• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 176 الي 200


[ 176 ]
وأضافوا إلى ذلك أمرا آخر أمر من الجلاء والخروج من الديار والاموال وهو ذهاب طريقتهم المثلى وسنتهم القومية التي هي ملة الوثنية لحاكمة فيهم قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل وقد اشتد بها عظمهم ونبت عليها لحمهم والعامة تقدس السنن القومية وخاصة ما اعتادت عليها وأذعنت بأنها سنن ظاهرة سماوية. وهذا بالحقيقة إغراء لهم على التثبت والاستقامه على ملة الوثنية لكن لا لانها دين حق لا شبهة فيه فإن حجة موسى أوضحت فسادها وكشفت عن بطلانها بل بعنوان أنها سنة ملية مقدسة تعتمد عليها مليتهم وتستند إليها شوكتهم وعظمتهم وتعتصم بها حياتهم فلو اختلفوا وتركوا مقابلة موسى واستعلى هو عليهم كان في ذلك فناؤهم بالمرة. فالرأي هو أن يجمعوا كل كيد لهم ثم يدعوا الاختلاف ويأتوا صفا حتى يستعلوا وقد أفلح اليوم من استعلى. فأكدوا عليهم القول بالتسويل أن يتحدوا ويتفقوا ولا يهنوا في حفظ ملتهم ومدنيتهم ويكروا على عدوهم كرة رجل واحد، وشفع ذلك فرعون بمواعد جميلة وعدهم إياها كما يظهر من قوله تعالى في موضع آخر: قالوا لفرعون أئن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين، قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين " الشعراء: 42. وبأي وجه كان من ترغيب وترهيب حملوهم على أن يثبتوا ويواجهوا موسى بمغالبته. هذا ما يعطيه التدبر في معنى الايات بالاستمداد من السياق والقرائن المتصلة والشواهد المنفصلة، وعلى ذلك فقوله: " فتنازعوا أمرهم بينهم " إشاره إلى اختلافهم إثر موعظة موسى وما أومأ إليه من الحجة. وقوله: " وأسروا النجوى " إشارة إلى مسارتهم في أمر موسى واجتهادهم في رفع الاختلاف الناشئ من استماعهم وعظ موسى عليه السلام، وقوله: " قالوا إن هذان لساحران يريدان " الخ، بيان نجوى الذي أسروه فيما بينهم وقد مر توضيح معناه. وقوله: " إن هذان لساحران " القراءة المعروفة " إن " بكسر الهمزة وسكون النون وهي " إن " المشبهة بالفعل خففت فالغيت عن العمل بنصب الاسم ورفع الخبر. قوله تعالى: " قالوا يا موسى إما أن تلقى وإما أن نكون أول من ألقى "
________________________________________
[ 177 ]
إلى آخر الاية التالية، الحبال جمع حبل والعصي جمع عصا، وقد كان السحرة استعملوها ليصوروا بها في أعين الناس حيات وثعابين أمثال ما كا يظهر من عصا موسى عليه السلام. وهنا حذف وإيجاز كأنه قيل: فأتوا الموعد وقد حضره موسى فقيل: فما فعلوا ؟ فقيل: " قالوا يا موسى إما أن تلقي - أي عصاك - وإما أن نكون أول من ألقى " وهذا تخيير منهم لموسى بين أن يبدأ بالالقاء أو يصبر حتى يلقوا ثم يأتي بما يأتي، " قال موسى: بل ألقوا " فأخلى لهم الظرف كى يأتوا بما يأتون به وهو معتمد على ربه واثق بوعده من غير قلق واضطراب وقد قال له ربه فيما قال: " إنني معكما أسمع وأرى ". وقوله: " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى " فيه حذف، والتقدير: فألقوا وإذا حبالهم وعصيهم الخ. وإنما حذف لتأكيد المفاجأة كأنه عليه السلام لما قال لهم: بل ألقوا، لم يلبث دون أن شاهد ما شاهد من غير أن يتوسط هناك إلقاؤهم الحبال والعصي. والذي خيل إلى موسى خيل إلى غيره من الناظرين من الناس كما ذكره في موضع آخر: " سحروا أعين الناس واسترهبوهم " الاعراف: 116، غير أنه ذكر ههنا موسى من بينهم وكأن ذلك ليكون تمهيدا لما في الاية التالية. قوله تعالى: فأوجس في نفسه خيفة موسى " قال الراغب في المفردات: الوجس الصوت الخفي، والتوجس التسمع والايجاس وجود ذلك في النفس، قال " فأوجس منهم خيفة " فالوجس هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لان الهاجس مبتدأ التفكير ثم يكون الواجس الخاطر. انتهى. فإيجاس الخيفة في النفس إحساسها فيها ولا يكون إلا خفيفا خفيا لا يظهر أثره في ظاهر البشرة ويتبع وجوده في النفس ظهور خاطر سوء فيها من غير إذعان بما يوجبه من تحذر وتحرز وإلا لظهر أثره في ظاهر البشرة وعمل الانسان قطعا، وإلى ذلك يومئ تنكير الخيفة كأنه قيل: أحس في نفسه نوعا من الخوف لا يعبؤ به ومن العجيب قول بعضهم: أن التنكير للتفخيم وكان الخوف عظيما وهو خطأ ولو كان
________________________________________
[ 178 ]
كذلك لظهر أثره في ظاهر بشرته ولم يكن لتقييد الخيفة بكونها في نفسه وجه. فظهر أن الخيفة التي أوجسها في نفسه كانت إحساسا آنيا لها نظيرة الخاطر الذي عقبها فقد خطرت بقلبه عظمة سحرهم وأنه بحسب التخيل مماثل أو قريب من آيته فأوجس الخيفة من هذا الخطور وهو كنفس الخطور لا أثر له. وقيل: " إنه خاف أن يلتبس الامر على الناس فلا يميزوا بين آيته وسحرهم للتشابه فيشكوا ولا يؤمنوا ولا يتبعوه ولم يكن يعلم بعد أن عصاه ستلقف ما يأفكون. وفيه أن ذلك ينافي اطمئنانه بالله ووثوقه بأمره وقد قال له ربه قبل ذلك:: " بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون " القصص: 35. وقيل: " إنه خاف أن يتفرق الناس بعد رؤية سحرهم ولا يصبروا إلى أن يلقي عصاه فيدعى التساوي ويخيب السعي. وفيه: أنه خلاف ظاهر الاية فإن ظاهر تفريع قوله: " فأوجس في نفسه خيفة " الخ، على قوله: " فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه " الخ، أنه إنما خاف ما خيل إليه من سحرهم لا أنه خاف تفرق الناس قبل أن يتبين الامر بإلقاء العصا، ولو خاف ذلك لم يسمح له بأن يلقوا حبالهم وعصيهم أولا، على أن هذا الوجه لا يلائم قوله تعالى في تقوية نفسه عليه السلام: " قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى " ولقيل: لا تخف لا ندعهم يتفرقون حتى تلقي العصا. وكيفما كان يظهر من إيجاسه عليه السلام خيفة في نفسه أنهم أظهروا للناس من السحر ما يشابه آيته المعجزة أو يقرب منه وإن كان ما اتوا به سحرا لا حقيقه له وما أتى به آية معجزه ذات حقيقة وقد استعظم الله سحرهم إذ قال: " فلما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم " الاعراف: 116. ولذا أيده الله ههنا بما لا يبقى معه لبس لناظر البتة وهو تلقف العصا جميع ما سحروا به. قوله تعالى: " قلنا لا تخف إنك أنت الاعلي - إلى قوله حيث أتي نهي بداعي التقوية والتأييد وقد علله بقوله: " انك أنت الاعلى: فالمعنى انك فوقهم من كل جهة: " وإذا كان كذلك لم يضرك شئ من كيدهم وسحرهم فلا موجب لان تخاف. وقوله: " وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إلخ أمر بالقاء العصا لتكون
