• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 226 الي 250


[ 226 ]
معيشة ضنكا " متعرضا لبيان حالهم في الدنيا وقوله: " ونحشره يوم القيامة أعمى ". لبيان حالهم في الاخرة والبرزخ من أذناب الدنيا. وقيل: " المراد بالمعيشة الضنك عذاب النار يوم القيامة، وبقوله: " ونحشره " الخ، ما قبل دخول النار. وفيه أن إطلاق قوله: " فإن له معيشة ضنكا " ثم تقييد قوله: " ونحشره " بيوم القيامة لا يلائمه وهو ظاهر. نعم لو أخذ أول الاية مطلقا يشمل معيشة الدنيا والاخرة جميعا وآخرها لتقيده بيوم القيامة مختصا بالاخرة كان له وجه. وقوله: " ونحشره يوم القيامة أعمى " أي بحيث لا يهتدى إلى ما فيه سعادته وهو الجنة والدليل على ذلك ما يأتي في الايتين التاليتين. قوله تعالى: " قال رب لم حشرتني أعمي وقد كنت بصيرا " يسبق إلى الذهن أن عمى يوم القيامة يتعلق ببصر الحس فإن الذي يسأل عنه هو ذهاب البصر الذي كان له في الدنيا وهو بصر الحس دون بصر القلب الذى هو البصيرة، فيشكل عليه ظاهر ما دل على أن المجرمين يبصرون يوم القيامة أهوال اليوم وآيات العظمة والقهر كقوله تعالى: " إذ المجرمون ناكسوا رؤسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا " ألم السجدة: 12، وقوله: " اقرء كتابك " أسري: 14، ولذلك ذكر بعضهم أنهم يحشرون أولا مبصرين ثم يعمون، وبعضهم أنهم يحشرون مبصرين ثم عميا ثم مبصرين. وهذا قياس أمور الاخرة وأحوالها بما لها من نظير في الدنيا وهو قياس مع الفارق فإن من الظاهر المسلم من الكتاب والسنة أن النظام الحاكم في الاخرة غير النظام الحاكم في الدنيا الذي نألفه من الطبيعة وكون البصير مبصرا لكل مبصر والاعمى غير مدرك لكل ما من شأنه أن يرى كما هو المشهود في النظام الدنيوي لا دليل على عمومه للنظام الاخروي فمن الجائز أن يتبعض الامر هناك فيكون المجرم أعمى لا يبصر ما فيه سعادة حياته وفلاحه وفوزه بالكرامة وهو يشاهد ما يتم به الحجة عليه وما يفزعه من أهوال القيامة وما يشتد به العذاب عليه من النار وغيرها، قال تعالى: " أنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون " المطففين: 15.
________________________________________
[ 227 ]
قوله تعالى: " قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى " الاية جواب سؤال السائل: رب لم حشرتني أعمي وقد كنت بصيرا ؟ والاشارة في قوله: " كذلك أتتك " إلى حشره أعمى المذكور في السؤال، وفي قوله: " وكذلك اليوم إلى معنى قوله: " أتتك آياتنا فنسيتها " والمعنى قال " كما حشرناك أعمى أتتك آياتنا فنسيتها وكما أتتك آياتنا فنسيتها ننساك اليوم أي إن حشرك اليوم أعمى وتركك لا تبصر شيئا مثل تركك آياتنا في الدنيا كما يترك الشئ المنسي وعدم اهتدائك بها مثل تركنا لك اليوم وعدم هدايتك بجعلك بصيرا تهتدى إلى النجاة، وبعبارة أخرى إنما جازيناك في هذا اليوم بمثل ما فعلت في الدنيا كما قال تعالى: " وجزاء سيئة سيئة مثلها " الشورى: 40. وقد سمى الله سبحانه معصية المجرمين وهم المعرضون عن ذكره التاركون لهداه نسيانا لاياته، ومجازاتهم بالاعماء يوم القيامة نسيانا منه لهم وانعطف بذلك آخر الكلام إلى أوله وهو معصية آدم التي سماها نسيانا لعهده إذ قال: " ولقد عهدنا إلى آدم فنسي " فكأن قصة جنة آدم بما لها من الخصوصيات كانت مثالا من قبل يمثل به ما سيجري على بنيه من بعده إلى يوم القيامة فيمثل بنهيه عن اقتراب الشجرة الدعوة الدينية والهدى الالهي بعده، و بمعصيته التي كانت نسيانا للعهد معاصي بنيه التي هي نسيان لذكره تعالى وآياته المذكرة، وإنما الفرق أن ابتلاء آدم كان قبل تشريع الشرائع فكان النهي المتوجه إليه إرشاديا وما ابتلي به من المخالفة من قبيل ترك الاولى بخلاف الامر في بنيه. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " ولقد عهدنا إلى آدم من فنسى ولم نجد له عزما " قال: فيما نهاه عنه من أكل الشجرة. وفي تفسير العياشي عن جميل بن دراج عن بعض أصحابنا عن أحدهما عليه السلام قال: سألته كيف أخذ الله آدم بالنسيان ؟ فقال: إنه لم ينس وكيف ينسى وهو يذكره ويقول له إبليس: " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " ؟
________________________________________
[ 228 ]
أقول: " وهذا قول من قال في الاية بأن النسيان بمعناه الحقيقي وأن آدم نسي النهي عند الاكل حقيقة ولم يكن له عزم على المعصية أصلا، رد عليه السلام ذلك بمخالفة الكتاب، وبه يظهر ضعف ما رواه في روضة الكافي بإسناده عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن الله تبارك وتعالى عهد إلى آدم أن لا يقرب هذه الشجرة، فلما بلغ الوقت الذي كان في علم الله أن يأكل منها نسي فأكل منها، وهو قول الله تعالى: " ولقد عهدنا إلى آدم فنسي ولم نجد له عزما ". وهذا القول منسوب إلى ابن عباس والاصل فيه ما رواه في الدر المنثور عن الزبير بن بكار في الموفقيات عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب عن قول الله: " يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم " قال: كان رجال من المهاجرين في أنسابهم شئ فقالوا يوما: والله لوددنا أن الله أنزل قرآنا في نسبنا فأنزل الله ما قرأت. ثم قال لي: إن صاحبكم هذا يعني على بن أبي طالب إن ولى زهد ولكني أخشى عجب نفسه أن يذهب به. قلت: يا أمير المؤمنين إن صاحبنا من قد علمت والله ما نقول: إنه غير ولا عدل ولا أسخط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيام صحبته. فقال: ولا في بنت أبي جهل وهو يريد أن يخطبها على فاطمة ؟ قلت: قال الله في معصية آدم عليه السلام: " ولم نجد له عزما " وصاحبنا لم يعزم على إسخاط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن الخواطر التي لم يقدر أحد على دفعها عن نفسه، وربما كانت من الفقيه في دين الله العالم بأمر الله فإذا نبه عليها رجع وأناب فقال: يا ابن عباس من ظن أنه يرد بحوركم فيغوص فيها معكم حتى يبلغ قعرها فقد ظن عجزا. فقد بنى حجته على كون المراد بالعزم العزم على المعصية ولازمه كون المراد بالنسيان معناه الحقيقي، فآدم لم يذكر العهد حين الاكل ولا عزم على المعصية فلم يعص ربه، وقد تقدم أنه مخالف لقوله: " قال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " على أن الاية بالمعنى الذي ذكره لا تناسب سياق الايات السابقة عليها ولا اللاحقة، ومن الحري أن يجل ابن عباس وهو هو عن أن ينسب إليه هذا القول.
