيته للعالم كله أوردها بمناسبة ما انجر الكلام إلى توحيده ونفى ما أتخذوها آلهة من دون الله وعدوا الملائكة وهم من الالهة عندهم أولادا له، بانين في ذلك على أن الخلقة والايجاد لله
________________________________________
[ 278 ]
والربوبية والتدبير للالهة. فأورد سبحانه في هذه الايات أشياء من الخليقة خلقتها ممزوجة بتدبير أمرها فتبين بذلك أن التدبير لا ينفك عن الخلقة فمن الضروري أن يكون الذي خلقها هو الذي يدبر أمرها وذلك كالسماوات والارض وكل ذي حياة والجبال والفجاج والليل والنهار والشمس والقمر في خلقها وأحوالها التي ذكرها سبحانه. فقوله: " أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والارض كانتا رتقا ففتقناهما " المراد بالذين كفروا - بمقتضى السياق - هم الوثنيون حيث يفرقون بين الخلق والتدبير بنسبة الخلق إلى الله سبحانه والتدبير إلى الالهة من دونه وقد بين خطأهم في هذه التفرقة بعطف نظرهم إلى ما لا يرتاب فيه من فتق السماوات والارض بعد رتقهما فإن في ذلك خلقا غير منفك عن التدبير، فكيف يمكن قيام خلقهما بواحد وقيام تدبيرهما بآخرين. لا نزال نشاهد انفصال المركبات الارضية والجوية بعضها من بعض وانفصال أنواع النباتات من الارض والحيوان من الحيوان والانسان من الانسان وظهور المنفصل بالانفصال في صورة جديدة لها آثار وخواص جديدة بعد ما كان متصلا بأصله الذي انفصل منه غير متميز الوجود ولا ظاهر الاثر ولا بارز الحكم فقد كانت هذه الفعليات محفوظة الوجود في القوة مودعة الذوات في المادة رتقا من غير فتق حتى فتقت بعد الرتق وظهرت بفعلية ذواتها وآثارها. والسماوات والارض بأجرامها حالها حال أفراد الانواع التي ذكرناها وهذه الاجرام العلوية والارض التي نحن عليها وإن لم يسمح لنا أعمارنا على قصرها أن نشاهد منها ما نشاهده في الكينونات الجزئية التي ذكرناها، فنرى بدء كينونتها أو انهدام وجودها لكن المادة هي المادة وأحكامها هي أحكامها والقوانين الجارية فيها لا تختلف ولا تتخلف. فتكرار انفصال جزئيات المركبات والمواليد من الارض ونظير ذلك في الجو يدلنا على يوم كانت الجميع فيه رتقا منضمة غير منفصلة من الارض وكذا يهدينا إلى مرحلة لم يكن فيها ميز بين السماء والارض وكانت الجميع رتقا ففتقها الله تحت تدبير منظم متقن ظهر به كل منها على ما له من فعلية الذات وآثارها. فهذا ما يعطيه النظر الساذج في كينونة هذا العالم المشهود بأجزائها العلوية والسفلية كينونة ممزوجة بالتدبير مقارنة للنظام الجاري في الجميع، وقد قربت الابحاث
________________________________________
[ 279 ]
العلمية الحديثة هذه النظرة حيث أوضحت أن الاجرام التي تحت الحس مؤلفة من عناصر معدودة مشتركة ولكل منها بقاء محدود وعمر مؤجل وإن اختلفت بالطول والقصر. هذا لو أريد برتق السماوات والارض عدم تميز بعضها من بعض وبالفتق تميز السماوات من الارض ولو أريد برتقها عدم الانفصال بين أجزاء كل منهما في نفسه حتى ينزل من السماء شئ أو يخرج من الارض شئ وبفتقها خلاف ذلك كان المعنى أن السماوات كانت رتقا لا تمطر ففتقناها بالامطار والارض كانت رتقا لا تنبت ففتقناها بالانبات وتم البرهان وربما أيده قوله بعد: " وجعلنا من الماء كل شئ حي " لكنه يختص من بين جميع الحوادث بالامطار والانبات، بخلاف البرهان على التقريب الاول. وذكر بعض المفسرين وأرتضاه آخرون أن المراد برتق السماوات والارض عدم تميز بعضها من بعض حال عدمها السابق، وبفتقها تميز بعضها من بعض في الوجود بعد العدم فيكون احتجاجا بحدوث السماوات والارض على وجود محدثها وهو الله سبحانه. وفيه أن الاحتجاج بالحدوث على المحدث تام في نفسه، لكنه لا ينفع قبال الوثنيين المعترفين بوجوده تعالى واستناد الايجاد إليه ووجه الكلام إليهم، وإنما ينفع قبالهم من الحجة ما يثبت بها استناد التدبير إليه تعالى تجاه ما يسندون التدبير إلى آلهتهم ويعلقون العبادة على ذلك. وقوله: " وجعلنا من الماء كل شئ حي " ظاهر السياق أن الجعل بمعنى الخلق و " كل شئ حي " مفعوله والمراد أن للماء دخلا تاما في وجود ذوي الحياة كما قال: " والله خلق كل دابة من ماء " النور: 45، ولعل ورود القول في سياق تعداد الايات المحسوسة يوجب انصراف الحكم بغير الملائكة ومن يحذو حذوهم، وقد اتضح ارتباط الحياة بالماء بالابحاث العلمية الحديثة. قوله تعالى: " وجعلنا في الارض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون " قال في المجمع الرواسي الجبال رست ترسو رسوا إذا ثبتت بثقلها فهي راسية كما ترسو السفينة إذا وقفت متمكنة في وقوفها، والميد الاضطراب بالذهاب في الجهات، والفج الطريق الواسع بين الجبلين. انتهى. والمعنى: وجعلنا في الارض جبالا ثوابت لئلا تميل وتضطرب الارض بهم وجعلنا في تلك الجبال طرقا واسعة هي سبل لعلهم يهتدون منها إلى مقاصدهم ومواطنهم.