________________________________________
[ 179 ]
حية وتلقف ما صنعوا بالسحر والتعبير عن العصا بما في يمينك من ألطف التعبير وأعمقه فإن فيه إشارة إلى أن ليس للشئ من الحقيقة إلا ما أراد الله فإن أراد لما في اليمين أن يكون عصا كان عصا وإن أراد أن يكون حية كان حية فما له من نفسه شئ ثم التعبير عن حياتهم وثعابينهم بقوله: " ما صنعوا " يشير إلى أن المغالبة واقعة بين تلك القدرة المطلقة التي تتبعها الاشياء في أساميها وحقائقها وبين هذا الصنع البشري الذي لا يعدو أن يكون كيدا باطلا وكلمة الله هي العليا والله غالب على أمره فلا ينبغي له أن يخاف. وفي هذه الجملة أعني قوله: " وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا " بيان لكونه عليه السلام أعلى بحسب ظاهر الحس كما أن في ذيله بيانا لكونه أعلى بحسب الحقيقة إذ لا حقيقة للباطل فمن كان على الحق فلا ينبغي له أن يخاف الباطل على حقه. وقوله: " إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى " تعليل بحسب اللفظ لقوله: " تلقف ما صنعوا " و " ما " مصدرية أو موصولة وبيان بحسب الحقيقة لكونه عليه السلام أعلى لان ما معهم كيد ساحر لا حقيقة له وما معه آية معجزة ذات حقيقة والحق يعلو ولا يعلى عليه. وقوله: " ولا يفلح الساحر حيث أتي " بمنزلة الكبرى لقوله: " ما صنعوا كيد ساحر " فإن الذي يناله الساحر بسحره خيال من الناظرين باطل لا حقيقة له ولا فلاح ولا سعادة حقيقية يظفر بها في أمر موهوم لا واقع له. فقوله: " ولا يفلح الساحر حيث أتي " نظير قوله: " إن الله لا يهدي القوم الظالمين " الانعام: 144، " والله لا يهدي القوم الفاسقين " المائدة: 108، وغيرهما والجميع من فروع " إن الباطل كان زهوقا " أسري: 81، " ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته " الشورى: 24، فلا يزال الباطل يزين أمورا ويشبهها بالحق ولا يزال الحق يمحوه ويلقف ما أظهره لوهم الناظرين سريعا أو بطيئا فمثل عصا موسى وسحر السحرة يجري في كل باطل يبدو وحق يلقفه ويزهقه، وقد تقدم في تفسير قوله: " أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها " الرعد: 17، كلام نافع في المقام. قوله تعالى: " فالقي السحرة سجدا قالوا آمنا برب هارون وموسى " في الكلام حذف وإيجاز والتقدير فألقى ما في يمينه فتلقف ما صنعوا فالقي السحرة وفي التعبير
________________________________________
[ 180 ]
بقوله: " فالقي السحرة بالبناء للمفعول دون أن يقال: فسجد السحرة إشاره إلى إذلال القدرة الالهية لهم وغشيان الحق بظهوره إياهم بحيث لم يجدوا بدا دون أن يخروا على الارض سجدا كأنهم لا إرادة لهم في ذلك وإنما ألقاهم ملق غيرهم دون أن يعرفوه من هو ؟ وقولهم: " آمنا برب هارون وموسى شهادة منهم بالايمان وإنما أضافوه تعالى إلى موسى وهارون ليكون فيه الشهادة على ربوبيته تعالى ورسالة موسى وهارون معا وفصل قوله: " قالوا " الخ من غير عطف لكونه كالجواب لسؤال مقدر كأنه قيل: فما قالوا فقيل: قالوا الخ. قوله تعالى: قال آمنتم له قبل أن آذن لكم " إلى آخر الاية الكبير الرئيس وقطع الايدي والارجل من خلاف أن يقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى والتصليب تكثير الصلب وتشديده كالتقطيع الذي هو تكثير القطع وتشديده والجذوع جمع جذع وهو ساقة النخل. وقوله: " آمنتم له قبل آذن لكم " تهديد من فرعون للسحرة حيث آمنوا والجملة استفهامية محذوفة الاداة والاستفهام للانكار أو خبرية مسوقة لتقرير الجرم، وقوله: " إنه لكبيركم الذى علمكم السحر " رمي لهم بتوطئة سياسية على المجتمع القبطي في أرض مصر كأنهم تواطؤوا مع رئيسهم أن يتنبأ موسى فيدعو أهل مصر إلى الله ويأتي في ذلك بسحر فيستنصروا بالسحرة حتى إذا حضروه واجتمعوا على مغالبته تخاذلوا وانهزموا عنه وآمنوا واتبعتهم العامة فذهبت طريقتهم المثلى من بينهم وأخرج من لم يؤمن منهم قال تعالى في موضع آخر: إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها " الاعراف: 123، وإنما رماهم بهذا القول تهييجأ للعامة عليهم كما رمى موسى عليه السلام بمثله في أول يوم. وقوله: " فلا قطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف " إلى آخر الاية، إيعاد لهم وتهديد بالعذاب الشديد ولم يذكر تعالى في كلامه أنجز فيهم ذلك أم لا ؟ قوله تعالى: " قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضى هذه الحياة الدنيا " كلام بليغ في منطوقه بالغ في مفهومه بعيد في
________________________________________
[ 181 ]
