• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 151 الي 175



[ 151 ]
كون الجملة أعني قوله: " وألقيت عليك " الخ، معطوفا على قوله: " أوحينا إلى أمك ". ومعنى إلقاء محبة منه عليه كونه بحيث يحبه كل من يراه كأن المحبة الالهية استقرت عليه فلا يقع عليه نظر ناظر إلا تعلقت المحبة بقلبه وجذبته إلى موسى، ففي الكلام استعارة تخييلية وفي تنكير المحبة إشارة إلى فخامتها وغرابة أمرها. واللام في قوله: " ولتصنع على عيني " للغرض، والجملة معطوفة على مقدر والتقدير ألقيت عليك محبة منى لامور كذا وكذا وليحسن اليك على عينى أي بمرأى مني فإني معك أراقب حالك ولا أغفل عنك لمزيد عنايتي بك وشفقتي عليك. وربما قيل: إن المراد بقوله: " ولتصنع على عيني " الاحسان إليه بإرجاعه إلى أمه وجعل تربيته في حجرها. وكيف كان فهذا اللسان وهو لسان كمال العناية والشفقة يناسب سياق التكلم وحده ولذا عدل إليه من لسان التكلم بالغير. وقوله: " إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن " الظرف - على ما يعطيه السياق - متعلق بقوله: " ولتصنع " والمعنى: وألقيت عليك محبة مني يحبك كل من يراك لكذا وكذا وليحسن اليك بمرأى مني وتحت مراقبتي في وقت تمشى اختك لتجوس خبرك وترى ما يصنع بك فتجد عمال فرعون يطلبون مرضعا ترضعك فتقول لهم - والاستقبال في الفعل لحكاية الحال الماضية - عارضة عليهم: هل أدلكم على من يكفله بالحضانة والارضاع فرددناك إلى امك كي تسر ولا تحزن. وقوله: " فرجعناك " بصيغة المتكلم مع الغير رجوع إلى السياق السابق وهو التكلم بالغير وليس بالتفات. قوله تعالى: " وقتلت نفسا فنجيناك من الغم " إلى آخر الاية إشارة إلى من أو منن اخرى ملحقة بالمنين السابقين وهو قصة قتله عليه السلام القبطي وائتمار الملا أن يقتلوه وفراره من مصر وتزوجه هناك ببنت شعيب النبي وبقائه عنده بين أهل مدين عشر سنين أجيرا يرعى غنم شعيب، والقصة مفصله مذكورة في سورة القصص.
________________________________________
[ 152 ]
فقوله: " وقتلت نفسا " هو قتله القبطي بمصر، وقوله: " فنجيناك من الغم " وهو ما كان يخافه أن يقتله الملا من آل فرعون فأخرجه الله إلى أرض مدين فلما أحضره شعيب وورد عليه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين. وقوله: " وفتناك فتونا " أي ابتليناك واختبرناك ابتلاء واختبارا، قال الراغب في المفردات: أصل الفتن إدخال الذهب النار لتظهر جودته من رداءته، واستعمل في إدخال الانسان النار، قال: يوم هم على النار يفتنون " " ذوقوا فتنكم " أي عذابكم، قال: وتارة يسمون ما يحصل عنه العذاب فتنة فيستعمل فيه نحو قوله: " ألا في الفتنة سقطوا " وتارة في الاختبار، نحو: " وفتناك فتونا وجعلت الفتنة كالبلاء في أنهما تستعملان فيما يدفع إليه الانسان من شدة ورخاء وهما في الشدة أظهر معنى وأكثر استعمالا وقد قال فيهما: " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " انتهى موضع الحاجة من كلامه. وقوله: " فلبث سنين في أهل مدين " متفرع على الفتنة. وقوله: " ثم جئت على قدر يا موسى " لا يبعد أن يستفاد من السياق أن المراد بالقدر هو المقدر وهو ما حصله من العلم والعمل عن الابتلاءات الواردة عليه في نجاته من الغم بالخروج من مصر ولبثه في أهل مدين. وعلى هذا فمجموع قوله: وقتلت نفسا فنجيناك - إلى قوله - يا موسى " من واحد وهو أنه ابتلي ابتلاء بعد ابتلاء حتى جاء على قدر وهو ما اكتسبه من فعلية الكمال. وربما أجيب عن الاستشكال في عد الفتن من المن بأن الفتن ههنا بمعنى التخليص كتخليص الذهب بالنار، وربما أجيب بأن كونه منا باعتبار الثواب المترتب على ذلك، والوجهان مبنيان على فصل قوله: " فلبثت " إلى آخر الاية عما قبله ولذا قال بعضهم: إن المراد بالفتنة هو ما قاساه موسى من الشدة بعد خروجه من مصر إلى أن استقر في مدين لمكان فاء التفريع في قوله: " فلبثت سنين في أهل مدين " الدال على تأخر اللبث عن الفتنة زمانا، وفيه أن الفاء إنما تدل على التفرع فحسب وليس من الواجب أن يكون تفرعا زمانيا دائما. وقال بعضهم: إن القدر بمعنى التقدير والمراد ثم جئت إلى أرض مصر على ما
________________________________________
[ 153 ]
قدرنا ثم اعترض على أخذ القدر بمعنى المقدار بأن المعروف من القدر بهذا المعنى هو ما كان بسكون الدال لا بفتحها وفيه أن القدر والقدر بسكون الدال وفتحها - كما صرحوا به كالنعل والنعل بمعنى واحد. على أن القدر بمعنى المقدار كما قدمناه - أكثر ملاءمة للسياق أو متعين. وذكر لمجيئة على مقدار بعض معان اخر وهي سخيفة لا جدوى فيها. وختم ذكر المن بنداء موسى عليه السلام زيادة تشريف له. قوله تعالى: " واصطنعتك لنفسي " الاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الاحسان - على ما ذكروا - يقال: صنعه أي أحسن إليه واصطنعه أي حقق إحسانه إليه وثبته فيه، ونقل عن القفال أن معنى الاصطناع أنه يقال: اصطنع فلان فلانا إذا أحسن إليه حتى يضاف إليه فيقال: هذا صنيع فلان وخريجه. انتهى. وعلى هذا يؤول معنى اصطناعه إياه إلى اخلاصه تعالى إياه لنفسه ويظهر موقع قوله: " لنفسي " أتم ظهور وأما على المعنى الاول فالانسب بالنظر إلى السياق أن يكون الاصطناع مضمنا معنى الاخلاص، والمعنى على أي حال وجعلتك خالصا لنفسي فيما عندك من النعم فالجميع مني وإحساني ولا يشاركني فيك غيري فأنت لي مخلصا وينطبق ذلك على قوله: " واذكر في الكتاب موسى انه كان مخلصا " مريم: 51. ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: المراد بالاصطناع الاختيار، ومعنى اختياره لنفسه جعله حجة بينه وبين خلقه كلامه كلامه ودعوته دعوته وكذا قول بعضهم إن المراد بقوله: " لنفسي لوحيي ورسالتي، وقول آخرين: لمحبتي، كل ذلك من قبيل التقييد من غير مقيد. ويظهر أيضا أن اصطناعه لنفسه منظوم في سلك المنن المذكورة بل هو أعظم النعم ومن الممكن أن يكون معطوفا على قوله: " جئت على قدر " عطف تفسير. والاعتراض على هذا المعنى بأن توسيط النداء بينه وبين المنن المذكورة لا يلائم كونه منظوما في سلكها - على ما ذكر الفخر الرازي في تفسيره - فالاولى جعله تمهيدا لارساله إلى فرعون مع شركة من أخيه في أمره. فيه أن توسيط النداء لا ينحصر وجهه فيما ذكر فلعل الوجه فيه تشريفه بمزيد
________________________________________
[ 154 ]
