• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 251 الي 275


[ 251 ]
قوله تعالى: " وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون " الاسرار يقابل الاعلان فإسرار النجوى هو المبالغة في كتمان القول وإخفائه فإن إسرار القول يفيد وحده معنى النجوى فإضافته إلى النجوى تفيد المبالغة. وضمير الفاعل في " أسروا النجوى " راجع إلى الناس غير أنه لما لم يكن الفعل فعلا لجميعهم ولا لاكثرهم فإن فيهم المستضعف ومن لا شغل له به وإن كان منسوبا إلى الكل من جهة ما في مجتمعهم من الغفلة والاعراض أوضح النسبة بقوله: " الذين ظلموا " فهو عطف بيان دل به على أن النجوى إنما كان من الذين ظلموا منهم خاصة. وقوله: " هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون " هو الذي تناجوا به، وقد كانوا يصرحون بتكذيب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعلنون بأنه بشر وأن القرآن سحر من غير أن يخفوا شيئا من ذلك لكنهم إنما أسروه في نجواهم إذ كان ذلك منهم شورى يستشير بعضهم فيه بعضا ماذا يقابلون به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويجيبون عما يسالهم من الايمان بالله وبرسالته ؟ فما كان يسعهم إلا كتمان ما يذكر فيما بينهم وأن كانوا أعلنوا به بعد الاتفاق على رد الدعوة. وقد اشتمل نجواهم على قولين قطعوا عليهما أو ردوهما بطريق الاستفهام الانكاري وهما قوله: " هل هذا إلا بشر مثلكم " وقد اتخذوه حجة لابطال نبوته وهو أنه كما تشاهدونه - وقد أتوا باسم الاشارة دون الضمير فقالوا: " هل هذا ؟ ولم يقولوا: هل هو ؟ للدلالة على العلم به بالمشاهدة - بشر مثلكم لا يفارقكم في شئ يختص به فلو كان ما يدعيه من الاتصال بالغيب والارتباط باللاهوت حقا لكان عندكم مثله لانكم بشر مثله، فإذ ليس عندكم من ذلك نبأ فهو مثلكم لا خبر عنده فليس بنبي كما يدعى. وقولهم: " أفتأتون السحر وأنتم تبصرون " وهو متفرع بفاء التفريع على نفي النبوة بإثبات البشرية فيرجع المعنى إلى أنه لما لم يكن نبيا متصلا بالغيب فالذي أتاكم به مدعيا أنه آية النبوة ليس بآية معجزة من الله بل سحر تعجزون عن مثله، ولا ينبغي لذي بصر سليم أن يذعن بالسحر ويؤمن بالساحر. قوله تعالى: " قال ربى يعلم القول في السماء والارض وهو السميع العليم " أي إنه تعالى محيط علما بكل قول سرا أو جهرا وفي أي مكان وهو السميع لاقوالكم
________________________________________
[ 252 ]
العليم بأفعالكم فالامر إليه وليس لي من الامر شئ. والاية حكاية قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهم لما أسروا النجوى وقطعوا على تكذيب نبوته ورمي آيته وهو كتابه بالسحر وفيها إرجاع الامر وإحالته إلى الله سبحانه كما في غالب الموارد التي اقترحوا عليه فيها الاية وكذلك سائر الانبياء كقوله: " قل إنما العلم عند الله وإنما أنا نذير مبين " الملك: 26، وقوله: " قال إنما العلم عند الله وأبلغكم ما أرسلت به " الاحقاف: 23، وقوله: " قل إنما الايات عند الله وإنما أنا نذير مبين " العنكبوت: 50. قوله تعالى: " بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الاولون " تدرج منهم في الرمي والتكذيب، فقولهم: أضغاث أحلام أي تخاليط من رؤى غير منظمة رآها فحسبها نبوة وكتابا فأمره أهون من السحر، وقولهم: " بل افتراه " ترق من سابقه فإن كونه أضغاث أحلام كان لازمه التباس الامر واشتباهه عليه لكن الافتراء يستلزم التعمد، وقولهم: " بل هو شاعر " ترق من سابقه من جهة أخرى فإن المفتري إنما يقول عن ترو وتدبر فيه لكن الشاعر إنما يلفظ ما يتخيله ويروم ما يزينه له إحساسه من غير ترو وتدبر فربما مدح القبيح على قبحه وربما ذم الجميل على جماله، وربما أنكر الضروري وربما أصر على الباطل المحض، وربما صدق الكذب أو كذب الصدق. وقولهم: " فليأتنا بآية كما أرسل الاولون " الكلام متفرع على ما تقدمه والمراد بالاولين الانبياء الماضون أي إذا كان هذا الذي أتى به وهو يعده آية وهو القرآن أضغاث أحلام أو افتراء أو شعر فليس يتم بذلك دعواه النبوة ولا يقنعنا ذلك فليأتنا بآية كما أتى الاولون من الايات مثل الناقة والعصا وليد البيضاء. وفي قوله: " كما أرسل الاولون " وكان الظاهر من السياق أن يقال: كما أتى بها الاولون إشارة إلى أن الاية من لوازم الارسال فلو كان رسولا فليقتد بالاولين فيما احتجوا به على رسالتهم. والمشركون من الوثنيين منكرون للنبوة من رأس فقول هؤلاء " فليأتنا بآية كما أرسل الاولون دليل ظاهر على أنهم متحيرون في أمرهم لا يدرون ما يصنعون ؟ فتارة يواجهونة بالتهكم وأخرى يتحكمون وثالثة بما يناقض معتقد أنفسهم فيقترحون
________________________________________
[ 253 ]
آية من آيات الاولين وهم لا يؤمنون برسالتهم ولا يعترفون بآياتهم. وفي قولهم: " فليأتنا بآية كما أرسل الاولون "، مع ذلك وعد ضمني بالايمان لو أتى بآية من الايات المقترحه. قوله تعالى: " ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون " رد وتكذيب لما يشتمل عليه قولهم: " فليأتنا بآية كما أرسل الاولون " من الوعد الضمني بالايمان لو أتى بشئ مما اقترحوه من آيات الاولين. ومحصل المعنى على ما يعطيه السياق أنهم كاذبون في وعدهم ولو أنزلنا شيئا مما اقترحوه من آيات الاولين لم يؤمنوا بها وكان فيها هلاكهم فإن الاولين من أهل القرى اقترحوها فأنزلناها فلم يؤمنوا بها فأهلكناهم، وطباع هؤلاء طباع أوليهم في الاسراف والاستكبار فليسوا بمؤمنين فالاية بوجه مثل قوله: " فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل " يونس: 74. وعلى هذا ففي الاية حذف وإيجاز والتقدير نحو من قولنا ما آمنت قبلهم أهل قرية اقترحوا الايات فأنزلناها عليهم وأهلكناهم لما لم يؤمنوا بها بعد النزول أفهم يعني مشركي العرب يؤمنون وهم مثلهم في الاسراف فتوصيف القرية بقوله: " أهلكناها " توصيف بآخر ما اتصفت بها للدلالة على أن عاقبة إجابة ما اقترحوه هي الهلاك لا غير. قوله تعالى: " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فأسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون جواب عما احتجوا به على نفي نبوته صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم: " هل هذا إلا بشر مثلكم "، بأن الماضين من الانبياء لم يكونوا إلا رجالا من البشر فالبشرية لا تنافي النبوة. وتوصيف " رجالا " بقوله: " نوحي إليهم " للاشارة إلى الفرق بين الانبياء وغيرهم ومحصلة أن الفرق الوحيد بين النبي وغيره هو أنا نوحي إلى الانبياء دون غيرهم والوحي موهبة ومن خاص لا يجب أن يعم كل بشر فيكون إذا تحقق تحقق في الجميع وإذا لم يوجد في واحد لم يوجد في الجميع حتى تحكموا بعدم وجدانه عندكم على عدم وجوده عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك كسائر الصفات الخاصة التي لا توجد إلا في الواحد بعد الواحد من البشر مما لا سبيل إلى إنكارها. فالاية تنحل إلى حجتين تقومان على إبطال استدلالهم ببشريته على نفي نبوته