معناه رفيع في منزلته يغلي ويفور علما وحكمة فهؤلاء قوم كانوا قبل ساعة وقد ملات هيبة فرعون وأبهته قلوبهم وأذلت زينات الدنيا وزخارفها التي عنده - وليست إلا أكاذيب خيال وأباطيل وهم نفوسهم يسمونه ربا أعلى ويقولون حينما ألقوا حبالهم وعصيهم: " بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون فما لبثوا دون أن ظهرت لهم آيات الحق فبهرت أبصارهم فطاحت عند ذلك ما كانوا يرون لفرعون من عزة وسلطان ولما عنده من زينة الدنيا وزخرفها من قدر ومنزلة وغشيت قلوبهم فأزالت منها رذيلة الجبن والملق واتباع الهوى والتوله إلى سراب زينة الحياة الدنيا ومكنت فيها التعلق بالحق والدخول تحت ولاية الله والاعتزاز بعزته فلا يريدون إلا ما أراده الله ولا يرجون إلا الله ولا يخافون إلا الله عز اسمه. يظهر ذلك كله بالتدبر في المحاورة الجارية بين فرعون وبينهم إذا قيس بين القولين ففرعون في غفلة من مقام ربه لا يري إلا نفسه ويضيف إليه أنه رب القبط وله ملك مصر وله جنود مجندة، وله ما يريد وله ما يقضي وليست في نظر الحق والحقيقة إلا دعاوي وقد غره جهله إلى حيث يرى أن الحق تبع باطله والحقيقة خاضعة مطيعة لدعواه فيتوقع أن لا تمس نفوس الناس - وفي جبلتها الفهم والقضاء - بشعورها وإدراكها الجبلي شيئا إلا بعد إذنه، ولا يذعن قلوبهم ولا توقن بحق إلا عن إجازته وهو قوله للسحرة: " آمنتم له قبل أن آذن لكم ". ويرى أن لا حقيقة للانسان إلا هذه البنية الجسمانية التى تعيش ثم تفسد وتفنى وأن لا سعادة له إلا نيل هذه اللذائذ المادية الفانية، وذلك قوله: " فلاقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولا صلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى " وليتدبر في آخر كلامه. وأما هؤلاء المؤمنون وقد أدركهم الحق وغشيهم فأصفاهم وأخلصهم لنفسه فهم يرون ما يعده فرعون حقيقة من أمتعة الحياة الدنيا من مالها ومنزلتها سرابا خياليا وزينة غارة باطلة، وأنهم إذا خيروا بينه وبين ما آمنوا به فقد خيروا بين الحق، والباطل والحقيقة والسراب، وحاشا أهل اليقين أن يشكوا في يقينهم أو يقدموا الباطل على الحق والسراب على الحقيقة وهم يشهدون ذلك شهادة عيان وذلك قولهم: " لن نؤثرك - أي لن نختارك - على ما جاءنا من البينات والذى فطرنا " فليس مرادهم
________________________________________
[ 182 ]
به إيثار شخص بما هو جسد إنساني ذو روح بل ما معه مما كان يدعيه أنه يملكه من الدنيا العريضه بمالها ومنالها. وما كان يهددهم به فرعون من القتل الفجيع والعذاب الشديد وقطع دابر الحياة الدنيا وهو يرى أن ليس للانسان إلا الحياة التى فيها وفيها سعادته وشقاؤه فإنهم يرون الامر بالعكس من ذلك وأن للانسان حياة خالدة أبدية لا قدر عندها لهذه الحياة المعجلة الفانية إن سعد فيها فلا عليه أن يشقى في حياته الدنيا وإن شقي فيها فلا ينفعه شئ. وعلى ذلك فلا يهابون أن يخسروا في حياتهم الدنيا الداثرة إذا ربحوا في الحياة الاخرى الخالدة، وذلك قولهم لفرعون - وهو جواب تهديده إياهم بالقتل - " فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا " ثم الايات التالية الحاكية لتتمة كلامهم مع فرعون تعليل وتوضيح لقولهم: " لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ". وفي قولهم: " ما جاءنا من البينات " تلويح إلى أنهم عدوا ما شاهدوه من أمر العصا آيات عديدة كصيرورتها ثعبانا وتلقفها الحبال والعصي ورجوعها ثانيا إلى حالتها الاولى، ويمكن أن يكون " من " للتبعيض فيفيد أنهم شاهدوا آية واحده وآمنوا بأن لله آيات اخرى كثيرة ولا يخلو من بعد. قوله تعالى: إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى " الخطايا جمع خطيئة وهي قريبة معنى من السيئة، وقوله: " وما أكرهتنا عليه " معطوف على " خطايانا " و " من السحر " بيان له والمعنى وليغفر لنا السحر الذي أكرهتنا عليه وفيه دلالة على أنهم أكرهوا عليه إما حين حشروا إلى فرعون من خلال ديارهم وإما حين تنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى فحملوا على المقابلة والمغالبة. وأول الاية تعليل لقولهم: " لن نؤثرك " الخ أي إنما اخترنا الله الذي فطرنا عليك وآمنا به ليغفر لنا خطايانا والسحر الذي أكرهتنا عليه، وذيل الاية: " والله خير وأبقى " من تمام البيان وبمنزلة التعليل لصدرها كأنه قيل: " وإنما آثرنا غفرانه على إحسانك لانه خير وأبقى، أي خير من كل خير وأبقى من كل باق - لمكان الاطلاق - فلا يؤثر عليه شئ وفي هذا الذيل نوع مقابلة لما في ذيل كلام فرعون: " ولتعلمن أينا أشد عذابا وابقى ".
________________________________________
[ 183 ]
وقد عبروا عنه تعالى أولا بالذي فطرنا، وثانيا بربنا، وثالثا بالله، أما الاول كونه تعالى فاطرا لنا أچ‍ مخرجا لنا عن كتم العدم إلى الوجود ويتبعه انتهاء كل خير حقيقي إليه وان ليس عند غيره إذا قوبل به إلا سراب البطلان، منشأ كل ترجيح والمقام مقام الترجيح بينه تعالى وبين فرعون. واما الثاني فلان فيه إخبارا عن الايمان به وأمس صفاته تعالى بالايمان والعبودية صفة ربوبيته المتضمنة لمعنى الملك والتدبير. وأما الثالث فلان ملاك خيرية الشئ الكمال وعنده تعالى جميع صفات الكمال القاضية بخيريته المطلقة فناسب التعبير بالعلم الدال على الذات المستجمعه لجميع صفات الكمال وعلى هذا فالكلام في المقامات الثلاثة على بساطته ظاهرا مشتمل على الحجة على المدعى والمعنى بالحقيقة: لن نؤثرك على الذى فطرنا لانه فطرنا، وإنا آمنا بربنا لانه ربنا، والله خير لانه الله عز اسمه. قوله تعالى: " إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى " تعليل لجعل غفران الخطايا غاية للايمان بالله أي لان من لم يغفر خطاياه كان مجرما ومن يأت ربه مجرما " الخ ". قوله تعالى: " ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فاولئك لهم الدرجات العلى " إلى آخر الاية التالية: الدرجة - على ما ذكره الراغب - هي المنزلة لكن يعتبر فيها الصعود كدرجات السلم وتقابلها الدركة فهي المنزله حدورا ولذا يقال درجات الجنة ودركات النار والتزكي هو التنمى بالنماء الصالح والمراد به أن يعيش الانسان باعتقاد حق وعمل صالح. والايتان تصفان ما يستتبعه الايمان والعمل الصالح كما كانت الاية السابقة تصف ما يستتبعه الاجرام الحاصل بكفر أو معصية والايات الثلاث الواصفة لتبعة الاجرام والايمان ناظرة إلى وعيد فرعون ووعده لهم فقد أوعدهم فرعون على إيمانهم لموسى بالقطع والصلب وادعى أنه أشد العذاب وأبقاه فقابلوه بأن للمجرم عند ربه جهنم لا يموت فيها ولا يحيى لا يموت فيها حتى ينجو من مقاسا ألم عذابها لكن منتهى عذاب الدنيا الموت وفيه نجاة المجرم المعذب، ولا يحيى فيها إذ ليس فيها شئ مما تطيب به الحياة ولا خير مرجوا فيها حتى يقاسى العذاب في انتظاره.