اللطف وتقريبه من موقف الانس ليكون ذلك تمهيدا للالتفات ثانيا من التكلم بالغير إلى التكلم وحده بقوله: " واصطنعتك لنفسي ". قوله تعالى: " اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري " تجديد للامر السابق خطابا لموسى وحده في قوله: " إذهب إلى فرعون إنه طغى " بتغيير ما فيه بإلحاق أخي موسى به لتغير ما في المقام بإيتاء سؤال موسى أن يشرك هارون في أمره فوجه الخطاب ثانيا اليهما معا. وأمرهما أن يذهبا بآياته ولم يؤت وقتئذ إلا آيتين وعد جميل بأنه مؤيد بغيرهما وسيؤتاه حين لزومه، وأما القول بأن المراد هما الايتان والجمع ربما يطلق على الاثنين، أو أن كلا من الايتين ينحل إلى آيات كثيره مما لا ينبغي الركون إليه. وقوله: " ولا تنيا في ذكرى " نهي عن الوني وهو الفتور، والانسب للسياق السابق أن يكون المراد بالذكر الدعوة إلى الايمان به تعالى وحده لا ذكره بمعنى التوجه إليه قلبا أو لسانا كما قيل. قوله تعالى: " اذهبا إلى فرعون إنه طغى وقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " جمعهما في الامر ثانيا فخاطب موسى وهارون معا وكذلك في النهي الذي قبله في قوله: " ولا تنيا " وقد مهد لذلك بإلحاق هارون بموسى في قوله: " إذهب أنت وأخوك " وليس ببعيد أن يكون نقلا لمشافهة أخرى وتخاطب وقع بينه تعالى وبين رسوليه مجتمعين أو متفرقين بعد ذاك الموقف ويؤيده سياق قوله بعد: " قالا ربنا إنا نخاف أن يفرط علينا " الخ. والمراد بقوله: " وقولا له قولا لينا " المنع من أن يكلماه بخشونة وعنف وهو من أوجب آداب الدعوة. وقوله: " لعله يتذكر أو يخشى " رجاء لتذكره أو خشيته وهو قائم بمقام المحاورة لابه تعالى العالم بما سيكون، والتذكر مطاوعة التذكير فيكون قبولا والتزاما لما تقتضيه حجة المذكر وإيمانه به والخشية من مقدمات القبول والايمان فمآل المعنى لعله يؤمن أو يقرب من ذلك فيجيبكم إلى بعض ما تسألانه. واستدل بعض من يرى قبول إيمان فرعون حين الغرق على إيمانه بالاية استنادا
________________________________________
[ 155 ]
إلى أن " لعل " من الله واجب الوقوع كما نسب إلى ابن عباس وقدماء المفسرين فالاية تدل على تحتم وقوع أحد الامرين التذكر أو الخشيه وهو مدار النجاة. وفيه أنه ممنوع ولا تدل عسى ولعل في كلامه تعالى إلا على ما يدل عليه في كلام غيره وهو الترجي غير أن معنى الترجي في كلامه لا يقوم به، تعالى عن الجهل وتقدس وإنما يقوم بالمقام بمعنى أن من وقف هذا الموقف واطلع على أطراف الكلام فهم أن من المرجو أن يقع كذا وكذا وأما في كلام غيره فربما قام الترجي بنفس المتكلم وربما قام بمقام التخاطب. وقال الامام الرازي في تفسيره أنه لا يعلم سر إرساله تعالى إلى فرعون مع علمه بأنه لا يؤمن إلا الله، ولا سبيل في المقام وأمثاله إلى غير التسليم وترك الاعتراض. وهو عجيب فإنه إن كان المراد بسر الارسال وجه صحة الامر بالشئ مع العلم باستحالة وقوعه في الخارج فاستحالة وقوع الشئ أو وجوب وقوعه إنما ذلك حال الفعل بالقياس إلى علته التامة التي هي الفاعل وسائر العوامل الخارجة عنه في وجوده والامر لا يتعلق بالفعل من حيث حاله بالقياس إلى جميع أجزاء علته التامة وإنما يتعلق به من جهة حاله بالقياس إلى الفاعل الذي هو أحد أجزاء علته التامه ونسبة الفعل وعدمه إليه بالامكان دائما لكونه علة ناقصة لا تستوجب وجود الفعل ولا عدمه فالارسال والدعوة وكذا الامر صحيح بالنسبة إلى فرعون لكون الاجابة والائتمار بالنسبة إليه نفسه اختيارية ممكنة وإن كانت بالنسبة إليه مع انضمام سائر العوامل المانعة مستحيلة ممتنعة هذا جواب القائلين بالاختيار، وأما المجبرة - وهو منهم - فالشبهة تسري عندهم إلى جميع موارد التكاليف لعموم الجبر وقد أجابوا عنها على زعمهم بأن التكليف صوري يترتب عليه تمام الحجة وقطع المعذرة. وإن كان المراد بسر الارسال مع العلم بأنه لا يؤمن الفائدة المترتبة عليه بحيث يخرج بها عن اللغوية فالدعوة الحقة كما تؤثر أثرها في قوم بتكميلهم في جانب السعادة كذلك تؤثر أثرها في آخرين بتكميل شقائهم، قال تعالى: " وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا " أسرى: 82، ولو الغي التكميل في جانب الشقاء لغى الامتحان فيه، فلم تتم الحجة فيه ولا انقطع العذر، ولو لم تتم
________________________________________
[ 156 ]
الحجة في جانب وانتقضت لم تنجع في الجانب الاخر وهو ظاهر. قوله تعالى: " قالا ربنا إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى " الفرط التقدم والمراد به بقرينة مقابلته الطغيان أن يعجل بالعقوبة ولا يصبر إلى إتمام الدعوة وإظهار الاية المعجزة، والمراد بأن يطغى أن يتجاوز حده في ظلمه فيقابل الدعوة بتشديد عذاب بني إسرائيل والاجتراء على ساحة القدس بما كان لا يجترئ عليه قبل الدعوة ونسبة الخوف اليهما لا بأس بها كما تقدم الكلام فيها في تفسير قوله تعالى: " قال خذها ولا تخف ". واستشكل على الاية بأن قوله تعالى في موضع آخر لموسى في جواب سؤاله إشراك أخيه في أمره قال: " سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون إليكما " القصص: 35، يدل على إعطاء الامن لهما في موقف قبل هذا الموقف لقوله " سنشد عضدك بأخيك " فلا معنى لاظهارهما الخوف بعد ذلك. وأجيب بأن خوفهما قبل كان على أنفسهما بدليل قول موسى هناك. " ولهم علي ذنب فأخاف أن يقتلون " الشعراء 14، والذي في هذه الاية خوف منهما على الدعوة كما تقدم. على أن من الجائز أن يكون هذا الخوف المحكي في الاية هو خوف موسى قبل في موقف المناجاة وخوف هارون بعد بلوغ الامر إليه فالتقطا وجمعا معا في هذا المورد، وقد تقدم احتمال أن يكون قوله: " إذهبا إلى فرعون " إلى آخر الايات، حكاية كلامهما في غير موقف واحد. قوله تعالى: " قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " أي لا تخافا من فرطه وطغيانه إنني حاضر معكما أسمع ما يقال وأرى ما يفعل فأنصركما ولا أخذلكما فهو تأمين بوعد النصرة، فقوله: " لا تخافا " تأمين، وقوله: " إنني معكما أسمع وأرى " تعليل للتأمين بالحضور والسمع والرؤية، وهو الدليل على أن الجملة كناية عن المراقبة والنصرة وإلا فنفس الحضور والعلم يعم جميع الاشياء والاحوال. وقد استدل بعضهم بالاية على أن السمع والبصر صفتان زائدتان على العلم بناء على أن قوله: " إنني معكما " دال على العلم ولو دل " أسمع وأرى " عليه أيضا لزم
________________________________________
[ 157 ]
التكرار وهو خلاف الاصل. وهو من أو هن الاستدلال، أما أولا فلما عرفت أن مفاد: " إننى معكما " هو الحضور والشهادة وهو غير العلم. وأما ثانيا: فلقيام البراهين اليقينية على عينية الصفات الذاتية وهي الحياة والقدرة والعلم والسمع والبصر بعضها لبعض والمجموع للذات، ولا ينعقد مع اليقين ظهور لفظي ظني مخالف البتة. وأما ثالثا: فلان المسألة من اصول المعارف لا يركن فيها إلى غير العلم، فتتميم الدليل بمثل أصالة عدم التكرار كما ترى. قوله تعالى: " فأتياه فقولا إنا رسولا ربك " إلى آخر الاية، جدد أمرهما بالذهاب إلى فرعون بعد تأمينهما ووعدهما بالحفظ والنصر وبين تمام ما يكلفان به من الرسالة وهو أن يدعوا فرعون إلى الايمان وإلى رفع اليد عن تعذيب بني إسرائيل وإرسالهم معهما فكلما تحول حال في المحاورة جدد الامر حسب ما يناسبه وهو قوله أولا لموسى: " إذهب إلى فرعون إنه طغى " ثم قوله ثانيا لما ذكر أسئلته وأجيب إليها: " إذهب أنت وأخوك " " إذهبا إلى فرعون إنه طغى "، ثم قوله لما ذكرا خوفهما وأجيبا بالامن: " فأتياه فقولا " الخ، وفيه تفصيل ما عليهما أن يقولا له. فقوله: " فأتياه فقولا إنا رسولا ربك " تبليغ أنهما رسولا الله، وفي قوله بعد: " والسلام على من اتبع الهدى " الخ، دعوته إلى بقية أجزاء الايمان. وقوله: " فأرسل معنا بنى إسرائيل ولا تعذبهم " تكليف فرعي متوجه إلى فرعون. وقوله: " قد جئناك بآية من ربك " استناد إلى حجة تثبت رسالتهما وفي تنكير الاية سكوت عن العدد وإشارة إلى فخامة أمرها وكبر شأنها ووضوح دلالتها. وقوله: " والسلام على من اتبع الهدى " كالتحية للوداع يشار به إلى تمام الرسالة ويبين به خلاصة ما تتضمنه الدعوة الدينية وهو أن السلامة منبسط على من اتبع الهدى والسعادة لمن اهتدى فلا يصادف في مسير حياته مكروها يكرهه لا في دنيا ولا في عقبى. وقوله: " إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى " في مقام التعليل
