• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 326الي 350


[ 326 ]
وقد ختم الاية بتقبيح اتخاذهم إياهم أولياء من دون الله الذى معناه اتخاذهم إبليس بدلا منه سبحانه فقال: " بئس للظالمين بدلا " وما أقبح ذلك فلا يقدم عليه ذو مسكة، وهو السر في الالتفات الذي في قوله: " من دوني " فلم يقل: من دوننا على سياق قوله: " واذ قلنا " ليزيد في وضوح القبح كما أنه السر أيضا في الالتفات السابق في قوله: " عن أمر ربه " ولم يقل: عن أمرنا. وللمفسرين ههنا أبحاث في معنى شمول أمر الملائكة لابليس، وفى معنى كونه من الجن وفي معنى، وقد قدمنا بعض القول في ذلك في تفسير سورة الاعراف. قوله تعالى: " ما أشهدتهم خلق السماوات والارض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا " ظاهر السياق كون ضميري الجمع لابليس وذريته والمراد بالاشهاد الاحضار والاعلام عيانا كما أن الشهود هو المعاينة حضورا، والعضد ما بين المرفق والكتف من الانسان ويستعار للمعين كاليد وهو المراد ههنا. وقد اشتملت الاية في نفي ولاية التدبير عن إبليس وذريته على حجتين إحداهما: أن ولاية تدبير امور شئ من الاشياء تتوقف على الاحاطة العلمية - بتمام معنى الكلمة - بتلك الامور من الجهة التي تدبر فيها وبما لذلك الشئ وتلك الامور من الروابط الداخلية والخارجية بما يبتدئ منه وما يقارنه وما ينتهي إليه والارتباط الوجودي سار بين أجزاء الكون، وهؤلاء وهم إبليس وذريته لم يشهدهم الله سبحانه خلق السماوات والارض ولا خلق أنفسهم فلا كانوا شاهدين إذ قال للسماوات والارض: كن فكانت ولا إذ قال لهم كونوا فكانوا فهم جاهلون بحقيقة السماوات والارض وما في أوعية وجوداتها من اسرار الخلقة حتى بحقيقة صنع أنفسهم فكيف يسعهم أن يلوا تدبير أمرها أو تدبير امر شطر منها فيكونوا آلهة وأربابا من دون الله وهم جاهلون بحقيقة خلقتها وخلقة أنفسهم. وأما أنهم لم يشهدوا خلقها فلان كلا منهم شئ محدود لا سبيل له إلى ما وراء نفسه فغيره في غيب منه مضروب عليه الحجاب، وهذا بين وقد أنبأ الله سبحانه عنه في مواضع من كلامه، وكذا كل منهم مستور عنه شأن الاسباب التي تسبق وجوده واللواحق التي ستلحق وجوده.
________________________________________
[ 327 ]
وهذه حجه برهانية غير جدلية عند من أجاد النظر وأمعن في التدبر حتى لا يختلط عنده هذه الالعوبة الكاذبة التى نسميها تدبيرا بالتدبير الكوني الذي لا يلحقه خطأ ولا ضلال، وكذا الظنون والمزاعم الواهية التي نتداولها ونركن إليها بالعلم العيانى الذي هو حقيقه العلم وكذا العلم بالامور الغائبة عنا بالظفر على أماراتها الاغلبية بالعلم بالغيب الذي يتبدل به الغيب شهادة. والثانيه أن كل نوع من أنواع المخلوقات متوجه بفطرته نحو كماله المختص بنوعه وهذا ضروري عند من تتبعها وأمعن النظر في حالها فالهداية الالهية عامة للجميع كما قال: " الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50 والشياطين أشرار مفسدون مضلون فتصديهم تدبير شئ من السماوات والارض أو الانسان - ولن يكون إلا بإذن من الله سبحانه - مؤد إلى نقضه السنة الالهية من الهداية العامة أي توسله تعالى إلى الاصلاح بما ليس شأنه إلا الافساد وإلى الهداية بما خاصته الاضلال وهو محال. وهذا معنى قوله سبحانه: " وما كنت متخذ المضلين عضدا: " الظاهر في أن سنته تعالى أن لا يتخذ المضلين عضدا فافهم. وفي قوله: " ما أشهدتهم وقوله " وما كنت " ولم يقل: ما شهدوا وما كانوا دلالة على أنه سبحانه هو القاهر المهيمن عليهم على كل حال: والقائلون بإشراك الشياطين أو الملائكة أو غيرهم بالله في أمر التدبير لم يقولوا باستقلالهم في ذلك بل بأن أمر التدبير مملوك لهم بتمليك من الله تعالى مفوض إليهم بتفويض منه وأنهم أرباب وآلهة والله رب الارباب وإله الالهة. وما تقدم من معنى الاية مبنى على حمل الاشهاد على معناه الحقيقي وإرجاع الضميرين في " ما أشهدتهم " و " أنفسهم " إلى إبليس وذريته كما هو الظاهر المتبادر من السياق، وللمفسرين أقوال اخر. منها قول بعضهم: إن المراد من الاشهاد في خلقها المشاورة مجازا فإن أدنى مراتب الولاية على شئ أن يشاوره في أمره والمراد بنفي الاعتضاد نفي سائر مراتب الاستعاني المؤديي إلى الولاية والسلطة على المولى عليه بوجه ما فكأنه قيل: ما شاورتهم
________________________________________
[ 328 ]