________________________________________
[ 184 ]
ووعدهم قبل ذلك المنزلة بجعلهم من مقربيه والاجر كما حكى الله تعالى: " قالوا ءإن لنا لاجرا إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين " الاعراف: 114 فقابلوا ذلك بأن من يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فاولئك - وفي الاشارة البعيدة تفخيم شأنهم - لهم الدرجات العلى - وهذا يقابل وعد فرعون لهم بالتقريب - جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها، ذلك جزاء من تزكى - بالايمان والعمل الصالح وهذا يقابل وعده لهم بالاجر. قوله تعالى ولقد أوحينا إلى موسى أن اسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا - إلى قوله - وما هدى ". الاسراء السير بالليل والمراد بعبادي بنو إسرائيل وقوله: " فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا " قيل المراد الضرب بالعصا " كما يدل عليه كلامه تعالى في غير هذا الموضع وإن " طريقا " مفعول به لاضرب على الاتساع وهو مجاز عقلي والاصل أضرب البحر ليكون لهم طريقا. انتهى. ويمكن أن يكون المراد بالضرب البناء والاقامة من باب ضربت الخيمة وضربت القاعدة. واليبس - على ما ذكره الراغب - المكان الذي كان فيه ماء ثم ذهب، والدرك بفتحتين تبعة الشئ، وفي نسبة الغشيان إلى ما الموصولة المبهمة وجعله صلة لها أيضا من تمثيل هول الموقف ما لا يخفى، قيل: وفي قوله: " وأضل فرعون قومه وما هدى " تكذيب لقول فرعون لقومه فيما خاطبهم: " وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " المؤمن: 29، وعلى هذا فقوله: " وما هدى " ليس تأكيدا وتكرارا لمعنى قوله: وأضل فرعون قومه ". (بحث روائي) في نهج البلاغه قال عليه السلام: لم يوجس موسى خيفة على نفسه أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال. أقول: معناه ما قدمناه في تفسير الاية. وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن جندب بن عبد الله البجلي
________________________________________
[ 185 ]
قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إذا أخذتم الساحر فاقتلوه. ثم قرأ " ولا يفلح الساحر حيث أتى " قال: لا يأمن حيث وجد. أقول وفي انطباق المعنى المذكور في الحديث على الاية بما لها من السياق خفاء. * * * يا بنى إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم وواعدناكم جانب الطور الايمن ونزلنا عليكم المن والسلوى (80) - كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى (81). وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى (82) - وما أعجلك عن قومك يا موسى (83) - قال هم اولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى (84) - قال فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري (85) - فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال يا قوم ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا أفطال عليكم العهد أم أردتم أن يحل عليك غضب من ربكم فأخلفتم موعدي (86) - قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا ولكنا حملنا أوزارا من زينة القوم فقذفناها فكذلك ألقى السامري (87) - فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى (88) - أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا
________________________________________
[ 186 ]
ولا نفعا (89) - ولقد قال لهم هرون من قبل يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمرى (90) - قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى (91) - قال يا هرون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا (92) - ألا تتبعن أفعصيت أمرى (93) - قال يابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي أني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولى (94) - قال فما خطبك يا سامرى (95) - قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي (96) - قال فاذهب فإن لك في الحيوة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا (97) - إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما (98): (بيان) الفصل الاخير من قصة موسى عليه السلام الموردة في السورة يعد سبحانه فيه جملا من مننه على بني إسرائيل كإنجائهم من عدوهم ومواعدتهم جانب الطور الايمن وإنزال المن والسلوى عليهم، ويختمه بذكر قصة السامري وإضلاله القوم بعبادة العجل وللقصة اتصال بمواعدة الطور. وهذا الجزء من الفصل - وفيه بيان تعرض بنى إسرائيل لغضبه تعالى - هو
________________________________________
[ 187 ]
المقصود بالاصالة من هذا الفصل ولذا فصل فيه القول ولم يبين غيره إلا بإشارة وإجمال. قوله تعالى: " يا بنى اسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم " إلى آخر الاية كأن الكلام بتقدير القول أي قلنا يا بني إسرائيل وقوله: " قد أنجيناكم من عدوكم " المراد به فرعون أغرقه الله وأنجى بني إسرائيل منه بعد طول المحنة. وقوله: " وواعدناكم جانب الطور الايمن بنصب أيمن على انه صفة جانب ولعل المراد بهذه المواعدة مواعدة موسى أربعين ليلة لانزال التوراة وقد مرت القصة في سورة البقرة وغيرها وكذا قصة إنزال المن والسلوى. وقوله: " كلوا من طيبات ما رزقناكم " إباحة في صورة الامر وإضافه الطيبات إلى " ما رزقناكم " من إضافة الصفه إلى الموصوف إذ لا معنى لان ينسب الرزق إلى نفسه ثم يقسمه إلى طيب وغيره كما يؤيده قوله في موضع آخر: " ورزقناهم من الطيبات " الجاثية: 16. قوله: " ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبى " ضمير فيه راجع إلى الاكل المتعلق بالطيبات وذلك بكفران النعمة وعدم أداء شكره كما قالوا: يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الارض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها " البقرة 61. وقوله: " فيحل عليكم غضبي " أي يجب غضبى ويلزم من حل الدين يحل من باب ضرب إذا وجب أداؤه والغضب من صفاته تعالى الفعلية مصداقه إرادته تعالى إصابة المكروه للعبد بتهيئة الاسباب لذلك عن معصية عصاها. وقوله: " ومن يحلل عليه غضبى فقد هوى " أي سقط من الهوي بمعنى السقوط وفسر بالهلاك. قوله تعالى: " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " وعد بالرحمة المؤكدة عقيب الوعيد الشديد ولذا وصف نفسه بكثرة المغفرة فقال: " وإني لغفار " ولم يقل: وأنا غافر أو سأغفر. والتوبة وهي الرجوع كما تكون عن المعصية إلى الطاعة كذلك تكون من الشرك إلى التوحيد، والايمان أيضا كما يكون بالله كذلك يكون بآيات الله من