________________________________________
[ 280 ]
وفيه دلالة على أن للجبال ارتباطا خاصا بالزلازل ولولاها لاضطربت الارض بقشرها. قوله تعالى: " وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون " كأن المراد بكون السماء محفوظة حفظها من الشياطين كما قال: " وحفظناها من كل شيطان رجيم " الحجر: 17، والمراد بآيات السماء الحوادث المختلفة السماوية التي تدل على وحدة التدبير واستناده إلى موجدها الواحد. قوله تعالى: " وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون " الاية ظاهرة في إثبات الفلك لكل من الليل وهو الظل المخروطي الملازم لوجه الارض المخالف لمسامتة الشمس، والنهار وهو خلاف الليل، وللشمس والقمر فالمراد بالفلك مدار كل منها. والمراد مع ذلك بيان الاوضاع والاحوال الحادثة بالنسبة إلى الارض وفي جوها وإن كانت حال الاجرام الاخر على خلاف ذلك فلا ليل ولا نهار يقابله للشمس وسائر الثوابت، التى هي نيره بالذات وللقمر وسائر السيارات الكاسبة للنور من الليل والنهار غير ما لنا. وقوله: " يسبحون " من السبح بمعنى الجري في الماء بخرقه قيل: " وإنما قال: يسبحون لانه أضاف إليها فعل العقلاء كما قال: " والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين " يوسف: 4. (بحث روائي) في المحاسن بإسناده عن يونس رفعه قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: ليس من باطل يقوم بإزاء حق إلا غلب الحق الباطل وذلك قول الله: " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ". وفيه بإسناده عن أيوب بن الحر قال: " قال أبو عبد الله عليه السلام: يا أيوب ما من أحد إلا وقد يرد عليه الحق حتى يصدع قلبه قبله أم تركه وذلك أن الله يقول في كتابه: " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون ". أقول: والروايتان مبنيتان على تعميم الاية.
________________________________________
[ 281 ]
وفي العيون في باب ما جاء عن الرضا عليه السلام في هاروت وماروت في حديث: إن الملائكة معصومون محفوظون عن الكفر والقبائح بألطاف الله تعالى قال الله تعالى فيهم: " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " وقال عزوجل: " ولله من في السماوات والارض ومن عنده يعني الملائكة لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون ". وفي نهج البلاغه قال عليه السلام في وصف الملائكة: ومسبحون لا يسأمون، ولا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الابدان، ولا غفلة النسيان. أقول وبه يضعف ما في بعض الروايات أن الملائكة ينامون كما في كتب كمال الدين بإسناده عن داود بن فرقد عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله: أنه سئل عن الملائكة أينامون ؟ فقال: ما من حي إلا وهو ينام خلا الله وحده. فقلت: يقول الله عزوجل: " يسبحون الليل والنهار لا يفترون " ؟ قال: أنفاسهم تسبيح. على أن الرواية ضعيفة. وفي التوحيد بإسناده عن هشام بن الحكم قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام: ما الدليل على أن الله واحد ؟ قال: اتصال التدبير وتمام الصنع كما قال عزوجل: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ". أقول: وهو يؤيد ما قدمناه في تقرير الدليل. وفيه بإسناده عن عمرو بن جابر قال: قلت لابي جعفر محمد بن على الباقر عليه السلام: يا ابن رسول الله إنا نرى الاطفال منهم من يولد ميتا، ومنهم من يسقط غير تام، ومنهم من يولد أعمى وأخرس وأصم، ومنهم من يموت من ساعته إذا سقط إلى الارض، ومنهم من يبقى إلى الاحتلام، ومنهم من يعمر حتى يصير شيخا فكيف ذلك وما وجهه ؟ فقال عليه السلام: إن الله تبارك وتعالى أولى بما يدبره من أمر خلقه منهم وهو الخالق والمالك لهم فمن منعه التعمير فإنما منعه ما ليس له، ومن عمره فإنما أعطاه ما ليس له فهو المتفضل بما أعطى وعادل فيما منع ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. قال جابر: " فقلت له: يا ابن رسول الله وكيف لا يسأل عما يفعل ؟ قال: لانه لا يفعل إلا ما كان حكمة وصوابا، وهو المتكبر الجبار والواحد القهار، فمن وجد في نفسه حرجا في شئ مما قضى كفر ومن أنكر شيئا من أفعاله جحد.
________________________________________
[ 282 ]
أقول: وهي رواية شريفة تعطى أصلا كليا في الحسنات والسيئات وهو أن الحسنات أمور وجودية تستند إلى إعطائه وفضله تعالى، والسيئات امور عدمية تنتهي إلى عدم الاعطاء لما لا يملكه العبد. وما ذكره عليه السلام أنه تعالى أولى بما لعبده منه وجهه أنه تعالى هو المالك لذاته والعبد إنما يملك ما يملك بتمليك منه تعالى وهو المالك لما ملكه وملك العبد في طول ملكه. وقوله: " لانه لا يفعل إلا ما كان حكمة وصوابا " إشارة إلى التقريب الاول الذي قدمناه، وقوله: " وهو المتكبر الجبار والواحد القهار " إشارة إلى التقريب الثاني الذي أوردناه في تفسير الاية. وفي نور الثقلين عن الرضا عليه السلام قال: قال الله تبارك وتعالى يا ابن آدم بمشيتي كنت أنت الذي تشاء لنفسك ما تشاء - وبقوتي أديت إلي فرائضي وبنعمتي قويت على معصيتي جعلتك سميعا بصيرا قويا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وذلك أني أولى بحسناتك منك وأنت أولى بسيئاتك منى وذلك أني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون. وفي المجمع في قوله تعالى: " هذا ذكر من معي وذكر من قبلي " قال أبو عبد لله عليه السلام يعنى بذكر من معى ما هو كائن وبذكر من قبلي ما قد كان وفي العيون بإسناده إلى الحسين بن خالد عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من لم يؤمن بحوضى فلا أورده الله حوضي، ومن لم يؤمن بشفاعتي فلا أناله الله شفاعتي، ثم قال عليه السلام: إنما شفاعتي لاهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل. قال الحسين بن خالد: فقلت للرضا عليه السلام يا ابن رسول الله فما معنى قول الله عزوجل: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى قال: لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه ؟ ؟ ؟ وفي الدر المنثور أخرج الحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول الله: " ولا يشفعون إلا لمن ارتضى " فقال: أن شفاعتي لاهل الكبائر من أمتى. وفي الاحتجاج وروي: أن عمرو بن عبيد وفد على محمد بن علي الباقر عليه السلام لامتحانه بالسؤال عنه فقال له: جعلت فداك ما معنى قوله تعالى: " أو لم ير الذين
________________________________________
[ 283 ]