في أمر خلقها ولا استعنت بهم بشئ من انواع الاستعانة فمن أين يكونون أولياءلهم ؟ وفيه أنه لا قرينة على هذا المجاز ولا مانع من الحمل على المعنى الحقيقي على أنه لا رابطة بين الاشارة بالشئ والولاية عليه حتى تعد المشاورة من مراتب التولية أو الاشاره من درجات الولاية، وقد وجه بعضهم هذا المعنى بأن المراد بالاشهاد المشاورة كنايه ولازم المشاورة أن يخلق كما شاؤا أي أن يخلقهم كما أحبوا أي أن يخلقهم كاملين فالمراد بنفي إشهاد الشياطين خلق أنفسهم نفي أن يكونوا كاملين في الخلقة حتى يسع لهم ولاية تدبير الامور. وفيه مضافا إلى أنه يرد عليه ما أورد على سابقه أولا أن ذلك يرجع إلى إطلاق الشئ وإرادة لازمه بخمس مراتب من اللزوم فالمشاورة لازم الاشهاد على ما يدعيه وخلق ما يشاؤه المشير لازم المشاورة وخلق ما يحبه لازم خلق ما يشاؤه، وكمال الخلقة لازم خلق ما يحبه، وصحة الولاية لازم كمال الخلقة فإطلاق الاشهاد وارادة كمال الخلقة أو صحة الولاية من قبيل التكنية عن لازم المعنى من وراء لزومات أربع أو خمس، والكتاب المبين يجل عن أمثال هذه الالغازات. وثانيا: أنه لو صح فإنما يصح في إشهادهم خلق أنفسهم دون إشهادهم خلق السماوات والارض فلازمه التفكيك بين الاشهادين. وثالثا: أن لازمه صحة ولاية من كان كاملا في خلقه كالملائكة المقربين ففيه اعتراف بإمكان ولايتهم وجواز ربوبيتهم والقرآن يدفع ذلك بأصرح البيان فأين الممكن المفتقر لذاته إلى الله سبحانه من الاستقلال في تدبير نفسه أو تدبير غيره ؟ وأما نحو قوله تعالى: " فالمدبرات أمرا " النازعات: 5 فسيجئ توضيح معناه إن شاء الله. ومنها قول بعضهم: إن المراد بالاشهاد حقيقة معناه والضمير ان للشياطين لكن المراد من إشهادهم خلق أنفسهم إشهاد بعضهم خلق بعض لا إشهاد كل خلق نفسه. وفيه أن المراد بنفي الاشهاد استنتاج انتفاء الولاية، ولم يقل أحد من المشركين بولاية بعض الشياطين لبعض ولا تعلق الغرض بنفيها حتى يحمل لفظ الاية على إشهاد بعضهم خلق بعض.
________________________________________
[ 329 ]
ومنها قول بعضهم: " إن أول الضميرين للشياطين والثاني للكفار أو لهم ولغيرهم من الناس. والمعنى ما أشهدت الشياطين خلق السماوات والارض ولا خلق الكفار أو الناس حتى يكونوا أولياء لهم. وفيه أن فيه تفكيك الضميرين. ومنها قول بعضهم: برجوع الضميرين إلى الكفار، قال الامام الرازي في تفسيره والاقرب عندي عودهما يعني الضميرين على الكفار الذين قالوا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم: إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء لم نؤمن بك فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء الذين أتوا بهذا الاقتراح الفاسد والتعنت الباطل ما كانوا شركائي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق السماوات والارض ولا خلق أنفسهم ولا اعتضدت بهم في تدبير الدنيا والاخرة بل هم كسائر الخلق فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد ؟ ونظيره أن من اقترح عليك اقتراحات عظيمة فإنك تقول له: لست بسلطان البلد حتى نقبل منك هذه الاقتراحات الهائلة فلم تقدم عليها ؟ ويؤكده أن الضمير يجب عوده على أقرب المذكورات، وهو في الاية اولئك الكفار لانهم المراد بالظالمين في قوله تعالى: " بئس للظالمين بدلا " انتهى. وفيه أن فيه خرق السياق بتعليق مضمون الاية بما تعرض به في قوله: " ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا " بنحو الاشارة قبل ثلاث وعشرين آية وقد تحول وجه الكلام بالانعطاف على أول السورة مرة بعد مرة بالتمثيل بعد التمثيل والتذكير بعد التذكير فما احتمله من المعني في غاية البعد. على أن ما ذكره من اقتراحهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم: " إن لم تطرد هؤلاء الفقراء من مجلسك لم نؤمن بك " ليس باقتراح فيه مداخلة في تدبير أمر العالم حتى يرد عليهم بمثل قوله " ما أشهدتهم " الخ بل اشتراط لايمانهم بطرد اولئك من غير أن يبتني على دعوى ترد بمثل ذلك، نعم لو قيل: اطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء واكتفي به لكان لما قاله بعض الوجه. وكأن التنبه لهذه النكتة دعا بعضهم إلى توجيه معني الاية على تقدير رجوع
________________________________________
[ 330 ]
الضميرين إلى الكفار بأن المراد أنهم جاهلون بما جرى عليه القلم في الازل من أمر السعادة والشقاء إذ لم يشهدوا الخلقة فكيف يقترحون عليك أن تقربهم إليك وتطرد الفقراء. ومثله قول آخرين: إن المراد أني ما أطلعتهم على أسرار الخلقة ولم يختصوا مني بما يمتازون به من غيرهم حتى يكونوا قدوة يقتدى بهم الناس في الايمان بك فلا تطمع في نصرتهم فلا ينبغي لي أن أعتضد لدينى بالمضلين. وكلا الجهين أبعد مما ذكره الامام من الوجه فأين الاية من الدلالة على ما اختلقاه من المعنى ؟ ومنها أن الضميرين للملائكة والمعنى ما أشهدت الملائكه خلق العالم ولا خلق أنفسهم حتى يعبدوا من دوني وينبغى أن يضاف إليه أن قوله: " وما كنت متخذ المضلين عضدا " أيضا متعرض لنفي ولاية الشياطين فتدل الاية حينئذ بصدرها وذيلها على نفي ولاية الفريقين جميعا وإلا دفعه ذيل الاية. وفيه أن الايه السابقة إنما خاطبت الكفار في قولهم بولاية الشياطين ثم ذكرتهم بضمير الجمع في قولها: " وهم لكم عدو " ولم يتعرض لشئ من أمر الملائكه فإرجاع الضميرين إلى الملائكة دون الشياطين تفكيك، والاشتغال بنفي ولاية الملائكة تعرض لما لم يحوج إليه السياق ولا اقتضاه المقام. قوله تعالى: " ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم إلى آخر الاية هذا تذكير ثالث يذكر فيه ظهور بطلان الرابطة بين المشركين وبين شركائهم يوم القيامة ويتأكد بذلك أنهم ليسوا على شئ مما يدعيه لهم المشركون. فقوله: " ويوم يقول " الخ الضمير له تعالى بشهادة السياق، والمعنى واذكر لهم يوم يقول الله لهم نادوا شركائي الذين زعمتم أنهم لي شركاء فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وبان أنهم ليسوا لي شركاء ولو كانوا لاستجابوا. وقوله: " وجعلنا بينهم موبقا " الموبق بكسر الباء إسم مكان من وبق وبوقا بمعنى هلك، والمعنى جعلنا بين المشركين وشركائهم محل هلاك وقد فسر القوم هذا
________________________________________
[ 331 ]
الموبق والمهلك بالنار أو بمحل من النار يهلك فيه الفريقان المشركون وشركاءهم لكن التدبر في كلامه تعالى لا يساعد عليه فإن الايه قد اطلقت الشركاء وفيهم - ولعلهم الاكثر - الملائكة وبعض الانبياء والاولياء، وأرجع إليهم ضمير اولي العقل مرة بعد مرة، ولا دليل على اختصاصهم بمردة الجن والانس، وكون جعل الموبق بينهم دليلا على الاختصاص أول الكلام. فلعل المراد من جعل موبق بينهم إبطال الرابطة ورفعها من بينهم وقد كانوا يرون في الدنيا أن بينهم وبين شركائهم رابطه الربوبيه والمربوبيه أو السببية والمسببية فكني عن ذلك بجعل موبق بينهم يهلك فيه الرابطة والعلقة من غير أن يهلك الطرفان، ويومي إلى ذلك بلطيف الاشارة تعبيره عن دعوتهم أولا بالنداء حيث قال: " نادوا شركائي والنداء إنما يكون في البعيد فهو دليل على بعد ما بينهما. وإلى مثل هذا المعنى يشير قوله تعالى في موضع آخر من كلامه: " وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون " الانعام: 94، وقوله تعالى: ثم نقول للذين أشركوا مكانكم انتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون " يونس: 28. قوله تعالى ورأي المجرمون النار وظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا " في أخذ المجرمين مكان المشركين دلالة على أن الحكم عام لجميع أهل الاجرام، والمراد بالظن هو العلم - على ما قيل - ويشهد به قوله: " ولم يجدوا عنها مصرفا ". والمراد بمواقعة النار الوقوع فيها - على ما قيل ولا يبعد أن يكون المراد حصول الوقوع من الجانبين فهم واقعون في النار بدخولهم فيها والنار واقعة فيهم باشتعالهم بها. وقوله: " ولم يجدوا عنها مصرفا " المصرف بكسر الراء اسم مكان من الصرف أي لم يجدوا محلا ينصرفون إليه ويعدلون عن النار ولا مناص. قوله تعالى: " ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل وكان الانسان أكثر شئ جدلا " قد مر الكلام في نظير صدر الاية في سورة أسرى آيه 89 والجدل الكلام
________________________________________
[ 332 ]
على سبيل المنازعة والمشاجرة والاية إلى تمام ست آيات مسوقة للتهديد بالعذاب بعد التذكيرات السابقة. قوله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم و " يستغفروا " عطف على قوله: " يؤمنوا " أي وما منعهم من الايمان والاستغفار حين مجئ الهدى. وقوله: " إلا أن تأتيهم سنة الاولين " أي إلا طلب أن تأتيهم السنة الجارية في الامم الاولين وهي عذاب الاستئصال، وقوله: " أو يأتيهم العذاب قبلا " عطف على سابقه أي أو طلب أن يأتيهم العذاب مقابلة وعيانا ولا ينفعهم الايمان حينئذ لانه إيمان بعد مشاهدة البأس الالهي قال تعالي: " فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده ": المؤمن: 85. فمحصل المعنى أن الناس لا يطلبون إيمانا ينفعهم والذي يريدونه أن يأخذهم عذاب الاستئصال على سنة الاولين فيهلكوا ولايؤمنوا أو يقابلهم العذاب عيانا فيؤمنوا اضطرارا فلا ينفعهم الايمان. وهذا المنع والاقتضاء في الاية أمر ادعائي يراد به أنهم معرضون عن الحق لسوء سريرتهم فلا جدوى للاطناب الذي وقع في التفاسير في صحة ما مر من التوجيه والتقدير إشكالا ودفعا. قوله تعالى: " وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين " الخ تعزية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يضيق صدره من إنكار المنكرين وإعراضهم عن ذكر الله فما كانت وظيفة المرسلين إلا التبشير والانذار وليس عليهم وراء ذلك من بأس ففيه انعطاف إلى مثل ما مر في قوله في أول السورة: " فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا وفي الايه أيضا نوع تهديد للكفار المستهزئين. والدحض الهلاك والادحاض الاهلاك والابطال والهزوء الاستهزاء والمصدر بمعنى اسم المفعول ومعنى الاية ظاهر.