________________________________________
[ 188 ]
أنبيائه ورسله وكل حكم جاؤوا به من عند الله تعالى، وقد كثر استعمال الايمان في القرآن في كل من المعنيين كما كثر استعمال التوبة في كل من المعنيين المذكورين وبنو إسرائيل كما تلبسوا بمعاصي فسقوا بها كذلك تلبسوا بالشرك كعبادة العجل وعلى هذا فلا موجب لصرف الكلام عن ظاهر إطلاقه في التوبة عن الشرك والمعصية جميعا والايمان بالله وآياته وكذلك إطلاقه بالنسبة إلى التائبين والمؤمنين من بنى إسرائيل وغيرهم وإن كان بنو إسرائيل مورد الخطاب فإن الصفات الالهية كالمغفره لا تختص بقوم دون قوم. فمعنى الاية - والله أعلم - وإني لكثير المغفرة لكل انسان تاب وآمن سواء تاب عن شرك أو عن معصية وسواء آمن بى أو بآياتى من رسلي، أو ما جاؤوا به من أحكامي بأن يندم على ما فعل ويعمل عملا صالحا بتبديل المخالفة والتمرد فيما عصى فيه بالطاعة فيه وهو المحقق لاصل معنى الرجوع من شئ وقد مر تفصيل القول فيه في تفسير قوله تعالى: " إنما التوبة على الله " النساء: 17 في الجزء الرابع من الكتاب. وأما قوله: " ثم اهتدى " فالاهتداء يقابل الضلال كما يشهد به قوله تعالى: من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها " أسري: 15، وقوله: " لا يضركم من ضل إذا اهتديتم " المائدة: 105، فهل المراد أن لا يضل في نفس ما تاب فيه بأن يعود إلى المعصية ثانيا فيفيد أن التوبه عن ذنب إنما تنفع بالنسبة إلى ما اقترفه قبل التوبة ولا تكفى عنه لو عاد إليه ثانيا أو المراد أن لا يضل في غيره فيفيد أن المغفرة إنما تنفعه بالنسبة إلى لمعصية التي تاب عنها وبعبارة أخرى إنما تنفعه نفعا تاما إذا لم يضل في غيره من الاعمال، أو المراد ما يعم المعنيين ؟ ظاهر العطف بثم أن يكون المراد هو المعنى الاول فيفيد معنى الثبات والاستقامة على التوبة فيعود إلى اشتراط الاصلاح الذي هو مذكور في عدة من الايات كقوله: " إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم " آل عمران: 89 النور 5. لكن يبقى على الاية بهذا المعنى أمران: أحدهما نكتة التعبير بالغفار بصيغة المبالغة الدالة على الكثرة فما معنى كثرة مغفرته تعالى لمن اقترف ذنبا واحدا ثم تاب ؟ وثانيهما أن لازمها أن يكون من خالف حكما من أحكامه كافرا به وإن اعترف بأنه
________________________________________
[ 189 ]
من عند الله وإنما يعصيه اتباعا للهوى لاردا للحكم اللهم إلا أن يقال: إن الاية لاشتمالها على قوله: " تاب وآمن " إنما تشمل المشرك أو الراد لحكم من أحكام الله وهو كما ترى. فيمكن أن يقال: إن المراد بالتوبة والايمان التوبة من الشرك والايمان بالله كما أن المعنيين هما المراد ان في أغلب المواضع من كلامه التي ذكر التوبة والايمان فيها معا، وعلى هذا كان المراد من قوله: " وعمل صالحا " الطاعة لاحكامه تعالى بالائتمار لاوامره والانتهاء عن نواهيه، ويكون معنى الاية أن من تاب من الشرك وآمن بالله وأتى بما كلف به من أحكامه فاني كثير المغفرة لسيآته أغفر له زلة بعد زله فتكثر المغفرة لكثرة مواردها. وقد ذكر تعالى نظير المعنى وهو مغفرة السيآت في قوله: " إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيأتكم " النساء: 31. فقوله: " وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ينطبق على آية النساء ويبقى فيه شرط زائد يقيد حكم المغفرة وهو مدلول قوله: " ثم اهتدى " وهو الاهتداء إلى الطريق ويظهر أن المغفرة إنما يسمح بها للمؤمن العامل بالصالحات إذا قصد ذلك من طريقه ودخل عليه من بابه. ولا نجد في كلامه تعالى ما يقيد الايمان بالله والعمل الصالح في تأثيره وقبوله عند الله إلا الايمان بالرسول بمعنى التسليم له وطاعته في خطير الامور ويسيرها وأخذ الدين عنه وسلوك الطريق التي يخطها واتباعه من غير استبداد وابتداع يؤل إلى اتباع خطوات الشيطان وبالجملة ولايته على المؤمنين في دينهم ودنياهم فقد شرع الله تعالى ولايته وفرض طاعته وأوجب الاخذ عنه والتأسى به في آيات كثيره جدا لا حاجة إلى إيرادها ولا مجال لاستقصائها فالنبى أولى بالمؤمنين من أنفسهم. وكان جل بنى إسرائيل على إيمانهم بالله سبحانه وتصديقهم رسالة موسى وهارون متوقفين في ولايتهما أو كالمتوقف كما هو صريح عامة قصصهم في كتاب الله ولعل هذا هو الوجه في وقوع الاية - وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى بعد نهيهم عن الطغيان وتخويفهم من غضب الله. فقد تبين أن المراد بالاهتداء في الاية على ما يهدي إليه سائر الايات هو الايمان
________________________________________
[ 190 ]
بالرسول باتباعه في أمر الدين والدنيا وبعبارة اخرى هو الاهتداء إلى ولايته. وبذلك يظهر حال ما قيل في تفسير قوله: " ثم اهتدى " فقد قيل: الاهتداء لزوم الايمان والاستمرار عليه ما دامت الحياة، وقيل: أن لا يشك ثانيا في إيمانه، وقيل: " الاخذ بسنة النبي وعدم سلوك سبيل البدعة، وقيل: الاهتداء هو أن يعلم أن لعمله ثوابا يجزى عليه، وقيل: هو تطهير القلب من الاخلاق الذميمة، وقيل: هو حفظ العقيدة من أن تخالف الحق في شئ فإن الاهتداء بهذا الوجه غير الايمان وغير العمل، والمطلوب على جميع هذه الاقوال تفسير الاهتداء بمعنى لا يرجع إلى الايمان والعمل الصالح غير أن الذي ذكروه لا دليل على شئ من ذلك. قوله تعالى: " وما أعجلك عن قومك يا موسى - إلى قوله - لترضى " حكاية مكالمة وقعت بينه تعالى وبين موسى عليه السلام في ميعاد الطور الذي نزلت عليه فيه التوراة كما قص في سورة الاعراف تفصيلا. وظاهر السياق أنه سؤال عن السبب الذي أوجب لموسى أن يستعجل عن قومه فيحضر ميعاد الطور قبلهم كأنه كان المترقب أن يحضروا الطور جميعا فتقدم عليهم موسى في الحضور وخلفهم فقيل له: " وما أعجلك عن قومك يا موسى " فقال: " هم أولاء على أثري " أي إنهم لسائرون على أثري وسيلحقون بي عن قريب " وعجلت اليك رب لترضى " أي و السبب في عجلى هو أن احصل رضاك يا رب. والظاهر أن المراد بالقوم وقد ذكر أنهم على أثره هم السبعون رجلا الذين اختارهم لميقات ربه، فإن ظاهر تخليفه هارون على قومه بعده وسائر جهات القصة وقوله بعد: " أفطال عليكم العهد " أنه لم يكن من القصد أن يحضر بنو إسرائيل كلهم الطور. وهذا الخطاب يمكن أن يخاطب به موسى عليه السلام في بدء حضوره في ميعاد الطور كما يمكن أن يخاطب في أواخر عهده به فإن السؤال عن العجل غير نفس العجل الذي يقارن المسير واللقاء وإذا لم يكن السؤال في بدء الورود والحضور استقام قوله بعد: " فإنا قد فتنا قومك من بعدك " الخ، بناء على أن الفتنة كانت بعد استبطائهم غيبة موسى على ما في الاثار ولا حاجة إلى تمحلاتهم في توجيه الايات.