________________________________________
[ 158 ]
لسابقه أي إنما نسلم على المهتدين فحسب لان الله سبحانه أوحى الينا أن العذاب وهو خلاف السلام على من كذب بآيات الله - أو بالدعوة الحقة التي هي الهدى - وتولى وأعرض عنها. وفي سياق الايتين من الاستهانة بأمر فرعون وبما تزين به من زخارف الدنيا وتظاهر به من الكبر والخيلاء ما لا يخفى، فقد قيل: " فأتياه " ولم يقل: إذهبا إليه وإتيان الشئ أقرب مساسا به من الذهاب إليه ولم يكن إتيان فرعون وهو ملك مصر وإله القبط بذاك السهل الميسور، وقيل: " فقولا " ولم يقل: فقولا له كأنه لا يعتني به، وقيل: " إنا رسولا ربك " و " بآية من ربك " فقرع سمعه مرتين بأن له ربا وهو الذي كان ينادي بقوله: " أنا ربكم الاعلى "، وقيل: " والسلام على من اتبع الهدى " ولم يورد بالخطاب إليه، ونظيره قوله: " أن العذاب على من كذب وتولى " من غير خطاب. وهذا كله هو الانسب تجاه ما يلوح من لحن قوله تعالى: " لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى " من كمال الاحاطة والعزة والقدرة التي لا يقوم لها شئ. وليس مع ذلك فيما أمرا أن يخاطباه به من قولهما: " إنا رسولا ربك " إلى آخر الايتين خشونة في الكلام وخروج عن لين القول الذي أمرا به أولا فإن ذلك حق القول الذي لا مناص من قرعه سمع فرعون من غير تملق ولا احتشام وتأثر من ظاهر سلطانه الباطل وعزته الكاذبة. (بحث روائي) في تفسير القمي في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام: في قوله: " آتيكم منها بقبس " يقول: آتيكم بقبس من النار تصطلون من البرد " أو أجد على النار هدى " كان قد أخطأ الطريق يقول: أو أجد على النار طريقا. وفي الفقيه سئل الصادق عليه السلام عن قول الله عزوجل: " فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى " قال: كانتا من جلد حمار ميت.
________________________________________
[ 159 ]
أقول: ورواه أيضا في تفسير القمي مرسلا ومضمرا، وروى هذا المعنى في الدر المنثور عن عبد الرزاق والفاريابى وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن علي وقد ورد ذلك في بعض الروايات، وسياق الاية يعطي أن الخلع لاحترام الموقف. وفي المجمع في قوله تعالى: " أقم الصلاة لذكري " قيل: معناه أقم الصلاة متى ذكرت أن عليك صلاة كنت في وقتها أم لم تكن. عن أكثر المفسرين، وهو المروي عن أبي جعفر عليه السلام، ويعضده ما رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها غير ذلك، رواه مسلم في الصحيح. أقول: والحديث مروي بطرق أخرى مسندة وغير مسندة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طرق أهل السنة وعن الصادقين عليهما السلام من طرق الشيعة. وفي المجمع في قوله تعالى: " أكاد أخفيها " روى عن ابن عباس " أكاد أخفيها عن نفسي: وهي كذلك في قراءة أبي، وروي ذلك عن الصادق عليه السلام. وفي الدر المنثور أخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عن أسماء بنت عميس قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزاء ثبير وهو يقول: أشرق ثبير أشرق ثبير اللهم إني أسألك بما سألك أخي موسى أن تشرح لي صدري، وأن تيسر لي أمري وأن تحل عقدة من لساني يفقهوا قولي، واجعل لي وزيرا من أهلي عليا أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا. أقول: وروي قريبا من هذا المعنى عن السلفي عن الباقر عليه السلام وروي أيضا في المجمع عن ابن عباس عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريبا منه. وقال في روح المعاني بعد إيراد الحديث المذكور ما لفظه: ولا يخفى أنه يتعين هنا حمل الامر على أمر الارشاد والدعوة إلى الحق ولا يجوز حمله على النبوة ولا يصح الاستدلال به على خلافة علي كرم الله وجهه بعد النبي صلى الله عليه وسلم بلا فصل. ومثله فيما ذكر ما صح من قوله عليه الصلاة والسلام له حين استخلفه في عزوة تبوك على أهل بيته " أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " انتهى. قلت: أما الاستدلال بالحديث أو بحديث المنزلة على خلافته عليه السلام بلا فصل
________________________________________
[ 160 ]
فالبحث فيه خارج عن غرض الكتاب وإنما نبحث عن المراد بقوله صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه لعلي عليه السلام: " وأشركه في أمري " طبقا لدعاء موسى عليه السلام المحكي في الكتاب العزيز فإن له مساسا بما فهمه صلى الله عليه وآله وسلم من لفظ الاية والحديث صحيح مؤيد بحديث المنزلة المتواتر (1). فمراده صلى الله عليه وآله وسلم بالامر في قوله: " وأشركه في أمري " ليس هو النبوة قطعا لنص حديث المنزلة باستثناء النبوة، وهو الدليل القاطع على أن مراد موسى بالامر في قوله: " وأشركه في أمري " ليس هو النبوة وإلا بقي قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " أمري " بلا معنى يفيده. وليس المراد بالامر هو مطلق الارشاد والدعوة إلى الحق - كما ذكره - قطعا لانه تكليف يقوم به جميع الامة ويشاركه فيه غيره وحجة الكتاب والسنة قائمة فيه كامثال قوله تعالى: " قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني " يوسف: 108، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم - وقد رواه العامة والخاصة -: فليبلغ الشاهد الغائب، وإذا كان أمرا مشتركا بين الجميع فلا معنى لسؤال إشراك علي فيه. على أن الاضافة في قوله: " أمري " تفيد الاختصاص فلا يصدق على ما هو مشترك بين الجميع، ونظير الكلام يجري في قول موسى المحكي في الاية. نعم التبليغ الابتدائي وهو تبليغ الوحي لاول مرة أمر يختص بالنبي فليس له أن يستنيب لتبليغ أصل الوحي رجلا آخر، فالاشراك فيه إشراك في أمره وفي قول موسى ما يشهد بذلك إذ يقول: " وأخى هارون هو أفصح منى لسانا فأرسله معي ردءا يصدقني " إذ ليس المراد بتصديقه إياه أن يقول: صدق أخى بل أن يوضح ما أبهم من كلامه ويفصل ما أجمل ويبلغ عنه بعض الوحي الذي كان عليه أن يبلغه. فهذا النوع من التبليغ وما معه من آثار النبوة كافتراض الطاعة مما يختص بالنبي والاشراك فيها إشراك في أمره، فهذا المعنى هو المراد بالامر في دعائه صلى الله عليه وآله وسلم وهو المراد
