• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 201 الي 225


[ 201 ]
الاية في هذه الامة وهو المعنى المتعين. وفي تفسير القمى، وقوله: " فإنا قد فتنا قومك من بعدك " قال اختبرناهم بعدك " وأضلهم السامري " قال: بالعجل الذي عبدوه. وكان سبب ذلك أن موسى لما وعده الله أن ينزل عليه التوراة والالواح إلى ثلاثين يوما أخبر بني إسرائيل بذلك وذهب إلى الميقات وخلف أخاه على قومه فلما جاء الثلاثون يوما ولم يرجع موسى إليهم عصوا وأرادوا أن يقتلوا هارون وقالوا: إن موسى كذب وهرب منا، فجاءهم إبليس في صورة رجل فقال: لهم إن موسى قد هرب منكم ولا يرجع اليكم أبدا فاجمعوا لي حليكم حتى أتخذ لكم إلها تعبدونه. وكان السامري على مقدمة قوم موسى يوم أغرق الله فرعون وأصحابه فنظر إلى جبرئيل وكان على حيوان في صورة رمكة (1) وكانت كلما وضعت حافرها على موضع من الارض تحرك ذلك الموضع فنظر إليه السامري وكان من خيار أصحاب موسى فأخذ التراب من حافر رمكة جبرئيل وكان يتحرك فصره في صرة فكان عنده يفتخر به على بني إسرائيل فلما جاءهم إبليس واتخذوا العجل قال للسامري: هات التراب الذي معك، فجاء به السامري فألقاه في جوف العجل فلما وقع التراب في جوفه تحرك وخار ونبت عليه الوبر والشعر فسجد له بنو إسرائيل وكان عدد الذين سجدوا له سبعين ألفا من بني إسرائيل فقال لهم هارون كما حكى الله: " يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان فاتبعوني وأطيعوا أمري، قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع الينا موسى " فهموا بهارون فهرب منهم وبقوا في ذلك حتى تم ميقات موسى أربعين ليلة. فلما كان يوم عشرة من ذي الحجة أنزل الله علم الالواح فيها التوراة وما يحتاج إليه من أحكام السير والقصص فأوحى الله إلى موسى أنا فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري وعبدوا العجل وله خوار، فقال: يا رب العجل من السامري فالخوار ممن فقال: مني يا موسى، إني لما رأيتهم قد ولوا عني إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة. " فرجع موسى كما حكى الله - إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم
________________________________________
(1) الرمكة: الفرس تتخذ للنسل. (*)
________________________________________
[ 202 ]
ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي "، ثم رمى بالالواح وأخذ بلحية أخيه ورأسه يجره إليه فقال: " ما منعك إذ رأيتهم ضلوا أن لا تتبعني أفعصيت أمري ؟ " فقال هارون - كما حكى الله -: " يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي. فقال له بنو إسرائيل: " ما أخلفنا موعدك بملكنا " قال: " ما خالفناك " ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم " يعني من حليهم " فقذفناها " قال: التراب الذي جاء به السامري طرحناه في جوفه. ثم أخرج السامري العجل وله خوار فقال له موسى: " ما خطبك يا سامري ؟ " قال السامري: " بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول " يعني من تحت حافر رمكة جبرئيل في البحر " فنبذتها " أي أمسكتها وكذلك سولت لي نفسي " أي زينت. فأخرج موسى العجل فأحرقه بالنار وألقاه في البحر، ثم قال موسى للسامري: " إذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس " يعنى ما دمت حيا وعقبك هذه العلامة فيكم قائمة: أن تقول: لا مساس حتى يعرفوا أنكم سامرية فلا يغتر بكم الناس فهم إلى الساعة بمصر والشام معروفين لا مساس، ثم هم موسى بقتل السامري فأوحى الله إليه: لا تقتله يا موسى فإنه سخي، فقال له موسى: انظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا، إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما ". أقول: ظاهر هذا الذي نقلناه أن قوله: " والسبب في ذلك " الخ، ليس ذيلا للرواية التي في أول الكلام قال بالعجل الذي عبدوه " بل هو من كلام القمي اقتبسه من أخبار آخرين كما هو دأبه في أغلب ما أورده في تفسيره من أسباب نزول الايات وعلى ذلك شواهد في خلال القصة التي ذكرها، نعم قوله في أثناء القصة: " قال ما خالفناك " رواية وكذا قوله: " قال التراب الذي جاء به السامري طرحناه في جوفه " رواية، وكذا قوله: " ثم هم موسى " الخ، مضمون رواية مروية عن الصادق عليه السلام.
________________________________________
[ 203 ]
ثم على تقدير كونه رواية وتتمة للرواية السابقة هي رواية مرسلة مضمره. وفي الدر المنثور أخرج الفاريابى وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبى حاتم والحاكم وصححه عن علي عليه السلام قال: لما تعجل موسى إلى ربه عمد السامري فجمع ما قدر عليه من حلي بنى إسرائيل فضربه عجلا ثم ألقى القبضي في جوفه فإذا هو عجل جسد له خوار فقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى فقال لهم هارون: يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا الحديث. أقول: وما نسب فيه من القول إلى هارون حكاه القرآن عن موسى عليهما السلام.. وفيه أخرج ابن جرير عن ابى عباس قال: لما هجم فرعون على البحر هو وأصحابه وكان فرعون على فرس أدهم حصان هاب الحصان أن يقتحم البحر فمثل له جبريل على فرس أنثى فلما رآها الحصان هجم خلفها وعرف السامري جبريل لان أمه حين خافت ان يذبح خلفته في غار وأطبقت عليه فكان جبريل يأتيه فيغذوه بأصابعه في واحدة لبنأ وفي الاخرى عسلا وفي الاخرى سمنا فلم يزل يغذوه حتى نشأ فلما عاينه في البحر عرفه فقبض قبضة من أثر فرسه قال: أخذ من تحت الحافر قبضة وألقي في روع السامري أنك لا تلقيها على شئ فتقول: كن كذا إلا كان. فلم تزل القبضة معه في يده حتى جاوز البحر فلما جاوز موسى وبنو إسرائيل البحر أغرق الله آل فرعون قال موسى لاخيه هارون أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ومضى موسى لموعد ربه، وكان مع بنى إسرائيل حلي من حلي آل فرعون فكأنهم تأثموا منه فأخرجوه لتنزل النار فتأكله فلما جمعوه قال السامري بالقبضة هكذا فقذفها فيه فقال: كن عجلا جسدا له خوار فصار عجلا جسدا له خوار فكان يدخل الريح من دبره ويخرج من فيه يسمع له صوت فقال: هذا إلهكم وإله موسى فعكفوا على العجل يعبدونه فقال هارون: يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع الينا موسى. أقول والخبر - كما ترى - لا يتضمن كون تراب الحافر ذا خاصية الاحياء لكنه مشتمل على أعظم منه وهو كونه ذا خاصية كلمة التكوين فالسامرى على هذا إنما استعمله ليخرج الحلي من النار في صورة عجل جسد له خوار فخرج كما أراد من غير
________________________________________
[ 204 ]