________________________________________
[ 254 ]
إحداهما نقض حجتهم بالاشارة إلى رجال من البشر كانوا أنبياء فلا منافاة بين البشرية والنبوة. والثانية من طريق الحل وهو أن الفارق بين النبي وغيره ليس وصفا لا يوجد في البشر أو إذا وجد وجد في الجميع بل هو الوحي الالهي وهو كرامة ومن خاص من الله يختص به من يشاء فالاية بهذا النظر نظيرة قوله: " قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا - إلى أن قال -: قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء " إبراهيم: 11. وقوله: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " تأييد وتحكيم لقوله: " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا " أي إن كنتم تعلمون به فهو وإن لم تعلموا فارجعوا إلى أهل الذكر واسألوهم هل كانت الانبياء الاولون إلا رجالا من البشر ؟ والمراد بالذكر الكتاب السماوي وبأهل الذكر أهل الكتاب فإنهم كانوا يشايعون المشركين في عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان المشركون يعظمونهم وربما شاوروهم في أمره وسألوهم عن مسائل يمتحنونه بها وهم القائلون للمشركين على المسلمين: " هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا " النساء: 51، والخطاب في قوله " فاسألوا " الخ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وكل من يقرع سمعه هذا الخطاب عالما كان أو جاهلا وذلك لتأييد القول وهو شائع في الكلام. قوله تعالى: " وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين - إلى قوله - المسرفين " أي هم رجال البشر وما سلبنا عنهم خواص البشرية بأن نجعلهم جسدا خاليا من روح الحياة لا يأكل ولا يشرب ولا عصمناهم من الموت فيكونوا خالدين بل هم بشر ممن خلق يأكلون الطعام وهو خاصة ضرورية ويموتون وهو مثل الاكل. قوله تعالى: " ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين " عطف على قوله المتقدم: " وما أرسلنا قبلك إلا رجالا " وفيه بيان عاقبة إرسالهم وما انتهى إليه أمر المسرفين من أممهم المقترحين عليهم الايات، وفيه أيضا توضيح ما أشير إليه من هلاكهم في قوله: " من قرية أهلكناها " وتهديد للمشركين. والمراد بالوعد في قوله: " ثم صدقناهم الوعد " ما وعدهم من النصرة لدينهم وإعلاء كلمتهم كلمة الحق كما في قوله: " ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم
________________________________________
[ 255 ]
المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون " الصافات " 173، إلى غير ذلك من الايات. وقوله: فأنجيناهم ومن نشاء " أي الرسل والمؤمنين وقد وعدهم النجاه كما يدل عليه قوله: " حقا علينا ننج المؤمنين " يونس: 103، والمسرفون هم المشركون المتعدون طور العبودية، والباقي ظاهر. قوله تعالى: " لقد أنزلنا اليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون امتنان منه تعالى بإنزال القرآن على هذه الامة فالمراد بذكرهم الذكر المختص بهم اللائق بحالهم وهو آخر ما تسعه حوصلة الانسان من المعارف الحقيقية العالية وأقوم ما يمكن أن يجري في المجتمع البشري من الشريعة الحنيفية والخطاب لجميع الامه. وقيل: المراد بالذكر الشرف، والمعنى: فيه شرفكم إن تمسكتم به تذكرون به كما فسر به قوله تعالى: " وإنه لذكر لك ولقومك: الزخرف: 44، والخطاب لجميع المؤمنين أو للعرب خاصة لان القرآن إنما نزل بلغتهم وفيه بعد. قوله تعالى: " وكم قصمنا من قرية كانت ظالمه " إلى آخر الايات الخمس، القصم في الاصل الكسر، يقال: قصم ظهره أي كسره، ويكنى به عن الهلاك، والانشاء الايجاد، والاحساس الادراك من طريق الحس، والبأس العذاب، والركض العدو بشدة الوطئ، والاتراف التوسعة في النعمة، والحصيد المقطوع ومنه حصاد الزرع، والخمود السكون والسكوت. والمعنى " وكم قصمنا وأهلكنا " من قرى " أي أهلها " كانت ظالمة " لنفسها بالاسراف والكفر " وأنشأنا " وأوجدنا قوما آخرين فلما أحسوا " ووجدوا بالحس أي أهل القرية الظالمة " بأسنا " وعذابنا " إذا هم منها يركضون " ويعدون هاربين كالمنهزمين فيقال لهم توبيخا وتقريعا " لا تركضوا منها وارجعوا إلى ما أترفتم فيه " من النعم " ومساكنكم " وإلى مساكنكم " لعلكم تسألون أي لعل المساكين وأرباب الحوائج يهجمون عليكم بالسؤال فتستكبروا عليهم وتختالوا أو تحتجبوا عنهم وهذا كناية عن اعتزازهم واستعلائهم وعد المتبوعين أنفسهم أربابا للتابعين من دون الله. " قالوا " تندما يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك وهي كلمتهم يا ويلنا المشتملة علي الاعتراف بربوبيته تعالى وظلم أنفسهم " دعواهم حتى جعلناهم حصيدا "
________________________________________
[ 256 ]
محصودا مقطوعا " خامدين " ساكنين ساكتين كما تخمد النار لا يسمع لهم صوت ولا يذكر لهم صيت. وقد وجه قوله: " لعلكم تسألون " بوجوه اخرى بعيدة من الفهم تركنا التعرض لها. (بحث روائي) في الاحتجاج روي عن صفوان بن يحيى قال: قال أبو الحسن الرضا عليه السلام لابي قرة صاحب شبرمة: التوراة والانجيل والزبور والفرقان وكل كتاب أنزل كان كلام الله أنزله للعالمين نورا وهدي، وهي كلها محدثة وهي غير الله حيث يقول: " أو يحدث لهم ذكرا " وقال: " وما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون " والله أحدث الكتب كلها التي أنزلها. فقال أبو قرة: فهل تفنى ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: أجمع المسلمون على أن ما سوى الله فعل الله والتوراة والانجيل والزبور والفرقان فعل الله، ألم تسمع الناس يقولون: رب القرآن ؟ وإن القرآن يقول يوم القيامة: يا رب هذا فلان - وهو أعرف به منه - قد أظمأت نهاره وأصهرت ليله فشفعني فيه ؟ وكذلك التوراة والانجيل والزبور كلها محدثة مربوبة أحدثها من ليس كمثله شئ لقوم يعقلون، فمن زعم أنهن لم يزلن فقد أظهر أن الله ليس بأول قديم ولا واحد، وأن الكلام لم يزل معه وليس له بدء الحديث. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " لاهية قلوبهم " قال: من التلهي. وفيه في قوله: " ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون " قال: كيف يؤمنون ولم يؤمن من كان قبلهم بالايات حتى هلكوا. وفيه بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " من المعنون بذلك ؟ قال: نحن. قلت: فأنتم المسؤولون قال: نعم. قلت: ونحن السائلون ؟ قال: نعم. قلت: فعلينا أن نسألكم ؟ قال نعم، قلت: فعليكم أن تجيبونا قال: لا ذاك الينا أن شئنا فعلنا وإن شئنا تركنا ثم قال: هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب. أقول: وروى هذا المعنى الطبرسي في مجمع البيان عن علي وأبي جعفر عليهما السلام قال: ويؤيده أن الله تعالى سمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرا رسولا.