________________________________________
(1) نقل البحراني الحديث في غاية المرام بمائة طريق من طرق أهل السنة وسبعين طريقا من طرق الشيعة (*).
________________________________________
[ 161 ]
أيضا مضافة إليه النبوة في دعاء موسى. وقد تقدم ما يتعلق بهذا البحث في تفسير أول سورة براءة في حديث بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليا بآيات أول براءة إلى مكة بعد عزل أبي بكر عنها استنادا إلى ما أوحي إليه أنه لا يبلغها عنك إلا أنت أو رجل منك، في الجزء التاسع من الكتاب. وفي تفسير القمي حدثني أبي عن الحسن بن محبوب عن العلاء بن رزين عن محمد ابن مسلم عن أبى جعفر عليه السلام قال: لما حملت به امه لم يظهر حملها إلا عند وضعها له، وكان فرعون قد وكل بنساء بني إسرائيل نساء من القبط يحفظنهن وذلك لما كان بلغه عن بني إسرائيل أنهم يقولون: إنه يولد فينا رجل يقال له: موسى بن عمران يكون هلاك فرعون وأصحابه على يده، فقال فرعون عند ذلك: لاقتلن ذكور أولادهم حتى لا يكون ما يريدون، وفرق بين الرجال والنساء وحبس الرجال في المحابس. فلما وضعت أم موسى بموسى نظرت إليه وحزنت عليه - واغتمت وبكت وقالت يذبح الساعة فعطف الله الموكلة بها عليه فقالت لام موسى: ما لك قد اصفر لونك ؟ فقالت: أخاف أن يذبح ولدي، فقالت: لا تخافى وكان موسى لا يراه أحد إلا أحبه وهو قول الله: " وألقيت عليك محبة مني " فأحبته القبطية الموكلة بها. وفي العلل بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لموسى بن جعفر عليه السلام: أخبرني عن قول الله عزوجل لموسى " إذهبا إلى فرعون إنه طغى وقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى " فقال: أما قوله: " فقولا له قولا لينا أي كنياه وقولا له: يا أبا مصعب وكان كنية فرعون أبا مصعب الوليد بن مصعب، أما قوله: " لعله يتذكر أو يخشى " فإنما قال ليكون أحرص لموسى على الذهاب وقد علم الله عزوجل أن فرعون لا يتذكر ولا يخشى إلا عند رؤية البأس ألا تسمع الله عزوجل يقول: " حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين " ؟ فلم يقبل الله إيمانه وقال: " الان وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ". أقول: وروى صدر الحديث في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن علي، وتفسير القول اللين بالتكنية من قبيل ذكر بعض المصاديق لضرورة أنه لا ينحصر فيه.
________________________________________
[ 162 ]
وروى ذيل الحديث أيضا في الكافي بإسناده عن عدي بن حاتم عن علي عليه السلام وفيه تأييد ما قدمنا أن " لعل " مستعملة في الايه للترجي. * * * قال فمن ربكما يا موسى (49) - قال ربنا الذى أعطى كل شئ خلقه ثم هدى (50) - قال فما بال القرون الاولى (51) - قال علمها عند ربى في كتاب لا يضل ربى ولا ينسى (52) - الذى جعل لكم الارض مهدا وسلك لكم فيها سبلا وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى (53) - كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لايات لاولى النهى (54) - منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تاره أخرى (55) - ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى (56) - قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى (57) - فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى (58) - قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى (59) - فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى (60) - قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى (61) - فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى (62) - قالوا إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم
________________________________________
[ 163 ]
من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى (63) - فأجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى (64) - قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى (65) - قال بل ألقوا فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى (66) - فأوجس في نفسه خيفة موسى (67) - قلنا لا تخف إنك أنت الاعلى (68) - وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى (69) - فألقى السحرة سجدا قالوا آمنا برب هرون وموسى (70) - قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذى علمكم السحر فلا قطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولاصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى (71) - قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحيوة الدنيا (72) - إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى (73) - إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى (74) - ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى (75) - جنات عدن تجري من تحتها الانهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى (76) - ولقد
________________________________________
[ 164 ]
أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى (77) - فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم (78) - وأضل فرعون قومه وما هدى (79). (بيان) فصل آخر من قصة موسى عليه السلام يذكر فيه خبر ذهاب موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون وتبليغهما رسالة ربهما في نجاة بنى إسرائيل. وقد فصل في الايات خبر ذهابهما إليه وإظهارهما آيات الله ومقابلة السحرة وظهور الحق وإيمان السحرة واشير إجمالا إلى إسراء بنى إسرائيل وشق البحر وإتباع فرعون لهم بجنوده وغرقهم. قوله تعالى: " قال فمن ربكما يا موسى " حكاية لمحاورة موسى وفرعون وقد علم مما نقله تعالى من أمره تعالى لهما أن يذهبا إلى فرعون يدعواه إلى التوحيد ويكلماه في إرسال بني إسرائيل معهما ما قالا له فهو محذوف وما نقل من كلام فرعون جوابا دال عليه. ويظهر مما نقل من كلام فرعون أنه علم بتعريفهما أنهما معا داعيان شريكان في الدعوة غير أن موسى هو الاصل في القيام بها وهارون وزيره ولذا خاطب موسى وحده وسأل عن ربهما معا. وقد وقع في كلمة الدعوة التى أمرا بأن يكلماه بها " إنا " رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك الخ، لفظ " ربك " خطابا لفرعون مرتين وهو لا يرى لنفسه ربا بل يرى نفسه ربا لهما ولغيرهما كما قال في بعض كلامه المنقول منه: " أنا ربكم الاعلى: النازعات: 24، وقال: " لئن اتخذت إلها غيري لاجعلنك من المسجونين " الشعراء: 29، فقوله: " فمن ربكما " - وكان الحري بالمقام أن يقول: فمن ربي الذى تدعيانه ربا لي ؟ أو ما يقرب من ذلك - يلوح إلى أنه يتغافل عن كونه سبحانه ربا له كأنه لم يسمع قولهما " ربك " ويسأل عن ربهما الذي هما رسولان من عنده.