________________________________________
[ 229 ]
وأما ما وقع في الحديث من سخط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على علي عليه السلام في إرادته خطبة بنت أبي جهل على فاطمة عليها السلام فإشارة إلى ما في صحيح البخاري وصحيح مسلم بعدة طرق عن المسور بن مخرمة ولفظ بعضها: أن على بن أبي طالب خطب بنت أبي جهل وعنده فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما سمعت بذلك فاطمة أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت له: إن قومك يتحدثون أنك لا تغضب لبناتك وهذا علي ناكحا ابنة أبي جهل، قال المسور: فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسمعته حين تشهد ثم قال: أما بعد فإني أنكحت أبا العاص بن الربيع فحدثني فصدقني (1) وإن فاطمة مضغة مني وإنما أكره أن يفتنوها وإنها والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله عند رجل واحد أبدا. قال: فترك على الخطبة. والامعان في التأمل فيما يتضمنه الحديث يوجب سوء الظن به فإن فيه طعنا صريحا في النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلو كان ما يتضمنه حقا كانت السخطة منه صلى الله عليه وآله وسلم نزعة جاهلية من غير مجوز يجوزها له فبماذا كان يسخط عليه ؟ أبقوله تعالى: " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع " الاية، وهو عام لم ينسخ ولم يخصص بآية أخرى خاصة بها ؟ أم بشئ من السنة يخصص الاية بفاطمة عليها السلام ويشرع فيها خاصة حكما شخصيا بالتحريم فلم يثبت ولم يبلغ قبل ذلك، وفي لفظ (2) الحديث دلالة على ذلك أم أن نفس هذا القول بيان وتبليغ فلم يبين ولم يبلغ قبل ذلك ولا بأس بمخالفة الحكم قبل بلوغه ولا معصية فيها، فما معنى سخطه صلى الله عليه وآله وسلم على من لم يأت بمعصية ولا عزم عليها، وساحته صلى الله عليه وآله وسلم منزهة من هذه الشيم الجاهلية، وكأن بعض رواة الحديث أراد به الطعن في علي عليه السلام فطعن في النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حيث لا يشعر. على أنه يناقض الروايات القطعية الدالة على نزاهة ساحة علي عليه السلام من المعصية كخبر الثقلين وخبر المنزلة وخبر علي مع الحق والحق مع علي، إلى غير ذلك. وفي الكافي والعلل مسندا عن جابر بن يزيد عن أبى جعفر عليه السلام في قول الله
________________________________________
(1) ثناء لصهره أبي العاص زوج بنته زينب. (2) وفيما روى المسور من طريق اخرى: إني لست أحرم حلالا وأحل حراما ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله مكانا واحدا أبدا (*).
________________________________________
[ 230 ]
تعالى: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما " قال عهد إليه في محمد والائمة من ولده فترك ولم يكن له عزم فيهم أنه هكذا وإنما سموا أولى العزم لانهم عهد إليهم في محمد والاوصياء من بعده والمهدى وسيرته فأجمع عزمهم أن ذلك كذلك والاقرار به. أقول: والرواية ملخصة من حديث مفصل رواه في الكافي عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن داود العجلي عن زرارة عن حمران عن أبي جعفر عليه السلام يذكر فيه بدء خلق الانسان ثم إشهاد الناس على أنفسهم في عالم الذر وأخذ الميثاق من آدم عليه السلام ومن أولي العزم من الرسل بالربوبية والنبوة والولاية وإقرار أولي العزم على ذلك وتوقف آدم عليه السلام وعدم عزمه على الاقرار وإن لم يجحد ثم تطبيق قوله تعالى: " ولقد عهدنا إلى آدم " الاية، عليه. والمعنى المذكور في الرواية من بطن القرآن أرجع فيه الاحكام إلى حقيقتها والعهود إلى تأويلها وهو الولاية الالهية، وليس من تفسير لفظ الاية في شئ والدليل على أنه ليس بتفسير أن الايات - وهي إثنتا عشرة آية - تقص قصة واحدة ولو حملت الاية الاولى على هذا المعنى تفسيرا لم يبق في الايات ما يدل على النهي عن أكل الشجرة وهو ركن القصة عليه يعتمد الباقي، ولا يغني عنه قوله: " فلا يخرجنكما من الجنة "، وهو ظاهر، ولم يذكر النهي المذكور في سورة متقدمة نزولا على هذه السورة حتى يحال إليه وسورتا الاعراف والبقرة المذكور فيهما النهي المذكور متأخرتان نزولا عن هذه السورة كما سيجئ الاشارة إليه إن شاء الله. وبالجملة فهو من البطن دون التفسير وإن ورد في بعض الروايات في صورة التفسير كروايه جابر السابقة ولعله مما اشتبه على بعض رواة الحديث فأورده على هذه الصورة وقد بلغ الامر في بعض الروايات إلى أن جعل ما ذكره الامام من المعنى جزء من الاية فصارت من أخبار التحريف كما في المناقب عن الباقر عليه السلام: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل كلمات في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والائمة من ذريتهم " كذا نزلت على محمد صلى الله عليه وآله وسلم. ونظير هذه الروايات روايات أخر وقع فيها تطبيق قوله تعالى: " فمن اتبع هداي
________________________________________
[ 231 ]
وقوله: " عن ذكرى على ولايي أهل البيت عليهم السلام وهي من روايات الجري دون التفسير كما توهم. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة والطبراني وأبو نعيم في الحلية وابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا ووقاه سوء الحساب يوم القيامة، وذلك أن الله يقول: " فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى. أقول: الحديث ينزل قوله تعالى: " فلا يضل " على الدنيا وقوله: " ولا يشقى " على الاخرة فيؤيد ما تقدم في تفسير الاية. وفي المجمع في قوله تعالى: " فإن له معيشة ضنكا ": وقيل: هو عذاب القبر عن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري والسدي، ورواه أبو هريرة مرفوعا. وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: من مات وهو صحيح موسر لم يحج فهو ممن قال الله عزو جل: " ونحشره يوم القيامة أعمى " قال: قلت: سبحان الله أعمى ؟ قال: نعم أعماه الله عن طريق الحق. أقول: وروى مثله القمي في تفسيره مسندا عن معاوية بن عمار والصدوق في من لا يحضره الفقيه مرسلا عنه عن أبي عبد الله عليه السلام. والرواية في تخصيصها عمى يوم القيامة بطريق الحق وهو طريق النجاة والسعادة تؤيد ما تقدم في تفسير الاية. * * * وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الاخرة أشد وأبقى (127) - أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم أن في ذلك لايات لاولي النهى (128) - ولو لا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى (129).