سبب طبيعي عادى وأما الحياة فلا ذكر لها فيه بل ظاهر قوله بدخول الريح في جوفه وخروجه بصوت عدم اتصافه بالحياة. على أن ما فيه من إخفاء أم السامري إياه لما ولدته في غار خوفا من أن يذبحه فرعون وأن جبريل كان يأتيه فيغذوه بأصابعه حتى نشأ مما لا يعتمد عليه وكون السامري من بني إسرائيل غير معلوم بل أنكره ابن عباس نفسه في خبر سعيد بن جبير المفصل في القصة وروى عن أبن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان من أهل كرمان. وفيه أخرج ابن أبي حاتم عن السدى قال: انطلق موسى إلى ربه فكلمه فلما كلمه قال له: ما أعجلك عن قومك يا موسى ؟ قال: هم أولاء على أثرى وعجلت اليك رب لترضى قال فانا قدفتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري فلما خبره خبرهم قال: يا رب هذا السامري أمرهم أن يتخذوا العجل أرأيت الروح من نفخها فيه ؟ قال الرب: أنا قال: يا رب فأنت إذا أضللتهم. ثم رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال: حزينا قال: يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا - إلى قوله - ما أخلفنا موعدك بملكنا يقول: بطاقتنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم يقول: من حلي القبط فقذفناها فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فعكفوا عليه يعبدونه وكان يخور ويمشى فقال لهم هارون يا قوم إنما فتنتم به يقول: ابتليتم بالعجل قال: فما خطبك يا سامري ما بالك - إلى قوله - وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه. قال: فأخذه وذبحه ثم حرقه بالمبرد يعني سحكه ثم ذراه في اليم - فلم يبق نهر يجرى يومئذ إلا وقع فيه منه شئ ثم قال لهم موسى: اشربوا منه فشربوا فمن كان يحبه خرج على شاربيه الذهب، فذلك حين يقول: وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم. الحديث. أقول: ومن عجيب ما اشتمل عليه قصة إنبات الذهب على شوارب محبي العجل عن شرب الماء، وحمله قوله تعالى: " وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم " عليه ولفظة " في قلوبهم " نعم الدليل على أن المراد بالاشراب حلول حبه ونفوذه في قلوبهم دون شرب الماء الذي نسف فيه بعد السحك.
________________________________________
[ 205 ]
وأعجب منه جمعه بين ذبحه وسحكه ولا يكون ذبح إلا في حيوان ذي لحم ودم ولا يتيسر السحك والبرد إلا في جسد مسبوك من ذهب أو فلز آخر. وفيه أخرج عبد بن حميد وابن أبى حاتم وأبو الشيخ عن علي قال: إن جبريل لما نزل فصعد بموسى إلى السماء بصر به السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس وحمل جبريل موسى خلفه حتى إذا دنا من باب السماء صعد وكتب الله الالواح وهو يسمع صرير الاقلام في الالواح فلما أخبره أن قومه قد فتنوا من بعده نزل موسى فأخذ العجل فأحرقه. أقول: وهو يتضمن ما هو أعجب من سوابقه وهو عروج جبريل بموسى إلى السماء وسياق آيات القصة في هذه السورة وغيرها لا يساعده، وأعجب منه أخذ التراب من أثر حافر فرس جبريل حين نزل للعروج بموسى وهو في الطور والسامري مع بني إسرائيل، ولو صح هذا النزول والصعود فقد كان في آخر الميقات وإضلال السامري بنى إسرائيل قبل ذلك بأيام. ونظير هذا الاشكال وارد على سائر الاخبار التى تتضمن أخذه التربة من تحت حافر فرس جبريل حين تمثل لفرعون حتى دخل فرسه البحر فإن فرعون وأصحابه إنما دخلوا البحر بعد خروج بني إسرائيل ومعهم السامري - لو كان هناك - من البحر على ما لعرض البحر من المسافة فأين كان السامري من فرعون ؟. وأعظم ما يرد على هذه الاخبار - كما تقدمت الاشارة - إليه أولا كونها مخالفة للكتاب حيث أن الكتاب ينص على كون العجل جسدا غير ذي روح وهي تثبت له جسما ذا حياة وروح ولا حجية لخبر وإن كان صحيحا اصطلاحا مع مخالفة الكتاب ولو لا ذلك لسقط الكتاب عن الحجية مع مخالفة الخبر فيتوقف حجية الكتاب على موافقة الخبر أو عدم مخالفته مع توقف حجية الخبر بل نفس قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذى يحكيه الخبر بل نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حجية ظاهر الكتاب وهو دور ظاهر، وتمام البحث في علم الاصول. وثانيا: كونها أخبار آحاد ولا معنى لجعل حجية أخبار الاحاد في غير الاحكام الشرعية فان حقيقة الجعل التشريعي إيجاب ترتيب أثر الواقع على الحجة الظاهرية وهو
________________________________________
[ 206 ]
متوقف على وجود أثر عملي للحجة كما في الاحكام، وأما غيرها فلا أثر فيه حتى يترتب على جعل الحجية مثلا إذا وردت الرواية بكون البسملة جزء من السورة كان معنى جعل حجيتها وجوب الاتيان بالبسملة في القراءة في الصلاة وأما إذا ورد مثلا أن السامري كان رجلا من كرمان وهو خبر واحد ظني كان معنى جعل حجيته أن يجعل الظن بمضمونه قطعا وهو حكم تكويني ممتنع وليس من التشريع في شئ وتمام الكلام في علم الاصول. وقد أورد بعض من لا يرتضى تفسير الجمهور للاية بمضمون هذه الاخبار عليها إيرادات أخر ردية وأجاب عنها بعض المنتصرين لهم بوجوه هي أردئ منها. وقد أيد بعضهم التفسير المذكور بأنه تفسير بالمأثور من خير القرون - القرن الاول قرن الصحابة والتابعين - وليس مما يقال فيه بالرأى فهو في حكم الخبر المرفوع والعدول عنه ضلال. وفيه أولا: أن كون قرن ما خير القرون لا يوجب حجية كل قول انتهى إليه ولا ملازمة بين خيرية القرن وبين كون كل قول فيه حقا صدقا وكل رأي فيه صوابا وكل عمل فيه صالحا، ويوجد في الاخبار المأثورة عنهم كمية وافرة من الاقوال المتناقضة والروايات المتدافعة وصريح العقل يقضي ببطلان أحد المتناقضين وكذب أحد المتدافعين ويوجب على الباحث الناقد أن يطالبهم الحجة على قولهم كما يطالب غيرهم ولهم فضلهم فيما فضلوا. وثانيا: أن كون المورد الذي ورد عنهم الاثر فيه مما لا يقال فيه بالرأي كجزئيات القصص مثلا مقتضيا لكون أثرهم في حكم الخبر المرفوع إنما ينفع إذا كانوا منتهين في رواياتهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنا نجدهم حتى الصحابة كثيرا ما يروون من الروايات ما ينتهى إلى اليهود وغيرهم كما لا يرتاب فيه من راجع الاخبار المأثورة في قصص ذي القرنين وجنة إرم وقصة موسى والخضر والعمالقة ومعجزات موسى وما ورد في عثرات الانبياء وغير ذلك مما لا يعد ولا يحصى فكونها في حكم المرفوعة لا يستلزم رفعها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وثالثا: سلمنا كونها في حكم المرفوعة لكن المرفوعة منها وحتى الصحيحة
________________________________________
[ 207 ]