________________________________________
[ 165 ]
وكان من المسلم المقطوع عند الامم الوثنيين أن خالق الكل حقيقة هي أعلى من أن يقدر بقدر وأعظم من أن يحيط به عقل أو وهم فمن المستحيل أن يتوجه إليه بعبادة أو يتقرب إليه بقربان فلا يؤخذ إلها وربا بل الواجب التوجه إلى بعض مقربى خلقه بالعبادة والقربان ليقرب الانسان من الله زلفى ويشفع له عنده فهؤلاء هم الالهة والارباب وليس الله سبحانه بإله ولا رب وإنما هو إله الالهة ورب الارباب فقول القائل إن لي ربا إنما يعنى به أحد الالهة من دون الله وليس يعني به الله سبحانه ولا يفهم ذلك من كلامه في محاوراتهم. فقول فرعون: " فمن ربكما " ليس إنكارا لوجود خالق الكل ولا إنكار أن يكون له إله كما يظهر من قوله " ويذرك وآلهتك " الاعراف 127، وإنما هو طلب منه للمعرفة بحال من اتخذاه إلها وربا من هو غيره ؟ وهذا معنى ما تقدم أن فرعون يتغافل في قوله هذا عن دعوتهما إلى الله سبحانه وهما في أول الدعوه فهو يقدر ولو كتقدير المتجاهل أن موسى وأخاه يدعوانه إلى بعض الالهه التى يتخذ فيما بينهم ربا من دون الله فيسأل عنه، وقد كان من دأب الوثنيين التفنن في اتخاذ الالهة يتخذ كل منهم من يهواه إلها وربما بدل إلها من إله فتلك طريقتهم وسيأتى قول الملاء: " ويذهبا بطريقتكم المثلى " نعم، ربما تفوه عامتهم ببعض ما لا يوافق اصولهم كنسبة الخلق والتدبير إلى نفس الاصنام دون أربابها. فمحصل مذهبهم أنهم ينزهون الله تعالى عن العبادة والتقرب وإنما يتقربون استشفاعا إليه ببعض خلقه كالملائكه والجن والقديسين من البشر، وكان منهم الملوك العظام عند كثير منهم يرونهم مظاهر لعظمة اللاهوت فيعبدونهم في عرض سائر الالهة والارباب وكان لا يمنع ذلك الملك الرب أن يتخذ إلها من الالهة فيعبده فيكون عابدا لربه معبودا لغيره من الرعيه كما كان رب البيت يعبد في بيته عند الروم القديم وكان أكثرهم من الوثنية الصابئة فقد كان فرعون موسى ملكا متألها وهو يعبد الاصنام وهو الظاهر من خلال الايات الكريمة. ومن هنا يظهر ما في أقوال كثير من المفسرين في أمره قال في روح المعاني ذهب بعضهم إلى أن فرعون كان عارفا بالله تعالى إلا أنه كان معاندا واستدلوا عليه بعدة من الايات. وبأن ملكه لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام ألا ترى أن موسى عليه السلام
________________________________________
[ 166 ]
لما هرب إلى مدين قال: له شعيب عليه السلام: لا تخف نجوت من القوم الظالمين فكيف يعتقد أنه إله العالم ؟ وبأنه كان عاقلا ضرورة أنه كان مكلفا وكل عاقل يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم ومن كان كذلك افتقر إلى مدبر فيكون قائلا بالمدبر. ومن الناس من قال: إنه كان جاهلا بالله تعالى بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السماوات والارض وما بينهما واختلفوا في كيفية جهله. فيحتمل أنه كان دهريا نافيا للصانع أصلا، ولعله كان يقول بعدم احتياج الممكن إلى مؤثر وأن وجود العالم اتفاقي كما نقل عن ذي مقراطيس وأتباعه. ويحتمل أنه كان فلسفيا قائلا بالعلة الموجبة ويحتمل أنه كان من عبدة الكواكب ويحتمل أنه كان من عبدة الاصنام، ويحتمل أنه كان من الحلولية المجسمة، وأما دعاؤه لنفسه بالربوبية فبمعنى أنه يجب على من تحت يده طاعته والانقياد له وعدم الاشتغال بطاعة غيره. انتهى بنحو من التلخيص. وأنت بالرجوع إلى حاق مذهب القوم تعرف أن شيئا من هذه الاقوال والمحتملات ولا ما استدلوا عليه لا يوافق واقع الامر. قوله تعالى: " قال ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " سياق الاية - وهي واقعة في جواب سؤال فرعون: " فمن ربكما يا موسى " - يعطي أن " خلقه " بمعنى اسم المصدر والضمير للشئ فالمراد الوجود الخاص بالشئ. والهداية إراءة الشئ الطريق الموصل إلى مطلوبة أو إيصاله إلى مطلوبه ويعود المعنيان في الحقيقة إلى معنى واحد وهو نوع من إيصال الشئ إلى مطلوبه إما بإيصاله إليه نفسه أو إلى طريقه الموصل إليه. وقد اطلق الهداية من حيث المهدي والمهدي إليه ولم يسبق في الكلام إلا الشئ الذي اعطي خلقه فالظاهر أن المراد هداية كل شئ - المذكور قبلا - إلى مطلوبه ومطلوبه هو الغاية التي يرتبط بها وجوده وينتهي إليها والمطلوب هو مطلوبه من جهة خلقه الذي اعطيه ومعنى هدايته له إليها تسييره نحوها كل ذلك بمناسبة البعض للبعض. فيؤول المعنى إلى إلقائه الرابطة بين كل شئ بما جهز به في وجوده من القوى والا لات وبين آثاره التي تنتهي به إلى غايه وجوده فالجنين من الانسان مثلا وهو
________________________________________
[ 167 ]
نطفة مصورة بصورته مجهز في نفسه بقوى وأعضاء تناسب من الافعال والاثار ما ينتهى به إلى الانسان الكامل في نفسه وبدنه فقد اعطيت النطفة الانسانية بما لها من الاستعداد خلقها الذى يخصها وهو الوجود الخاص بالانسان ثم هديت وسيرت بما جهزت به من القوى والاعضاء نحو مطلوبها وهو غاية الوجود الانساني والكمال الاخير الذي يختص به هذا النوع. ومن هنا يظهر معنى عطف قوله: " هدى على قوله: " أعطى كل شئ خلقه " بثم وأن المراد التأخر الرتبي فإن سير الشئ وحركته بعد وجوده رتبة وهذا التأخر في الموجودات الجسمانية تدريجي زماني بنحو. وظهر أيضا أن المراد بالهداية الهداية العامة الشاملة لكل شئ دون الهداية الخاصة بالانسان، وذلك بتحليل الهداية الخاصة وتعميمها بإلقاء الخصوصيات فإن حقيقة هدايه الانسان بإراءته الطريق الموصل إلى