________________________________________
[ 232 ]
فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى (130) - ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحيوة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى (131) - وأمر أهلك بالصلوة واصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى (132) - وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الاولى (133) - ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى (134) - قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوى ومن اهتدى (135): (بيان) متفرقات من وعيد ووعد وحجة وحكم وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم متفرعة على ما تقدم في السورة. قوله تعالى: " وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الاخرة أشد وأبقى " الاسراف التجاوز عن الحد والظاهر أن الواو في قوله: " وكذلك " للاستيناف، والاشارة إلى ما تقدم من مؤاخذة من أعرض عن ذكر الله ونسي آيات ربه فإنه تجاوز منه عن حد العبودية وكفر بآيات ربه فجزاؤه جزاء من نسي آيات ربه وتركها بعد ما عهد إليه معرضا عن ذكره. وقوله: " ولعذاب الاخرة أشد وأبقى " أي من عذاب الدنيا وذلك لكونه
________________________________________
[ 233 ]
محيطا بباطن الانسان كظاهره ولكونه دائما لا يزول. قوله تعالى: " أفلم يهد لهم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم " الخ، الظاهر أن " يهد " مضمن معنى يبين، والمعنى أفلم يبين لهم طريق الاعتبار والايمان بالايات كثرة إهلاكنا القرون التي كانوا قبلهم وهم يمشون في مساكنهم كما كانت تمر أهل مكة في أسفارهم بمساكن عاد بأحقاف اليمن ومساكن ثمود وأصحاب الايكة بالشام ومساكن قوم لوط بفلسطين " إن في ذلك لايات لاولي النهى " أي أرباب العقول. قوله تعالى: " ولو لا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى " مقتضى السياق السابق أن يكون " لزاما " بمعنى الملازمة وهما مصدرا لازم يلازم، والمراد بالمصدر معنى اسم الفاعل وعلى هذا فاسم كان هو الضمير الراجع إلى الهلاك المذكور في الاية السابقة، وأن قوله: " وأجل مسمى " معطوف على " كلمة سبقت " والتقدير ولو لا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان الهلاك ملازما لهم إذ أسرفوا ولم يؤمنوا بآيات ربهم. واحتمل بعضهم أن يكون لزام إسم آلة كحزام وركاب، وآخرون أن يكون جمع لازم كقيام جمع قائم والمعنيان لا يلائمان السياق كثيرا. وقوله: " ولو لا كلمة سبقت من ربك " تكررت هذه الكلمة منه سبحانه في حق بني إسرائيل وغيرهم في مواضع من كلامه كقوله: " ولو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم " يونس: 19 هود: 110 حم السجدة: 45، وقد غياها بالاجل المسمى في قوله: " ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم " الشورى: 14، وقد تقدم في تفسير سورتي يونس وهود أن المراد بها الكلمة التي قضى بها عند إهباط آدم إلى الارض بمثل قوله: " ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين " الاعراف: 24. فالناس آمنون من الهلاك وعذاب الاستئصال على إسرافهم وكفرهم ما بين استقرارهم في الارض وأجلهم المسمى إلا أن يجيئهم رسول فيقضى بينهم، قال تعالى: ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون " يونس: 47 واليه يرجع عذاب الاستئصال عن الايات المقترحة إذا لم يؤمن بها بعد ما جاءت وهذه الامة حالهم حال سائر الامم في الامن من عذاب الاستئصال بوعد سابق من الله، وأما
________________________________________
[ 234 ]
القضاء بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد أخره الله إلى أمد كما تقدم استفادته من قوله: " ولكل أمة رسول " الاية من سورة يونس. واحتمل بعضهم أن يكون المراد بالكلمة وعدا خاصا بهذه الامة بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة وقد مر في تفسير سورة يونس أن ظاهر الايات خلافه نعم يدل كلامه تعالى على تأخيره إلى أمد كما تقدم. ونظيره في الفساد قول الاخرين: إن المراد بالكلمة قضاء عذاب أهل بدر منهم بالسيف والاجل المسمى لباقي كفار مكة وهو كما ترى. وقوله: " وأجل مسمى " قد تقدم في تفسير أول سورة الانعام أن الاجل المسمى هو الاجل المعين بالتسمية الذي لا يتخطا ولا يتخلف كما قال تعالى: " ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون " الحجر: 5، وذكر بعضهم أن المراد بالاجل المسمى يوم القيامة، وقال آخرون إن الاجل المسمى هو الكلمة التي سبقت من الله فيكون عطف الاجل على الكلمة من عطف التفسير، ولا معول على القولين لعدم الدليل. فمحصل معنى الاية أنه لو لا أن الكلمة التى سبقت من ربك - وفي إضافة الرب إلى ضمير الخطاب إعزاز وتأييد للنبي صلى الله عليه وآله وسلم - تقضى بتأخير عذابهم والاجل المسمى يعين وقته في ظرف التأخير لكان الهلاك ملازما لهم بمجرد الاسراف والكفر. ومن هنا يظهر أن مجموع الكلمة التي سبقت والاجل المسمى سبب واحد تام لتأخير العذاب عنهم لا أن كل واحد منهما سبب مستقل في ذلك كما اختاره كثير منهم. قوله تعالى: " فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " الخ، يأمره بالصبر على ما يقولون ويفرعه على ما تقدم كأنه قيل: إذا كان من قضاء الله أن يؤخر عذابهم ولا يعاجلهم بالانتقام على ما يقولون فلا يبقى لك إلا أن تصبر راضيا على ما قضاه الله من الامر وتنزهه عما يقولونه من كلمة الشرك ويواجهونك به من السوء، وتحمده على ما تواجهه من آثار قضائه فليس إلا الجميل فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك لعلك ترضى. وقوله: " وسبح بحمد ربك " أي نزهه متلبسا بحمده والثناء عليه فإن هذه الحوادث التي يشق تحملها والصبر عليها لها نسبة إلى فواعلها وليست إلا سيئة يجب
________________________________________
[ 235 ]