________________________________________
[ 257 ]
وهو من الجري ضرورة أن الاية ليست بخاصة والذكر أما القرآن أو مطلق الكتب السماوية أو المعارف الالهية وهم على أي حال أهله وليس بتفسير للاية بحسب مورد النزول إذ لا معنى لارجاع المشركين إلى أهل الرسول أو أهل القرآن وهم خصماؤهم ولو قبلوا منهم لقبلوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه. وفي روضة الكافي كلام لعلي بن الحسين عليه السلام في الوعظ والزهد في الدنيا يقول فيه: ولقد أسمعكم الله في كتابه ما قد فعل بالقوم الظالمين من أهل القرى قبلكم حيث قال: " وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة " وإنما عنى بالقرية أهلها حيث يقول: " وأنشأنا بعدها قوما آخرين " فقال عزوجل: " فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون " يعني يهربون قال: " لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون فلما أتاهم العذاب قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين " وأيم الله إن هذه عظة لكم وتخويف إن اتعظتم وخفتم. وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين (16) - لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين (17) - بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون (18) - وله من في السموات والارض ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون (19) - يسبحون الليل والنهار لا يفترون (20) - أم اتخذوا آلهة من الارض هم ينشرون (21) - لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون (22) - لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون (23). أم اتخذوا من دونه آلهة قل
________________________________________
[ 258 ]
هاتوا برهانكم هذا ذكر من معي وذكر من قبلي بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون (24) - وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون (25) - وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون (26) - لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (27) - يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون (28) - ومن يقل منهم إنى إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين (29) - أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شئ حي أفلا يؤمنون (30) - وجعلنا في الارض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون (31) - وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون (32) - وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر كل في فلك يسبحون (33) (بيان) أول الايات يوجه عذاب القرى الظالمة بنفي اللعب عن الخلقة وأن الله لم يله بايجاد السماء والارض وما بينهما حتى يكونوا مخلين بأهوائهم يفعلون ما يشاؤن ويلعبون كيفما أرادوا من غير أن يحاسبوا على أعمالهم بل إنما خلقوا ليرجعوا إلى ربهم فيحاسبوا
________________________________________
[ 259 ]
فيجازوا على حسب أعمالهم فهم عباد مسؤلون إن تعدوا عن طور العبودية أوخذوا بما تقتضيه الحكمة الالهية وإن الله لبالمرصاد. وإذ كان هذا البيان بعينه حجة على المعاد انتقل الكلام إليه وأقيمت الحجة عليه فيثبت بها المعاد وفي ضوئه النبوة لان النبوة من لوازم وجوب العبودية وهو من لوازم ثبوت المعاد فالايتان الاوليان كالرابط بين السياق المتقدم والمتأخر. والايات تشتمل على بيان بديع لاثبات المعاد وقد تعرض فيها لنفى جميع الاحتمالات المنافية للمعاد كما ستعرف. قوله تعالى: " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين الايتان توجهان نزول العذاب على القرى الظالمة التى ذكر الله سبحانه قصمها، وهما بعينهما - على ما يعطيه السياق السابق حجة برهانية على ثبوت المعاد ثم في ضوئه النبوة وهي الغرض الاصيل من سرد الكلام في السورة. فمحصل ما تقدم - أن هناك معادا سيحاسب فيه أعمال الناس فمن الواجب أن يميزوا بين الخير والشر وصالح الاعمال وطالحها بهداية إلهية وهي الدعوة الحقة المعتمدة على النبوه ولو لا ذلك لكانت الخلقة عبثا وكان الله سبحانه لاعبا لاهيا بها تعالى عن ذلك. فمقام الايتين - كما ترى - مقام الاحتجاج على حقية المعاد لتثبت بها حقية دعوة النبوة لان دعوة النبوة - على هذا - من مقتضيات المعاد من غير عكس. وحجة الايتين - كما ترى - تعتمد على معنى اللعب واللهو واللعب هو الفعل المنتظم الذي له غاية خيالية غير واقعية كملاعب الصبيان التي لا أثر لها إلا مفاهيم خياليه من تقدم وتأخر وربح وخسارة ونفع وضرر كلها بحسب الفرض والتوهم وإذ كان اللعب بما تنجذب النفس إليه يصرفها عن الاعمال الواقعية فهو من مصاديق اللهو هذا. فلو كان خلق العالم المشهود لا لغاية يتوجه إليها ويقصد لاجلها وكان الله سبحانه لا يزال يوجد ويعدم ويحيى ويميت ويعمر ويخرب لا لغاية تترتب على هذه الافعال ولا لغرض يعمل لاجله ما يعمل بل إنما يفعلها لاجل نفسها ويريد أن يراها واحدا بعد واحد فيشتغل بها دفعا لضجر أو ملل أو كسل أو فرارا من الوحدة أو انطلاقا من الخلوة كحالنا نحن إذا اشتغلنا بعمل نلعب به ونتلهى لندفع به نقصا طرا علينا وعارضة سوء لا نستطيبها لانفسنا من ملال أو كلال أو كسل أو فشل ونحو ذلك.
________________________________________
[ 260 ]
فاللعب بنظر آخر لهو، ولذلك نراه سبحانه عبر في الاية الاولى باللعب " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما لاعبين " ثم بدله - في الاية الثانية التي هي في مقام التعليل لها - لهوا فوضع اللهو مكان اللعب لتتم الحجة. وتلهيه تعالى بشئ من خلقه محال لان اللهو لا يتم لهوا إلا برفع حاجة من حوائج اللاهي ودفع نقيصة من نقائصه نفسه فهو من الاسباب المؤثرة، ولا معنى لتأثير خلقه تعالى فيه واحتياجه إلى ما هو محتاج من كل جهة إليه فلو فرض تلهيه تعالى بلهو لم يجز أن يكون أمرا خارجا من نفسه، وخلقه فعله، وفعله خارج من نفسه، بل وجب أن يكون بأمر غير خارج من ذاته. وبهذا يتم البرهان على أن الله ما خلق السماء والارض وما بينهما لعبا ولهوا وما أبدعها عبثا ولغير غاية وغرض، وهو قوله: " لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا ". وأما اللهو بأمر غير خارج من ذاته فهو وإن كان محالا في نفسه لاستلزامه حاجة في ذاته إلى ما يشغله ويصرفه عما يجده في نفسه فيكون ذاته مركبة من حاجة حقيقية متقررة فيها وأمر رافع لتلك الحاجة، ولا سبيل للنقص والحاجة إلى ذاته المتعالية لكن البرهان لا يتوقف عليه لانه في مقام بيان أن لا لعب ولا لهو في فعله تعالى وهو خلقه، وأما أنه لا لعب ولا لهو في ذاته تعالى فهو خارج عن غرض المقام وإنما أشير إلى نفي هذا الاحتمال بالتعبير بلفظة " لو " الدالة على الامتناع ثم أكده بقوله: " إن كنا فاعلين " فافهم ذلك. وبهذا البيان يظهر أن قوله: " لو أردنا " الخ، في مقام التعليل للنفي في قوله: " وما خلقنا " الخ، وإن قوله: " من لدنا " معناه من نفسنا، وفي مرحلة الذات دون مرحلة الخلق الذي هو فعلنا الخارج من ذاتنا، وأن قوله: " إن كنا فاعلين " إشارة استقلالية إلى ما يدل عليه لفظة " لو " في ضمن الجملة فيكون نوعا من التأكيد. وبهذا البيان يتم البرهان على المعاد ثم النبوة ويتصل الكلام بالسياق المتقدم ومحصله أن للناس رجوعا إلى الله وحسابا على أعمالهم ليجازوا عليها ثوابا وعقابا فمن الواجب أن يكون هناك نبوة ودعوة ليدلوا بها إلى ما يجازون عليه من الاعتقاد والعمل فالمعاد هو الغرض من الخلقة الموجب للنبوة ولو لم يكن معاد لم يكن للخلقة غرض وغاية فكانت الخلقة لعبا ولهوا منه تعالى وهو غير جائز، ولو جاز عليه إتخاذ اللهو لوجب
________________________________________
[ 261 ]
أن يكون بأمر غير خارج من نفسه لا بالخلق الذي هو فعل خارج من ذاته لان من المحال أن يؤثر غيره فيه ويحتاج إلى غيره بوجه وإذ لم يكن الخلق لعبا فهناك غاية وهو المعاد ويستلزم ذلك النبوة ومن لوازمه أيضا نكال بعض الظالمين إذا ما طغوا وأسرفوا وتوقف عليه إحياء الحق كما يشير إليه قوله بعد: " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ". وللقوم في تفسير قوله: " لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا " وجوه: منها ما ذكره في الكشاف ومحصله أن قوله: " من لدنا " معناه بقدرتنا، فالمعنى: أن لو شئنا اتخاذ اللهو لاتخذناه بقدرتنا لعمومها لكنا لا نشاء وذلك بدلالة " لو " على الامتناع. وفيه أن القدرة لا تتعلق بالمحال واللهو - ومعناه ما يشغلك عما يهمك بأي وجه وجه - محال عليه تعالى. على أن دلالة " من لدنا " على القدرة لا تخلو من خفاء. ومنها قول بعضهم: المراد بقوله: " من لدنا " من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لانه نقص فكان ستره أولى. وفيه أن ستر النقص إنما هو للخوف من اللائمة عليه وإنما يخاف من لا يخلو من سمة العجز لا من هو على كل شئ قدير فإذ رفع نقصا باللهو فليرفع آخر بما يناسبه، على أنه إن امتنع عليه إظهاره لكونه نقصا فامتناع أصله عليه لكونه نقصا أقدم من امتناع الاظهار فيؤول المعنى إلى أنا لو فعلنا هذا المحال لسترناه عنكم لان إظهاره محال وهو كما ترى. ومنها قول بعضهم: إن المراد باللهو المرأة والولد والعرب تسمي المرأة لهوا والولد لهوا لان المرأة والولد يستروح بهما واللهو ما يروح النفس، فالمعنى: لو أردنا أن نتخذ صاحبة وولدا - أو أحدهما - لاتخذناه من المقربين عندنا فهو كقوله: " لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء. وقيل: لاتخذناه من المجردات العالية لا من الاجسام والجسمانيات السافلة وقيل: لاتخذناه من الحور العين، وكيف كان فهو رد على مثل النصارى المثبتين للصاحبة والولد وهما مريم والمسيح عليهما السلام. وفيه أنه إن صح من حيث اللفظ استلزم انقطاع الكلام عن السياق السابق.