كفروا أن السماوات والارض كانتا رتقا ففتقناهما " ما هذا الرتق والفتق ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: كانت السماء رتقا لا تنزل القطر وكانت الارض رتقا لا تخرج النبات ففتق الله السماء بالقطر وفتق الارض بالنبات فانقطع عمرو بن عبيد ولم يجد اعتراضا ومضى. أقول: وروى هذا المعنى في روضة الكافي عنه عليه السلام بطريقين. وفي نهج البلاغة قال عليه السلام: وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها. * * * وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون (34) - كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون (35) - وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون (36) - خلق الانسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون (37) - ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (38) - لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون (39) - بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون (40) - ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن (41). قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون (42) - أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون (43) - بل متعنا
________________________________________
[ 284 ]
هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر أفلا يرون أنا نأتي الارض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون (44) - قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون (45) - ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين (46) - ونضع الموازين القسط ليوم القيمة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين (47) (بيان) من تتمة الكلام حول النبوة يذكر فيها بعض ما قاله المشركون في النبي صلى الله عليه وآله وسلم كقولهم: سيموت فنتخلص منه ونستريح. وقولهم استهزاء به: أهذا الذي يذكر آلهتكم، وقولهم استهزاء بالبعث والقيامة التي أنذروا بها: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين وفيها جواب أقاويلهم وإنذار وتهديد لهم وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله. قوله تعالى: " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفان مت فهم الخالدون " يلوح من الاية أنهم كانوا يسلون أنفسهم بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سيموت فيتخلصون من دعوته وتنجو آلهتهم من طعنه كما حكى ذلك عنهم في مثل قولهم: " نتربص به ريب المنون ": الطور: 30، فأجاب عنه بأنا لم نجعل لبشر من قبلك الخلد حتى يتوقع ذلك لك بل إنك ميت وإنهم ميتون، ولا ينفعهم موتك شيئا فلا أنهم يقبضون على الخلود بموتك، فالجميع ميتون، ولا أن حياتهم القصيرة المؤجلة تخلو من الفتنة والامتحان الالهي فلا يخلو منه إنسان في حياته الدنيا، ولا أنهم خارجون بالاخرة من سلطاننا بل الينا يرجعون فنحاسبهم ونجزيهم بما عملوا. وقوله: " أفإن مت فهم الخالدون " ولم يقل: فهم خالدون والاستفهام للانكار يفيد نفي قصر القلب كأنه قيل: إن قولهم: نتربص به ريب المنون كلام من يرى لنفسه خلودا أنت مزاحمه فيه فلو مت لذهب بالخلود وقبض عليه وعاش عيشة خالدة
________________________________________
[ 285 ]
طيبة ناعمة وليس كذلك بل كل نفس ذائقة الموت، والحياة الدنيا مبنية على الفتنة والامتحان، ولا معنى للفتنة الدائمة والامتحان الخالد بل يجب أن يرجعوا إلى ربهم فيجازيهم على ما امتحنهم وميزهم. قوله تعالى: " كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة والينا ترجعون " لفظ النفس - على ما يعطيه التأمل في موارد استعماله - أصل معناه هو معنى ما أضيف إليه فنفس الشئ معناه الشئ ونفس الانسان معناه هو الانسان ونفس الحجر معناه هو الحجر فلو قطع عن الاضافة لم يكن له معنى محصل، وعلى هذا المعنى يستعمل للتأكيد اللفظي كقولنا: جاءني زيد نفسه أو لافادة معناه كقولنا جاءني نفس زيد. وبهذا المعنى يطلق على كل شئ حتى عليه تعالى كما قال: " كتب على نفسه " الرحمة " الانعام: 12، وقال: " ويحذركم الله نفسه " آل عمران: 28، وقال: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك " المائدة: 116. ثم شاع استعمال لفظها في شخص الانسان خاصة وهو الموجود المركب من روح وبدن فصار ذا معنى في نفسه وإن قطع عن الاضافة قال تعالى: " هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها " أي من شخص إنساني واحد، وقال: من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " المائدة: 32: أي من قتل إنسانا ومن أحيا إنسانا، وقد اجتمع المعنيان في قوله: " كل نفس تجادل عن نفسها " فالنفس الاولى بالمعنى الثاني والثانية بالمعنى الاول. ثم استعملوها في الروح الانساني لما أن الحياة والعلم والقدرة التي بها قوام الانسان قائمة بها ومنه قوله تعالى: " أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون " الانعام: 93. ولم يطرد هذان الاطلاقان أعني الثاني والثالث في غير الانسان كالنبات وسائر الحيوان إلا بحسب الاصطلاح العلمي فلا يقال للواحد من النبات والحيوان عرفا نفس ولا للمبدأ المدبر لجسمه نفس نعم ربما سميت الدم نفسا لان للحياة توقفا عليها ومنه النفس السائلة. وكذا لا يطلق النفس في اللغة بأحد الاطلاقين الثاني والثالث على الملك والجن وإن كان معتقدهم أن لهما حياة، ولم يرد استعمال النفس فيهما في القرآن أيضا وإن نطقت الايات بأن للجن تكليفا كالانسان وموتا وحشرا قال: " وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون " الذاريات: 56 وقال في أمم قد خلت من قبلهم من الجن
________________________________________
[ 286 ]