في غير الاحكام لا حجية فيها وخاصة ما كان مخالفا للكتاب منها كما تقدم. وفي المحاسن بإسناده عن الوصافي عن أبى جعفر عليه السلام قال: إن فيما ناجى الله به موسى أن قال: يا رب هذا السامري صنع العجل، الخوار من صنعه ؟ فأوحى الله تبارك وتعالى إليه: إن تلك فتنتي فلا تفحص عنها. أقول: وهذا المعنى وارد في مختلف الروايات بألفاظ مختلفة وعمدة الوجه في ذلك شيوع النقل بالمعنى وخاصة في النبويات من جهة منعهم كتابة الحديث في القرن الاول الهجري حتى ضربه بعض الرواة في قالب الجبر وليس به فإنه إضلال مجازاة وليس بإضلال ابتدائى. وقد نسب هذا النوع من الاضلال في كتابه إلى نفسه كثيرا كما قال: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين " البقره: 26. واحسن تعبير عن معنى هذا الاضلال في الروايات ما تقدم في رواية القمي: " فقال يعني موسى: يا رب العجل من السامري فالحوار ممن ؟ فقال: منى يا موسى إني لما رأيتهم قد ولوا عنى إلى العجل أحببت أن أزيدهم فتنة ". وما وقع في رواية راشد بن سعد المنقولة في الدر المنثور وفيه " قال: يا رب فمن جعل فيه الروح ؟ قال: أنا، قال: فأنت يا رب أضللتهم ! قال: يا موسى يا رأس النبيين ويا أبا الحكام، إنى رأيت ذلك في قلوبهم فيسرته لهم ". الحديث. وفي المجمع قال الصادق عليه السلام: إن موسى هم بقتل السامري فأوحى الله سبحانه إليه: لا تقتله يا موسى فإنه سخي. * * * كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا (99) - من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيمة وزرا (100) - خالدين فيه وساء لهم يوم القيمة حملا (101) - يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا (102) - يتخافتون بينهم إن
________________________________________
[ 208 ]
لبثتم إلا عشرا (103) - نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوما (104) - ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا (105) - فيذرها قاعا صفصفا (106) - لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (107) - يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الاصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا (108) - يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا (109) - يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما (110) - وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلما (111) - ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما (112) -. وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا (113) - فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدنى علما (114) (بيان) تذييل لقصة موسى بآيات متضمنة للوعيد يذكر فيها من أهوال يوم القيامة لغرض الانذار. قوله تعالى: " كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكرا " الظاهر أن الاشاره إلى خصوصية قصة موسى والمراد بما قد سبق الامور والحوادث الماضية والامم الخالية أي على هذا النحو قصصنا قصة موسى وعلى شاكلته
________________________________________
[ 209 ]
نقص عليك من أخبار ما قد مضى من الحوادث والامم. وقوله: " وقد آتيناك من لدنا ذكرا " المراد به القرآن الكريم أو ما يشتمل عليه من المعارف المتنوعة التي يذكر بها الله سبحانه من حقائق وقصص وعبر وأخلاق وشرائع وغير ذلك. قوله تعالى: " من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا " ضمير " عنه " للذكر والوزر الثقل والاثم والظاهر بقرينه الحمل إرادة المعنى الاول وتنكيره للدلالة على عظم خطره، والمعنى من أعرض عن الذكر فإنه يحمل يوم القيامة ثقلا عظيم الخطر ومر الاثر، شبه الاثم من حيث قيامة بالانسان بالثقل الذي يحمله الانسان وهو شاق عليه فاستعير له اسمه. قوله تعالى خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا " المراد من خلودهم في الوزر خلودهم في جزائه وهو العذاب بنحو الكناية والتعبير في " خالدين " بالجمع باعتبار معنى قوله: " من أعرض عنه " كما أن التعبير في " أعرض " و " فإنه يحمل " باعتبار لفظه، فالاية كقوله: " ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا " الجن: 23. ومع الغض عن الجهات اللفظية فقوله: من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيها " من أوضح الايات دلالة على أن الانسان إنما يعذب بعمله ويخلد فيه وهو تجسم الاعمال. وقوله: " وساء لهم يوم القيامة حملا " ساء من أفعال الذم كبئس، والمعنى: وبئس الحمل حملهم يوم القيامة، والحمل بكسر الحاء وفتحها واحد، غير أن ما بالكسر هو المحمول في الظاهر كالمحمول على الظهر وما بالفتح هو المحمول في الباطن كالولد في البطن. قوله تعالى: " يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقا " " يوم ينفخ " الخ، بدل من يوم القيامة في الاية السابقة، ونفخ في الصور كناية عن الاحضار والدعوة ولذا أتبعه فيما سيأتي بقوله: " يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له " الاية 108 من السورة. والزرق جمع أزرق من الزرقه وهي اللون الخاص، وعن الفراء ان المراد بكونهم
________________________________________
[ 210 ]
زرقا كونهم عميا لان العين إذا ذهب نورها أزرق ناظرها وهو معنى حسن ويؤيده. قوله تعالى: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا " أسري: 97. وقيل: المراد زرقة أبدانهم من التعب والعطش، وقيل: زرقة عيونهم لان أسوا ألوان العين وأبغضها عند العرب زرقتها، وقيل: المراد به كونهم عطاشا لان العطش الشديد يغير سواد العين ويريها كالازرق وهي وجوه غير مرضية. قوله تعالى: " يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشرا - إلى قوله - إلا يوما " التخافت تكليم القوم بعضهم بعضا بخفض الصوت وذلك من أهل المحشر لهول المطلع، وقوله: " إن لبثتم إلا عشرا " بيان لكلامهم الذي يتخافتون فيه، ومعنى الجملة على ما يعطيه السياق: يقولون ما لبثتم في الدنيا قبل الحشر إلا عشرة أيام، يستقلون لبثهم فيها بقياسه إلى ما يلوح لهم من حكم الخلود والابدية. وقوله: " نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة أن لبثتم إلا يوما " أي لنا إحاطة علمية بجميع ما يقولون في تقرير لبثهم إذ يقول أمثلهم طريقة أي الاقرب منهم إلى الصدق إن لبثتم في الارض إلا يوما وإنما كان قائل هذا القول أمثل القوم طريقه وأقربها إلى الصدق لان اللبث المحدود الارضي لا مقدار له إذا قيس من اللبث الابدي الخالد، وعده يوما وهو أقل من العشرة أقرب إلى الواقع من عده عشرة والقول مع ذلك نسبي غير حقيقي وحقيقة القول فيه ما حكاه سبحانه في قوله: " وقال الذين أوتوا العلم والايمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون " الروم: 56 وسيجئ استيفاء البحث في معنى هذا اللبث في تفسير الاية إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " ويسألونك عن الجبال - إلى قوله - ولا أمتا تدل الاية على أنهم سألوه صلى الله عليه وآله وسلم عن حال الجبال يوم القيامة فاجيب عنه بالايات. وقوله: " فقل ينسفها ربي نسفا " أي يذرؤها ويثيرها فلا يبقى منها في مستقرها شئ وقوله فيذرها قاعا صفصفا " القاع الارض المستوية والصفصف الارض المستوية الملساء، والمعنى فيتركها أرضا مستوية ملساء لا شئ عليها، وكأن الضمير للارض باعتبار أنها كانت جبالا، وقوله: لا ترى فيها عوجا ولا أمتا قيل: العوج