________________________________________
[ 191 ]
قوله تعالى: " قال فإنا قدفتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري " الفتنة الامتحان والاختبار ونسبة الاضلال إلى السامري - وهو الذي سبك العجل وأخرجه لهم فعبدوه وضلوا - لانه أحد أسبابه العاملة فيه. والفاء في قوله: " فإنا قد فتنا قومك " للتعليل يعلل به ما يفهم من سابق الكلام فإن المفهوم من قول موسى هم أولاء على أثري " أن قومه على حسن حال لم يحدث فيهم ما يوجب قلقا فكأنه قيل: لا تكن واثقا على ما خلفتهم فيه فإنا قد فتناهم فضلوا. وقوله: " قومك " من وضع الظاهر موضع المضمر ولعل المراد غير المراد به في الاية السابقة بأن يكون ما ههنا عامة القوم وما هناك السبعون رجلا الذين اختارهم موسى للميقات. قوله تعالى: " فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا - إلى قوله - فأخلفتم موعدي " الغضبان صفة مشبهة من الغضب، وكذا الاسف من الاسف بفتحتين وهو الحزن وشدة الغضب، والموعد الوعد، وإخلافهم موعده هو تركهم ما وعدوه من حسن الخلافة بعده حتى يرجع إليهم، ويؤيده قوله في موضع آخر: " بئسما خلفتموني من بعدى ". والمعنى فرجع موسى إلى قومه والحال أنه غضبان شديد الغضب - أو حزين - وأخذ يلومهم على ما فعلوا - قال يا قوم ألم يعدكم ربك وعدا حسنا - وهو أن ينزل عليهم التوراة فيها حكم الله وفي الاخذ بها سعادة دنياهم وأخراهم - أو وعده تعالى أن ينجيهم من عدوهم ويمكنهم في الارض ويخصهم بنعمه العظام " أفطال عليكم العهد " وهو مدة مفارقة موسى إياهم حتى يكونوا آيسين من رجوعه فيختل النظم بينهم " أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم " فطغوتم بالكفر به بعد الايمان وعبدتم العجل " فأخلفتم موعدى " وتركتم ما وعدتمونى من حسن الخلافة بعدي. وربما قيل في معنى قوله: " فأخلفتم موعدي " بعض معان أخر: كقول بعضهم إن إخلافهم موعده أنه أمرهم أن يلحقوا به فتركوا المسير على أثره، وقول بعضهم هو أنه أمرهم بطاعة هارون بعده إلى أن يرجع إليهم فخالفوه
________________________________________
[ 192 ]
إلى غير ذلك. قوله تعالى: " قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا " إلى آخر الاية الملك بالفتح فالسكون مصدر ملك يملك وكأن المراد بقولهم: " ما أخلفنا موعدك بملكنا " ما خالفناك ونحن نملك من أمرنا شيئا - كما قيل - ومن الممكن أن يكون المراد أنا لم نصرف في صوغ العجل شيئا من أموالنا حتى نكون قاصدين لهذا الامر متعمدين فيه ولكن كنا حاملين لاثقال من خلي القوم فطرحناها فأخذها السامري وألقاها في النار فأخرج العجل. والاوزار جمع وزر وهو الثقل، والزينة الحلي كالعقد والقرط والسوار والقذف والالقاء والنبذ متقاربة معناها الطرح والرمي. ومعنى قوله: " ولكنا حملنا أوزارا " الخ لكن كانت معنا أثقال من زينة القوم ولعل المراد به قوم فرعون - فطرحناها فكذلك ألقى السامري - ألقى ما طرحناها في النار أو ألقى ما عنده كما القينا ما عندنا مما حملنا - فأخرج العجل. قوله تعالى: " فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار فقالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى، في لفظ الاخراج دلالة على أن كيفيه صنع العجل كانت خفية على الناس في غير مرأى منهم حتى فاجأهم بإظهاره وإراءته والجسد هو الجثة التى لا روح فيه فلا يطلق الجسد على ذي الروح البتة، وفيه دليل على أن العجل لم يكن له روح ولا فيه شئ من الحياة والخوار بضم الخاء صوت العجل. وربما أخذ قوله: " فكذلك ألقى السامري فأخرج لهم " الخ كلاما مستقلا إما من كلام الله سبحانه باختتام كلام القوم في قولهم: " فقذفناها " وإما من كلام القوم وعلى هذا فضمير " قالوا " لبعض القوم وضمير " فأخرج لهم " لبعض آخر كما هو ظاهر. وضمير " نسي " قيل: لموسى والمعنى قالوا هذا إلهكم وإله موسى فنسى موسى إلهه هذا وهو هنا وذهب يطلبه في الطور وقيل: الضمير للسامري والمراد به نسيانه تعالى بعد ذكره والايمان به أي نسي السامري ربه فأتى بما أتى وأضل القوم. وظاهر قوله: " فقالوا هذا إلهكم وإله موسى " حيث نسب القول إلى الجمع أنه كان مع السامري في هذا الامر من يساعده.
________________________________________
[ 193 ]
قوله تعالى: " أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا " توبيخ لهم حيث عبدوه وهم يرون أنه لا يرجع قولا بأن يستجيب لمن يدعوه ولا يملك لهم ضرا فيدفعه عنهم ولا نفعا بأن يجلبه ويوصله إليهم، ومن ضروريات عقولهم أن الرب يجب أن يستجيب لمن دعاه لدفع ضر أو لجلب نفع وأن يملك الضر والنفع لمربوبه. قوله تعالى: " ولقد قال لهم هارون يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمان فاتبعوني وأطيعوا أمري " تأكيد لتوبيخهم وزيادة تقرير لجرمهم، والمعنى أنهم مضافا إلى عدم تذكرهم بما تذكرهم به ضرورة عقولهم وعدم انتهائهم عن عبادة العجل إلى البصر والعقل لم يعتنوا بما قرعهم من طريق السمع أيضا، فلقد قال لهم نبيهم هارون إنه فتنة فتنوا به وإن ربهم الرحمان عز اسمه وإن من الواجب عليهم أن يتبعوه ويطيعوا أمره. فردوا على هارون قائلين: لن نبرح ولن نزال عليه عاكفين أي ملازمين لعبادته حتى يرجع الينا موسى فنرى ماذا يقول فيه وماذا يأمرنا به. قوله تعالى: " قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلوا إلا تتبعن أفعصيت أمري " رجع عليه السلام بعد تكليم القوم في أمر العجل إلى تكليم أخيه هارون إذ هو أحد المسؤولين الثلاثة في هذه المحنة استخلفه عليهم وأوصاه حين كان يوادعه قائلا: " اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ". وكأن قوله: " منعك مضمن معنى دعاك، أي ما دعاك إلى أن لا تتبعن مانعا لك عن الاتباع أو ما منعك داعيا لك إلى عدم اتباعي فهو نظير قوله: " قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك " الاعراف: 12. والمعنى: قال موسى معاتبا لهارون: ما منعك عن اتباع طريقتي وهو منعهم عن الضلال والشدة في جنب الله أفعصيت أمري أن تتبعني ولا تتبع سبيل المفسدين ؟ قوله تعالى: " قال يا بن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي " الخ، " يابن أم " أصله يا بن أمي وهى كلمة استرحام واسترآف قالها لاسكات غضب موسى، ويظهر من قوله:
________________________________________
[ 194 ]
" لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي أنه أخذ بلحيته ورأسه غضبا ليضربه كما أخبر به في موضع آخر: " وأخذ برأس أخيه يجره إليه " الاعراف: 150. وقوله: " إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي " تعليل لمحذوف يدل عليه اللفظ ومحصله لو كنت مانعتهم عن عبادة العجل وقاومتهم بالغة ما بلغت لم يطعني إلا بعض القوم وأدى ذلك إلى تفرقهم فرقتين: مؤمن مطيع، ومشرك عاص، وكان في ذلك إفساد حال القوم بتبديل اتحادهم واتفاقهم الظاهر تفرقا واختلافا وربما انجر إلى قتال وقد كنت أمرتني بالاصلاح إذ قلت لي: " أصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " فخشيت أن تقول حين رجعت وشاهدت ما فيه القوم من التفرق والتحزب: فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي. هذا ما اعتذر به هارون وقد عذره موسى ودعا له ولنفسه كما في سورة الاعراف بقوله: " رب اغفر لي ولاخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين " الاعراف: 151. قوله تعالى: " قال فما خطبك يا سامري " رجوع منه عليه السلام بعد الفراغ من تكليم أخيه إلى تكليم السامري وهو أحد المسؤولين الثلاثة وهو الذي أضل القوم. والخطب: الامر الخطير الذي يهمك، يقول: ما هذا الامر العظيم الذي جئت به ؟ قوله تعالى: " قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي " قال الراغب في المفردات: البصر يقال للجارحة الناظرة نحو قوله: " كلمح البصر " " وإذ زاغت الابصار " وللقوة التي فيها، ويقال لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر نحو قوله: " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد " وقال: " ما زاغ البصر وما طغى " وجمع البصر أبصار وجمع البصيرة بصائر، قال تعالى: " فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم " ولا يكاد يقال للجارحة: بصيرة، ويقال من الاول: أبصرت، ومن الثاني: أبصرته وبصرت به، وقلما يقال في الحاسة بصرت إذا لم تضامه رؤية القلب. انتهى. وقوله: " فقبضت قبضة " قيل: إن القبضة مصدر بمعنى اسم المفعول وأورد عليه أن المصدر إذا استعمل كذلك لم تلحق به التاء، يقال: هذه حلة نسج اليمن،