والانس " الاحقاف: 18، وقال: " ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الانس " الانعام: 128، هذا ما يتحصل من معنى النفس بحسب عرف اللغة. وأما الموت فهو فقد الحياة وآثارها من الشعور والارادة عما من شأنه أن يتصف بها قال تعالى: " وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم " البقرة: 28، وقال في الاصنام: " أموات غير أحياء " النحل: 21، وأما أنه مفارقة النفس للبدن بانقطاع تعلقها التدبيري كما يعرفه الابحاث العقلية أو أنه الانتقال من دار إلى دار كما في الحديث النبوي فهو معنى كشف عنه العقل أو النقل غير ما استقر عليه الاستعمال ومن المعلوم أن الموت بالمعنى الذي ذكر إنما يتصف به الانسان المركب من الروح والبدن باعتبار بدنه فهو الذي يتصف بفقدان الحياة بعد وجدانه وأما الروح فلم يرد في كلامه تعالى ما ينطق باتصافه بالموت كما لم يرد ذلك في الملك، وأما قوله: " كل شئ هالك إلا وجهه " القصص: 88، وقوله: " ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الارض " الزمر: 68 فسيجئ إن شاء الله أن الهلاك والصعق غير الموت وإن انطبقا عليه أحيانا. فقد تبين مما قدمناه أولا: أن المراد بالنفس في قوله: " كل نفس ذائقه الموت " الانسان - - وهو الاستعمال الثاني من استعمالاتها الثلاث - دون الروح الانساني إذ لم يعهد نسبة الموت إلى الروح في كلامه تعالى حتى تحمل عليه. وثانيا: أن الاية إنما تعم الانسان لا غير كالملك والجن وسائر الحيوان وإن كان بعضها مما يتصف بالموت كالجن والحيوان، ومن القرينة على إختصاص الاية بالانسان قوله قبله: " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " وقوله بعده: " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " على ما سنوضحه. وقد ذكر جمع منهم أن المراد بالنفس في الاية الروح، وقد عرفت خلافه وأصر كثير منهم على عموم الاية لكل ذي حياة من الانسان والملك والجن وسائر الحيوانات حتى النبات إن كان لها حياة حقيقة وقد عرفت ما فيه. ومن أعجب ما قيل في تقرير عموم الاية ما ذكره الامام الرازي في التفسير الكبير بعد ما قرر أن الاية عامة لكل ذي نفس: أن الاية مخصصة فإن له تعالى نفسا كما قال حكايه عن عيسى عليه السلام: " تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك مع أن الموت مستحيل عليه سبحانه، وكذا الجمادات لها نفوس وهي لا تموت. ثم قال: والعام
________________________________________
[ 287 ]
المخصوص حجة فيبقى معمولا به على ظاهره فيما عدا ما أخرج منه، وذلك يبطل قول الفلاسفة في الارواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية أنها لا تموت. انتهى. وفيه أولا أن النفس بالمعنى الذي تطلق عليه تعالى وعلى كل شئ هي النفس بالاستعمال الاول من الاستعمالات الثلاث التي قدمناها لا تستعمل إلا مضافة كما في الاية التي استشهد بها والتى في الاية مقطوعة عن الاضافة فهى غير مرادة بهذا المعنى في الاية قطعا فتبقى النفس بأحد المعنيين الاخرين وقد عرفت أن المعنى الثالث أيضا غير مراد فيبقى الثاني. وثانيا: أن نفيه الموت عن الجمادات ينافي قوله تعالى: " كنتم أمواتا فأحياكم " وقوله: " أموات غير أحياء " وغير ذلك. وثالثا: أن قوله: " إن عموم الاية يبطل قول الفلاسفة في الارواح البشرية والعقول المفارقة والنفوس الفلكية خطأ فإن هذه مسائل عقلية يرام السلوك إليها من طريق البرهان، والبرهان حجة مفيدة لليقين فإن كانت الحجج التي أقاموها عليها كلها أو بعضها براهين كما ادعوها لم ينعقد من الاية في مقابلها ظهور والظهور حجة ظنية وكيف يتصور اجتماع العلم مع الظن بالخلاف، وإن لم تكن براهين لم تثبت المسائل ولا حاجة معه إلى ظن بالخلاف. ثم إن قوله: " كل نفس ذائقة الموت " كما هو تقرير وتثبيت لمضمون قوله قبلا: " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " الخ، كذلك توطئة وتمهيد لقوله بعد " ونبلوكم " بالشر والخير فتنة " - أي ونمتحنكم بما تكرهونه من مرض وفقر ونحوه وما تريدونه من صحة وغنى ونحوهما امتحانا - كأنه قيل: نحيي كلا منكم حياة محدودة مؤجلة ونمتحنكم فيها بالشر والخير امتحانا ثم إلى ربكم ترجعون فيقضى عليكم ولكم. وفيه إشارة إلى علة تحتم الموت لكل نفس حية، وهي أن حياة كل نفس حياة امتحانية، ابتلائية ومن المعلوم أن الامتحان أمر مقدمي ومن الضروري أن المقدمة لا تكون خالدة لا تنتهي إلى أمد ومن الضروري أن وراء كل مقدمة ذا مقدمة وبعد كل امتحان موقف تتعين فيه نتيجته فلكل نفس حية موت محتوم ثم لها رجوع إلى الله سبحانه لفصل القضاء. قوله تعالى: " وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزؤا أهذا الذي يذكر
________________________________________
[ 288 ]
آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون " إن نافية والمراد بقوله: " إن يتخذونك إلا هزوا قصر معاملتهم معه على اتخاذهم إياه هزوا أي لم يتخذوك إلا هزوا يستهزا به. وقوله: " أهذا الذي يذكر آلهتكم - والتقدير يقولون أو قائلين: أهذا الذي الخ - حكاية كلمة استهزائهم، والاستهزاء في الاشارة إليه بالوصف، ومرادهم ذكره آلهتهم بسوء ولم يصرحوا به أدبا مع آلهتهم وهو نظير قوله: " قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم " الاية 60 من السورة. وقوله: " وهم بذكر الرحمن هم كافرون " في موضع الحال من ضمير " أن يتخذونك " أو من فاعل يقولون المقدر وهو أقرب ومحصله أنهم يأنفون لالهتهم عليك إذ تقول فيها إنها لا تنفع ولا تضر - وهو كلمة حق - فلا يواجهونك إلا بالهزء والاهانة ولا يأنفون لله إذ يكفر بذكره والكافرون هم أنفسهم. والمراد بذكر الرحمن ذكره تعالى بأنه مفيض كل رحمة ومنعم كل نعمة ولازمه كونه تعالى هو الرب الذي تجب عبادته، وقيل: المراد بالذكر القرآن. والمعنى: وإذا رآك الذين كفروا وهم المشركون ما يتخذونك ولا يعاملون معك إلا بالهزء والسخرية قائلين بعضهم لبعض أهذا الذي يذكر آلهتكم أي بسوء فيأنفون لالهتهم حيث تذكرها والحال أنهم بذكر الرحمن كافرون ولا يعدونه جرما ولا يأنفون له. قوله تعالى: " خلق الانسان من عجل ساريكم آياتي فلا تستعجلون " كان المشركون على كفرهم بالدعوة النبوية يستهزؤن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كلما رأوه، وهو زيادة في الكفر والعتو، والاستهزاء بشئ إنما يكون بالبناء على كونه هزلا غير جد فيقابل الهزل بالهزل لكنه تعالى أخذ استهزاءهم هذا أخذ جد غير هزل فكان الاستهزاء بعد الكفر تعرضا للعذاب الالهي بعد تعرض وهو الاستعجال بالعذاب فإنهم لا يقنعون بما جاءتهم من الايات وهم في عافية ويطلبون آيات تجازيهم بما صنعوا، ولذلك عد سبحانه استهزاءهم بعد الكفر استعجالا برؤية الايات وهي الايات الملازمة للعذاب وأخبرهم أنه سيريهم إياها. فقوله: " خلق الانسان من عجل " كناية عن بلوغ الانسان في العجل كأنه خلق من عجل ولا يعرف سواه نظير ما يقال: فلان خير كله أو شر كله وخلق من خير أو من شر وهو أبلغ من قولنا، ما أعجله وما أشد استعجاله، والكلام وارد مورد التعجيب
________________________________________
[ 289 ]