تنزيهه تعالى عنها ولها نسبة بالاذن إليه تعالى وهي بهذه النسبة جميلة لا يترتب عليها إلا مصالح عامة يصلح بها النظام الكوني ينبغي أن يحمد الله ويثنى عليه بها. وقوله: " قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " ظرفان متعلقان بقوله: " وسبح بحمد ربك ". وقوله: " ومن آناء الليل فسبح " الجملة نظيرة قوله: " وأياي فارهبون " البقرة: 40، والاناء على أفعال جمع إني أو إنو بكسر الهمزة بمعنى الوقت و " من " للتبعيض والجار والمجرور متعلق بقوله: " فسبح " دال على ظرف في معناه متعلق بالفعل والتقدير وبعض آناء الليل سبح فيها. وقوله: " وأطراف النهار " منصوب بنزع الخافض على ما ذكروا معطوف على قوله: " ومن آناء " والتقدير وسبح في أطراف النهار، وهل المراد بأطراف النهار ما قبل طلوع الشمس وما قبل غروبها، أو غير ذلك ؟ اختلفت فيه كلمات المفسرين وسنشير إليه. وما ذكر في الاية من التسبيح مطلق لا دلالة فيها من جهة اللفظ على أن المراد به الفرائض اليومية من الصلوات واليه مال بعض المفسرين لكن أصر أكثرهم على أن المراد بالتسبيح الصلاة تبعا لما روى عن بعض القدماء كقتادة وغيره. قالوا: إن مجموع الاية يدل على الامر بالصلوات الخمس اليومية فقوله: " قبل طلوع الشمس " صلاة الصبح، وقوله: " وقبل غروبها " صلاة العصر وقوله: " ومن آناء الليل " صلاتا المغرب والعشاء، وقوله: " وأطراف النهار " صلاة الظهر. ومعنى كونها في أطراف النهار مع أنها في منتصفه بعد الزوال أنه لو نصف النهار حصل نصفان: " الاول والاخير وصلاة الظهر في الجزء الاول من النصف الثاني فهي في طرف النصف الاول لان آخر النصف الاول ينتهى إلى جزء يتصل بوقتها، وفي طرف النصف الثاني لانه يبتدي من جزء هو وقتها فوقتها على وحدته طرف للنصف الاول باعتبار وطرف للنصف الثاني باعتبار فهو طرفان إثنان اعتبارا. وأما إطلاق الاطراف - بصيغة الجمع - على وقتها وإنما هو طرفان اعتبارا فباعتبار أن الجمع قد يطلق على الاثنين وإن كان الاشهر الاعرف كون أقل الجمع في
________________________________________
[ 236 ]
اللغة العربية ثلاثة وقيل: المراد بالنهار الجنس فهو في نهر لكل فرد منها طرفان فيكون أطرافا، وقد طال البحث بينهم حول التوجيه اعتراضا وجوابا. لكن الانصاف أن أصل التوجيه تعسف بعيد من الفهم فالذوق السليم - بعد اللتيا والتي يأبى أن يسمي وسط النهار أطراف النهار بفروض واعتبارات وهمية لا موجب لها في مقام التخاطب من أصلها ولا أمرا يرتضيه الذوق ولا يستبشعه. وأما من قال " إن المراد بالتسبيح والتحميد غير الفرائض من مطلق التسبيح والحمد إما بتذكر تنزيهه والثناء عليه تعالى قلبا وإما بقول مثل سبحان الله والحمد لله لسانا أو الاعم من القلب واللسان فقالوا: المراد بما قبل طلوع الشمس وما قبل غروبها وآناء الليل الصبح والعصر وأوقات الليل وأطراف النهار الصبح والعصر. وأما لزوم إطلاق الاطراف وهو جمع على الصبح والعصر وهما إثنان فقد أجابوا عنه بمثل ما تقدم في القول السابق من اعتبار أقل الجمع اثنين. وأما لزوم التكرار بذكر تسبيح الصبح والعصر مرتين فقد التزم به بعضهم قائلا أن ذلك للتأكيد وإظهار مزيد العناية بالتسبيح في الوقتين، ويظهر من بعضهم أن المراد بالاطراف الصبح والعصر ووسط النهار. وأنت خبير بأنه يرد عليه نظير ما يرد على الوجه السابق بتفاوت يسير، والاشكال كله ناش من ناحية قوله: " وأطراف النهار " من جهة انطباقه على وسط النهار أو الصبح والعصر. والذى يمكن أن يقال إن قوله: " وأطراف النهار " مفعول معه وليس بظرف بتقدير في وإن لم يذكره المفسرون على ما أذكر، والمراد بأطراف النهار ما قبل طلوع الشمس وما قبل غروبها بالنظر إلى كونهما وقتين ذوى سعة لكل منهما أجزاء كل جزء منها طرف بالنسبة إلى وسط النهار فيصح أن يسميا أطراف النهار كما يصح أن يسميا طرفي النهار وذلك كما يسمى ما قبل طلوع الشمس أول النهار باعتبار وحدته وأوائل النهار باعتبار تجزيه إلى أجزاء، ويسمى ما قبل غروبها آخر النهار، وأواخر النهار. فيؤول معنى الاية إلى مثل قولنا: " وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل
________________________________________
[ 237 ]
غروبها وهي أطراف النهار، وبعض أوقات الليل سبح فيها مع أطراف النهار التى أمرت بالتسبيح فيها. فان قلت: كيف يستقيم كون " أطراف النهار " مفعولا معه وهو ظرف للتسبيح بتقدير في نظير ظرفية " آناء الليل " له ؟ قلت: آناء الليل ليس ظرفا بلفظه كيف ؟ وهو مدخول من ولا معنى لتقدير في معه وإنما يدل به على الظرف، ومعنى " ومن آناء الليل فسبح " وبعض آناء الليل سبح فيه، فليكن " وأطراف النهار " كذلك، والمعنى مع أطراف النهار التي تسبح فيها والظرف في كلا الجانبين مدلول عليه مقدر. هذا. فلو قلنا: إن المراد بالتسبيح في الآية غير الصلوات المفروضة كان المراد التسبيح في أجزاء من أول النهار وأجزاء من آخره وأجزاء من الليل بمعية أجزاء أول النهار وآخره ولم يلزم محذور التكرار ولا محذور إطلاق لفظ الجمع على ما دون الثلاثة، وهو ظاهر. ولو قلنا إن المراد بالتسبيح في الآية الفرائض اليومية كانت الآية متضمنة للامر بصلاة الصبح وصلاة العصر وصلاتي المغرب والعشاء فحسب نظير الامر في قوله تعالى: " أقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل " هود: 114، ولعل التعبير عن الوقتين في الآية المبحوث عنها بأطراف النهار للاشارة إلى سعة الوقتين. ولا ضير في اشتمال الآية على أربع من الصلوات الخمس اليومية فإن السورة - كما سنشير إليه - من أوائل السور النازلة بمكة وقد دلت الاخبار المستفيضة التي رواها العامة والخاصة أن الفرائض اليومية إنما شرعت خمسا في المعراج كما ذكرت في سورة الاسراء النازلة بعد المعراج خمسا في قوله: أقم الصلاه لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر " أسرى: 78، فلعل التي شرعت من الفرائض اليومية حين نزول سورة طه وكذا سورة هود - وهما قبل سوره الاسراء نزولا - كانت هي الاربع ولم تكن شرعت صلاة الظهر بعد بل هو ظاهر الايتين: آية طه وآية هود. ومعلوم أنه لا يرد على هذا الوجه ما كان يرد على القول بكون المراد بالتسبيح الصلوات الخمس وانطباق أطراف النهار على وقت صلاة الظهر وهو وسط النهار. هذا.