________________________________________
[ 262 ]
ومنها ما عن بعضهم أن المراد بقوله: " من لدنا " من جهتنا، ومعنى الاية. لو أردنا اتخاذ لهو لكان اتخاذ لهو من جهتنا أي لهوا إلهيا أي حكمة اتخذتموها لهوا من جهتكم وهذا عين الجد والحكمة فهو في معنى لو أردناه لامتنع ومحصلة أن جهته تعالى لا تقبل إلا الجد والحكمة فلو أراد لهوا صار جدا وحكمة أي يستحيل إرادة اللهو منه تعالى. وفيه أنه وإن كان معنى صحيحا في نفسه غير خال من الدقة لكنه غير مفهوم من لفظ الاية كما هو ظاهر. وقوله: " إن كنا فاعلين " الظاهر أن " إن " شرطية كما تقدمت الاشارة إليه، وعلى هذا فجزاؤه محذوف يدل عليه قوله: " لاتخذناه من لدنا "، وقال بعضهم: إن " إن " نافية والجملة نتيجة البيان السابق، وعن بعضهم أن إن النافية لا تفارق غالبا اللام الفارقة، وقد ظهر مما تقدم من معنى الاية أن كون إن شرطية أبلغ بحسب المقام من كونها نافية. قوله تعالى: " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ولكم الويل مما تصفون " القذف الرمي البعيد، والدمغ - على ما في مجمع البيان - شج الرأس حتى يبلغ الدماغ، يقال: دمغه يدمغه إذا أصاب دماغه، وزهوق النفس تلفها وهلاكها، يقال: زهق الشئ يزهق أي هلك. والحق والباطل مفهومان متقابلان، فالحق هو الثابت العين، والباطل ما ليس له عين ثابتة لكنه يتشبه بالحق تشبهأ فيظن أنه هو حتى إذا تعارضا بقى الحق وزهق الباطل كالماء الذي هو حقيقة من الحقائق، والسراب الذي ليس بالماء حقيقة لكنه يتشبه به في نظر الناظر فيحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. وقد عد سبحانه في كلامه أمثلة كثيرة من الحق والباطل فعد الاعتقادات المطابقة للواقع من الحق وما ليس كذلك من الباطل وعد الحياة الاخرة حقا والحياة الدنيا بجميع ما يراه الانسان لنفسه فيها ويسعى له سعيه من ملك ومال وجاه وأولاد وأعوان ونحو ذلك باطلا، وعد ذاته المتعالية حقا وسائر الاسباب التي يغتر بها الانسان ويركن إليها من دون الله باطلا، والايات في ذلك كثيرة لا مجال لنقلها في المقام. والذي يستند إليه تعالى بالاصالة هو الحق دون الباطل كما قال: " الحق من
________________________________________
[ 263 ]
ربك " آل عمران: 60، وقال: " وما خلقنا السماء والارض وما بينهما باطلا " صلى الله عليه وآله وسلم: 27، وأما الباطل من حيث إنه باطل فليس ينتسب إليه بالاستقامة وإنما هو لازم نقص بعض الاشياء إذا قيس الناقص منها إلى الكامل، فالعقائد الباطلة لوازم نقص الادراك وسائر الامور الباطلة لوازم الامور إذا قيس إلى ما هو أكمل منها وهي تنتسب إليه تعالى بالاذن بمعنى أن خلقه تعالى الارض السبخه الصيقلية بحيث يتراءى للناظر في لون الماء وصفائه إذن منه تعالى في أن يتخيل عنده ماء وهو تحقق السراب تحققا تخيليا باطلا. ومن هنا يظهر أن لا شئ في الوجود إلا وفيه شوب بطلان إلا الله سبحانه فهو الحق الذي لا يخالطه بطلان ولا سبيل له إليه قال: " أن الله هو الحق " النور: 25. ويظهر أيضا أن الخلقه على ما فيها من النظام بامتزاج من الحق والباطل، قال تعالى يمثل أمر الخلقة: " أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الارض " الرعد: 17، وتحت هذا معارف جمة. وقد جرت سنة الله تعالى أن يمهل الباطل حتى إذا اعترض الحق ليبطله ويحل محله قذفه بالحق فإذا هو زاهق، فالاعتقاد الحق لا يقطع دابره وإن قلت حملته أحيانا أو ضعفوا، والكمال الحق لا يهلك من أصله وإن تكاثرت أضداده، والنصر الالهي لا يتخطؤ رسله وإن كانوا ربما بلغ بهم الامر إلى أن استيأسوا وظنوا أنهم قد كذبوا. وهذا معنى قوله تعالى: " بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق فإنه إضراب عن عدم خلق العالم لعبا أو عن عدم إرادة اتخاذ اللهو المدلول عليه بقوله: " لو أردنا أن نتخذ لهوا " الخ، وفي قوله: " نقذف " المفيد للاستمرار دلالة على كونه سنة جارية وفي قوله: " نقذف.... فيدمغه " دلالة على علو الحق على الباطل، وفي قوله: " فإذا هو زاهق دلالة على مفاجأة القذف ومباغتته في حين لا يرجى للحق غلب ولا للباطل انهزام والاية مطلقة غير مقيدة بالحق والباطل في الحجة أو في السيرة والسنة أو في الخلقة فلا دليل على تقييدها بشئ من ذلك. والمعنى: ما خلقنا العالم لعبا أو لم نرد اتخاذ اللهو بل سنتنا أن نرمي بالحق على الباطل رميا بعيدا فيهلكه فيفاجئه الذهاب والتلف، فإن كان الباطل حجة أو عقيدة
________________________________________
[ 264 ]
فحجة الحق تبطلها، وأن كان عملا وسنة كما في القرى المسرفة الظالمة فالعذاب المستأصل يستأصله ويبطله، وإن كان غير ذلك فغير ذلك. وقد فسر الاية بعضهم بقوله: لكنا لا نريد اتخاذ اللهو بل شأننا أن نغلب الحق الذي من جملته الجد على الباطل الذي من جملته اللهو، وهو خطأ فإن فيه اعترافا بوجود اللهو ولم يرد في سابق الكلام إلا اللهو المنسوب إليه تعالى الذي نفاه الله عن نفسه فالحق أن الاية لا إطلاق لها بالنسبة إلى الجد واللهو إذ لا وجود للهو حتى تشمله الاية وتشمل ما يقابله. وقوله: " ولكم الويل مما تصفون وعيد للناس المنكرين للمعاد والنبوة على ما تقدم من توضيح مقتضى السياق. ويظهر من الاية حقيقة الرجوع إلى الله تعالى وهو أنه تعالى لا يزال يقذف بالحق على الباطل فيحق الحق ويخلصه من الباطل الذى يشوبه أو يستره حتى لا يبقى إلا الحق المحض وهو الله الحق عز اسمه قال: " ويعلمون أن الله هو الحق المبين " النور: 25، فيسقط يومئذ ما كان يظن للاسباب من استقلال التأثير ويزعم لغيره من القوة والملك والامر كما قال: " لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " الانعام: 94، وقال: " أن القوة لله جميعا " البقرة: 165، وقال: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " المؤمن: 16، وقال: " والامر يومئذ لله " الانفطار: 19، والايات المشيرة إلى هذا المعنى كثيرة. قوله تعالى: " وله من في السموات والارض " دفع لاحد الاحتمالات المنافية للمعاد في الجملة وهو أن لا يتسلط سبحانه على بعض أو كل الناس فينجو من لا يملكه من الرجوع إليه والحساب والجزاء فاجيب بأن ملكه تعالى عام شامل لجميع من في السماوات والارض فله أن يتصرف فيها أي تصرف أراد. ومن المعلوم أن هذا الملك حقيقي من لوازم الايجاد بمعنى قيام الشئ بسببه الموجد له بحيث لا يعصيه في أي تصرف فيه، والايجاد يختص بالله سبحانه لا يشاركه فيه غيره حتى عند الوثنيين المثبتين لالهة أخرى للتدبير والعبادة فكل من في السماوات والارض مملوك لله لا مالك غيره. قوله تعالى: " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون " إلى آخر