المطلوب والطريق رابطة القاصد بمطلوبه فكل شئ جهز بما يربطه بشئ ويحركه نحوه فقد هدي إلى ذلك الشئ فكل شئ مهدي نحو كماله بما جهز به من تجهيز والله سبحانه هو الهادي. فنظام الفعل والانفعال في الاشياء وإن شئت فقل: النظام الجزئي الخاص بكل شئ والنظام العام الجامع لجميع الانظمة الجزئية من حيث ارتباط أجزائها وانتقال الاشياء من جزء منها إلى جزء مصداق هدايته تعالى وذلك بعناية اخرى مصداق لتدبيره، ومعلوم أن التدبير ينتهي إلى الخلق بمعنى أن الذى ينتهى وينتسب إليه تدبير الاشياء هو الذي أوجد نفس الاشياء فكل وجود أو صفة وجود ينتهى إليه ويقوم به. فقد تبين أن الكلام أعني قوله: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " مشتمل على البرهان على كونه تعالى رب كل شئ لا رب غيره فإن خلقه الاشياء وإيجاده لها يستلزم ملكه لوجوداتها - لقيامها به - وملك تدبير أمرها. وعند هذا يظهر أن الكلام على نظمه الطبيعي والسياق جار على مقتضى المقام فإن المقام مقام الدعوة إلى التوحيد وطاعة الرسول وقد أتى فرعون بعد استماع كلمة الدعوة بما حاصله التغافل عن كونه تعالى ربا له، وحمل كلامهما على دعوتهما له إلى
________________________________________
[ 168 ]
ربهما فسأل من ربكما ؟ فكان من الحري أن يجاب بأن ربنا هو رب العالمين ليشملهما وإياه وغيرهم جميعا فاجيب بما هو أبلغ من ذلك فقيل: " ربنا الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " فاجيب بأنه رب كل شئ وأفيد مع ذلك البرهان على هذا المدعى، ولو قيل: ربنا رب العالمين أفاد المدعى فحسب دون البرهان، فافهم ذلك. وإنما أثبت في الكلام الهداية دون التدبير مع كون موردهما متحدا كما تقدمت الاشارة إليه لان المقام مقام الدعوة والهداية، والهداية العامة أشد مناسبة له. هذا هو الذي يرشد إليه التدبر في الاية الكريمة، وبذلك يعلم حال سائر التفاسير التي أوردت للاية: كقول بعضهم: إن المراد بقوله: " خلقه " مثل خلقه وهو الزوج الذي يماثل الشئ، والمعنى: الذي خلق لكل شئ زوجا، فيكون في معنى قوله: " ومن كل شئ خلقنا زوجين ". وقول بعضهم إن المراد بكل شئ أنواع النعم وهو مفعول ثان لاعطى وبالخلق المخلوق وهو مفعول أول لاعطى، والمعنى: الذي أعطى مخلوقاته كل شئ من النعم. وقول بعضهم: إن المراد بالهداية الارشاد والدلالة على وجوده تعالى ووحدته بلا شريك، والمعنى: الذي أعطى كل شئ من الوجود ما يطلبه بلسان استعداده ثم أرشد ودل بذلك على وجود نفسه ووحدته. والتأمل فيما مر يكفيك للتنبه على فساد هذه الوجوه فإنما هي معان بعيدة عن السياق وتقييدات للفظ الاية من غير مقيد. قوله تعالى: " قال فما بال القرون الاولى " قيل: البال في الاصل بمعنى الفكر ومنه قولهم: خطر ببالى كذا، ثم استعمل بمعنى الحال، ولا يثنى ولا يجمع وقولهم: بالات، شاذ. لما كان جواب موسى عليه السلام مشتملا على معنى الهداية العامة التي لا تتم في الانسان إلا بنبوة ومعاد إذ لا يستقيم دين التوحيد إلا بحساب وجزاء يتميز به المحسن من المسئ ولا يتم ذلك إلا بتمييز ما يأمر تعالى به مما ينهى عنه وما يرتضيه مما يسخطه، على أن كلمة الدعوة التي أمرا أن يؤدياها إلى فرعون مشتملة على الجزاء صريحا ففى آخرها
________________________________________
[ 169 ]
" إنا قد أوحى الينا أن العذاب على من كذب وتولى " والوثنيون منكرون لذلك عدل فرعون عن الكلام في الربوبية - وقد انقطع بما أجاب به موسى - إلى أمر المعاد والسؤال عنه بانيا على الاستبعاد. فقوله: " فما بال القرون الاولى " أي ما حال الامم والاجيال الانسانية الماضية التي ماتوا وفنوا لاخبر عنهم ولا أثر كيف يجزون بأعمالهم ولا عامل في الوجود ولا عمل وليسوا اليوم إلا أحاديث وأساطير ؟ فالاية نظيرة ما نقل عن المشركين في قوله: " وقالوا ءاذا ضللنا في الارض ءإنا لفي خلق جديد: الم السجدة: 10، وظاهر الكلام أنه مبنى على الاستبعاد من جهة انتفاء العلم بهم وبأعمالهم للموت والفوت كما يشهد به جواب موسى عليه السلام. قوله تعالى: " قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى " أجاب عليه السلام عن سؤاله بإثبات علمه تعالى المطلق بتفاصيل تلك القرون الخالية فقال: " علمها عند ربي " فأطلق العلم بها فلا يفوته شئ من أشخاصهم وأعمالهم وجعلها عند الله فلا تغيب عنه ولا تفوته، وقد قال تعالى: وما عند الله باق " ثم قيد ذلك بقوله: " في كتاب " - وكأنه حال من العلم - ليؤكد به أنه مثبت محفوظ من غير أن يتغير عن حاله وقد نكر الكتاب ليدل به على فخامة أمره من جهة سعة إحاطته ودقتها فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. فيؤول معنى الكلام إلى أن جزاء القرون الاولى إنما يشكل لو جهل ولم يعلم بها لكنها معلومة لربى محفوظة عنده في كتاب لا يتطرق إليه خطأ ولا تغيير ولا غيبة وزوال. وقوله: " لا يضل ربى ولا ينسى " نفى للجهل الابتدائي والجهل بعد العلم على ما نقل عن بعضهم ولكن الظاهر أن الجملة مسوقة لنفي الجهل بعد العلم بقسميه فإن الضلال هو قصد الغاية بسلوك سبيل لا يؤدي إليها بل إلى غيرها فيكون الضلال في العلم هو أخذ الشئ مكان غيره وإنما يتحقق ذلك بتغير المعلوم من حيث هو معلوم عما كان عليه في العلم أولا، والنسيان خروج الشئ من العلم بعد دخوله فيه فهما معا من الجهل بعد العلم، ونفيه هو المناسب لاثبات العلم أولا فيفيد مجموع الاية أنه عالم بالقرون الاولى ولا سبيل إليه للجهل بعد العلم فيجازيهم على ما علم.