________________________________________
[ 238 ]
وقوله: " لعلك ترضى " السياق السابق وقد ذكر فيه إعراضهم عن ذكر ربهم ونسيانهم آياته وإسرافهم في أمرهم وعدم إيمانهم ثم ذكر تأخير الانتقام منهم وأمره بالصبر والتسبيح والتحميد يقضي أن يكون المراد بالرضا الرضا بقضاء الله وقدره، والمعنى فاصبر وسبح بحمد ربك ليحصل لك الرضا بما قضى الله سبحانه فيعود إلى مثل معنى قوله: " واستعينوا بالصبر والصلاه ". والوجه فيه أن تكرار ذكره تعالى بتنزيه فعله عن النقص والشين وذكره بالثناء الجميل والمداومة على ذلك يوجب أنس النفس به وزيادته وزيادة الانس بجمال فعله ونزاهته توجب رسوخه فيها وظهوره في نظرها وزوال الخطورات المشوشة للادراك والفكر، والنفس مجبولة على الرضا بما تحبه ولا تحب غير الجميل المنزه عن القبح والشين فادامه ذكره بالتسبيح والتحميد تورث الرضا بقضائه. وقيل: المراد لعلك ترضى بالشفاعة والدرجة الرفيعة عند الله. وقيل: لعلك ترضى بجميع ما وعدك الله به من النصر وإعزاز الدين في الدنيا والشفاعة والجنة في الاخرة. قوله تعالى: " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه " الخ، مد العين مد نظرها وإطالته ففيه مجاز عقلي ثم مد النظر وإطالته إلى شئ كناية عن التعلق به وحبه، والمراد بالازواج - كما قيل - الاصناف من الكفار أو الازواج من النساء والرجال منهم ويرجع إلى البيوتات وتنكير الازواج للتقليل وإظهار أنهم لا يعبؤ بهم. وقوله: " زهرة الحياة الدنيا " بمنزلة التفسير لقوله: ما متعنا به " وهو منصوب بفعل مقدر والتقدير نعني به - أو جعلنا لهم - زهرة الحياة الدنيا وهي زينتها وبهجتها، والفتنة الامتحان والاختبار، وقيل: المراد بها العذاب لان كثرة الاموال والاولاد نوع عذاب من الله لهم كما قال: " ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون " التوبه: 85. وقوله: " ورزق ربك خير وأبقى " المراد به بقرينة مقابلته لما متعوا به من زهرة الحياة الدنيا هو رزق الاخرة وهو خير وأبقى. والمعنى: لا تطل النظر إلى زينة الحياة الدنيا وبهجتها التي متعنا بها أصنافا أو أزواجا
________________________________________
[ 239 ]
معدودة منهم لنمتحنهم فيما متعنا به، والذي سيرزقك ربك في الاخرة خير وأبقى. قوله تعالى: " وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسالك رزقا نحن نرزقك والعاقبة للتقوى " الاية ذات سياق يلتئم بسياق سائر آيات السورة فهي مكية كسائرها على أنا لم نظفر بمن يستثنيها ويعدها مدنية وعلى هذا فالمراد بقوله " أهلك " بحسب انطباقه على وقت النزول خديجة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى عليه السلام وكان من أهله وفي بيته أو هما وبعض بنات النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فقول بعضهم: إن المراد به أزواجه وبناته وصهره علي، وقول آخرين: المراد به أزواجه وبناته وأقرباؤه من بني هاشم والمطلب، وقول آخرين: جميع متبعيه من أمته غير سديد، نعم لا باس بالقول الاول من حيث جري الاية وانطباقها لا من حيث مورد النزول فان الاية مكية ولم يكن له صلى الله عليه وآله وسلم بمكة من الازواج غير خديجة عليها السلام. وقوله: " لا نسالك رزقا نحن نرزقك " ظاهر المقابلة بين الجملتين أن المراد سؤاله تعالى الرزق لنفسه وهو كناية عن أنا في غنى منك وأنت المحتاج المفتقر الينا فيكون في معنى قوله: " وما خلقت الانس والجن إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " الذاريات: 56 - 58، وأيضا هو من جهة تذييله بقوله: " والعاقبة للتقوى " في معنى قوله: " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم " الحج: 37، فتفسيرهم سؤال الرزق بسؤال الرزق للخلق أو لنفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس بسديد. وقوله: " والعاقبة للتقوى " تقدم البحث فيه كرارا. ولا يبعد أن يستفاد من الاية من جهة قصر الامر بالصلاة في أهله مع ما في الايتين السابقتين من أمره صلى الله عليه وآله وسلم في نفسه بالصلوات الاربع اليومية والصبر والنهي عن ان يمد عينيه فيما متع به الكفار أن السورة نزلت في أوائل البعثة أو خصوص الايه. وفيما (1) روي عن ابن مسعود أن سورة طه من العتاق الاول.
________________________________________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور عن البخاري وابن الضريس عن ابن مسعود، والعتاق جمع عتيق والاول جمع اولى والمراد قدم نزولها. (*)
________________________________________
[ 240 ]
قوله تعالى: " وقالوا لو لا ياتينا باية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الاولى " حكاية قول مشركي مكة وإنما قالوا هذا تعريضا للقرآن أنه ليس باية دالة على النبوة فليأتنا باية كما أرسل الاولون والبينة الشاهد المبين أو البين وقيل هو البيان. وكيف كان فقولهم: " لو لا ياتينا باية من ربه " تحضيض بداعي إهانة القرآن وتعجيز النبي صلى الله عليه وآله وسلم باقتراح آية معجزة اخرى، وقوله: " أو لم تأتهم بينة " الخ، جواب عنه ومعناه على الوجه الاول من معنيي البينة: أو لم تأتهم بينة وشاهد يشهد على ما في الصحف الاولى - وهي التوراة والانجيل وسائر الكتب السماوية - من حقائق المعارف والشرائع ويبينها وهو القرآن وقد أتى به رجل لا عهد له بمعلم يعلمه ولا ملقن يلقنه ذلك. وعلى الوجه الثاني: أو لم ياتهم بيان ما في الصحف الاولى من أخبار الامم الماضين الذين اقترحوا على أنبيائهم الايات المعجزة فاتوا بها وكان إتيانها سببا لهلاكهم واستئصالهم لما لم يؤمنوا بها بعد إذ جاءتهم فلم لا ينتهون عن اقتراح آية بعد القرآن ؟ ولكل من المعنيين نظير في كلامه تعالى. قوله تعالى: " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لو لا أرسلت الينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى " الظاهر أن ضمير " من قبله " للبينة - في - الاية السابقة - باعتبار أنها القرآن، والمعنى: ولو أنا أهلكناهم لاسرافهم وكفرهم بعذاب من قبل أن تأتيهم البينة لم تتم عليهم الحجة ولكانت الحجة لهم علينا ولقالوا ربنا لو لا أرسلت الينا رسولا فنتبع آياتك وهي التي تدل عليها البينة من قبل أن نذل بعذاب الاستئصال ونخزى. وقيل الضمير للرسول المعلوم من مضمون الاية السابقة بشهادة قولهم: " لو لا أرسلت إلينا رسولا " وهو قريب من جهة اللفظ والمعنى الاول من جهة المعنى ويؤيده قوله: " فنتبع آياتك " ولم يقل: فنتبع رسولك. قوله تعالى: " قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى " التربص الانتظار والصراط السوي الطريق المستقيم، وقوله: " كل متربص " أي كل منا ومنكم متربص منتظر فنحن ننتظر ما وعده الله لنا فيكم وفي تقدم
________________________________________
[ 241 ]