________________________________________
[ 211 ]
ما أنخفض من الارض والامت ما ارتفع منها، والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد كل من له أن يرى والمعنى لا يرى راء فيها منخفضا كالاودية ولا مرتفعا كالروابي والتلال. قوله تعالى: " يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الاصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا " نفي العوج إن كان متعلقا بالاتباع - بأن يكون " لا عوج له " حالا عن ضمير الجمع وعامله يتبعون - فمعناه أن ليس لهم إذا دعوا إلا الاتباع محضا من غير أي توقف أو استنكاف أو تثبط أو مساهلة فيه لان ذلك كله فرع القدرة والاستطاعة أو توهم الانسان ذلك لنفسه وهم يعاينون اليوم أن الملك والقدرة لله سبحانه لا شريك له قال تعالى: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " المؤمن: 16، وقال: " ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعا " البقرة: 165. وإن كان متعلقا بالداعي كان معناه أن الداعي لا يدع أحدا إلا دعاه من غير أن يهمل أحدا بسهو أو نسيان أو مساهلة في الدعوة. لكن تعقيب الجملة بقوله: " وخشعت الاصوات للرحمن " الخ يناسب المعنى الاول فإن ارتفاع الاصوات عند الدعوة والاحضار إنما يكون للتمرد والاستكبار عن الطاعة والاتباع. وقوله: " وخشعت الاصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا " قال الراغب: " الهمس الصوت الخفى وهمس الاقدام أخفى ما يكون من صوتها قال تعالى: " فلا تسمع إلا همسا ". انتهى والخطاب في قوله: " لا تسمع " للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمراد كل سامع يسمع والمعنى وانخفضت الاصوات لاستغراقهم في المذلة والمسكنة لله فلا يسمع السامع إلا صوتا خفيا. قوله تعالى: يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا " نفي نفع الشفاعة كناية عن أن القضاء بالعدل والحكم الفصل على حسب الوعد والوعيد الالهيين جار نافذ يومئذ من غير أن يسقط جرم مجرم أو يغمض عن معصية عاص لمانع يمنع منه فمعنى نفع الشفاعة تأثيرها. وقوله: إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا " الاستثناء يدل على أن العناية في الكلام متعلقة بنفي الشفعاء لا بتأثير الشفاعة في المشفوع لهم، والمراد الاذن في
________________________________________
[ 212 ]
الكلام للشفاعة كما يبينه قوله بعده: " ورضي له قولا " فإن التكلم يومئذ منوط بإذنه تعالى، قال: " يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه " هود: 105 وقال: " لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا " النبأ: 38. وقد مر القول في معنى الاذن في التكلم في تفسير سورة هود في الجزء العاشر من الكتاب. وأما كون القول مرضيا فمعناه أن لا يخالطه ما يسخط الله من خطأ أو خطيئة قضاء لحق الاطلاق ولا يكون ذلك إلا ممن أخلص الله سريرته من الخطأ في الاعتقاد والخطيئة في العمل وطهر نفسه من رجس الشرك والجهل في الدنيا أو من الحقه بهم فإن البلاء والابتلاء اليوم مع السرائر قال تعالى: " يوم تبلى السرائر " وللبحث ذيل طويل سبمر بك بعضه إن شاء الله تعالى. قوله تعالى: " يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما " إن كان ضمائر الجمع في الاية راجعة إلى " من أذن له " باعتبار معناه كان المراد أن مرضي قولهم لا يخفى على الله فإن علمه محيط بهم وهم لا يحيطون به علما فليس في وسعهم أن يغروه بقول مزوق غير مرضى. وإن كانت راجعة إلى المجرمين فالاية تصف علمه تعالى بهم في موقف الجزاء وهو ما بين أيديهم وقبل أن يحضروا الموقف في الدنيا حيا أو ميتا وهو ما خلفهم فهم محاطون لعلمه ولا يحيطون به علما فيجزيهم بما فعلوا وقد عنت وجوههم للحى القيوم فلا يستطيعون ردا لحكمه وعند ذلك خيبتهم. وهذا الاحتمال أنسب لسياق الايات. قوله تعالى: وعنت الوجوه للحي القيوم " العنوة هي الذلة قبال قهر القاهر وهي شأن كل شئ دون الله سبحانه يوم القيامة بظهور السلطنة الالهية كما قال: " لمن الملك اليوم لله الواحد القهار " المؤمن: 16 فلا يملك شئ شيئا بحقيقة معنى الكلمة وهو الذلة والمسكنة على الاطلاق وإنما نسبت العنوة إلى الوجوه لانها أول ما تبدو تظهر في الوجوه، ولازم هذه العنوة أن لا يمنع حكمه ولا نفوذه فيهم مانع ولا يحول بينه وبين ما أراد بهم حائل. واختير من أسمائه الحي القيوم لان مورد الكلام الاموات أحيوا ثانيا وقد تقطعت عنهم الاسباب اليوم والمناسب لهذا الظرف من صفاته حياته المطلقة وقيامه بكل أمر.
________________________________________
[ 213 ]
قوله تعالى: " وقد خاب من حمل ظلما ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما " بيان لجزائهم أما قوله وقد خاب من حمل ظلما " فالمراد بهم المجرمون غير المؤمنين فلهم الخيبة بسوء الجزاء لا كل من حمل ظلما ما أي ظلم كان من مؤمن أو كافر فإن المؤمن لا يخيب يومئذ بالشفاعة. ولو كان المراد العموم وأن كل من حمل ظلما ما فهو خائب فالمراد بالخيبة الخيبة من السعادة التي يضادها ذلك الظلم دون الخيبة من السعادة مطلقا. وأما قوله: " ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن " الخ فهو بيان استطرادى لحال المؤمنين الصلحاء جيئ به لاستيفاء الاقسام وتتميم القول في الفريقين الصلحاء والمجرمين، وقد قيد العمل الصالح بالايمان لان الكفر يحبط العمل الصالح بمقتضى آيات الحبط، والهضم هو النقص، ومعنى الاية ظاهر. وقد تم باختتام هذه الاية بيان إجمال ما يجري عليهم يوم الجزاء من حين يبعثون إلى أن يجزوا بأعمالهم فقد ذكر إحضارهم بقوله: " يوم ينفخ في الصور " أولا ثم حشرهم وقرب ذلك منهم حتى أنه يرى أمثلهم طريقة أنهم لبثوا في الارض يوما واحدا بقوله: " يتخافتون بينهم " الخ ثانيا. ثم تسطيح الارض لاجتماعهم عليها بقوله. " ويسألونك عن الجبال " الخ، ثالثا. ثم طاعتهم واتباعهم الداعي للحضور بقوله: " يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له " الخ رابعا. ثم عدم تأثير الشفاعة لاسقاط الجزاء بقوله: " يومئذ لا تنفع الشفاعة الخ خامسا. ثم إحاطة علمهم بحالهم من غير عكس وهي مقدمة للحساب والجزاء بقوله: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم " الخ سادسا. ثم سلطانه عليهم وذلتهم عنده ونفوذ حكمه فيهم بقوله: " وعنت الوجوه للحي القيوم " سابعا. ثم الجزاء بقوله: " وقد خاب " الخ ثامنا، وبهذا يظهر وجه ترتب الايات وذكر ما ذكر فيها. قوله تعالى: " وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا " ظاهر سياقها أن الاشارة بكذلك إلى خصوصيات بيان الايات، وقرآنا عربيا " حال من الضمير في " أنزلناه " والتصريف هو التحويل من حال إلى حال، والمعنى وعلى ذلك النحو من البيان المعجز أنزلنا الكتاب والحال أنه قرآن مقرو عربي وأتينا فيه ببعض ما أوعدناهم في صورة بعد صورة.