________________________________________
[ 265 ]
الاية التالية، قال في مجمع البيان: الاستحسار الانقطاع عن الاعياء يقال: بعير حسير أي معى، وأصله من قولهم: " حسر عن ذراعيه، فالمعنى أنه كشف قوته بإعياء انتهى. والمراد بقوله: " ومن عنده " المخصوصون بموهبة القرب والحضور وربما انطبق على الملائكة المقربين، وقوله يسبحون الليل والنهار لا يفترون بمنزلة التفسير لقوله: " ولا يستحسرون أي لا يأخذهم عي وكلال بل يسبحون الليل والنهار من غير فتور، والتسبيح بالليل والنهار كناية عن دوام التسبيح من غير انقطاع. يصف تعالى حال المقربين من عباده والمكرمين من ملائكته أنهم مستغرقون في عبوديته مكبون على عبادته لا يشغلهم عن ذلك شاغل ولا يصرفهم صارف وكأن الكلام مسوق لبيان خصوصية مالكيته وسلطنته المذكورة في صدر الاية. وذلك أن السنة الجارية بين الموالي وعبيدهم في الملك الاعتباري أن العبد كلما زاد تقربا من مولاه خفف عنه بالاغماض عن كثير من الوظائف والرسوم الجارية على عامة العبيد، وكان معفوا عن الحساب والمؤاخذة وذلك لكون الاجتماع المدني الانساني مبنيا على التعاون بمبادلة المنافع بحسب مساس الحاجة والحاجة قائمة دائما، والمولى أحوج إلى مقربي عبيده من غيرهم كما أن الملك أحوج إلى مقربي حضرته من غيرهم فإذا كان انتفاع المولى من عبده المقرب أكثر من غيره فليكن ما يبذله من الكرامة بإزاء منافع خدمته كذلك ولذا يرفع عنه كثير مما يوضع لغيره ويعفى عن بعض ما يؤاخذ به غيره فإنما هي معاملة ومبايعة. وهذا بخلاف ملكه تعالى لعبيده فإنه ملك حقيقي مالكه في غنى مطلق عن مملوكه، ومملوكه في حاجة مطلقة إلى مالكه ولا يختلف الحال فيه بالقرب والبعد وعلو المقام ودنوه بل كلما زاد العبد فيه قربا كانت العظمة والكبرياء والعزة والبهاء عنده أظهر والاحساس بذلة نفسه ومسكنتها وحاجتها أكثر ويلزمها الامعان في خشوع العبودية وخضوع العبادة. فكأن قوله: " ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون " الخ إشارة إلى أن ملكه تعالى - وقد أشار قبل إلى أنه مقتض للعبادة والحساب والجزاء - على خلاف الملك الدائر في المجتمع الانساني، فلا يطمعن طامع أن يعفى عنه العمل أو الحساب والجزاء.
________________________________________
[ 266 ]
ويمكن أن يكون الجملة في مقام الترقي والمعنى له من في السماوات والارض فعليهم أن يعبدوا وسيحاسبون من غير أستثناء حتى أن من عنده من مقربي عباده وكرام ملائكته لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون بل يسبحونه تسبيحا دائما غير منقطع. وقد تقدم في آخر سورة الاعراف في تفسير قوله تعالى: " إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون " استفادة أن المراد بقوله: " الذين عند ربك " أعم من الملائكة المقربين فلا تغفل. قوله تعالى: " أم اتخذوا آلهة من الارض هم ينشرون الانشار إحياء الموتى فالمراد به المعاد، وفي الاية دفع احتمال آخر ينافي المعاد والحساب المذكور سابقا وهو الرجوع إلى الله بأن يقال: إن هناك آلهة أخرى دون الله يبعثون الاموات ويحاسبونهم وليس لله سبحانه من أمر المعاد شئ حتى نخافه ونضطر إلى إجابة رسله واتباعهم في دعوتهم بل نعبدهم ولا جناح. وتقييد قوله: " أم اتخذوا آلهة بقوله: " في الارض " قيل: ليشير به إلى أنهم إذا كانوا من الارض كان حكمهم حكم عامة أهل الارض من الموت ثم البعث فمن الذى يميتهم ثم يبعثهم. ويمكن أن يكون المراد اتخاذ آلهة من جنس الارض كالاصنام المتخذة من الحجارة والخشب والفلزات فيكون فيه نوع من التهكم والتحقير ويؤول المعنى إلى أن الملائكة الذين هم الالهة عندهم إذا كانوا من عباده تعالى وعباده وانقطع هؤلاء عنهم ويئسوا من ألوهيتهم ليلتجئوا إليهم في أمر المعاد فهل يتخذون أصنامهم وتماثيلهم آلهة من دون الله مكان أرباب الاصنام والتماثيل. قوله تعالى: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون " قد تقدم في تفسير سورة هود وتكررت الاشارة إليه بعده أن النزاع بين الوثنيين والموحدين ليس في وحده الاله وكثرته بمعنى الواجب الوجود الموجود لذاته الموجد لغيره فهذا مما لا نزاع في أنه واحد لا شريك له، وإنما النزاع في الاله بمعنى الرب المعبود والوثنيون على أن تدبير العالم على طبقات أجزائه مفوضة إلى موجودات شريفة مقربين عند الله ينبغى أن يعبدوا حتى يشفعوا لعبادهم عند الله ويقربوهم إليه زلفى كرب السماء ورب الارض ورب الانسان وهكذا وهم آلهة من دونهم والله
________________________________________
[ 267 ]
سبحانه إله الالهة وخالق الكل كما يحكيه عنهم قوله: " ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله " الزخرف: 87 وقوله: " ولئن سألتهم من خلق السماوات والارض ليقولن خلقهن العزيز العليم " الزخرف: 9. والاية الكريمة إنما تنفي الالهة من دون الله في السماء والارض بهذا المعنى لا بمعنى الصانع الموجد الذي لا قائل بتعدده، والمراد بكون الاله في السماء والارض تعلق ألوهيته بالسماء والارض لاسكناه فيهما فهو كقوله تعالى: " هو الذي في السماء إله وفي الارض إله " الزخرف: 84. وتقرير حجة الاية أنه لو فرض للعالم آلهة فوق الواحد لكانوا مختلفين ذاتا متبائنين حقيقة وتباين حقائقهم يقضى بتباين تدبيرهم فيتفاسد التدبيرات وتفسد السماء والارض لكن النظام الجاري نظام واحد متلائم الاجزاء في غاياتها فليس للعالم آلهة فوق الواحد وهو المطلوب. فإن قلت: يكفي في تحقق الفساد ما نشاهده من تزاحم الاسباب والعلل وتزاحمها في تأثيرها في المواد هو التفاسد. قلت: تفاسد العلتين تحت تدبيرين غير تفاسدهما تحت تدبير واحد، ليحدد بعض أثر بعض وينتج الحاصل من ذلك وما يوجد من تزاحم العلل في النظام من