________________________________________
[ 195 ]
ولا يقال نسجة اليمن، فالمتعين حمله في الايه على أنه مفعول مطلق. ورد بأن الممنوع لحوق التاء الدالة على التحديد والمرة لا على مجرد التأنيث كما هنا، وفيه أن كون التاء هنا للتأنيث لا دليل عليه فهو مصادرة. وقوله: " من أثر الرسول " الاثر شكل قدم المارة على الطريق بعد المرور، والاصل في معناه ما بقي من الشئ بعده بوجه بحيث يدل عليه كالبناء أثر الباني والمصنوع أثر الصانع والعلم أثر العالم وهكذا، ومن هذا القبيل أثر الاقدام على الارض من المارة. والرسول هو الذي يحمل رسالة وقد أطلق في القرآن على الرسول البشري الذي يحمل رسالة الله تعالى إلى الناس وأطلق بهذه اللفظة على جبريل ملك الوحي، قال تعالى: " إنه لقول رسول كريم " التكوير: 19، وكذا أطلق لجمع من الملائكة الرسل كقوله: " بلى ورسلنا لديهم يكتبون " الزخرف: 80، وقال أيضا في الملائكة: " جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة " فاطر 1. والاية تتضمن جواب السامري عما سأله موسى عليه السلام بقوله: " فما خطبك يا سامري " وهو سؤال عن حقيقة ذاك الامر العظيم الذي أتى به وما حمله على ذلك، والسياق يشهد على أن قوله: " وكذلك سولت لي نفسي " جوابه عن السبب الذي دعاه إليه وحمله عليه وأن تسويل نفسه هو الباعث له إلى فعل ما فعل وأما بيان حقيقة ما صنع فهو الذي يشير إليه بقوله: " بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول " ولا نجد في كلامه تعالى في هذه القصة ولا فيما يرتبط بها في الجملة ما يوضح المراد منه ولذا اختلفوا في تفسيره. ففسره الجمهور وفاقا لبعض الروايات الواردة في القصة أن السامري رأى جبريل وقد نزل على موسى للوحي أو رآه وقد نزل راكبا على فرس من الجنة قدام فرعون وجنوده حين دخلوا البحر فاغرقوا فأخذ قبضة من تراب أثر قدمه أو أثر حافر فرسه ومن خاصة هذا التراب أنه لا يلقى على شئ إلا حلت فيه الحياة ودخلت فيه الروح فحفظ التراب حتى إذا صنع العجل ألقى فيه من التراب فحي وتحرك وخار. فالمراد بقوله: " بصرت بما لم يبصروا به " إبصاره جبريل حين نزل راجلا أو
________________________________________
[ 196 ]
راكبا رآه وعرفه ولم يره غيره من بني إسرائيل، وبقوله: " فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها ؟ ؟ " فقبضت قبضة من تراب أثر جبريل أو من تراب أثر فرس جبريل - والمراد بالرسول جبريل - فنبذتها أي ألقيت القبضة على الحلي المذاب فحي العجل فكان له خوار ! وأعظم ما يرد عليه مخالفة هذه الروايات - وستوافيك في البحث الروائي التالي - للكتاب فإن كلامه تعالى ينص على أن العجل كان جسدا له خوار والجسد هو الجثة التي لا روح لها ولا حياة فيها، ولا يطلق على الجسم ذي الروح والحياة البتة. مضافا إلى ما أوردوه من وجوه الاشكال على الروايات مما سيجئ نقله في البحث الروائي الاتي. ونقل عن أبي مسلم في تفسير الاية أنه قال ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكروه، وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام وأثره سنته ورسمه الذي أمر به ودرج عليه فقد يقول الرجل فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه. وتقرير الاية على ذلك أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الامر الذي دعاه إلى إضلال القوم بالعجل قال: بصرت بما لم يبصروا به أي عرفت أن الذي عليه القوم ليس بحق وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أي شيئا من دينك فنبذتها أي طرحتها ولم أتمسك بها وتعبيره عن موسى بلفظ الغائب على نحو قول من يخاطب الامير: ما قول الامير في كذا ؟ ويكون إطلاق الرسول منه عليه نوعا من التهكم حيث كان كافرا مكذبا به على حد قوله تعالى حكاية عن الكفرة: " يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون " انتهى ومن المعلوم أن خوار العجل على هذا الوجه كان لسبب صناعي بخلاف الوجه السابق. وفيه أن سياق الاية يشهد على تفرع النبذ على القبض والقبض على البصر ولازم ما ذكره تفرع النبذ على البصر والبصر على القبض فلو كان ما ذكره حقا كان من الواجب أن يقال: بصرت بما لم يبصروا به فنبذت ما قبضته من أثر الرسول أو يقال: قبضت قبضة من أثر الرسول فبصرت بما لم يبصروا به فنبذتها.
________________________________________
[ 197 ]
وثانيا: أن لازم توجيهه أن يكون قوله تعالى: وكذلك سولت لي نفسي " إشارة إلى سبب عمل العجل وجوابا عن مسألة موسى " ما خطبك " ؟ ومحصله أنه إنما سواه لتسويل من نفسه أن يضل الناس فيكون مدلول صدر الاية أنه لم يكن موحدا ومدلول ذيلها أنه لم يكن وثنيا فلا موحد ولا وثني مع أن المحكي من قول موسى بعد: " وأنظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه " الخ أنه كان وثنيا. وثالثا: أن التعبير عن موسى وهو مخاطب بلفظ الغائب بعيد. ويمكن أن يتصور للاية معنى آخر بناء على ما ذكره بعضهم أن أوزار الزينة التى حملوها كانت حلي ذهب من القبط أمرهم موسى أن يحملوها وكانت لموسى أو منسوبة إليه وهو المراد بأثر الرسول فالسامري يصف ما صنعه بأنه كان ذا بصيرة في أمر الصباغة والتقليب يحسن من صنعة التماثيل ما لا علم للقوم به فسولت له نفسه أن يعمل لهم تمثال عجل من ذهب فأخذ وقبض قبضة من أثر الرسول وهو الحلي من الذهب فنبذها وطرحها في النار وأخرج لهم عجلا جسدا له خوار، وكان خواره لدخول الهواء في فراغ جوفه وخروجه من فيه على ضغطة بتعبئة صناعية هذا. ويبقى الكلام على التعبير عن موسى وهو يخاطبه بالرسول، وعلى تسمية حلي القوم أثر الرسول، وعلى تسمية عمل العجل وكان يعبده تسويلا نفسانيا. قوله تعالى: " قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه " هذه مجازاة له من موسى عليه السلام بعد ثبوت الجرم. فقوله: " قال فاذهب " قضاء بطرده عن المجتمع بحيث لا يخالط القوم ولا يمس أحدا ولا يمسه أحد بأخذ أو عطاء أو إيواء أو صحبة أو تكليم وغير ذلك من مظاهر الاجتماع الانساني وهو من أشق أنواع العذاب، وقوله: " فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس " - ومحصله أنه تقرر وحق عليك أن تعيش فردا ما دمت حيا - كناية عن تحسره المداوم من الوحدة والوحشة. وقيل: إنه دعاء من موسى عليه وأنه ابتلي إثر دعائه بمرض عقام لا يقترب منه أحد إلا حمي حمي شديدة فكان يقول لمن اقترب منه: لا مساس، لا مساس، وقيل: ابتلي بوسواس فكان يتوحش ويفر من كل من يلقاه وينادي لا مساس، وهو وجه حسن لو صح الخبر.