وفيه استهانة بأمرهم وأنه لا يعجل بعذابهم لانهم لا يفوتونه. وقوله: " سأريكم آياتي فلا تستعجلون " الاية الاتية تشهد بأن المراد بإراءة الايات تعذيهم بنار جهنم وهي قوله لو يعلم الذين كفروا حين " الخ. قوله تعالى ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين " القائلون هم الذين كفروا والمخاطبون هم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون وكان مقتضى الظاهر أن يقولوا ؟ إن كنت من الصادقين لكنهم عدلوا إلى ما ترى ليضيفوا إلى تعجيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمطالبته ما لا يقدر عليه إضلال المؤمنين به وإغراءهم عليه والوعد هو ما اشتملت عليه الاية السابقة وتفسره الاية اللاحقة. قوله تعالى: " لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ولا هم ينصرون " " لو " للتمني و " حين " مفعول يعلم على ما قيل، وقوله " لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم " أي لا يدفعونها حيث تأخذهم من قدامهم ومن خلفهم وفيه إشارة إلى إحاطتها بهم. وقوله: " ولا هم ينصرون " معطوف على ما تقدمه لرجوع معناه إلى الترديد بالمقابلة والمعنى لا يدفعون النار باستقلال من أنفسهم ولا بنصر من ينصرهم على دفعه. والاية في موضع الجواب لسؤالهم عن الموعد، والمعنى ليت الذين كفروا يعلمون الوقت الذي لا يدفعون النار عن وجوههم ولا عن ظهورهم لا بإستقلال من أنفسهم ولا هم ينصرون في دفعها. قوله تعالى: " بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون " الذي يقتضيه السياق أن فاعل تأتيهم ضمير راجع إلى النار دون الساعة كما ذهب إليه بعضهم، والجملة إضراب عن قوله في الاية السابقة: " لا يكفون " الخ. لا عن مقدر قبله تقديره لا تأتيهم الايات بحسب اقتراحهم بل تأتيهم بغتة، ولا عن قوله: " لو يعلم الذين كفروا " بدعوى أنه في معنى النفي والتقدير لا يعلمون ذلك بل تأتيهم بغتة فإن هذه كلها وجوه يأبى عنها السياق. ومعنى إتيان النار بغتة أنها تفاجؤهم حيث لا يدرون من أين تأتيهم وتحيط بهم
________________________________________
[ 290 ]
فإن ذلك لازم ما وصفه الله من أمرها بقوله: " نار الله الموقدة التي تطلع على الافئدة " الهمزة: 7، وقوله: " النار التي وقودها الناس " البقرة: 24، وقوله: " إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم " الاية 98 من السورة والنار التي هذا شأنها تأخذ باطن الانسان كظاهره على حد سواء لا كنار الدنيا حتى تتوجه من جهة إلى جهة وتأخذ الظاهر قبل الباطن والخارج قبل الداخل حتى تمهلهم بقطع مسافة أو بتدرج في عمل أو مفارقة في جهة فيحتال لدفعها بتجاف أو تجنب أو إبداء حائل أو الالتجاء إلى ركن بل هي معهم كما أن أنفسهم معهم لا تستطاع ردا إذ لا اختلاف جهة ولا تقبل مهلة إذ لا مسافة بينها وبينهم فلا تسمح لهم في نزولها عليهم إلا البهت والحيرة. فمعنى الاية - والله أعلم - لا يدفعون النار عن وجوههم وظهورهم بل تأتيهم من حيث لا يشعرون بها ولا يدرون فتكون مباغتة لهم فلا يستطيعون ردها ولا يمهلون في إتيانها. قوله تعالى: " ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤن " قال في المجمع الفرق بين السخرية والهزء أن في السخرية معنى طلب الذلة لان التسخير التذليل فأما الهزء فيقتضى طلب صغر القدر بما يظهر في القول. انتهى والحيق الحلول، والمراد بما كانوا به يستهزئون، العذاب وفي الاية تسلية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وتخويف وتهديد للذين كفروا. قوله تعالى: " قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمان بل هم عن ذكر ربهم معرضون " الكلاءة الحفظ والمعنى أسألهم من الذي يحفظهم من الرحمان إن أراد أن يعذبهم ثم أضرب عن تأثير الموعظة والانذار فيهم فقال: " بل هم عن ذكر ربهم " أي القرآن " معرضون " فلا يعتنون به ولا يريدون أن يصغوا إليه إذا تلوته عليهم وقيل المراد بالذكر مطلق المواعظ والحجج. قوله تعالى: " أم لهم آلهة تمنعهم من دوننا لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منا يصحبون " أم منقطعة والاستفهام للانكار، وكل من " تمنعهم " و " من دوننا " صفة آلهة، والمعنى بل أسألهم ألهم آلهة من دوننا تمنعهم منا. وقوله: " لا يستطيعون نصر أنفسهم " الخ تعليل للنفي المستفاد من الاستفهام
________________________________________
[ 291 ]
الانكارى ولذا جئ بالفصل والتقدير ليس لهم آلهة كذلك لانهم لا يستطيعون نصر أنفسهم بأن ينصر بعضهم بعضا ولا هم منا يجارون ويحفظون فكيف ينصرون عبادهم من المشركين أو يجيرونهم، وذكر بعضهم أن ضمائر الجمع راجعة إلى المشركين والسياق يأباه. قوله تعالى: " بل متعنا هؤلاء وآباءهم حتى طال عليهم العمر " إلى آخر الاية هو إضراب عن مضمون الاية السابقة كما كان قوله: " بل هم عن ذكر ربهم معرضون " إضرابا عما تقدمه والمضامين - كما ترى - متقاربة. وقوله: " حتى طال عليهم العمر " غاية لدوام التمتع المدلول عليه بالجملة السابقة والتقدير بل متعنا هؤلاء المشركين وآباءهم ودام لهم التمتع حتى طال عليهم العمر فاغتروا بذلك ونسوا ذكر الله وأعرضوا عن عبادته، وكذلك كان مجتمع قريش فإنهم كانوا بعد أبيهم إسماعيل قاطنين في حرم آمن متمتعين بأنواع النعم التي تحمل إليهم حتى تسلطوا على مكة وأخرجوا جرهما منها فنسوا ما هم عليه من دين أبيهم إبراهيم وعبدوا الاصنام. وقوله: " أفلا يرون أنا نأتي الارض ننقصها من أطرافها " الانسب للسياق أن يكون المراد من نقص الارض وأطرافها هو انقراض بعض الامم التي تسكنها فإن لكل امة أجلا ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون - وقد تقدمت الاشارة إلى أن المراد بطول العمر عليهم طول عمر مجتمعهم. والمعنى: أفلا يرون أن الارض تنقص منها أمة بعد أمة بالانقراض بأمر الله فماذا يمنعه أن يهلكهم أفهم الغالبون إن أرادهم الله سبحانه بضر أو هلاك وانقراض. وقد مر بعض الكلام في الاية في نظيرتها من سورة الرعد فراجع. واعلم أن في هذه الايات وجوها من الالتفات لم نتعرض لها لظهورها. قوله تعالى: " قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون " أي إن الذى أنذركم به وحي إلهي لا ريب فيه وإنما لا يؤثر فيكم أثره وهو الهداية لان فيكم صمما لا تسمعون الانذار فالنقص في ناحيتكم لا فيه. قوله تعالى: " ولئن مستهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين النفحة الوقعة من العذاب، والمراد أن الانذار بآيات الذكر لا ينفعهم بل هؤلاء يحتاجون
________________________________________
[ 292 ]