________________________________________
[ 333 ]
قوله تعالى: " ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه " إعظام وتكبير لظلمهم والظلم يعظم ويكبر بحسب متعلقه، وإذا كان هو الله سبحانه بآياته فهو أكبر من كل ظلم. والمراد بنسيان ما قدمت يداه عدم مبالاته بما يأتيه من الاعراض عن الحق والاستهزاء به وهو يعلم أنه حق، وقوله: " إنا جعلنا على قلوبهم أكنه أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا " كأنه تعليل لاعراضهم عن آيات الله أو له ولنسيانهم ما قدمت أيديهم، وقد تقدم الكلام في معنى جعل الاكنة على قلوبهم والوقر في آذانهم في الكتاب مرارا. وقوله: " وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا " إيآس من إيمانهم بعد ما ضرب الله الحجاب على قلوبهم وآذانهم فلا يسعهم بعد ذلك أن يهتدوا بأنفسهم بتعقل الحق ولا أن يسترشدوا بهداية غيرهم بالسمع والاتباع، والدليل على هذا المعنى قوله: " وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا " حيث دل على تأييد النفي وقيده بقوله: " إذا " وهو جزاء وجواب. قال في روح المعاني: واستدلت الجبرية بهذه الاية على مذهبهم، والقدرية بالاية التي قبلها. قال الامام: وقل ما تجد في القرآن آية لاحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الاخر، وما ذاك إلا امتحان شديد من الله تعالى ألقاه الله على عباده ليتميز العلماء الراسخون من المقلدين. انتهى. أقول: وكلتا الايتين حق ولازم ذلك ثبوت الاختيار للعباد في أعمالهم وانبساط سلطنته تعالى في ملكه حتى على أعمال العباد وهو مذهب أئمة أهل لبيت عليهم السلام. قوله تعالى: " وربك الغفور ذو الرحمة " إلى آخر الاية، الايات - كما سمعت - مسرودة لتهديدهم بالعذاب وهم فاسدون في أعمالهم فسادا لا يرجى منهم صلاح وهذا مقتض لنزول العذاب وأن يكون معجلا لا يمهلهم إذ لا أثر لبقائهم إلا الفساد لكن الله سبحانه لم يعجل لهم العذاب وإن قضى به قضاء حتم بل أخره إلى أجل مسمى عينه بعلمه.
________________________________________
[ 334 ]
فقوله: " وربك الغفور ذو الرحمة " صدرت به الاية المتضمنة لصريح القضاء في تهديدهم ليعدل به بواسطة اشتماله على الوصفين: الغفور ذي الرحمة ما يقتضي العذاب المعجل فيقضى ويمضى أصل العذاب أداء لحق مقتضيه وهو عملهم، ويؤخر وقوعه لان الله غفور ذو رحمة. فالجملة أعني قوله: " الغفور ذو الرحمة " مع قوله: " لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب " بمنزلة متخاصمين متنازعين يحضران عند القاضي وقوله: " بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا " أي ملجأ يلجؤون منه إليه بمنزلي الحكم الصادر عنه بما فيه إرضاء الجانبين ومراعاة الحقين فاعطي وصف الانتقام الالهي باستدعاء مما كسبوا أصل العذاب وأعطيت صفة المغفره والرحمة أن يؤجل العذاب ولا يعجل، وعند ذلك أخذت المغفره الالهية تمحو أثر العمل الذي هو استعجال العذاب، والرحمة تفيض عليهم حياة معجلة. ومحصل المعنى: لو يؤاخذهم ربك لعجل لهم العذاب لكن لم يعجل لانه الغفور ذو الرحمة بل حتم عليهم العذاب بجعله لهم موعدا لا ملجأ لهم يلجؤون منه إليه. فقوله: " بل لهم موعد " الخ كلمة قضاء وليس بحكاية محضة وإلا قيل: بل جعل لهم موعدا الخ فافهم ذلك. والغفور صيغة مبالغة تدل على كثرة المغفرة وذو الرحمة - ولامه للجنس - صفة تدل على شمول الرحمة لكل شئ فهي أشمل معنى من الرحمان والرحيم الدالين على الكثرة أو الثبوت والاستمرار فالغفور بمنزلة الخادم لذي الرحمة فإنه يصلح المورد لذي الرحمة بإمحاء ما عليه من وصمة الموانع فإذا صلح شمله ذو الرحمة، فللغفور السعي وكثرة العمل ولذي الرحمة الانبساط والشمول على ما لا مانع عنده، ولهذه النكتة جئ في المغفرة بالغفور وهو صيغة مبالغة وفي الرحمي بذي الرحمي الحاوي لجنس الرحمي فأفهم ذلك ودع عنك ما أطنبوا فيه من الكلام في الاسمين. قوله تعالى: " وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا " المراد بالقرى أهلها مجازا بدليل الضمائر الراجعة إليها، ولمهلك بكسر اللام اسم زمان. ومعنى الاية ظاهر وهي مسوقة لبيان أن تأخير مهلكهم وتأجيله ليس ببدع منا
________________________________________
[ 335 ]
بل السنة الالهية في الامم الماضين الذين أهلكهم الله لما ظلموا كانت جارية على ذلك فكان الله يهلكهم ويجعل لمهلكهم موعدا. ومن هنا يظهر أن العذاب والهلاك الذي تتضمنه الايات ليس بعذاب يوم القيامة بل عذاب دنيوي وهو عذاب يوم بدر إن كان المراد تهديد صناديد قريش أو عذاب آخر الزمان إن كان المراد تهديد الامة كما مر في تفسير سورة يونس. " بحث روائي " في تفسير العياشي: في قوله تعالى: " يا ويلتنا ما لهذا الكتاب " الاية: عن خالد ابن نجيح عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إذا كان يوم القيامة دفع للانسان كتابه ثم قيل له: اقرء. قلت: فيعرف ما فيه، فقال: إنه يذكره فما من لحظة ولا كلمة ولا نقل قدم ولا شئ فعله إلا ذكره كأنه فعله تلك الساعة. ولذلك قالوا: " يا ويلتنا مالهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ". اقول: والرواية كما ترى تجعل ما يذكره الانسان هو ما عرفه من ذلك الكتاب فمذكوره هو المكتوب فيه، ولو لا حضور ما عمله لم تتم عليه الحجة ولامكنه أن ينكره. وفي تفسير القمي في قوله تعالى: " ولا يظلم ربك أحدا " قال: يجدون كل ما عملوا مكتوبا. وفي تفسير البرهان عن ابن بابويه بإسناده عن أبي معمر السعدان عن علي عليه السلام قال: قوله: " ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها " أي أيقنوا أنهم داخلوها. وفي الدر المنثور أخرج أحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ينصب الكافر يوم