________________________________________
[ 198 ]
وقوله: " وإن لك موعدا لن تخلفه " ظاهره أنه إخبار عن هلاكه في وقت عينه الله وقضاه قضاء محتوما ويحتمل الدعاء عليه، وقيل: المراد به عذاب الاخرة. قوله تعالى: " وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا " قال في المجمع: يقال: نسف فلان الطعام إذا ذراه بالمنسف ليطير عنه قشوره. انتهى. وقوله: " وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا " أي ظللت ودمت عليه عاكفا لازما، وفيه دلالة على أنه كان اتخذه إلها له يعبده. وقوله: " لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا " أي أقسم لنحرقنه بالنار ثم لنذرينه في البحر ذروا، وقد استدل بحديث إحراقه على أنه كان حيوانا ذا لحم ودم ولو كان ذهبا لم يكن لاحراقه معنى، وهذا يؤيد تفسير الجمهور السابق أنه صار حيوانا ذا روح بإلقاء التراب المأخوذ من أثر جبريل. عليه لكن الحق أنه إنما يدل على أنه لم يكن ذهبا خالصا لا غير. وقد احتمل بعضهم أن يكون لنحرقنه من حرق الحديد إذا برده بالمبرد، والمعنى: لنبردنه بالمبرد ثم لنذرين برادته في البحر وهذا أنسب. قوله تعالى: " إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو وسع كل شئ علما " الظاهر أنه من تمام كلام موسى عليه السلام يخاطب به السامري وبني إسرائيل وقد قرر بكلامه هذا توحده تعالى في ألوهيته فلا يشاركه فيها غيره من عجل أو أي شريك مفروض، وهو بسياقه من لطيف الاستدلال فقد استدل فيه بأنه تعالى هو الله على أنه لا إله إلا هو وبذلك على أنه لا غير إلههم. قيل: وفي قوله: " وسع كل شئ علما " دلالة على أن المعدوم يسمى شيئا لكونه معلوما وفيه مغالطة فإن مدلول الاية أن كل ما يسمى شيئا فقد وسعه علمه لا أن كل ما وسعه علمه فهو يسمى شيئا والذي ينفع المستدل هو الثاني دون الاول. (بحث روائي) في التوحيد بإسناده إلى حمزة بن الربيع عمن ذكره قال: كنت في مجلس أبي جعفر عليه السلام إذ دخل عليه عمرو بن عبيد فقال له: جعلت فداك قول الله تبارك وتعالى:
________________________________________
[ 199 ]
" ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى " ما ذلك الغضب ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام: هو العقاب يا عمرو إنه من زعم أن الله عزوجل زال من شئ إلى شئ فقد وصفه صفة مخلوق، إن الله عزوجل لا يستفزه شئ ولا يغيره. أقول وروى ما في معناه الطبرسي في الاحتجاج مرسلا. وفي الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن أبى ليلى عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إن الله تبارك وتعالى لا يقبل إلا العمل الصالح ولا يقبل الله إلا الوفاء بالشروط والعهود فمن وفى لله بشرطه واستعمل ما وصف في عهده نال ما عنده واستكمل وعده إن الله تبارك وتعالى أخبر العباد بطرق الهدى، وشرع لهم فيها المنار، وأخبرهم كيف يسلكون ؟ فقال: " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " وقال: " إنما يتقبل الله من المتقين " فمن اتقى الله فيما أمره لقي الله مؤمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وفي المجمع: قال أبو جعفر عليه السلام " ثم اهتدى " إلى ولايتنا أهل البيت فو الله لو أن رجلا عبد الله عمره ما بين الركن والمقام ثم مات ولم يجئ بولايتنا لاكبه الله في النار على وجهه " رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده وأورده العياشي في تفسيره بعدة طرق. أقول: ورواه في الكافي بإسناده عن سدير عنه عليه السلام وفي تفسير القمي بإسناده عن الحارث بن عمر عنه عليه السلام وفي مناقب ابن شهر آشوب عن أبي الجارود وأبي الصباح الكناسى عن الصادق عليه السلام وعن أبي حمزة عن السجاد عليه السلام: مثله ولفظه: الينا أهل البيت. والمراد بالولاية في الحديث ولاية أمر الناس في دينهم ودنياهم وهي المرجعية في أخذ معارف الدين وشرائعه وفي إدارة أمور المجتمع وقد كانت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما ينص عليه الكتاب في أمثال قوله: " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " ثم جعلت لعترته أهل بيته بعده في الكتاب بمثل آية الولاية وبما تواتر عنه صلى الله عليه وآله وسلم من حديث الثقلين وحديث المنزله ونظائرهما. والاية وإن وقعت بين آيات خوطب بها بنو إسرائيل وظاهرها ذلك لكنها غير مقيدة بشئ يخصها بهم ويمنع جريانها في غيرهم فهي جارية في غيرهم كما تجري فيهم
________________________________________
[ 200 ]
أما جريانها فيهم فلان لموسى بما كان إماما في أمته كان له من سنخ هذه الولاية ما لغيره من الانبياء فعلى أمته أن يهتدوا به ويدخلوا تحت ولايته، وأما جريانها في غيرهم فلان الاية عامة غير خاصة بقوم دون قوم فهى تهدي الناس في زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى ولايته وبعده إلى ولاية الائمة من أهل بيته عليهم السلام فالولاية سنخ واحد لها معناها إلى أي من نسبت. إذ عرفت ما تقدم ظهر لك سقوط ما ذكره الالوسي في تفسير روح المعاني فإنه بعد ما نقل رواية مجمع البيان السابقة عن أبي جعفر عليه السلام قال: وأنت تعلم أن ولايتهم وحبهم رضي الله عنهم مما لا كلام عندنا في وجوبه لكن حمل الاهتداء في الاية على ذلك مع كونها حكاية لما خاطب الله تعالى به بني إسرائيل في زمان موسى عليه السلام مما يستدعى القول بأنه عزوجل أعلم بني إسرائيل بأهل البيت وأوجب عليهم ولايتهم إذ ذاك ولم يثبت ذلك في صحيح الاخبار انتهى موضع الحاجة من كلامه. والذي أوقعه فيما وقع فيه تفسيره الولاية بمعنى المحبة ثم أخذه الاية خاصة ببني إسرائيل حتى استنتج المعنى الذي ذكره وليست الولاية في آياتها وأخبارها بمعنى المحبة وإنما هي ملك التدبير والتصرف في الامور الذي من شؤنه لزوم الاتباع وافتراض الطاعة وهو الذي يدعيه أئمة أهل البيت لانفسهم وأما المحبة فهي معنى توسعي للولاية بمعناها الحقيقي ومن لوازمها العادية وهي التي تدل عليه بالمطابقة أدلة مودة ذي القربى من آية أو رواية. ولولاية أهل البيت عليهم السلام معنى آخر ثالث وهو أن يلي الله أمر عبده فيكون هو المدبر لاموره والمتصرف في شؤنه لاخلاصه في العبودية وهذه الولاية هي لله بالاصالة فهو الولي لا ولي غيره وإنما تنسب إلى أهل البيت عليهم السلام لانهم السابقون الاولون من الامة في فتح هذا الباب وهي أيضا من التوسع في النسبة كما ينسب الصراط المستقيم في كلامه تعالى إليه بالاصالة وإلى الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين بنوع من التوسع. فتلخص أن الولاية في حديث المجمع بمعنى ملك التدبير وأن الاية الكريمة عامة جارية في غير بني إسرائيل كما فيهم وانه عليه السلام إنما فسر الاهتداء إلى الولاية من جهة


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page