دينه وتمام نوره وأنتم تنتظرون بنا الدوائر لتبطلوا الدعوة الحقة وكل منا ومنكم يسلك سبيلا إلى مطلوبه فتربصوا وانتظروا وفيه تهديد فستعلمون أي طائفة منا ومنكم أصحاب الطريق المستقيم الذي يوصله إلى مطلوبه ومن الذين اهتدوا إلى المطلوب وفيه ملحمة وإخبار بالفتح. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " لكان لزاما وأجل مسمى " قال: كان ينزل بهم العذاب ولكن قد أخرهم إلى أجل مسمى. وفي الدر المنثور أخرج الطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن جرير عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: " وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " قال: قبل طلوع الشمس صلاة الصبح وقبل غروبها صلاة العصر. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ومن آناء الليل فسبح وأطراف النهار " قال: بالغداة والعشي. أقول: وهو يؤيد ما قدمناه. وفي الكافي باسناده عن زراره عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له: " وأطراف النهار لعلك ترضى " ؟ قال: يعنى تطوع بالنهار. أقول: وهو مبني على تفسير التسبيح بمطلق الصلاة أو بمطلق التسبيح. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولا تمدن عينيك " الاية قال أبو عبد الله عليه السلام: لما نزلت هذه الاية استوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالسا ثم قال: من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، ومن اتبع بصره ما في أيدي الناس طال همه ولم يشف غيظه، ومن لم يعرف أن لله عليه نعمة لا في مطعم ولا في مشرب قصر أجله ودنا عذابه. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبى شيبة وابن راهويه والبزار وأبو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والخرائطي في مكارم الاخلاق وأبو نعيم في المعرفة عن أبي رافع قال: أضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيفا ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم ما يصلحه فارسلني
________________________________________
[ 242 ]
إلى رجل من اليهود أن بعنا أو أسلفنا دقيقا إلى هلال رجب فقال: لا إلا برهن. فاتيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: أما والله إني لامين في السماء أمين في الارض ولو أسلفني وباعني لاديت إليه اذهب بدرعي الحديد فلم أخرج من عنده حتى نزلت هذه الاية " ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم " كانه يعزيه عن الدنيا. أقول: ومضمون الاية وخاصة ذيلها لا يلائم القصة. وفيه أخرج ابن مردويه وابن عساكر وابن النجار عن أبى سعيد الخدري قال: لما نزلت " وأمر أهلك بالصلاة " كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجئ إلى باب علي ثمانية أشهر يقول: الصلاة رحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس اهل البيت ويطهركم تطهيرا. أقول: ورواه في مجمع البيان عن الخدري وفيه تسعه أشهر مكان ثمانية أشهر، وروى هذا المعنى في العيون في مجلس الرضا مع المأمون عنه عليه السلام، ورواه القمي أيضا في تفسيره مرفوعا، والتقييد بتسعة أشهر مبني على ما شاهده الراوي لا على تحديد أصل إتيانه صلى الله عليه وآله وسلم والشاهد عليه ما رواه الشيخ في الامالي باسناده عن أبي الحميراء قال: شهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم أربعين صباحا يجئ إلى باب علي وفاطمة فيأخذ بعضادتي الباب ثم يقول: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمكم الله إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا. وظاهر الرواية كون الاية مدنية ولم يذكر ذلك أحد فيما أذكر ولعل المراد بيان إتيانه صلى الله عليه وآله وسلم الباب في المدينة عملا بالاية ولو كانت نازلة بمكة وإن كان بعيدا من اللفظ وفي رواية القمي التي أو مانا إليها ما يؤيد هذا المعنى ففيها: فلم يزل يفعل ذلك كل يوم إذا شهد المدينة حتى فارق الدنيا، وحديث أمره أهل بيته بالصلاة مروي بطرق اخرى أيضا غير ما مرت الاشارة إليه. وفي الدر المنثور أخرج أبو عبيد وسعيد بن منصور وابن المنذر والطبراني في الاوسط وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الايمان بسند صحيح عن عبد الله بن سلام قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزلت باهله شدة أو ضيق أمرهم بالصلاة وتلا " وأمر أهلك بالصلاة " الاية. أقول: وروى هذا المعنى أيضا عن أحمد في الزهد وابن أبي حاتم والبيهقي في شعب الايمان عن ثابت عنه صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه دلالة على التوسع في معنى التسبيح في الاية.
________________________________________
[ 243 ]
(سوره الانبياء مكية، وهي مائة واثنتا عشرة آية) بسم الله الرحمن الرحيم. إقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون - 1. ما ياتيهم من ذكر من ربهم محدث الا استمعوه وهم يلعبون - 2. لاهية قلوبهم واسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتاتون السحر وأنتم تبصرون - 3. قال ربى يعلم القول في السماء والارض وهو السميع العليم - 4. بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا باية كما أرسل الاولون - 5. ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها أفهم يؤمنون - 6. وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون - 7. وماجعلناهم جسدا لا ياكلون الطعام وما كانوا خالدين - 8. ثم صدقناهم الوعد فانجيناهم ومن نشاء واهلكنا المسرفين - 9. لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون - 10. وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشانا بعدها قوما آخرين - 11. فلما أحسوا باسنا إذا هم منها يركضون - 12. لا تركضوا وارجعوا
________________________________________
[ 244 ]
إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون - 13. قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين - 14. فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين - 15. (بيان) غرض السورة الكلام حول النبوة بانيا ذلك على التوحيد والمعاد فتفتتح بذكر اقتراب الحساب وغفلة الناس عن ذلك وإعراضهم عن الدعوة الحقة التي تتضمن الوحي السماوي فهي ملاك حساب يوم الحساب وتنتقل من هناك إلى موضوع النبوة واستهزاء الناس بنبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ورميهم إياه بانه بشر ساحر بل ما أتى به أضغاث أحلام بل مفتر بل شاعر ! فترد ذلك بذكر أوصاف الانبياء الماضين الكلية إجمالا وأن النبي لا يفقد شيئا مما وجدوه ولا ما جاء به يغاير شيئا مما جاؤا به. ثم تذكر قصص جماعة من الانبياء تأييدا لما تقدم من الاجمال وهم موسى وهارون وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط ونوح وداود وسليمان وأيوب وإسماعيل وإدريس وذو الكفل وذو النون وزكريا ويحيى وعيسى. ثم تتخلص إلى ذكر يوم الحساب وما يلقاه المجرمون و المتقون فيه، وأن العاقبة للمتقين وأن الارض يرثها عباده الصالحون ثم تذكر أن إعراضهم عن النبوة إنما هو لاعراضهم عن التوحيد فتقيم الحجة على ذلك كما تقيمها على النبوة والغلبة في السوره للوعيد على الوعد وللانذار على التبشير. والسورة مكية بلا خلاف فيها وسياق آياتها يشهد بذلك. قوله تعالى: " اقترب للناس حسابهم وهم في غفله معرضون " الاقتراب افتعال من القرب واقترب وقرب بمعنى واحد غير أن اقترب أبلغ لزيادة بنائه ويدل على مزيد عناية بالقرب، ويتعدى القرب والاقتراب بمن وإلى يقال: قرب أو اقترب زيد من عمرو أو إلى عمرو والاول يدل على أخذ نسبة القرب من عمرو والثاني على أخذها من زيد لان الاصل في معنى من ابتداء الغاية كما أن الاصل في معنى إلى انتهاؤها.