________________________________________
[ 214 ]
وقوله لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا " قد أورد فيما تقدم من قوله: " لعله يذكر أو يخشى " الذكر مقابلا للخشية ويستأنس منه أن المراد بالاتقاء ههنا هو التحرز من المعاداة واللجاج الذي هو لازم الخشية باحتمال الضرر دون الاتقاء المترتب على الايمان بإتيان الطاعات واجتناب المعاصي، ويكون المراد بإحداث الذكر لهم حصول التذكر فيهم وتتم المقابلة بين الذكر والتقوى من غير تكلف. والمعنى - والله أعلم - لعلهم يتحرزون المعاداة مع الحق لحصول الخشية في قلوبهم باحتمال الخطر لاحتمال كونه حقا أو يحدث لهم ذكرا للحق يعتقدوا به. قوله تعالى: " فتعالى الله الملك الحق تسبيح وتنزيه له عن كل ما لا يليق بساحة قدسه، وهو يقبل التفرع على إنزال القرآن وتصريف الوعيد فيه لهداية الناس والتفرع عليه وعلى ما ذكر قبله من حديث الحشر والجزاء وهذا هو الانسب نظرا إلى انسلاك الجميع في سلك واحد وهو أنه تعالى ملك يتصرف في ملكه بهداية الناس إلى ما فيه صلاح أمرهم ثم إحضارهم وجزائهم على ما عملوا من خير أو شر. فتعالى الله الذي يملك كل شئ ملكا مطلقا لا مانع من تصرفه ولا معقب لحكمه يرسل الرسل وينزل الكتب لهداية الناس وهو من شؤن ملكه ثم يبعثهم بعد موتهم ويحضرهم فيجزيهم على ما عملوا وقد عنوا للحي القيوم وهذا أيضا من شؤن ملكه فهو الملك في الاولى والاخرة وهو الحق الثابت على ما كان لا يزول عما هو عليه. ويمكن أن يتفرع على جميع ما تقدم من قصة موسى وما فرع عليها إلى هنا ويكون بمنزلة ختم ذلك بالتسبيح والاستعظام. قوله تعالى: " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى اليك وحيه وقل رب زدني علما " السياق يشهد بأن في الكلام تعرضا لتلقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحي القرآن، فضمير " وحيه " للقرآن، وقوله: " " ولا تعجل بالقرآن " نهي عن العجل بقراءته، ومعنى قوله: " من قبل أن يقضى اليك وحيه " من قبل أن يتم وحيه من ملك الوحي. فيفيد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا جاءه الوحي بالقرآن يعجل بقراءة ما يوحى إليه قبل أن يتم الوحي فنهي عن أن يعجل في قراءته قبل انقضاء الوحى وتمامه فيكون الاية في معنى قوله تعالى في موضع آخر: " لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه " القيامة: 18.
________________________________________
[ 215 ]
ويؤيد هذا المعنى قوله بعد: وقل رب زدني علما " فإن سياق قوله: لا تعجل به وقل رب زدني، يفيد أن المراد هو الاستبدال أي بدل الاستعجال في قراءة ما لم ينزل بعد، طلبك زيادة العلم ويؤل المعنى إلى أنك تعجل بقراءة ما لم ينزل بعد لان عندك علما به في الجملة لكن لا تكتف به واطلب من الله علما جديدا بالصبر واستماع بقية الوحي. وهذه الاية مما يؤيد ما ورد من الروايات أن للقرآن نزولا دفعة واحدة غير نزوله نجوما على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلولا علم ما منه بالقرآن قبل ذلك لم يكن لعجله بقراءة ما لم ينزل منه بعد معنى. وقيل: المراد بالاية ولا تعجل بقراءة القرآن لاصحابك وإملائه عليهم من قبل أن يتبين لك معانيه، وأنت خبير بأن لفظ الاية لا تعلق له بهذا المعنى. وقيل: المراد ولا تسأل إنزال القرآن قبل أن يقضى الله وحيه اليك، وهو كسابقه غير منطبق على لفظ الاية. (بحث روائي) في تفسير القمي في قوله تعالى: " إذ يقول أمثلهم طريقة " قال: أعلمهم وأصلحهم يقولون: " إن لبثتم إلا يوما ". وفي المجمع قيل: إن رجلا من ثقيف سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كيف تكون الجبال مع عظمها يوم القيامة فقال: إن الله يسوقها بأن يجعلها كالرمال ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها. أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن جريح ولفظه: قالت قريش: يا محمد كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة ؟ فنزلت: " ويسألونك عن الجبال " الاية. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " قال: الامت: الارتفاع، والعوج: الحزون والذكوات. وفيه في قوله تعالى: " يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له " قال: مناد من عند الله عزوجل
________________________________________
[ 216 ]
وفيه في قوله تعالى: " وخشعت الاصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا " حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن أبي محمد الوابشي عن أبي الورد عن أبي جعفر عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الناس في صعيد واحد حفاة عراة فيوقفون في المحشر حتى يعرقوا عرقا شديدا وتشتد أنفاسهم فيمكثون في ذلك مقدار خمسين عاما وهو قول الله: " وخشعت الاصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسا " الحديث. وفي الكافي أحمد بن إدريس عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى قال: سألني أبو قرة المحدث أن أدخله إلى أبي الحسن الرضا عليه السلام فاستأذنته في ذلك فأذن لي فدخل عليه فسأله عن الحلال والحرام والاحكام حتى بلغ سؤاله إلى التوحيد. فقال أبو قرة: إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين فقسم الكلام لموسى ولمحمد الرؤية، فقال أبو الحسن عليه السلام: فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والانس " لا تدركه الابصار " " ولا يحيطون به علما " " وليس كمثله شئ " ؟ أليس محمد ؟ قال: بلى. قال: كيف يجئ رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله فيقول: " لا تدركه الابصار " " ولا يحيطون به علما " " وليس كمثله شئ " ثم يقول: أنا رأيته بعيني وأحطت به علما وهو على صورة البشر ؟ أما تستحيون ؟ ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشئ ثم يأتي بخلافه من وجه آخر، إلى قوله: وقد قال الله: " ولا يحيطون به علما " فإذا رأته الابصار فقد أحاط به العلم ووقعت المعرفة. فقال أبو قرة: فتكذب بالروايات ؟ فقال أبو الحسن عليه السلام: إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما ولا تدركه الابصار وليس كمثله شئ. وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " ولا تعجل بالقرآن " الاية، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا نزل عليه القرآن بادر بقراءته قبل تمام نزول الاية والمعنى: فأنزل الله " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى اليك وحيه " أي يفرغ من قراءته " وقل رب زدني علما ". أقول: وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن السدي إلا أن فيه