________________________________________
[ 170 ]
ومن هنا يظهر أن قوله: " لا يضل ربي ولا ينسى " من تمام بيان الاية كأنه دفع دخل مقدر كأنما قيل: إنها وإن علم بها يوما فهي اليوم باطلة الذوات معفوة الاثار لا يتميز شئ منها من شئ فاجيب بأن شيئا منها ومن آثارها وأعمالها لا يختلط عليه تعالى بتغير ضلال ولا يغيب عنه بنسيان، ولذا أوردت الجملة مفصولة غير معطوفة. وقد أثبت العلم ونفى الجهل عنه تعالى بعنوان أنه رب لتكون فيه إشارة إلى برهان المدعى وذلك أن فرض الربوبية لا يجامع فرض الجهل بالمربوب إذ فرض ربوبيته المطلقة لكل شئ - والرب هو المالك للشئ المدبر لامره - يستلزم كون الاشياء مملوكة له قائمة الوجود به من كل جهة وكونها مدبرة له كيفما فرضت فهى معلومة له، ولو فرض شئ منها مجهولا له عن ضلال أو نسيان أو جهل ابتدائي فذلك الشئ أيا ما كان وأينما تحقق مملوك له قائم الوجود به مدبر بتدبيره لا حاجب بينهما ولا فاصل وهو الحضور الذي نسميه علما وقد فرضناه مجهولا أي غائبا عنه هذا خلف. وقد أضاف الرب إلى نفسه في الاية في موضعين ثانيهما من وضع الظاهر موضع المضمر على ما قيل ولم يقل: " ربنا " كما في الاية السابقة لان السؤال السابق إنما كان عن ربهما الذي يدعوان إليه فاجيب بما يطابقه فكان معناه بحسب المقام: الرب الذي أدعو أنا وأخي إليه هو كذا وكذا، وأما في هذه الاية فقد سئل عن أمر يرجع إلى القرون الاولى والذي يصفه هو موسى فكان المعنى الرب الذي أصفه عليم بها، والذي يفيد هذا المعنى هو " ربي " لا غير فتأمل فيه فهو لطيف. والنكتة في " ربى " الثاني هي نظيره ما في " ربى " الاول وفي كونه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر تأمل لفصل الجملة. وقد اختلفت أقوال المفسرين في تفسير الايتين بالوجوه والاحتمالات اختلافا كثيرا أضربنا عن ذكرها لعدم جدوى فيها ومن اعجبها قول كثير منهم أن قول فرعون لموسى: " فما بال القرون الاولى " سؤال عن تاريخ الامم الاولى المنقرضة سأل موسى عن ذلك ليصرفه عن ما هو فيه من التكلم في أصول معارف الالهية وإقامة البرهان على صريح الحق في مسائل المبدأ والمعاد مما ينكره الوثنية ويشغله بما لا فائدة فيه من تواريخ الاولين وأخبار الماضين وجواب موسى: " علمها عند ربي " الخ،
________________________________________
[ 171 ]
محصله إرجاع العلم بها إلى الله وأنه من الغيب الذى لا يعلمه الاعلام الغيوب. قوله تعالى: " الذي جعل لكم الارض مهدا - إلى قوله - لايات لاولي النهى " قد عرفت أن لسؤاله " فما بال القرون الاولى ؟ " ارتباطا بما وصف الله به من الهداية العامة التي منها هداية الانسان إلى سعادته في الحياة وهو الحياة الخالدة الاخروية وكذا الجواب عنه بقوله: " علمها عند ربى " الخ مرتبط فقوله: " الذي جعل لكم الارض مهدا " مضي في الحديث عن الهداية العامة وذكر شواهد بارزة من ذلك. فالله سبحانه أقر الانسان في الارض يحيى فيها حياة أرضية ليتخذ منها زادا لحياته العلوية السماوية كالصبي يقر في المهد ويربى لحياة هي أشرف منه وأرقى، وجعل للانسان فيها سبلا ليتنبه بذلك أن بينه وبين غايته وهو التقرب منه تعالى والدخول في حظيرة الكرامة سبيلا يجب أن يسلكها كما يسلك السبل الارضية لمأربه الحيوية وأنزل من السماء ماء وهو ماء الامطار ومنه مياه عيون الارض وأنهارها وبحارها فأنبت منه أزواجا أي أنواعا وأصنافا متقاربة شتى من نبات يهديكم إلى أكلها ففي ذلك آيات تدل أرباب العقول إلى هدايته وربوبيته تعالى. فقوله: " الذي جعل لكم الارض مهدا " إشارة إلى قرار الانسان في الارض لا دامة الحياة وهو من الهداية، وقوله: " وجعل لكم فيها سبلا " إشارة إلى مسالك الانسان التي يسلكها في الارض لادراك مآربه وهو أيضا من الهداية، وقوله: " وأنزل من السماء ماء فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى كلوا وارعوا أنعامكم " إشارة إلى هداية الانسان والانعام إلى أكل النبات لابقاء الحياة، وفيه هداية السماء إلى الامطار وماء الامطار إلى النزول والنبات إلى الخروج. والباء في " به " للسببية وفيه تصديق السببية والمسببية بين الامور الكونية، والمراد بكون النبات أزواجا كونها أنواعا وأصنافا متقاربة كما فسره القوم أو حقيقة الازدواج بين الذكور والاناث من النبات وهي من الحقائق التي نبه عليها الكتاب العزيز. وقوله: " فأخرجنا به أزواجا من نبات شتى " فيه التفات من الغيبة إلى التكلم بالغير، قيل: والوجه فيه ما في هذا الصنع العجيب وإبداع الصور المتشتتة والازواج المختلفة على ما فيها من تنوع الحياة من ماء واحد، من العظمة والصنع العظيم لا يصدر
________________________________________
[ 172 ]
إلا من العظيم والعظماء يتكلمون عنهم وعن غيرهم من أعوانهم وقد ورد الالتفات في معنى إخراج النبات بالماء في مواضع من كلامه تعالى كقوله: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها " فاطر: 27، وقوله: " وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة " النمل: 60 وقوله: " وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شئ " الانعام: 99. وقوله: " إن في ذلك لايات لاولي النهى " النهى جمع نهية بالضم فالسكون: وهو العقل سمي به لنهيه عن اتباع الهوى. قوله تعالى: " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تاره اخرى " الضمير للارض والاية تصف ابتداء خلق الانسان من الارض ثم إعادته فيها وصيرورته جزء منها ثم إخراجه منها للرجوع إلى الله ففيها الدورة الكاملة من هداية الانسان. قوله تعالى: " ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى " الظاهر أن المراد بالايات العصا واليد وسائر الايات التي أراها موسى فرعون أيام دعوته قبل الغرق كما مر في قوله: " إذهب أنت وأخوك بآياتي " فالمراد جميع الايات التي أريها وإن لم يؤت بها جميعا في أول الدعوة كما أن المراد بقوله: " فكذب وأبى " مطلق تكذيبه وإبائه لا ما أتى به منهما في أول الدعوة. قوله تعالى: " قال أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك يا موسى " الضمير أفرعون وقد أتهم موسى أولا بالسحر لئلا يلزمه الاعتراف بصدق ما جاء به من الايات المعجزة وحقية دعوته، وثانيا بأنه يريد إخراج القبط من أرضهم وهي أرض مصر، وهي تهمة سياسية يريد بها صرف الناس عنه وإثارة أفكارهم عليه بأنه عدو يريد أن يطردهم من بيئتهم ووطنهم بمكيدته ولا حياة لمن لابيئة له. قوله تعالى: " فلنأتينك بسحر مثله فاجعل بيننا وبينك موعدا لا نخلفه نحن ولا أنت مكانا سوى " الظاهر كما يشهد به الاية التالية أن الموعد اسم زمان وإخلاف الوعد عدم العمل بمقتضاه، ومكان سوى بضم السين أي واقع في المنتصف من المسافة أو مستوى الاطراف من غير ارتفاع وانخفاض، قال في المفردات: ومكان سوى وسواء وسط، ويقال: سواء وسوى وسوى - بضم السين وكسرها - أي يستوي طرفاه،