________________________________________
[ 245 ]
ومن هنا يظهر أن اللام في " للناس " بمعنى إلى لا بمعنى " من " لان المناسب للمقام أخذ نسبة الاقتراب من جانب الحساب لانه الذي يطلب الناس بالاقتراب منهم والناس في غفلة معرضون. والمراد بالحساب - وهو محاسبة الله سبحانه أعمالهم يوم القيامة - نفس الحساب لا زمانه بنحو التجوز أو بتقدير الزمان وإن أصر بعضهم عليه ووجهه بعض آخر بأن الزمان هو الاصل في القرب والبعد وإنما ينسب القرب والبعد إلى الحوادث الواقعة فيه بتوسطه. وذلك لان الغرض في المقام متعلق بتذكرة نفس الحساب لتعلقه بأعمال الناس إذ كانوا مسؤلين عن أعمالهم فكان من الواجب في الحكمة أن ينزل عليهم ذكر من ربهم ينبههم على ما فيه مسؤليتهم ومن الواجب عليهم أن يستمعوا له مجدين غير لاعبين ولا لاهية قلوبهم نعم لو كان الكلام مسوقا لبيان أهوال الساعة وما أعد من العذاب للمجرمين كان الانسب التعبير بيوم الحساب أو تقدير الزمان ونحو ذلك. والمراد بالناس الجنس وهو المجتمع البشرى الذي كان أكثرهم مشركين يومئذ لا المشركون خاصة وإن كان ما ذكر من أوصافهم كالغفلة والاعراض والاستهزاء وغيرها أوصاف المشركين فليس ذلك من نسبة حكم البعض إلى الكل مجازا بل من نسبة حكم المجتمع إلى نفسه حقيقة ثم استثناء البعض الذي لا يتصف بالحكم كما يلوح إليه أمثال قوله: " وأسروا النجوى الذين ظلموا " وقوله: " فأنجيناهم ومن نشاء " على ما هو دأب القرآن في خطاباته الاجتماعية من نسبة الحكم إلى المجتمع ثم استثناء الافراد غير المتصفة به. وبالجملة فرق بين أخذ المجتمع موضوعا للحكم واستثناء أفراد منه غير متصفة به وبين أخذ أكثر الافراد موضوع الحكم ثم نسبة حكمه إلى الكل مجازا وما نحن فيه من القبيل الاول دون الثاني. وقد وجه بعضهم اقتراب الحساب للناس بأن كل يوم يمر على الدنيا تصير أقرب إلى الحساب منها بالامس، وقيل: الاقتراب إنما هو بعناية كون بعثته صلى الله عليه وآله وسلم في آخر الزمان كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: بعثت أنا والساعة كهاتين، وأما الوجه السابق فإنما يناسب اللفظ الدال على الاستمرار دون الماضي الدال على الفراغ من تحققه ونظيره أيضا
________________________________________
[ 246 ]
توجيهه بأن الاقتراب لتحقق الوقوع فكل ما هو آت قريب. وقوله: " وهم في غفلة معرضون " ذلك أنهم تعلقوا بالدنيا واشتغلوا بالتمتع فامتلات قلوبهم من حبها فلم يبق فيها فراغ يقع فيها ذكر الحساب وقوعا تتأثر به حتى أنهم لو ذكروا لم يذكروا وهو الغفلة فإن الشئ كما يكون مغفولا عنه لعدم تصوره من أصله قد يكون مغفولا عنه لعدم تصوره كما هو حقه بحيث تتأثر النفس به. وبهذا يظهر الجواب عن الاشكال بأن الجمع بين الغفلة وهي تلازم عدم التنبه للشئ والاعراض وهو يستلزم التنبه له جمع بين المتنافيين، ومحصل الجواب أنهم في غفلة عن الحساب لعدم تصورهم إياه كما هو حقه وهم معرضون عنه لاشتغالهم عن لوازم العلم بخلافها. وأجاب عنه الزمخشري بما لفظه: وصفهم بالغفلة مع الاعراض على معنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم ولا يتفطنون لما يرجع إليه خاتمة أمرهم مع اقتضاء عقولهم أنه لابد من جزاء للمحسن والمسئ وإذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الايات والنذر أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا. انتهى. والفرق بينه وبين ما وجهنا به أنه أخذ الاعراض في طول الغفلة لا في عرضه، والانصاف أن ظاهر الاية اجتماعهما لهم في زمان واحد، لا ترتب الوصفين زمانا. ودفع بعضهم الاشكال بأخذ الاعراض بمعنى الاتساع فالمعنى وهم متسعون في غفلة، وآخرون بأخذ الغفلة بمعنى الاهمال ولا تنافي بين الاهمال والاعراض، والوجهان من قبيل الالتزام بما لا يلزم. والمعنى: اقترب للناس حساب أعمالهم والحال أنهم في غفلة مستمرة أو عظيمة معرضون عنه باشتغالهم بشواغل الدنيا وعدم التهيؤ له بالتوبة والايمان والتقوى. قوله تعالى: " ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم " الاية بمنزلة التعليل لقوله: " وهم في غفلة معرضون " إذ لو لم يكونوا في غفلة معرضين لم يلعبوا ولم يتلهوا عند استماع الذكر الذي لا ينبههم إلا على ما يهمهم التنبه له ويجب عليهم التهيؤ له، ولذلك جئ بالفصل من غير عطف. والمراد بالذكر ما يذكر به الله سبحانه من وحي إلهي كالكتب السماوية ومنها
________________________________________
[ 247 ]
القرآن الكريم، والمراد بإتيانه لهم نزوله على النبي وإسماعه وتبليغه ومحدث بمعنى جديد وهو معنى إضافي وهو وصف ذكر فالقرآن مثلا ذكر جديد أتاهم بعد الانجيل والانجيل كان ذكرا جديدا أتاهم بعد التوراة وكذلك بعض سور القرآن وآياته ذكر جديد أتاهم بعد بعض. وقوله: " إلا استمعوه " استثناء مفرغ عن جميع أحوالهم و " استمعوه " حال و " هم يلعبون " " لاهبة قلوبهم " حالان من ضمير الجمع في " استمعوه " فهما حالان متداخلتان. واللعب فعل منتظم الاجزاء لا غاية له إلا الخيال كلعب الاطفال واللهو اشتغالك عما يهمك يقال: ألهاه كذا أي شغله عما يهمه ولذلك تسمى آلات الطرب آلات اللهو، وملاهي واللهو من صفة القلب ولذلك قال: " لاهية قلوبهم " فنسبه إلى قلوبهم. ومعنى الاية: وما يأتيهم - بالنزول والبلوغ - ذكر جديد من ربهم في حال من الاحوال إلا والحال أنهم لاعبون لاهية قلوبهم فاستمعوه فيها أي أن إحداث الذكر وتجديده لا يؤثر فيهم ولا أثرا قليلا ولا يمنعهم عن الاشتغال بلعب الدنيا عما وراءها وهذا كناية عن أن الذكر لا يؤثر فيهم في حال لا أن جديده لا يؤثر وقديمه يؤثر وهو ظاهر. واستدل بظاهر الاية على كون القرآن محدثا غير قديم وأولها الاشاعرة بأن توصيف الذكر بالمحدث من جهة نزوله وهو لا ينافي قدمه في نفسه وظاهر الاية عليهم وللكلام تتمة نوردها في بحث مستقل. (كلام في معنى حدوث الكلام وقدمه في فصول) 1 - ما معنى حدوث الكلام وبقائه ؟ إذا سمعنا كلاما من متكلم كشعر من شاعر لم نلبث دون أن ننسبه إليه ثم إذا كرره وتكلم بمثله ثانيا لم نرتب في أنه هو كلامه الاول بعينه أعاده ثانيا ثم إذا نقل ناقل عنه ذلك حكمنا بأنه كلام ذلك القائل الاول بعينه ثم كلما تكرر النقل كان المنقول من الكلام هو بعينه الكلام الاول الصادر من المتكلم الاول وإن تكرر إلى ما لا نهاية له. هذا بالبناء على ما يقضي به الفهم العرفي لكنا إذا أمعنا في ذلك قليل إمعان