هذا القبيل فإن العلل والاسباب الراسمة لهذا النظام العام على اختلافها وتمانعها وتزاحمها لا يبطل بعضها فعالية بعض بمعنى أن ينتقض بعض القوانين الكلية الحاكمة في النظام ببعض فيختلف عن مورده مع اجتماع الشرائط وارتفاع الموانع فهذا هو المراد من إفساد مدبر عمل مدبر آخر بل السببان المختلفان المتنازعان حالهما في تنازعهما حال كفتي الميزان المتنازعتين بالارتفاع والانخفاض فإنهما في عين اختلافهما متحدان في تحصيل ما يريده صاحب الميزان ويخدمانه في سبيل غرضه وهو تعديل الوزن بواسطة اللسان. فإن قلت: آثار العلم والشعور مشهودة في النظام الجاري في الكون فالرب المدبر له يدبره عن علم وإذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يفرض هناك آلهة فوق الواحد يدبرون أمر الكون تدبيرا تعقليا وقد توافقوا على أن لا يختلفوا ولا يتمانعوا في تدبيرهم حفظا للمصلحة. قلت: هذا غير معقول، فإن معنى التدبير التعقلي عندنا هو أن نطبق أفعالنا
________________________________________
[ 268 ]
الصادرة منا على ما تقتضيه القوانين العقلية الحافظة لتلائم أجزاء الفعل وانسياقه إلى غايته، وهذه القوانين العقلية مأخوذه من الحقائق الخارجية والنظام الجاري فيها الحاكم عليها فأفعالنا التعقلية تابعة للقوانين العقلية وهي تابعة للنظام الخارجي لكن الرب المدبر للكون فعله نفس النظام الخارجي المتبوع للقوانين العقلية، فمن المحال أن يكون فعله تابعا للقوانين العقلية وهو متبوع، فافهم ذلك. فهذا تقرير حجة الاية وهي حجة برهانية مؤلفة من مقدمات يقينية تدل على أن التدبير العام الجارى بما يشتمل عليه ويتألف منه من التدابير الخاصة صادر عن مبدأ واحد غير مختلف، لكن المفسرين قرروها حجة على نفي تعدد الصانع واختلفوا في تقريرها وربما أضاف بعضهم إليها من المقدمات ما هو خارج عن منطوق الاية وخاضوا فيها حتى قال القائل منهم إنها حجة إقناعية غير برهانية أوردت إقناعا للعامة. قوله تعالى: " فسبحان الله رب العرش عما يصفون " تنزيه له تعالى عن وصفهم وهو أن معه آلهة هم ينشرون أو أن هناك آلهة من دونه يملكون التدبير في ملكه فالعرش كناية عن الملك، وقوله: عما يصفون " " ما " فيه مصدرية والمعنى: عن وصفهم. وللكلام تتمة ستوافيك. قوله تعالى: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " الضمير في لا يسأل " له تعالى بلا إشكال، والضمير في " وهم يسألون " للالهة الذين يدعونهم أو للالهة والناس جميعا أو للناس فقط، وأحسن الوجوه أولها لان ذلك هو المناسب للسياق والكلام في الالهة الذين يدعونهم من دونه، فهم المسؤولون والله سبحانه لا يسأل عن فعله. والسؤال عن الفعل هو قولنا لفاعله: لم فعلت كذا ؟ وهو سؤال عن جهة المصلحة في الفعل فإن الفعل المقارن للمصلحة لا مؤاخذة عليه عند العقلاء، والله سبحانه لما كان حكيما على الاطلاق كما وصف به نفسه في مواضع من كلامه، والحكيم هو الذي لا يفعل فعلا إلا لمصلحة مرجحة لا جرم لم يكن معنى للسؤال عن فعله بخلاف غيره فإن من الممكن في حقهم أن يفعلوا الحق والباطل وأن يقارن فعلهم المصلحة والمفسدة فجاز في حقهم السؤال حتى يؤاخذوا بالذم العقلي أو العقاب المولوي إن لم يقارن الفعل المصلحة. هذا ما ذكره جماعة من المفسرين في توجيه الاية وهو معنى صحيح في الجملة لكن
________________________________________
[ 269 ]
يبقى عليه أمران: الامر الاول أن الاية مطلقة لا دليل فيها من جهة اللفظ على كون المراد فيها هو هذا المعنى فإن كون المعنى صحيحا في نفسه لا يستلزم كونه هو المراد من الاية. ولذلك وجه بعضهم عدم السؤال بأنه مبني على كون أفعال الله لا تعلل بالاغراض لان الغرض ما يبعث الفاعل إلى الفعل ليستكمل به وينتفع به وإذ كان تعالى أجل من أن يحتاج إلى ما هو خارج عن ذاته ويستكمل بالانتفاع من غيره فلا يقال له: لم فعلت كذا سؤالا عن الغرض الذي دعاه إلى الفعل. وإن رد بأن الفاعل التام الفاعلية إنما يصدر عنه الفعل لذاته فذاته هي غايته وغرضه في فعله من غير حاجة إلى غرض خارج عن ذاته كالانسان البخيل الذي يكثر الانفاق ليحصل ملكة الجود حتى إذا حصلت الملكة صدر عنها الانفاق لذاتها لا لتحصيل ما هو حاصل فنفسها غاية لها في فعلها. ولذلك أيضا وجه بعض آخر عدم السؤال في الايه بأن عظمته تعالى وكبرياءه وعزته وبهاءه تقهر كل شئ من أن يسأله عن فعله أو يعترض له في شئ من شؤون إرادته فغيره تعالى أذل وأحقر من أن يجترئ عليه بسؤال أو مؤاخذه على فعل لكن له سبحانه أن يسأل كل فاعل عن فعله ويؤاخذ كل من حقت عليه المؤاخذة هذا. وإن كان مردودا بأن عدم السؤال من جهة أن ليس هناك من يتمكن من سؤاله اتقاء من قهره وسخطه كالملوك الجبارين والطغاة المتفرعنين غير كون الفعل بحيث لا يتسم بسمة النقص والفتور ولا يعتريه عيب وقصور، والذى يدل عليه عامة كلامه تعالى أن فعله من القبيل الثاني دون الاول كقوله: " الذي أحسن كل شئ خلقه " ألم السجدة: 7، وقوله: " له الاسماء الحسنى " الحشر: 24، وقوله: " إن الله لا يظلم الناس شيئا يونس: 44، إلى غير ذلك من الايات. وبالجملة قولهم: إنه تعالى إنما لا يسأل عن فعله لكونه حكيما على الاطلاق يؤول إلى أن عدم السؤال عن فعله ليس لذات فعله بما هو فعله بل لامر خارج عن ذات الفعل وهو كون فاعله حكيما لا يفعل إلا ما فيه مصلحة مرجحة وقوله: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون لا دلالة في لفظه على التقييد بالحكمة فكان عليهم أن يقيموا عليه دليلا. ولو جاز الخروج في تعليل عدم السؤال في الاية عن لفظها لكان أقرب منه
________________________________________
[ 270 ]