________________________________________
[ 217 ]
أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك خوفا من النسيان وأنت تعلم أن نسيان الوحي لا يلائم عصمة النبوة. وفي الدر المنثور أخرج الفاريابى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن الحسن قال: لطم رجل امرأته فجلاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تطلب قصاصا، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فأنزل الله " ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى اليك وحيه وقل رب زدني علما "، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت " الرجال قوامون على النساء " الاية. أقول: والحديث لا يخلو من شئ فلا الاية الاولى بمضمونها تنطبق على المورد ولا الثانية، وقد سبق البحث عن كليهما. وفي المجمع روت عائشة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إذا أتى على يوم لا أزداد فيه علما يقربني إلى الله فلا بارك الله لي في طلوع شمسه. أقول: والحديث لا يخلو من شئ وكيف يظن بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يدعو على نفسه في أمر ليس إليه، ولعل في الرواية تحريفا من جهة النقل بالمعنى * * * ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما (115) - وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى (116) - فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى (117) - إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى (118) - وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى (119) - فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى (120) - فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى
________________________________________
[ 218 ]
آدم ربه فغوى (121) - ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى (122) - قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى (123) - ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيمة أعمى (124) - قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125) - قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (126). (بيان) قصة دخول آدم وزوجة الجنة وخروجهما منها بوسوسة من الشيطان وقضائه تعالى عند ذلك بتشريع الدين وسعادة من أتبع الهدى وشقاء من أعرض عن ذكر الله. وقد وردت القصة في هذه السورة بأوجز لفظ وأجمل بيان، وعمدة العناية فيها - كما يشهد به تفصيل ذيلها - متعلقة ببيان ما حكم به من تشريع الدين والجزاء بالثواب والعقاب، ويؤيده أيضا التفريع بعدها بقوله: " وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه " الخ، نعم للقصة تعلق ما أيضا من جهة ذكرها توبة آدم بقوله فيما تقدم: " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ". والقصة - كما يظهر من سياقها في هذه السورة وغيرها مما ذكرت فيها كالبقرة والاعراف - تمثل حال الانسان بحسب طبعه الارضي المادي فقد خلقه الله سبحانه في أحسن تقويم وغمره في نعمه التي لا تحصى وأسكنه جنة الاعتدال ومنعه عن تعديه بالخروج إلى جانب الاسراف باتباع الهوى والتعلق بسراب الدنيا ونسيان جانب الرب تعالى بترك عهده إليه وعصيانه واتباع وسوسة الشيطان الذي يزين له الدنيا ويصور له ويخيل إليه أنه لو تعلق بها ونسي ربه اكتسب بذلك سلطانا على الاسباب الكونية يستخدمها ويستذل بها كل ما يتمناه من لذائذ الحياة وأنها باقية له وهو باق لها، حتى
________________________________________
[ 219 ]
إذا تعلق بها ونسي مقام ربه ظهرت له سوآت الحياة ولاحت له مساوئ الشقاء بنزول النوازل وخيانة الدهر ونكول الاسباب وتولي الشيطان عنه فطفق يخصف عليه من ظواهر النعم يستدرك بموجود نعمة مفقود اخرى ويميل من عذاب إلى ما هو أشد منه ويعالج الداء المؤلم بآخر أكثر منه ألما حتى يؤمر بالخروج من جنة النعمة والكرامة إلى مهبط الشقاء والخيبة. فهذه هي التي مثلت لادم عليه السلام إذ أدخله الله الجنة وضرب له بالكرامة حتى آل أمره إلى ما آل إلا أن واقعته عليه السلام كانت قبل تشريع أصل الدين وجنته جنة برزخية ممثلة في عيشة غير دنيوية فكان النهي لذلك إرشاديا لا مولويا ومخالفته مؤدية إلى أمر قهري ليس بجزاء تشريعي كما تقدم تفصيله في تفسير سورتي البقرة والاعراف. قوله تعالى: " ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما " المراد بالعهد الوصية وبهذا المعنى يطلق على الفرامين والدساتير العهود، والنسيان معروف وربما يكنى به عن الترك لانه لازمه إذ الشئ إذا نسي ترك، والعزم القصد الجازم إلى الشئ قال تعالى: " فإذا عزمت فتوكل على الله " آل عمران: 159 وربما أطلق على الصبر ولعله لكون الصبر أمرا شاقا على النفوس فيحتاج إلى قصد أرسخ وأثبت فسمي الصبر باسم لازمه قال تعالى: " إن ذلك لمن عزم الامور ". فالمعنى وأقسم لقد وصينا آدم من قبل فترك الوصية ولم نجد له قصدا جازما إلى حفظها أو صبرا عليها والعهد المذكور - على ما يظهر من قصته عليه السلام في مواضع من كلامه تعالى - هو النهي عن أكل الشجرة، بمثل قوله: " لا تقربا هذه الشجرة " الاعراف: 19. قوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس أبى " معطوف على مقدر والتقدير اذكر عهدنا إليه واذكر وقتا أمرنا الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس حتى يظهر أنه نسي ولم يعزم على حفظ الوصية، وقوله: " أبي " جواب سؤال مقدر تقديره ماذا فعل إبليس فقيل: أبى. قوله تعالى: " فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى " تفريع على إباء إبليس عن السجدة أي فلما أبي قلنا إرشادا لادم إلى ما فيه
________________________________________
[ 220 ]