________________________________________
[ 336 ]
القيامة مقدار خمسين ألف سنة كما لم يعمل في الدنيا، وإن الكافر يرى جهنم ويظن أنها مواقعته من مسيرة أربعين سنة. أقول وهو يؤيد ما تقدم أن المواقعة في الاية مأخوذه بين الاثنين وإذ قال موسى لفتيه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا (60). فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا (61). فلما جاوزا قال لفتيه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا (62). قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإنى نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا (63). قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا (64). فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما (65). قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا (66). قال إنك لن تستطيع معي صبرا (67). وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا (68). قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا إعصي لك أمرا (69). قال فإن اتبعتنى فلا تسئلني عن شئ حتى أحدث لك منه ذكرا (70). فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا امرا (71). قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا (72). قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا
________________________________________
[ 337 ]
ترهقني من أمرى عسرا (73). فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا (74). قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا (75). قال إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدنى عذرا (76). فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه قال لو شئت لتخذت عليه اجرا (77). قال هذا فراق بينى وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا (78). أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا (79). وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا (80). فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكوة وأقرب رحما (81). وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمرى ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا (82). بيان قصة موسى والعالم الذي لقيه بمجمع البحرين وكان يعلم تأويل الحوادث ذكر الله سبحانه
________________________________________
[ 338 ]
بها نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وهو التذكير الرابع من التذكيرات الواقعة إثر ما أمره في صدر السورة بالصبر والمضي على تبليغ رسالته والسلوة فيما يشاهده من إعراض الناس عن ذكر الله وإقبالهم على الدنيا وبين أن الذي هم مشتغلون به زينة معجلة ومتاع إلى حين فلا يشقن عليه ما يجده عندهم من ظاهر تمتعهم بالحياة وفوزهم بما يشتهون فيها فإن وراء هذا الظاهر باطنا وفوق سلطتهم على المشتهيات سلطنة إلهية. فالتذكير بقصة موسى والعالم كأنه للاشارة إلى أن لهذه الوقائع والحوادث التي تجري على مشتهى أهل الدنيا تأويلا سيظهر لهم إذا بلغ الكتاب أجله فإذن الله لهم أن ينتبهوا من نومة الغفلة وبعثوا لنشأه غير النشأه يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل لقد جاءت رسل ربنا بالحق. وموسى الذي ذكر في القصة هو ابن عمران الرسول النبي أحد اولي العزم عليه السلام على ما وردت به الرواية من طرق الشيعة وأهل السنة. وقيل هو أحد أسباط يوسف بن يعقوب عليه السلام وهو موسى بن ميشا بن يوسف وكان من أنبياء بني إسرائيل ويبعده أن القرآن قد أكثر ذكر اسم موسى حتى بلغ مائة ونيفا وثلاثين وهو يريد ابن عمران عليه السلام فلو اريد بما في هذه القصة غيره لضم إليه قرينة صارفة. وقيل: إن القصة اسطورة تخييلية صورت لغاية أن كمال المعرفة يورد الانسان مشرعة عين الحياة ويسقيه ماءها وهو الحياة الخالدة التي لا موت بعدها أبدا والسعادة السرمديه التي لا سعادة فوقها قط. وفيه أنه تقدير من غير دليل وظاهر الكتاب العزيز يدفعه ولا خبر في القصة التي يقصها القرآن عن عين الحياة هذه إلا ما ورد في أقاويل بعض المفسرين والقصاصين من أهل التاريخ من غير أصل قرآني يستند إليه أو وجدان حسي لعين هذه صفتها في صقع من أصقاع الارض. والفتى الذي ذكره الله وأضافه إلى موسى قيل هو يوشع بن نون وصيه، وبه وردت الرواية قيل: " سمي فتى لانه كان يلازمه سفرا وحضرا أو لانه كان يخدمه. والعالم الذي لقيه موسى ووصفه الله وصفا جميلا بقوله: " عبدا من عبادنا آتيناه
________________________________________
[ 339 ]
رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما " ولم يسمه ورد في الروايات أن اسمه الخضر وكان نبيا من الانبياء معاصر لموسى عليه السلام وفي بعضها أن الله رزقه طول الحياة فهو حي لم يمت بعد، وهذا المقدار لا بأس به إذ لم يرد عقل أو نقل قطعي بخلافه وقد طال البحث عن شخصية الخضر بين القوم كما في مطولات التفاسير وتكاثرت القصص والحكايات في رؤيته ومع ذلك لا تخلو الاخبار والقصص عن أساطير موضوعة أو مدسوسة. قوله تعالى: " وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقبا " الظرف متعلق بمقدر، والجملة معطوفة على ما عطف عليه التذكيرات الثلاثة المذكورة سابقا، وقوله: " لا أبرح بمعنى لا أزال وهو من الافعال الناقصة حذف خبره إيجازا لدلالة قوله: " حتى أبلغ " عليه والتقدير لا أبرح أمشى أو أسير ومجمع البحرين قيل: " هو الذي ينتهي إليه بحر الروم من الجانب الشرقي وبحر الفرس من الجانب (1) الغربي، والحقب الدهر والزمان وتنكيره يدل على وصف محذوف والتقدير حقبا طويلا. والمعنى - والله أعلم - وأذكر إذ قال موسى لفتاه لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي دهرا طويلا. قوله تعالى: " فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا " الظاهر أن قوله: " مجمع بينهما " من إضافة الصفة إلى الموصوف وأصله بين البحرين الموصوف بأنه مجمعهما. وقوله: " نسيا حوتهما " الايتان التاليتان تدلان على أنه كان حوتا مملوحا أو مشويا حملاه ليرتزقابه في المسير ولم يكن حيا وإنما حي هناك واتخذ سبيله في البحر ورآه الفتى وهو حي يغوص في البحر ونسى أن يذكر ذلك لموسى ونسي موسى أن يسأله عنه أين هو ؟ وعلى هذا فمعنى " نسيا حوتهما " بنسبة النسيان اليهما معا نسيا حال حوتهما فموسى نسي
________________________________________
(1) فمجمع البحرين على هذا ما بينهما سمى مجمعا بنوع من التوسع. (*)
________________________________________
[ 340 ]
كونه في المكتل فلم يتفقده والفتى نسيه إذ لم يخبر موسى بعجيب ما رأى من أمره. هذا ما ذكروه. وأعلم أن الايات غير صريحه في حياه الحوت بعد ما كان ميتا بل ظاهر قوله: " نسيا حوتهما " وكذا قوله " نسيت الحوت " أن يكونا وضعاه في مكان من الصخرة مشرف على البحر فيسقط في البحر أو يأخذه البحر بمد ونحوه فيغيب فيه ويغور في أعماقه بنحو عجيب كالدخول في السرب ويؤيده ما في بعض الروايات أن العلامة كانت هي افتقاد الحوت لا حياته والله أعلم. وقوله: " فاتخذ سبيله في البحر سربا " السرب المسلك والمذهب والسرب والنفق الطريق المحفور في الارض لا نفاذ فيه كأنه شبه السبيل الذي اتخذه الحوت داخل الماء بالسرب الذي يسلكه السالك فيغيب فيه. قوله تعالى: " فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا قال في المجمع: النصب والوصب والتعب نظائر، وهو الوهن الذي يكون عن كد انتهى، والمراد بالغداء ما يتغدى به وفيه دلالة على أن ذلك كان في النهار. والمعنى: ولما جاوزا مجمع البحرين أمر موسى فتاه أن يأتي بالغداء وهو الحوت الذي حملاه ليتغديا به ولقد لقيا من سفرهما تعبا. قوله تعالى: " قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة " إلى آخر الاية يريد حال بلوغهم مجمع البحرين ومكثهم هناك فقد كانت الصخرة هناك والدليل عليه قوله: " واتخذ سبيله " الخ وقد ذكر في ما مر أنه كان بمجمع البحرين، يقول لموسى: لا غداء عندنا نتغدى به فإن غداءنا وهو الحوت حى ودخل البحر وذهب حينما بلغنا مجمع البحرين وأينا إلى الصخرة التي كانت هناك وإني نسيت أن اخبرك بذلك. فقوله: " أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة يذكره حال اويهما إلى الصخرة ونزولهما عندها ليستريحا قليلا، وقوله: " فإني نسيت الحوت " أي نسيت حال الحوت التي شاهدتها منه فلم أذكرها لك، والدليل على هذا المعنى - كما قيل قوله: " وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره " فان " أن أذكره " بدل من ضمير " أنسانيه "
________________________________________
[ 341 ]
والتقدير " وما أنساني ذكر الحوت لك إلا الشيطان فهو لم ينس نفس الحوت وإنما نسى أن يذكر حاله التي شاهد منه لموسى. ولا ضير في نسبة الفتى نسيانه إلى تصرف من الشيطان بناء على أنه كان يوشع بن نون النبي والانبياء في عصمة إلهية من الشيطان لانهم معصومون مما يرجع إلى المعصية وأما مطلق إيذاء الشيطان فيما لا يرجع إلى معصية فلا دليل يمنعه قال تعالى: " وأذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب " ص: 41. وقوله: " واتخذ سبيله في البحر عجبا أي اتخاذا عجبا، فعجبا وصف قام مقام موصوفه على المفعولية المطلقة وقيل: " إن قوله: " واتخذ سئيله في البحر " قول الفتى وقوله: " عجبا " من قول موسى، والسياق يدفعه. واعلم أن ما تقدم من الاحتمال في قوله: " نسيا حوتهما " الخ جار ههنا والله أعلم. قوله تعالى: " قال ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا " البغي الطلب، والارتداد العود على بدء، والمراد بالاثار آثار أقدامهما والقصص اتباع الاثر والمعنى قال موسى: ذلك الذى وقع من أمر الحوت هو الذي كنا نطلبه فرجعا على آثارهما يقصانها قصصا ويتبعانها اتباعا. وقوله: " ذلك ما كنا نبغ فارتدا " يكشف عن أن موسى كان مأمورا من طريق الوحى ان يلقى العالم في مجمع البحرين وكان علامة