إلى نفحة من العذاب حتى يضطروا فيؤمنوا ويعترفوا بظلمهم. قوله تعالى: " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا " القسط العدل وهو عطف بيان للموازين أو صفة للموازين بتقدير مضاف والتقدير الموازين ذوات القسط، وقد تقدم الكلام في معنى الميزان المنصوب يوم القيامة في تفسير سورة الاعراف. وقوله: " وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها " لضمير في " وإن كان " للعمل الموزون المدلول عليه بذكر الموازين أي وإن كان العمل الموزون مقدار حبة من خردل في ثقله أتينا بها وكفى بنا حاسبين وحبة الخردل يضرب بها المثل في دقتها وصغرها وحقارتها، وفيه إشارة إلى أن الوزن من الحساب. (بحث روائي) في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن ابن جريح قال: لما نعى جبريل للنبى نفسه قال: يا رب فمن لامتي فنزلت " وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد " الاية. أقول: سياق الايات وهو سياق العتاب لا يلائم ما ذكر. على أن هذا السؤال لا يلائم موقع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، على أن النعي كان في آخر حياة النبي والسورة من أقدم السور المكية. وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: مر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أبي سفيان وأبي جهل وهما يتحدثان فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لابي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف فغضب أبو سفيان فقال: ما تنكرون ليكون لبنى عبد مناف نبي ؟ فسمعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرجع إلى أبى جهل فوقع به وخوفه وقال: ما أراك منتهيا حتى يصيبك ما أصاب عمك، وقال لابي سفيان: أما إنك لم تقل ما قلت إلا حمية فنزلت هذه الاية " وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا " الاية. أقول هو كسابقه في عدم انطباق القصة على الاية ذاك الانطباق. وفي المجمع روى عن أبي عبد الله عليه السلام: أن أمير المؤمنين عليه السلام مرض فعاده
________________________________________
[ 293 ]
إخوانه فقالوا: كيف تجدك يا أمير المؤمنين ؟ قال: بشر. قالوا: ما هذا كلام مثلك قال: إن الله تعالى يقول: " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " فالخير الصحة والغنى والشر المرض والفقر. وفيه: في قوله: " أفلا يرون أنا نأتي الارض ننقصها من أطرافها " وقيل: بموت العلماء وروي ذلك عن أبي عبد الله عليه السلام قال: نقصانها ذهاب عالمها. أقول ؟ وتقدم في تفسير سورة الاعراف كلام في معنى الحديث. وفي التوحيد عن علي عليه السلام في حديث - وقد سأله رجل عما اشتبه عليه من الايات - وأما قوله تبارك وتعالى " ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا " فهو ميزان العدل يؤخذ به الخلائق يوم القيامة يدين الله تبارك وتعالى الخلق بعضهم ببعض بالموازين. وفي المعاني بإسناده إلى هشام قال ؟ سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عز وجل ؟ " ونضع الموازين ؟ ؟ القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا " قال ؟ هم الانبياء والاوصياء. أقول: ورواه في الكافي بسند فيه رفع عنه عليه السلام، وقد أوردنا روايات أخر في هذه المعاني في تفسير سورة الاعراف وتكلمنا فيها بما تيسر. * * * ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين (48) - الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون (49) - وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفانتم له منكرون (50) - ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين (51) - إذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون (52) - قالوا وجدنا آباءنا
________________________________________
[ 294 ]
لها عابدين (53) - قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين (54) - قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين (55) - قال بل ربكم رب السماوات والارض الذي فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين (56) - وتالله لا كيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين (57) - فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون (58) - قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين (59) - قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم (60) - قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون (61) - قالوا ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم (62) - قال بل فعله كبيرهم هذا فسئلوهم إن كانوا ينطقون (63) - فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا إنكم أنتم الظالمون (64) - ثم نكسوا على رؤسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون (65) - قال افتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم (66) - أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون (67) - قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين (68) - قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم (69) وأرادوا به كيدا فجعلناهم الاخسرين (70) - ونجيناه ولوطا إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين (71) - ووهبنا
________________________________________
[ 295 ]
له إسحق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا صالحين (72) - وجعلناهم أئمه يهدون بأمرنا وأوصينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلوة وايتاء الزكوة وكانوا لنا عابدين (73) - ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين (74) - وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين (75) - ونوحا إذ نادى من قبل فاستجبنا له فنجيناه وأهله من الكرب العظيم (76) - ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوم سوء فاغرقناهم أجمعين (77). (بيان) لما استوفى الكلام في النبوة بانيا لها على المعاد عقبه بالاشارة إلى قصص جماعة من أنبيائه الكرام الذين بعثهم إلى الناس وأيدهم بالحكمة والشريعة وأنجاهم من أيدي ظالمي أممهم وفي ذلك تأييد لما مر في الايات من حجة التشريع وإنذار وتخويف للمشركين وبشرى للمؤمنين. وقد عد فيها من الانبياء موسى وهارون وإبراهيم ولوطا وإسحاق ويعقوب ونوحا وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذا الكفل وذا النون وزكريا ويحيى وعيسى سبعة عشر نبيا، وقد ذكر في الايات المنقولة سبعة منهم فذكر أولا موسى وهارون وعقبهما بإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط وهم قبلهما ثم عقبهم بنوح وهو قبلهم. قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكرا للمتقين رجوع بوجه إلى تفصيل ما أجمل في قوله سابقا: " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم " الاية بذكر ما أونى النبيون من المعارف والشرائع وأيدوا بإهلاك أعدائهم بالقضاء بالقسط.