صلاح أمره ونصحا: إن هذا الابي عن السجدة - إبليس - عدو لك ولزوجك الخ. وقوله: " فلا يخرجنكما من الجنة " توجيه نهى إبليس عن إخراجهما من الجنة إلى آدم كناية عن نهيه عن طاعته أو عن الغفلة عن كيده والاستهانة بمكره أي لا تطعه أو لا تغفل عن كيده وتسويله حتى يتسلط عليكما ويقوى على إخراجكما من الجنة وإشقائكما. وقد ذكر الامام الرازي في تفسيره وجوها لسبب عداوة إبليس لادم وزوجه وهي وجوه سخيفة لا فائدة في الاطناب بنقلها، والحق أن السبب فيها هو طرده من حضرة القرب ورجمه وجعل اللعن عليه إلى يوم القيامة كما يظهر من قوله لعنه الله على ما حكاه الله: " قال رب بما أغويتني لازينن لهم في الارض ولاغوينهم أجمعين " الحجر: 39. وقوله: " قال أرأيتك هذا الذي كرمت على لئن أخرتن إلى يوم القيامة لاحتنكن ذريته إلا قليلا " أسري: 62، ومعلوم أن تكريم آدم عليه هو تكريم نوع الانسان عليه كما أن أمره بالسجدة له كان أمرا بالسجدة لنوع الانسان فأصل السبب هو تقدم الانسان وتأخر الشيطان ثم الطرد واللعن. وقوله: " فتشقى " تفريع على خروجهما من الجنة والمراد بالشقاء التعب أي فتتعب إن خرجتما من الجنة وعشتما في غيرها وهو الارض عيشة أرضية لتهاجم الحوائج وسعيك في رفعها كالحاجة إلى الطعام والشراب واللباس والمسكن وغيرها. والدليل على أن المراد بالشقاء التعب الايتان التاليتان المشيرتان إلى تفسيره: " إن لك أن تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤ فيها ولا تضحى ". وهو أيضا دليل على أن النهي إرشادي ليس في مخالفته إلا الوقوع في المفسدة المترتبة على نفس الفعل وهو تعب السعي في رفع حوائج الحياة واكتساب ما يعاش به وليس بمولوي تكون نفس مخالفته مفسدة يقع فيها العبد وتستتبع مؤاخذة أخروية. على أنك عرفت أنه عهد قبل تشريع أصل الدين الواقع عند الامر بالخروج من الجنة والهبوط إلى الارض. وأما إفراد قوله: " فتشقى " ولم يقل فتشقيا بصيغة التثنية فلان العهد إنما نزل على آدم عليه السلام وكان التكليم متوجها إليه، ولذلك جيئ بصيغة الافراد في جميع ما
________________________________________
[ 221 ]
يرجع إليه كقوله: " فنسي ولم نجد له عزما " فتشقى " " أن لا تجوع فيها ولا تعرى " " لا تظمؤ فيها ولا تضحى " " فوسوس إليه " الخ " فعصى " الخ " ثم اجتباه ربه فتاب عليه " نعم جيئ بلفظ التثنية فيما لا غنى عنه كقوله: " عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما " " فأكلا منها فبدت لهما " " وطفقا يخصفان عليهما " " قال اهبطا منها بعضكم لبعض عدو " فتدبر فيه. وقيل: إن إفراد " تشقى " من جهة أن نفقه المرأة على المرء ولذا نسب الشقاء وهو التعب في إكتساب المعاش إلى آدم، وفيه أن الايتين التاليتين لا تلائمان ذلك ولو كان كما قال لقيل: إن لكما أن لا تجوعا الخ، وقيل أن الافراد لرعاية الفواصل وهو كما ترى. قوله تعالى: " إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤ فيها ولا تضحى " يقال: ضحى يضحى كسعى يسعى ضحوا وضحيا إذا أصابته الشمس أو برز لها وكأن المراد بعدم الضحو أن ليس هناك أثر من حرارة الشمس حتى تمس الحاجة إلى الاكتنان في مسكن يقي من الحر والبرد. وقد رتبت الامور الاربعة على نحو اللف والنشر المرتب لرعاية الفواصل والاصل في الترتيب أن لا تجوع فيها ولا تظمأ ولا تعرى ولا تضحى. قوله تعالى: " فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى " الشيطان هو الشرير لقب به إبليس لشرارته، والمراد بشجرة الخلد الشجرة المنهية والبلى صيرورة الشئ خلقا خلاف الجديد. والمراد بشجرة الخلد شجرة يعطي أكلها خلود الحياة والمراد بملك لا يبلى سلطنة لا تتأثر عن مرور الدهور واصطكاك المزاحمات والموانع فيؤل المعنى إلى نحو قولنا هل أدلك على شجرة ترزق بأكل ثمرتها حياة خالدة وملكا دائما فليس قوله: " لا يبلى " تكرارا لافادة التأكيد كما قيل. والدليل على ما ذكره ما في سورة الاعراف في هذا المعنى من قوله: " ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين " الاعراف: 20 ولا منافاة بين جمع خلود الحياة ودوام الملك ههنا بواو الجمع وبين الترديد بينهما في سورة
________________________________________
[ 222 ]
الاعراف لامكان أن يكون الترديد هناك لمنع الخلو لا لمنع الجمع، أو يكون الجمع ههنا باعتبار الاتصاف بهما جميعا والترديد هناك باعتبار تعلق النهي كأنه قيل: إن في هذه الشجرة صفتين وإنما نهاكما ربكما عنها إما لهذه أو لهذه، أو إنما نهاكما ربكما عنها أن لا تخلدا في الجنة مع ملك خالد أو أن لا تخلدا بناء على أن الملك الخالد يستلزم حياة خالدة فافهم ذلك وكيف كان فلا منافاة بين الترديد في آية والجمع في أخرى. قوله تعالى: " فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة " تقدم تفسيره في سورة الاعراف. قوله تعالى: " وعصى آدم ربه فغوى " الغي خلاف الرشد الذي هو بمعنى إصابة الواقع وهو غير الضلال الذي هو الخروج من الطريق، والهدى يقابلهما ويكون بمعنى الارشاد إذا قابل الغي كما في الاية التالية وبمعنى إراءة الطريق أو الايصال إلى المطلوب بتركيب الطريق إذا قابل الضلال فليس من المرضي تفسير الغي في الاية بمعنى الضلال. ومعصية آدم ربه - كما أشرنا إليه آنفا وقد تقدم تفصيله - إنما هي معصية أمر إرشادي لا مولوي والانبياء عليهم السلام معصومون من المعصية والمخالفة في أمر يرجع إلى الدين الذي يوحي إليهم من جهة تلقيه فلا يخطؤون، ومن جهة حفظه فلا ينسون ولا يحرفون، ومن جهة إلقائه إلى الناس وتبليغه لهم قولا فلا يقولون إلا الحق الذي أوحي إليهم وفعلا فلا يخالف فعلهم قولهم ولا يقترفون معصية صغيرة ولا كبيرة لان في الفعل تبليغا كالقول، وأما المعصية بمعنى مخالفة الامر الارشادي الذي لا داعي فيه إلا إحراز المأمور خيرا أو منفعة من خيرات حياته ومنافعها بانتخاب الطريق الاصلح كما يأمر وينهى المشير الناصح نصحا فإطاعته ومعصيته خارجتان من مجرى أدلة العصمة وهو ظاهر. وليكن هذا معنى قول القائل إن الانبياء عليهم السلام على عصمتهم يجوز لهم ترك الاولى ومنه أكل آدم عليه السلام من الشجرة والاية من معارك الاراء وقد اختلفت فيها التفاسير على حسب اختلاف مذاهبهم في عصمته الانبياء وكل يجر النار إلى قرصته. قوله تعالى: " ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى " الاجتباء - كما تقدم
________________________________________
[ 223 ]