التمسك بقوله - وهو متصل بالاية -: " سبحان الله رب العرش عما يصفون " فإن الاية تثبت له الملك المطلق والملك متبع في إرادته مطاع في أمره لانه ملك أي - لذاته - لا لان فعله أو قوله موافق لمصلحة مرجحة وإلا لم يكن فرق بينه وبين أدنى رعيته وكانت المصلحة هي المتبعة ولم تكن طاعته مفترضة في بعض الاحيان، وكذلك المولى متبع ومطاع لعبده فيما له من المولوية من جهة أنه مولى ليس للعبد أن يسأله فيما يريده منه ويأمره به عن وجه الحكمة والمصلحه فالملك على ما له من السعة مبدأ لجواز التصرفات وسلطنة عليها لذاته. فالله سبحانه ملك ومالك للكل والكل مملوكون له محضا فله أن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وليس لغيره ذلك، وله أن يسألهم عما يفعلون وليس لغيره أن يسألوه عما يفعل نعم هو سبحانه أخبرنا أنه حكيم لا يفعل إلا ما فيه مصلحة ولا يريد إلا ذلك فليس لنا أن نسئ به الظن فيما ينسب إليه من الفعل بعد هذا العلم الاجمالي بحكمته المطلقة فضلا عن سؤاله عما يفعل، ومن ألطف الايات دلالة على هذا الذي ذكرنا قوله حكاية عن عيسى بن مريم: " إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " المائدة: 118 حيث يوجه عذابهم بأنهم مملوكون له ويوجه مغفرتهم بكونه حكيما. ومن هنا يظهر أن الحكمة بوجه ما أعم من قوله: " لا يسأل عما يفعل " بخلاف الملك فالملك أقرب إلى توجيه الاية منها كما أشرنا إليه. الامر الثاني: أن الاية على ما وجهوها به خفية الاتصال بالسياق السابق وغاية ما قيل في اتصالها بما قبلها ما في مجمع البيان: أنه تعالى لما بين التوحيد عطف عليه بيان العدل، وأنت خبير بأن مآله الاستطراد ولا موجب له. ونظيره ما نقل عن أبي مسلم أنها تتصل بقوله في أول السورة: " إقترب للناس حسابهم " والحساب هو السؤال عما أنعم الله عليهم به، وهل قابلوا نعمه بالشكر أم قابلوها بالكفر، وفيه أن للايات التالية لهذه الاية اتصالا واضحا بما قبلها فلا معنى لاتصالها وحدها بأول السورة. على أن قوله على تقدير تسليمه يوجه اتصال ذيل الاية والصدر باق على ما كان. وأنت خبير أن توجيه الاية بالملك دون الحكمة كما قدمناه يكشف عن اتصال الاية بما قبلها من قوله: " سبحان الله رب العرش عما يصفون " فالعرش - كما تقدم -
________________________________________
[ 271 ]
كناية عن الملك فتتصل الايتان ويكون قوله: " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون " بالحقيقة برهانا على ملكه تعالى كما أن ملكه وعدم مسؤوليته برهان على ربوبيته وبرهانا على مملوكيتهم كما أن مملوكيتهم ومسؤوليتهم برهان على عدم ربوبيتهم فإن الفاعل الذى ليس بمسؤل عن فعله بوجه هو الذي يملك الفعل مطلقا لا محالة والفاعل الذي هو مسؤل عن فعله هو الذي لا يملك الفعل إلا إذا كان ذا مصلحة والمصلحة هي التي تملكه وترفع المؤاخذة عنه، ورب العالم أو جزء من أجزائه هو الذى يملك تدبيره باستقلال من ذاته أي لذاته لا بإعطاء من غيره فالله سبحانه هو رب العرش وغيره مربوبون له. (بحث في حكمته تعالى ومعنى كون فعله مقارنا للمصلحة) وهو بحث فلسفي وقرآني الحركات المتنوعة المختلفة التى تصدر منا إنما تعد فعلا لنا إذا تعلقت نوعا من التعلق بإرادتنا فلا تعد الصحة والمرض والحركة الاضطراريي بالحركة اليومية أو السنوية مثلا أفعالا لنا، ومن الضروري أن إرادة الفعل تتبع العلم برجحانه والاذعان بكونه كمالا لنا، بمعنى كون فعله خيرا من تركه ونفعه غالبا على ضرره فما في الفعل من جهة الخير المترتب عليه هو المرجح له أي هو الذي يبعثنا نحو الفعل أي هو السبب في فاعلية الفاعل منا وهذا هو الذي نسميه غاية الفاعل في فعله وغرضه من فعله وقد قطعت الابحاث الفلسفية أن الفعل بمعنى الاثر الصادر عن الفاعل إراديا كان أو غير إرادي لا يخلو من غاية. وكون الفعل مشتملا على جهة الخيرية المترتبة على تحققه هو المسمى بمصلحة الفعل فالمصلحة التي يعدها العقلاء وهم أهل الاجتماع الانساني مصلحة هي الباعثة للفاعل على فعله، وهي سبب إتقان الفعل الموجب لعد الفاعل حكيما في فعله، ولولاها لكان الفعل لغوا لا أثر له. ومن الضروري أن المصلحة المترتبة على الفعل لا وجود لها قبل وجود الفعل، فكونها باعثة للفاعل نحو الفعل داعية له إليه إنما هو بوجودها علما لا بوجودها خارجا بمعنى أن الواحد منا عنده صورة علمية مأخوذة من النظام الخارجي بما فيه من القوانين الكلية الجارية والاصول المنتظمة الحاكمة بانسياق الحركات إلى غاياتها والافعال إلى
________________________________________
[ 272 ]
أغراضها وما تحصل عنده بالتجربة من روابط الاشياء بعضها مع بعض، ولا ريب أن هذا النظام العلمي تابع للنظام الخارجي مترتب عليه. وشأن الفاعل الارادي منا أن يطبق حركاته الخاصة المسماة فعلا على ما عنده من النظام العلمي ويراعي المصالح المتقررة فيه في فعله ببناء إرادته عليها فإن أصاب في تطبيقه الفعل على العلم كان حكيما في فعله متقنا في عمله وإن أخطأ في انطباق العلم على المعلوم الخارجي وإن لم يصب لقصور أو تقصير لم يسم حكيما بل لاغيا وجاهلا ونحوهما. فالحكمة صفة الفاعل من جهة انطباق فعله على النظام العلمي المنطبق على النظام الخارجي واشتمال فعله على المصلحة هو ترتبه على الصورة العلمية المترتبة على الخارج، فالحكمة بالحقيقة صفة ذاتية للخارج وإنما يتصف الفاعل أو فعله بها من جهة أنطباق الفعل عليه بوساطة العلم، وكذا الفعل مشتمل على المصلحة بمعنى تفرعه على صورتها العلمية المحاكية للخارج. وهذا إنما يتم في الفعل الذي أريد به مطابقه الخارج كأفعالنا الارادية وأما الفعل الذى هو نفس الخارج وهو فعل الله سبحانه فهو نفس الحكمة لا لمحاكاته أمرا آخر هو الحكمة وفعله مشتمل على المصلحة بمعنى أنه متبوع المصلحة لا تابع للمصلحة بحيث تدعوه إليه وتبعثه نحوه كما عرفت. وكل فاعل غيره تعالى يسأل عن فعله بقول " لم فعلت كذا " ؟ والمطلوب به أن يطبق فعله على النظام الخارجي بما عنده من النظام العلمي ويشير إلى وجه المصلحة الباعثة له نحو الفعل، وأما هو سبحانه فلا مورد للسؤال عن فعله إذ فعله نفس النظام الخارجي الذي يطلب بالسؤال تطبيق الفعل عليه ولا نظام خارجي آخر حتى يطبق هو عليه، وفعله هو الذي تكون صورته العلمية مصلحة داعية باعثة نحو الفعل ولا نظام آخر فوقه - كما سمعت - حتى تكون الصورة العلمية المأخوذة منه مصلحة باعثة نحو هذا النظام فافهم. وأما ما ذكره بعضهم أن له تعالى علما تفصيليا بالاشياء قبل إيجادها والعلم تابع للمعلوم فللاشياء ثبوت ما في نفسها قبل الايجاد يتعلق بها العلم بحسب ذلك الثبوت ولها مصالح مترتبة واستعدادات أزلية على الوجود والخير والشر يعلم تعالى بها بحسب ذلك الثبوت ثم يفيض عليها الوجود ههنا على ما علم.