________________________________________
[ 296 ]
والاية التالية تشهد أن المراد بالفرقان والضياء والذكر التوراة آتاها الله موسى وأخاه هارون شريكه في النبوة. والفرقان مصدر كالفرق لكنه أبلغ من الفرق، وذكر الراغب أنه على ما قيل اسم لا مصدر وتسمية التوراة الفرقان لكونها فارقة أو لكونها يفرق بها بين الحق والباطل في الاعتقاد والعمل والاية نظيره قوله: " ولقد آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون " البقرة: 53 وتسميتها ضياء لكونها مضيئه لمسيرهم إلى السعادة والفلاح في الدنيا والاخرة وتسميتها ذكرا لاشتمالها على ما يذكر به الله من الحكم والمواعظ والعبر. ولعل كون الفرقان أحد أسماء التوراة هو الموجب لاتيانه باللام بخلاف ضياء وذكر، وبوجه آخر هي فرقان للجميع لكنها ضياء وذكر للمتقين خاصة لا ينتفع بها غيرهم ولذا جئ بالضياء والذكر منكرين ليتقيدا بقوله: " للمتقين " بخلاف الفرقان وقد سميت التوراة نورا وذكرا في قوله تعالى: " فيها هدى ونور " المائدة: 44 وقوله: " فأسالوا أهل الذكر الايه " 7 من السورة. قوله تعالى: " وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون " الاشارة بهذا إلى القرآن وإنما سمي ذكرا مباركا لانه ثابت دائم كثير البركات ينتفع به المؤمن به والكافر في المجتمع البشري وتتنعم به الدنيا سواء عرفته أو أنكرته أقرت بحقه أو جحدته. يدل على ذلك تحليل ما نشاهد اليوم من آثار الرشد والصلاح في المجتمع العام البشرى والرجوع بها القهقرى إلى عصر نزول القرآن فما قبله فهو الذكر المبارك الذي يسترشد بمعناه وان جهل الجاهلون لفظه، وأنكر الجاحدون حقه وكفروا بعظيم نعمته، وأعانهم على ذلك المسلمون بإهمالهم في أمره، وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا. قوله تعالى: " ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين انعطاف إلى ما قبل موسى وهارون ونزول التوراة كما يفيده قوله: " من قبل " والمراد أن إيتاء التوراة لموسى وهارون لم يكن بدعا من أمرنا بل أقسم لقد آتينا قبل ذلك إبراهيم رشده. والرشد خلاف الغي وهو إصابة الواقع، وهو في إبراهيم عليه السلام اهتداؤه
________________________________________
[ 297 ]
الفطري التام إلى التوحيد وسائر المعارف الحقة وإضافة الرشد إلى الضمير الراجع إلى إبراهيم تفيد الاختصاص وتعطى معنى اللياقة ويؤيد ذلك قوله بعده: " وكنا به عالمين " وهو كناية عن العلم بخصوصية حاله ومبلغ استعداده. والمعنى: وأقسم لقد أعطينا إبراهيم ما يستعد له ويليق به من الرشد وإصابة الواقع وكنا عالمين بمبلغ استعداده ولياقته، والذي آتاه الله سبحانه - كما تقدم - هو ما أدركه بصفاء فطرته ونور بصيرته من حقيقة التوحيد وسائر المعارف الحقة من غير تعليم معلم أو تذكير مذكر أو تلقين ملقهن. قوله تعالى: " إذ قال لابيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " التمثال الشئ المصور والجمع تماثيل، والعكوف الاقبال على الشئ وملازمته على سبيل التعظيم له كذا ذكره الراغب فيهما. يريد عليه السلام بهذه التماثيل الاصنام التي كانوا نصبوها للعبادة وتقريب القرابين وكان سؤاله عن حقيقتها ليعرف ما شأنها وقد كان أول وروده في المجتمع وقد ورد في مجتمع ديني يعبدون التماثيل والاصنام، والسؤال مع ذلك مجموع سؤالين اثنين وسؤاله أباه عن الاصنام كان قبل سؤاله قومه على ما أشير إليه في سورة الانعام ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: " قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين " هو جواب القوم ولما كان سؤاله عليه السلام عن حقيقة الاصنام راجعا بالحقيقة إلى سؤال السبب لعبادتهم اياها تمسكوا في التعليل بذيل السنة القومية فذكروا أن ذلك من سنة آبائهم وجدودهم يعبدونها. قوله تعالى: " قال لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين " ووج كونهم في ضلال مبين ما سيورده في محاجة القوم بعد كسر الاصنام من قوله: " أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم ". قوله تعالى: " قالوا أجئتنا بالحق أم أنت من اللاعبين " سؤال تعجب واستبعاد وهو شأن المقلد التابع من غير بصيرة إذا صادف إنكار لما هو فيه استبعد ولم يكد يذعن بأنه مما يمكن أن ينكره منكر ولذا سألوه أجئتنا بالحق أم أنت من الاعبين والمراد بالحق - على ما يعطيه السياق - الجد أي أتقول ما تقوله جدا أم تلعب به ؟
________________________________________
[ 298 ]
قوله تعالى: " قال بل ربكم رب السماوات والارض الذى فطرهن وأنا على ذلكم من الشاهدين " هو عليه السلام - كما ترى - يحكم بأن ربهم هو رب السماوات وأن هذا الرب هو الذي فطر السماوات والارض وهو الله سبحانه، وفي ذلك مقابلة تامة لمذهبهم في الربوبية والالوهية فإنهم يرون أن لهم إلها أو آلهة غير ما للسماوات والارض من الاله أو الالهة وهم جميعا غير الله سبحانه ولا يرونه تعالى إلها لهم ولا لشئ من السماوات والارض بل يعتقدون أنه إله الالهة ورب الارباب وفاطر الكل. فقوله: " بل ربكم رب السماوات والارض الذي فطرهن " رد لمذهبهم في الالوهية بجميع جهاته وإثبات أن لا إله إلا الله وهو " التوحيد. ثم كشف عليه السلام بقوله: " وأنا على ذلكم من الشاهدين " عن أنه معترف مقر بما قاله ملتزم بلوازمه وآثاره شاهد عليه شهادة إقرار والتزام فإن العلم بالشئ غير الالتزام به وربما تفارقا كما قال تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم " النمل: 14. وبهذا التشهد يتم الجواب عن سؤالهم أهو مجد فيما يقول أم لاعب والجواب لا بل أعلم بذلك وأتدين به. هذا ما يعطيه السياق في معنى الاية ولهم في تفسيرها أقاويل أخر وكذا في معاني آيات القصة السابقة واللاحقة وجوه أخر أضربنا عنها لعدم جدوى في التعرض لها فلا سياق الايات يساعد عليها ولا مذاهب الوثنية توافقها. قوله تعالى: " وتالله لا كيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين " معطوف على قوله: " بل ربكم " الخ أي قال لا كيدن أصنامكم " الخ " والكيد التدبير الخفي على الشئ بما يسوؤه، وفي قوله: بعد أن تولوا مدبرين " دلالة على أنهم كانوا يخرجون من البلد أو من بيت الاصنام أحيانا لعيد كان لهم أو نحوه فيبقى الجو خاليا. وسياق القصة وطبع هذا الكلام يستدعي أن يكون قوله: " وتالله لاكيدن أصنامكم بمعنى تصميمه العزم على أن يكيد أصنامهم فكثيرا ما يعبر عن تصميم العزم بالقول يقال: لافعلن كذا لقول قلته أي لعزم صممته. ومن البعيد أن يكون مخاطبا به القوم وهم أمة وثنية كبيرة ذات قوة وشوكة
________________________________________
[ 299 ]
وحمية وعصبيه ولم يكن فيهم يومئذ - وهو أول دعوة إبراهيم - موحد غيره فلم يكن من الحزم أن يخبر القوم بقصده أصنامهم بالسوء وخاصة بالتصريح على أن ذلك منه بالكيد يوم تخلو البلدة أو بيت الاصنام من الناس كمن يفشى سرا لمن يريد أن يكتمه منه اللهم إلا أن يكون مخاطبا به بعض القوم ممن لا يتعداهم القول وأما إعلان السر لعامتهم فلا قطعا. قوله تعالى: " فجعلهم جذاذا إلا كبيرا لهم لعلهم إليه يرجعون قال الراغب الجذ كسر الشئ وتفتيته ويقال لحجارة الذهب المكسورة ولفتات الذهب جذاذا ومنه قوله تعالى: " فجعلهم جذاذا " انتهى فالمعنى فجعل الاصنام قطعا مكسورة إلا صنما كبيرا من بينهم. وقوله: " لعلهم إليه يرجعون " ظاهر السياق أن هذا الترجي لبيان ما كان يمثله فعله أي كان فعله هذا حيث كسر الجميع إلا واحدا كبيرا لهم فعل من يريد بذلك ان يرى القوم ما وقع على أصنامهم من الجذ ويجدوا كبيرهم سالما بينهم فيرجعوا إليه ويتهموه في أمرهم كمن يقتل قوما ويترك واحدا منهم ليتهم في أمرهم. وعلى هذا فالضمير في قوله: " إليه " راجع إلى " كبيرا لهم " ويؤيد هذا المعنى أيضا قول إبراهيم الاتي: بل فعله كبيرهم هذا " في جواب قولهم: " أأنت فعلت هذا بآلهتنا. والجمهور من المفسرين على أن ضمير " إليه " لابراهيم عليه السلام والمعنى فكسر الاصنام وأبقى كبيرهم لعل الناس يرجعون إلى إبراهيم فيحاجهم ويبكتهم ويبين بطلان ألوهية أصنامهم، وذهب بعضهم إلى أن الضمير لله سبحانه والمعنى فكسرهم وأبقاه لعل الناس يرجعون إلى الله بالعبادة لما رأوا حال الاصنام وتنبهوا من كسرها أنها ليست بآلهة كما كانوا يزعمون. وغير خفي أن لازم القولين كون قوله: " إلا كبيرا لهم مستدركا وإن تكلف بعضهم في دفع ذلك بما لا يغنى عن شئ، وكان المانع لهم من إرجاع الضمير إلى " كبير " عدم استقامة الترجي على هذا التقدير لكنك عرفت أن ذلك لبيان ما يمثله فعله عليه السلام لمن يشهد صورة الواقعة لا لبيان ترج جدي من إبراهيم عليه السلام. قوله تعالى: " قالوا من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين " استفهام بداعي
________________________________________
[ 300 ]
التأسف وتحقيق الامر للحصول على الفاعل المرتكب للظلم ويؤيد ذلك قوله تلوا: " قالوا سمعنا فتى يذكرهم " الخ فقول بعضهم: إن " من موصولة ليس بسديد. وقوله: " إنه لمن الظالمين قضاء منهم بكونه ظالما يجب أن يساس على ظلمه إذ قد ظلم الالهة بالتعدي إلى حقهم وهو التعظيم وظلم الناس بالتعدي إلى حقهم وهو احترام آلهتهم وتقديس مقدساتهم وظلم نفسه بالتعدي إلى ما ليس له بحق وارتكاب ما لم يكن له أن يرتكبه. قوله تعالى: " قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم " المراد بالذكر - على ما يستفاد من المقام - الذكر بالسوء أي سمعنا فتى يذكر الالهة بالسوء فإن يكن فهو الذي فعل هذا بهم إذ لا يتجرئ لارتكاب مثل هذا الجرم إلا مثل ذاك المتجرى. وقوله: " يقال له إبراهيم " برفع إبراهيم وهو خبر لمبتدء محذوف والتقدير هو إبراهيم كذا ذكره الزمخشري. قوله تعالى: " قالوا فأتوا به على أعين الناس لعلهم يشهدون " المراد بإتيانه على أعين الناس إحضاره في مجمع من الناس ومرآهم وهو حيث كسرت الاصنام كما يظهر من قول إبراهيم عليه السلام: " بل فعله كبيرهم هذا " بالاشارة إلى كبير الاصنام. وكأن المراد بشهادتهم أن يشهدوا عليه بأنه كان يذكرهم بالسوء فيكون ذلك ذريعة إلى أخذ الاقرار منه بالجذ والكسر، وأما ما قيل: أن المراد شهادتهم عقاب إبراهيم على ما فعل فبعيد. قوله تعالى: " قالوا ءأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم الاستفهام - كما قيل - للتقرير بالفاعل فإن أصل الفعل مفروغ عنه معلوم الوقوع، وفي قولهم " بآلهتنا " تلويح إلى أنهم ما كانوا يعدونه من عبدة الاصنام. قوله تعالى: " قال بل فعله كبيرهم هذا فأسالوهم إن كانوا ينطقون ما أخبر عليه السلام به بقوله: " بل فعله كبيرهم هذا " دعوى بداعي إلزام الخصم وفرض وتقدير قصد به إبطال ألوهيتها كما سيصرح به في قوله: " أفتعبدون ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم " الخ. وليس بخبر جدي البتة، وهذا كثير الورود في المخاصمات والمناظرات


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page