مرارا - بمعنى الجمع على طريق الاصطفاء ففيه جمعه تعالى عبده لنفسه لا يشاركه فيه أحد وجعله من المخلصين بفتح اللام، وعلى هذا المعنى يتفرع عليه قوله: " فتاب عليه وهدى " كأنه كان ذا أجزاء متفرقة متشتتة فجمعها من هنا وهناك إلى مكان واحد ثم تاب عليه ورجع إليه وهداه وسلك به إلى نفسه. وإنما فسرنا قوله: " هدى " وهو مطلق بهدايته إلى نفسه بقرينة الاجتباء، ولا ينافي مع ذلك إطلاق الهداية لان الهداية إليه تعالى أصل كل هداية ومحتدها، نعم يجب تقييد الهداية بما يكون في أمر الدين من اعتقاد حق وعمل صالح، والدليل عليه تفريع الهداية في الاية على الاجتباء، فافهم ذلك. وعلى هذا فلا يرد على ما قدمنا أن ظاهر وقوع هذه الهداية بعد ذكر تلك الغواية أن يكون نوع تلك الغواية مرفوعا عنه وإذ كانت غواية في أمر إرشادي فالاية تدل على إعطاء العصمة له في موارد الامر المولوية والارشادية جميعا وصونه عن الخطأ في أمر الدين والدنيا معا. ووجه عدم الورود أن ظاهر تفرع الهداية على الاجتباء كونه مهديا إلى ما كان الاجتباء له والاجتباء إنما يتعلق بما فيه السعادة الدينية وهو قصر العبودية في الله سبحانه فالهداية أيضا متعلقة بذلك وهي الهداية التي لا واسطة فيها بينه تعالى وبين العبد المهدي ولا تتخلف أصلا كما قال: " فإن الله لا يهدي من يضل " النحل: 37، والهداية إلى منافع الحياة أيضا وإن كانت راجعة إليه تعالى لكنها مما تتخلل الاسباب فيها بينها وبينه تعالى والاسباب ربما تخلفت، فافهم ذلك. قوله تعالى: " قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو " تقدم تفسير مثله في سورتي البقرة والاعراف. وفي قوله: " قال أهبطا " التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة والافراد ولعل الوجه فيه اشتمال الاية على القضاء والحكم وهو مما يختص به تعالى قال: " والله يقضي بالحق " المؤمن: 20، وقال: إن الحكم إلا لله " يوسف: 67. قوله تعالى: " فأما يأتينكم مني هدي فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " في الاية قضاء منه تعالى متفرع على الهبوط ولذا عطف بفاء التفريع، وأصل قوله:
________________________________________
[ 224 ]
" فأما يأتينكم " فإن يأتكم زيد عليه ما ونون التأكيد للاشارة إلى وقوع الشرط كأنه قيل: إن يأتكم منى هدى - وهو لا محالة آت - فمن اتبع " الخ ". وفي قوله: " فمن اتبع هداي نسبة الاتباع إلى الهدى على طريق الاستعارة بالكناية، وأصله: " من اتبع الهادي الذي يهدي بهداي. وقوله: " فلا يضل ولا يشقى " أي لا يضل في طريقه ولا يشقى في غايته التي هي عاقبة أمره، وإطلاق الضلال والشقاء يقضى بنفي الضلال والشقاء عنه في الدنيا والاخرة جميعا وهو كذلك فإن الهدى الالهي هو الدين الفطري الذي دعا إليه بلسان أنبيائه، ودين الفطرة هو مجموع الاعتقادات والاعمال التي تدعو إليها فطرة الانسان وخلقته بحسب ما جهز به من الجهازات، ومن المعلوم أن سعادة كل شئ هو ما تستدعيه خلقته بما لها من التجهيز لا سعادة له وراءه، قال تعالى: " فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم " الروم: 30. قوله تعالى: " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى " قال الراغب: العيش الحياة المختصة بالحيوان وهو أخص من الحياة لان الحياة يقال في الحيوان وفي الباري تعالى وفي الملك ويشتق منه المعيشة لما يتعيش منه، قال تعالى: " نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا " " معيشة ضنكا " انتهى، والضنك هو الضيق من كل شئ ويستوي فيه المذكر والمؤنث، يقال مكان ضنك ومعيشة ضنك وهو في الاصل مصدر ضنك يضنك من باب شرف يشرف أي ضاق. وقوله: " ومن أعرض عن ذكري " يقابل قوله في الاية السابقة: " فمن اتبع هداى " وكان مقتضى المقابلة أن يقال: " ومن لم يتبع هداي " وإنما عدل عنه إلى ذكر الاعراض عن الذكر ليشير به إلى علة الحكم لان نسيانه تعالى والاعراض عن ذكره هو السبب لضنك العيش والعمى يوم القيامة، وليكون توطئة وتمهيدا لما سيذكر من نسيانه تعالى يوم القيامة من نسيه في الدنيا. والمراد بذكره تعالى إما المعنى المصدري فقوله: " ذكري " من إضافة المصدر إلى مفعوله أو القرآن أو مطلق الكتب السماوية كما يؤيده قوله الاتي اتتك آياتنا فنسيتها أو الدعوة الحقة وتسميتها ذكرا لان لازم اتباعها والاخذ بها ذكره تعالى.
________________________________________
[ 225 ]
وقوله: " فإن له معيشة ضنكا " أي ضيقة وذلك أن من نسى ربه وانقطع عن ذكره لم يبق له إلا أن يتعلق بالدنيا ويجعلها مطلوبه الوحيد الذي يسعى له ويهتم بإصلاح معيشته والتوسع فيها والتمتع منها، والمعيشة التي أوتيها لا تسعه سواء كانت قليلة أو كثيرة لانه كلما حصل منها واقتناها لم يرض نفسه بها وانتزعت إلى تحصيل ما هو أزيد وأوسع من غير أن يقف منها على حد فهو دائما في ضيق صدر وحنق مما وجد متعلق القلب بما وراءه مع ما يهجم عليه من الهم والغم والحزن والقلق والاضطراب والخوف بنزول النوازل وعروض العوارض من موت ومرض وعاهة وحسد حاسد وكيد كائد وخيبة سعى وفراق حبيب. ولو أنه عرف مقام ربه ذاكرا غير ناس أيقن أن له حياة عند ربه لا يخالطها موت وملكا لا يعتريه زوال وعزة لا يشوبها ذلة وفرحا وسرورا ورفعة وكرامة لا تقدر بقدر ولا تنتهي إلى أمد وأن الدنيا دار مجاز وما حياتها في الاخرة إلا متاع فلو عرف ذلك قنعت نفسه بما قدر له من الدنيا ووسعه ما أوتيه من المعيشة من غير ضيق وضنك. وقيل: المراد بالمعيشة الضنك عذاب القبر وشقاء الحياة البرزخية بناء على أن كثيرا من المعرضين عن ذكر الله ربما نالوا من المعيشة أوسعها وألقت إليهم أمور الدنيا بأزمتها فهم في عيشة وسيعة سعيدة. وفيه أنه مبني على مقايسة معيشة الغني من معيشة الفقير بالنظر إلى نفس المعيشتين والامكانات التي فيهما ولا يتعلق نظر القرآن بهما من هذه الجهة البتة، وإنما تبحث الايات فيهما بمقايسة المعيشة المضافة إلى المؤمن وهو مسلح بذكر الله والايمان به من المعيشة المضافة إلى الكافر الناسي لربه المتعلق النفس بالحياة الدنيا الاعزل من الايمان ولا ريب أن للمؤمن حياة حرة سعيدة يسعه ما أكرمه ربه به من معيشة وأن كانت بالعفاف والكفاف أو دون ذلك، وليس للمعرض عن ذكر ربه إلا عدم الرضا بما وجد والتعلق بما وراءه. نعم عذاب القبر من مصاديق المعيشة الضنك بناء على كون قوله: " فإن له


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page