المحل الذي يجده ويلقا فيه ما وقع من أمر الحوت إما خصوص قضية حياته وذهابه في البحر أو بنحو الابهام والعموم كفقد الحوت أو حياته أو عود الميت حيا ونحو ذلك، ولذلك لما سمع موسى من فتاه ما سمع من أمر الحوت قال ما قال، ورجعا إلى المكان الذي فارقاه فوجد اعبدا " الخ ". قوله تعالى: فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا " إلخ. كل نعمة فإنها رحمة منه تعالى لخلقه لكن منها ما تتوسط فيه الاسباب الكونية وتعمل فيه كالنعم الظاهرية بأنواعها، ومنها ما لا يتوسط فيه شئ منها كالنعم الباطنيه من النبوة والولاية بشعبها ومقاماتها، وتقييد الرحمة بقوله: " من عندنا " الظاهر في أنها من موهبته لا صنع لغيره فيها يعطي أنها من القسم الثانة أعنى النعم الباطنية ثم اختصاص الولاية بحقيقتها به تعالى كما قال: " فالله هو الولى " الشورى: 9، وكون النبوة مما للملائكة
________________________________________
[ 342 ]
الكرام فيه عمل كالوحي ونحوه يؤيد أن يكون المراد بقوله: " رحمه من عندنا " حيث جيئ بنون العظمة ولم يقل: من عندي هو النبوة دون الولاية وبهذا يتأيد تفسير من فسر الكلمة بالنبوة والله أعلم. وأما قوله: " وعلمناه من لدنا علما " فهو أيضا كالرحمة التي من عنده علم لا صنع فيه للاسباب العادية كالحس والفكر حتى يحصل من طريق الاكتساب والدليل على ذلك قوله: " من لدنا " فهو علم وهبى غير اكتساب يختص به أولياءه وآخر الايات يدل على أنه كان علما بتأويل الحوادث. قوله تعالى: " قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا " الرشد خلاف الغي وهو إصابه الصواب، وهو في الاية مفعول له أو مفعول به، والمعنى قال له موسى هل اتبعك اتباعا مبنيا على هذا الاساس وهو أن تعلمني مما علمت لارشد به أو تعلمني مما علمت أمرا ذا رشد. قوله تعالى: " قال إنك لن تستطيع معي صبرا " نفي مؤكد لصبره عليه السلام على شئ مما يشاهده منه في طريق التعليم والدليل عليه تأكيد الكلام بإن وإيراد الصبر نكرة في سياق النفي الدال على إرادة العموم، ونفي الصبر بنفي الاستطاعة التي هي القدرة فهو آكد من أن يقال: لن تصبر، وإيراد النفي بلن ولم يقل: لا تصبر وللفعل توقف على القدرة فهو نفي الفعل بنفي أحد أسبابه ثم نفي الصبر بنفى سبب القدرة عليه وهو إحاطة الخبر والعلم بحقيقة الواقعة وتأويلها حتى يعلم أنها يجب أن تجرى على ما جرت عليه. وقد نفى صبره على مظاهر علمه من الحوادث حيث قال: " لن تستطيع معى " ولم ينف صبره على نفس علمه فلم يقل: لن تصبر على ما أعلمه ولن تتحمله ولم يتغير عليه موسى عليه السلام حينما أخبره بتأويل ما رأى منه وإنما تغير عليه عند مشاهدة نفس أفعاله التي أراه إياها في طريق التعليم، فللعلم حكم ولمظاهره حكم ونظير ذلك أن موسى عليه السلام لما رجع من الميقات إلى قومه وشاهد أنهم عبدوا العجل من بعده امتلا غيظا وألقى الالواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه وقد كان الله أخبره بذلك وهو في الميقات فلم يأت بشئ من ذلك وقول الله أصدق من الحس والقصة في سورة الاعراف.
________________________________________
[ 343 ]
فقوله: " إنك لن تستطيع معى " الخ إخبار بأنه لا يطيق الطريق الذي يتخذه في تعليمه إن اتبعه لا أنه لا يتحمل العلم. قوله تعالى: " وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا " الخبر العلم وهو تمييز والمعنى لا يحيط به خبرك. قوله تعالى: " قال ستجدني ان شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا " وعده الصبر لكن قيده بالمشية فلم يكذب إذ لم يصبر وقوله: ولا أعصي " الخ عطف على " صابرا " لما فيه من معنى الفعل فعدم المعصية الذي وعده أيضا مقيد بالمشية ولم يخلف الوعد إذ لم ينتهي بنهيه عن السؤال. قوله تعالى: " قال فان اتبعتني فلا تسألني عن شئ حتى احدث لك منه ذكرا " الظاهر أن " منه " متعلق بقوله: " ذكرا " وإحداث الذكر من الشئ الابتداء به من غير سابقة والمعنى فإن اتبعتنى فلا تسألني عن شئ تشاهده من أمرى تشق عليك مشاهدته حتى أبتدء أنا بذكر منه، وفيه إشارة إلى أنه سيشاهد منه امورا تشق عليه مشاهدتها وهو سيبينها له لكن لا ينبغى لموسى أن يبتدئه بالسؤال والاستخبار بل ينبغى أن يصبر حتى يبتدئه هو بالاخبار. وقد أتى موسى عليه السلام من الخلق والادب البارع الحرى بالمتعلم المستفيد قبال الخضر - على ما تحكيه هذه الايات - بأمر عجيب وهو كليم الله موسى بن عمران الرسول النبي أحد اولي العزم صاحب التوراة. فكلامه موضوع على التواضع من أوله إلى آخره، وقد تأدب معه أولا فلم يورد طلبه منه التعليم في صورة الامر بل في صورة الاستفهام هضما لنفسه، وسمى مصاحبته اتباعا منه له، ثم لم يورد التعليم في صورة الاشتراط بل قال: على أن تعلمن الخ ثم عد نفسه متعلما، ثم أعظم قدر علمه إذ جعله منتسبا إلى مبدء غير معلوم لم يعينه باسم أو نعت فقال: " علمت " ولم يقل تعلم، ثم مدحه بقوله: " رشدا " ثم جعل ما يتعلمه بعض علمه فقال: " مما علمت " ولم يقل: ما علمت ثم رفع قدره إذ جعل ما يشير عليه به أمرا يأمره وعد نفسه لو خالفه فيما يأمر عاصيا ثم لم يسترسل معه بالتصريح بالوعد بل كنى عنه بمثل قوله: " ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا.