________________________________________
[ 273 ]
فغير سديد أما أولا: فلابتنائه على كون علمه تعالى التفصيلي بالاشياء قبل الايجاد حصوليا وقد بين بطلانه في محله، بل هو علم حضوري وليس هو بتابع للمعلوم بل الامر بالعكس. وأما ثانيا: فلعدم تعقل الثبوت قبل الوجود إذ الوجود مساوق للشيئية فما لا وجود له لا شيئية له وما لا شيئية له لا ثبوت له. وأما ثالثا: فلان إثبات الاستعداد هناك لا يتم إلا مع فرض فعلية بإزائه وكذا فرض المصلحة لا يتم إلا مع فرض كمال ونقص. وهذه آثار خارجيه تختص بالوجودات الخارجية فيعود ما فرض ثبوتا قبل الايجاد وجودا عينيا بعده وهذا خلف. هذا ما يعطيه البحث العقلي ويؤيده البحث القرآني وكفى في ذلك قوله تعالى: " ويوم يقول كن فيكون قوله الحق " الانعام - 73، فقد عد كلمة " كن " التي هي ما به يوجد الاشياء أي وجودها المنسوب إليه قولا لنفسه وذكر أنه الحق أي العين الثابت الخارجي فقوله هو وجود الاشياء الخارجي وهو فعله أيضا فقوله فعله وقوله وفعله وجود الاشياء خارجا وقال: " الحق من ربك فلا تكن من الممترين " آل عمران: 60، والحق هو القول أو الاعتقاد من جهة أن الخارج يطابقه فالخارج حق بالاصالة والقول أو الاعتقاد حق يتبع مطابقته، وأذا كان الخارج هو فعله تعالى والخارج هو مبدأ القول والاعتقاد فالحق منه تعالى يبتدئ وإليه يعود، ولذا قال: " الحق من ربك " ولم يقل الحق مع ربك كما نقول في المخاصمات التي فيها بيننا: الحق مع فلان. ومن هنا يظهر أن كل فعل ففيه سؤال إلا فعله سبحانه لان المطلوب بالسؤال بيان كون الفعل مطابقا - بصيغة إسم المفعول - للحق وهذا إنما يجري في غير نفس الحق وأما الحق نفسه فهو حق بذاته من غير حاجة إلى مطابقة. قوله تعالى: " أم اتخذوا من دونه آلهة قل هاتوا برهانكم " إلى آخر الاية. " هاتوا " اسم فعل بمعنى ائتوا به، والبرهان الدليل المفيد للعلم، والمراد بالذكر - على ما يستفاد من السياق - الكتاب المنزل من عند الله فالمراد بذكر من معي القرآن المنزل عليه الذي هو ذكر أمته إلى يوم القيامة وبذكر من قبلي كتب الانبياء السابقين كالتوراة والانجيل والزبور وغيرها.
________________________________________
[ 274 ]
ويمكن أن يكون المراد به الوحي النازل عليه في القرآن وهو ذكر من معه صلى الله عليه وآله وسلم والوحي النازل على من قبله في أمر توحيد العبادة المنقول في القرآن فالمشار إليه بهذا هو ما في القرآن من الامر بتوحيد العبادة النازل عليه والنازل على من تقدمه من الانبياء عليهم السلام، وربما فسر الذكر بالخبر وغيره ولا يعبؤ به. وفي الاية دفع احتمال آخر من الاحتمالات المنافية لاثبات المعاد والحساب المذكور سابقا وهو أن يتخذوا آلهة من دون الله سبحانه فيعبدوهم ويستغنوا بذلك عن عبادة الله وولايته المستلزمة للمعاد إليه وحسابه ووجوب إجابة دعوة أنبيائه، ودفع هذا الاحتمال بعدم الدليل عليه وقد خاصمهم بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يطالبهم بالدليل بقوله: " " قل هاتوا برهانكم "... الخ. وقوله: " قل هاتوا برهانكم هذا ذكر من معى وذكر من قبلي " من قبيل المنع مع السند - باصطلاح فن المناظرة ومحصل معناه طلب الخصم من المدعي الدليل على مدعاه غير المدلل مستندا في طلبه ذلك إلى أن عنده دليلا يدل على خلافه. يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم: " قل لهؤلاء المتخذين الالهة من دون الله هاتوا برهانكم على دعواكم فإن الدعوى التي لا دليل عليها لا تسمع ولا يجوز عقلا أن يركن إليها، والذي أستند إليه في طلب الدليل أن الكتب السماوية النازلة من عند الله سبحانه لا يوافقكم على ما ادعيتم بل يخالفكم فيه فهذا القرآن وهو ذكر من معي وهذه سائر الكتب كالتوراة والانجيل وغيرهما وهي ذكر من قبلي تذكر انحصار الالوهية فيه تعالى وحده ووجوب عبادته. أو أن ما في القرآن من الوحي النازل علي وهو ذكر من معي والوحي النازل على من سبقني من الانبياء وهو ذكر من قبلي في أمر عبادة الاله يحصر الالوهية والعبادة فيه تعالى. وقوله: " بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون " رجوع إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاشارة إلى أن أكثرهم لا يميزون الحق من الباطل فليسوا من أهل التمييز الذين لا يتبعون إلا الدليل فهم معرضون عن الحق واتباعه. قوله تعالى: " وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون " تثبيت لما قيل في الاية السابقة إن الذكر يذكر توحيده ووجوب عبادته
________________________________________
[ 275 ]
ولا يخلو من تأييد ما للمعنى الثاني من معنيي الذكر. وقوله: " نوحي إليه " مفيد للاستمرار، وقوله: " فاعبدون " خطاب للرسل " ومن معهم من أممهم والباقي ظاهر. قوله تعالى: " وقالوا اتخذ الرحمان ولدا سبحانه بل عباد مكرمون " ظاهر السياق يشهد أنه حكاية قول الوثنيين أن الملائكة أولاده سبحانه فالمراد بالعباد المكرمين الملائكة، وقد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله: " سبحانه " ثم ذكر حقيقة حالهم بالاضراب. وإذ كان قوله بعد: " لا يسبقونه بالقول "... الخ بيان كمال عبوديتهم من حيث الاثار وصفائها من جهة الخواص والتبعات وقد ذكر قبلا كونهم عبادا كان ظاهر ذلك أن المراد بإكرامهم إكرامهم بالعبودية لا بغيرها فيؤول المعنى إلى أنهم عباد بحقيقة معنى العبودية ومن الدليل عليه صدور آثارها الكاملة عنهم. فالمراد بكونهم عبادا - وجميع أرباب الشعور عباد الله - إكرامهم في أنفسهم بالعبودية فلا يشاهدون من أنفسهم إلا أنهم عباد، والمراد بكونهم مكرمين إكرامه تعالى لهم بإفاضة العبودية الكاملة عليهم، وهذا نظير كون العبد مخلصا - بكسر اللام - لربه ومقابلته تعالى ذلك بجعله مخلصا - بفتح اللام - لنفسه، وإنما الفرق بين كرامة الملائكة والبشر أنها في البشر اكتسابي بخلاف ما في الملائكة، وأما إكرامه تعالى فهو موهبي في القبيلين جميعا فافهم ذلك. قوله تعالى: " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " لا يسبق فلان فلانا بالقول أي لا يقول شيئا قبل أن يقوله فقوله تبع، وربما يكنى به عن الارادة والمشية أي إرادته تبع إرادته، وقوله: " وهم بأمره يعملون " الظرف متعلق بيعملون قدم عليه لافادة الحصر أي يعملون بأمره لا بغير أمره، وليس المراد لا يعملون بأمر غيره ففعلهم تابع لامره أي لارادته كما أن قولهم تابع لقوله فهم تابعون لربهم قولا وفعلا. وبعبارة أخرى إرادتهم وعملهم تابعان لارادته - نظرا إلى كون القول كناية عن الارادة - فلا يريدون إلا ما أراد ولا يعملون إلا ما أراد وهو كمال العبودية فإن لازم عبودية العبد أن يكون إرادته وعمله مملوكين لمولاه. هذا ما يفيده ظاهر الاية على أن يكون المراد بالامر ما يقابل النهي، وتفيد


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page