________________________________________
[ 248 ]
وجدنا حقيقة الامر على خلاف ذلك فقول القائل: جاءني زيد مثلا ليس كلاما واحدا لان فيه الجيم أو الالف أو الهمزة فإن كل واحدة منها فرد من أفراد الصوت المتكون من اعتماد نفس المتكلم على مخرج من مخارج فمه، والمجموع أصوات كثيرة ليست بواحدة البتة إلا بحسب الوضع والاعتبار. ثم إن الذي تكلم به قائل القول الاول ثانيا والذي تكلم به الناقل الذي ينقله عن صاحبه الاول ثالثا ورابعا وغير ذلك أفراد أخر من الصوت مماثلة لما في الكلام الاول المفروض من الاصوات المتكونة وليست عينها إلا بحسب الاعتبار وضرب من التوسع. وليست هذه الاصوات كلاما إلا من حيث إنها علائم وأمارات بحسب الوضع والاعتبار تدل على معان ذهنية، ولا واحدا إلا باعتبار تعلق غرض واحد بها. ويتحصل بذلك أن الكلام بما أنه كلام أمر وضعي اعتباري لا تحقق له في الخارج من ظرف الدعوى والاعتبار، وإنما المتحقق في الخارج حقيقة الافراد من الصوت التي جعلت علائم بالوضع والاعتبار بما أنها أصوات لا بما أنها علائم مجعولة، وإنما ينسب التحقق إلى الكلام بنوع من العناية. ومن هنا يظهر أن الكلام لا يتصف بشئ من الحدوث والبقاء فإن الحدوث وهو مسبوقية الوجود بالعدم الزماني والبقاء وهو كون الشئ موجودا في الان بعد الان على نعت الاتصال من شؤون الحقائق الخارجية، ولا تحقق للامور الاعتبارية في الخارج. وكذا لا يتصف الكلام بالقدم وهو عدم كون وجود الشئ مسبوقا بعدم زماني لان القدم أيضا كالحدوث في كونه من شؤون الحقائق الخارجية دون الامور الاعتبارية. على أن في اتصاف الكلام بالقدم إشكالا آخر بحياله، وهو أن الكلام هو المؤلف من حروف مترتبة متدرجة بعضها قبل وبعضها بعد، ولا يتصور في القدم تقدم وتأخر وإلا كان المتأخر حادثا وهو قديم هذا خلف، فالكلام - بمعنى الحروف المؤلفة الدالة على معنى تام بالوضع - لا يتصور فيه قدم مع كونه محالا في نفس الامر فافهم ذلك. 2 - هل الكلام بما هو كلام فعل أو صفة ذاتية بمعنى أن ذات المتكلم هل هي
________________________________________
[ 249 ]
تامة في نفسها مستغنية عن الكلام ثم يتفرع عليها الكلام أو أن قوام الذات متوقف عليه كتوقف الحيوان في ذاته على الحياة أو كعدم انفكاك الاربعة عن الزوجية في وجه، لا ريب أن الكلام بحسب الحقيقة ليس فعلا ولا صفة للمتكلم لانه أمر اعتباري لا تحقق له إلا في ظرف الدعوى والوضع فلا يكون فعلا حقيقيا صادرا عن ذات خارجية ولا صفة لموصوف خارجي. نعم الكلام بما أنه عنوان لامر خارجي وهو الاصوات المؤلفة وهي أفعال خارجية للمتصوت بها تعد فعلا للمتكلم بنوع من التوسع ثم يؤخذ عن نسبته إلى الفاعل وصف له وهو التكلم والتكليم كما في نظائره من الاعتباريات كالخضوع والاعظام والاهانة والبيع والشرى ونحو ذلك. 3 - من الممكن أن يحلل الكلام من جهة غرضه وهو الكشف عن المعاني المكنونة في الضمير فيعود بذلك أمرا حقيقيا بعد ما كان اعتباريا، وهذا أمر جار في جل الاعتباريات أو كلها، وقد استعمله القرآن في معان كثيرة كالسجود والقنوت والطوع والكره والملك والعرش والكرسي والكتاب وغير ذلك. فحقيقة الكلام هو ما يكشف به عن مكنونات الضمير فكل معلول كلام لعلته لكشفه بوجوده عن كمالها المكنون في ذاتها، وأدق من ذلك أن صفات الشئ الذاتية كلام له يكشف به عن مكنون ذاته، وهذا هو الذي يذكر الفلاسفة أن صفاته تعالى الذاتية كالعلم والقدرة والحياة كلام له تعالى، وأيضا العالم كلامه تعالى. وبين أن الكلام بناء على هذا التحليل في قدمه وحدوثه تابع لسنخ وجوده، فالعلم الالهي كلام قديم بقدم الذات وزيد الحادث بما هو آية تكشف عن ربه كلام له حادث، والوحي النازل على النبي بما أنه تفهيم إلهي حادث بحدوث التفهيم وبما أنه في علم الله - واعتبر علمه كلاما له - قديم بقدم الذات كعلمه تعالى بجميع الاشياء من حادث وقديم. 4 - تحصل من الفصول السابقة أن القرآن الكريم إن أريد به هذه الايات التي نتلوها بما أنها كلام دال على معان ذهنية نظير سائر الكلام ليس بحسب الحقيقة لا حادثا ولا قديما نعم هو متصف بالحدوث بحدوث الاصوات التي هي معنونة بعنوان الكلام والقرآن.
________________________________________
[ 250 ]
وإن أريد به ما في علم الله من معانيها الحقة كان كعلمه تعالى بكل شئ حق قديما بقدمه فالقرآن قديم أي علمه تعالى به قديم كما أن زيدا الحادث قديم أي علمه تعالى به. ومن هنا يظهر أن البحث عن قدم القرآن وحدوثه بما أنه كلام الله مما لا جدوى فيه فإن القائل بالقدم إن أراد به أن المقروء من الايات بما أنها أصوات مؤلفة دالة على معانيها قديم غير مسبوق بعدم فهو مكابر، وإن أراد به أنه في علمه تعالى وبعبارة اخرى علمه تعالى بكتابه قديم فلا موجب لاضافة علمه إليه ثم الحكم بقدمه بل علمه بكل شئ قديم بقدم ذاته لكون المراد بهذا العلم هو العلم الذاتي. على أنه لا موجب حينئذ لعد الكلام صفة ثبوتية ذاتية اخرى له تعالى وراء العلم لرجوعه إليه ولو صح لناعد كل ما ينطبق بحسب التحليل على بعض صفاته الحقيقية الثبوتية صفة ثبوتية له لم ينحصر عدد الصفات الثبوتية بحاصر لجواز مثل هذا التحليل في مثل الظهور والبطون والعظمة والبهاء والنور والجمال والكمال والتمام والبساطة، إلى غير ذلك مما لا يحصى. والذي اعتبره الشرع وورد من هذا اللفظ في القرآن الكريم ظاهر في المعنى الاول المذكور مما لا تحليل فيه كقوله تعالى: " تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله " البقرة: 253، وقوله: " وكلم الله موسى تكليما " النساء: 164، وقوله: " وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه " البقرة: 75، وقوله: يحرفون الكلم عن مواضعه " المائدة: 13، إلى غير ذلك من الايات. وأما ما ذكره بعضهم أن هناك كلاما نفسيا قائما بنفس المتكلم غير الكلام اللفظي وأنشد في ذلك قول الشاعر: إن الكلام لفي الفؤاد وإنما * * جعل اللسان على الفؤاد دليلا. والكلام النفسي فيه تعالى هو الموصوف بالقدم دون الكلام اللفظى. ففيه أنه أن أريد بالكلام النفسي معنى الكلام اللفظي أو صورته العلمية التي تنطبق على لفظه عاد معناه إلى العلم ولم يكن أمرا يزيد عليه وصفة مغايرة له وإن أريد به معنى وراء ذلك فلسنا نعرفه في نفوسنا إذا راجعناها. وأما ما أنشد من الشعر في بحث عقلي فلا ينفعه ولا يضرنا، والابحاث العقلية أرفع مكانة من أن يصارع فيها الشعراء.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page