________________________________________
[ 173 ]
ويستعمل ذلك وصفا وظرفا، وأصل ذلك مصدر. انتهى. والمعني: فاقسم لنأتينك بسحر يماثل سحرك لقطع حجتك وإبطال إرادتك فاجعل بيننا وبينك زمان وعد لا نخلفه في مكان بيننا أو في مكان مستوى الاطراف أو اجعل بيننا وبينك مكانا كذلك. قوله تعالى: " قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى " الضمير لموسى وقد جعل الموعد يوم الزينة، ويظهر من السياق أنه كان يوما لهم يجرى بينهم مجرى العيد، ويظهر من لفظه أنهم كانوا يتزينون فيه ويزينون الاسواق، وحشر الناس - على ما ذكره الراغب - إخراجهم عن مقرهم وإزعاجهم عنه إلى الحرب ونحوها، والضحى وقت انبساط الشمس من النهار. وقوله: " وأن يحشر الناس ضحى " معطوف على الزينة أو على يوم بتقدير اليوم أو الوقت ونحوه والمعنى قال موسى موعدكم يوم الزينة ويوم حشر الناس في الضحى، وليس من البعيد أن يكون مفعولا معه والمعنى موعدكم يوم الزينة مع حشر الناس في الضحى ويرجع إلى الاشتراط. وإنما اشترط ذلك ليكون ما يأتي به ويأتون به على أعين الناس في ساعة مبصرة. قوله تعالى: " فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتي " ظاهر السياق أن المراد بتولي فرعون انصرافه عن مجلس المواعدة للتهيؤ لما واعد، والمراد بجمع كيده جمع ما يكاد به من السحرة وسائر ما يتوسل به إلى تعمية الناس والتلبيس عليهم ويمكن ان يكون المراد بجمع كيده جمع ذوى كيده بحذف المضاف والمراد بهم السحرة وسائر عماله وأعوانه وقوله: " ثم أتى " أي ثم أتى الموعد وحضره. قوله تعالى: " قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى " الويل كلمة عذاب وتهديد، والاصل فيه معنى العذاب ومعنى ويلكم عذبكم الله عذابا، والسحت بفتح السين استيصال لشعر بالحلق والاسحات الاستئصال والاهلاك. وقوله: " قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذبا ضمائر الجمع غيبة وخطابا لفرعون وكيده وهم السحرة وسائر أعوانه على موسى عليه السلام وقد مر ذكرهم
________________________________________
[ 174 ]
في الاية السابقة، وأما رجوعها إلى السحرة فقط فلم يسبق لهم ذكر ولا دل عليهم دليل من جهة اللفظ. وهذا القول من موسى عليه السلام موعظة لهم وإنذار أن يفتروا على الله الكذب، وقد ذكر من افترائهم فيما مر تسمية فرعون الايات الالهية سحرا، ورمي الدعوة الحقة بأنها للتوسل إلى إخراجهم من أرضهم ومن الافتراء أيضا السحر لكن افتراء الكذب على الله وهو اختلاق الكذب عليه إنما يكون بنسبة ما ليس من الله إليه، وعد الاية المعجزة سحرا والدعوة الحقة كيدا سياسيا قطع نسبتهما إلى الله وكذا إتيانهم بالسحر قبال المعجزة مع الاعتراف بكونه سحرا لا واقع له فلا يعد شئ منها افتراء على الله. فالظاهر أن المراد بافتراء الكذب على الله الاعتقاد باصول الوثنية كالوهية الالهة وشفاعتها ورجوع تدبير العالم إليها كما فسروا الاية بذلك، وقد عد ذلك افتراء على الله في مواضع من القرآن كقوله: " قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم " الاعراف: 89. وقوله: " فيسحتكم بعذاب " تفريع على النهي أي لا تشركوا بالله حتى يستأصلكم ويهلككم بعذاب بسبب شرككم، وتنكير العذاب للدلالة على شدته وعظمته. قوله وقد خاب من افترى " الخيبة اليأس من بلوغ النتيجة المأمولة وقد وضعت الجملة في الكلام وضع الاصل الكلي الذي يتمسك به وهو كذلك فإن الافتراء من الكذب وسببيته سببيه كاذبة والاسباب الكاذبة لا تهتدى إلى مسببات حقة وآثار صادقة فنتائجها غير صالحة للبقاء ولا هي تسوق إلى سعادة فليس في عاقبتها إلا الشؤم والخسران فالاية أشمل معنى من قوله تعالى: " إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون " يونس: 69. لاثباتها الخيبة في مطلق الافتراء بخلاف الاية الثانية وقد تقدم كلام في أن الكذب لا يفلح في ذيل قوله وجاؤا على قميصه بدم كذب " يوسف: 18 في الجزء الحادي عشر من الكتاب. قوله تعالى: " فتنازعوا أمرهم بينهم وأسروا النجوى - إلى قوله - من استعلى " التنازع قريب المعنى من الاختلاف، من النزع بمعنى جذب الشئ من مقره لينقلع
________________________________________
[ 175 ]
منه والتنازع يتعدى بنفسه كما في الاية وبفي كقوله: " فإن تنازعتم في شئ " النساء: 59. والنجوى الكلام الذي يسار به، وأصله مصدر بمعنى المناجاة وهي المسارة في الكلام، والمثلى مؤنث أمثل كفضلي وأفضل وهو الاقرب الاشبه والطريقة المثلى السنة التي هي أقرب من الحق أو من امنيتهم وهي سنة الوثنية التي كانت مصر اليوم تدار بها وهي عبادة الالهة وفي مقدمتها فرعون إله القبط، والاجماع - على ما ذكره الراغب - جمع الشئ عن فكر وترو، والصف جعل الاشياء على خط مستو كالانسان والاشجار ونحو ذلك ويستعمل مصدرا واسم مصدر وقوله: " ثم ائتوا صفا " يحتمل أن يكون مصدرا، وأن يكون بمعنى صافين أي ائتوه باتحاد واتفاق من دون أن تختلفوا وتتفرقوا فتضعفوا وكونوا كيد واحدة عليه. ويظهر من تفريع قوله: " فتنازعوا أمرهم " على ما في الاية السابقة من قوله: " قال موسى " الخ أن التنازع والاختلاف إنما ظهر بينهم عن موعظة وعظهم بها موسى فأثرت فيهم بعض أثرها ومن شأنها ذلك إذ ليست إلا كلمة حق ما فيها مغمض وكان محصلها أن لا علم لكم بما تدعونه من الوهية الالهة وشفاعتها فنسبتكم الشركاء والشفعاء إلى الله افتراء عليه وقد خاب من افترى وهذا برهان واضح لا ستر عليه ولا غبار. ويظهر من قوله الاتي الحاكي لقول السحرة: " إنا آمنا بربنا ؟ ؟ ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر " أن الاختلاف إنما ظهر أول ما ظهر بين السحرة ومنهم وربما أشعر قوله الاتي: " ثم ائتوا صفا " أن المترددين في مقابلة موسى منهم أو العازمين على ترك مقابلته أصلا كانوا بعض السحرة إن كان الخطاب متوجها إليهم ولعل السياق يساعد على ذلك. وكيف كان لما رأي فرعون وأياديه تنازع القوم - وفيه خزيهم وخذلانهم - أسروهم النجوى ولم يكلموهم فيما ألقاه إليهم موسى من الحكمة والموعظة بل عدلوا عن ذلك إلى ما اتهمه فرعون بالسحر وطرح خطة سياسية لاخراج امة القبط من أرضهم ولا ترضى الامة بذلك ففيه خروج من ديارهم وأموالهم وسقوط من أوج سعادتهم إلى حضيض الشقاء وهم يرون ما يقاسيه بنو إسرائيل بينهم.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page