________________________________________
[ 344 ]
وقد تأدب الخضر معه إذ لم يصرح بالرد أولا بل أشار إليه بنفى استطاعته على الصبر ثم لما وعده موسى بالصبر إن شاء الله لم يأمره بالاتباع بل خلى بينه وبين ما يريد فقال: " فإن اتبعتني ": ثم لم ينهه عن السؤال نهيا مطلقا في صوره المولوية المحضة بل علقه على اتباعة فقال: " فان اتبعتني فلا تسألني حتى أنه لا يقترح عليه بالنهي بل هو أمر يقتضيه الاتباع. قوله تعالى: " فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا إمرا " الامر بكسر الهمزة الداهية العظيمة وقوله: " فانطلقا " تفريع على ما تقدمه، والمنطلقان هما موسى والخضر وهو ظاهر في أن موسى لم يصحب فتاه في سيره مع الخضر، واللام في قوله، " لتغرق أهلها " للغاية فإن الغرق وإن كان عاقبة للخرق ولم يقصده الخضر البتة لكن العاقبة الضرورية ربما تؤخذ غاية مقصودة ادعاه لوضوحها كما يقال: أتفعل كذا لتهلك نفسك ؟ والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا " إنكار لسؤال موسى وتذكير لما قاله من قبل: " إنك لن تستطيع الخ. قوله تعالى: " قال لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمرى عسرا الرهق الغثيان بالقهر والارهاق التكليف، والمعنى لا تؤاخذني بنسياني الوعد وغفلتي عنه ولا تكلفني عسرا من أمري، وربما يفسر النسيان بمعنى الترك، والاول أظهر، والكلام اعتذار على أي حال. قوله تعالى: " فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا في الكلام بعض الحذف للايجاز والتقدير: فخرجا من السفينة وانطلقا. وفي قوله: " حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال " الخ " فقتله " معطوف على الشرط بفاء التفريع و " قال " جزاء " إذا " على ما هو ظاهر الكلام: وبذلك يظهر أن العمدة في الكلام ذكر اعتراض موسى لا ذكر القتل، ونظيرته الاية اللاحقة " فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية - إلى قوله - قال لو شئت " الخ بخلاف الاية السابقة:
________________________________________
[ 345 ]
" فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال " فإن جزاء " إذا " فيها " خرقها " وقوله: " قال " كلام مفصول مستأنف. وعلى هذا فالايات مسرودة في صوره قصة واحده اعترض فيها موسى على الخضر عليهما السلام ثلاث مرات واحدة بعد اخرى لا في صورة ثلاث قصص اعترض فيها ثلاث اعتراضات كأنه قيل: وقع كذا وكذا فاعترض عليه ثم اعترض ثم اعترض فالقصة قصة اعتراضاته فهي واحدة لا قصة أعمال هذا واعتراضات ذاك حتى تكون ثلاثا. ومن هنا يتبين وجه الفرق بين الايات الثلاث حيث جعل " خرقها " جواب إذا في الاية الاولى، ولم يجعل " قتله " و " وجدا " أو " إقامه " جوابا في الثانية والثالثة بل جزءا من الشرط معطوفا عليه فافهم ذلك. وقوله: " أقتلت نفسا زكيه الزكية " الطاهرة والمراد طهارتها من الذنوب لعدم البلوغ كما يشعر به قوله: " غلاما " والاستفهام للانكار، والقائل موسى. وقوله: " بغير نفس " أي بغير قتل منها لنفس قتلا مجوزا لقتلها قصاصا وقودا فإن غير البالغ لا يتحقق منه القتل الموجب للقصاص وربما استفيد من قوله: " بغير نفس: " أنه كان شابا بالغا ولا دلالة في إطلاق الغلام عليه على عدم بلوغه لان الغلام يطلق على البالغ وغيره فالمعنى أقتلت بغير قصاص نفسا بريئة من الذنوب المستوجبة للقتل ؟ إذ لم يظهر لهما من الغلام شئ يستوجبه. وقوله: " لقد جئت شيئا نكرا " أي منكرا يستنكره الطبع ولا يعرفه المجتمع وقد عد خرق السفينة إمرا أي داهية يستعقب مصائب لم يقع شئ منها بعد وقتل النفس نكرا أو منكرا وهو أفظع وأفجع عند الناس من الخرق الذي يستوجب عادة هلاك النفوس لكن لا بالمباشرة فعلا. قوله تعالى: قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا " معناه ظاهر وزيادة " لك " نوع تقريع له أنه لم يصغ إلى وصيته وإيماء إلى كونه كأنه لم يسمع قوله له أول مرة: " أنك لن تستطيع معي صبرا " أو سمعه وحسب أنه لا يعنيه بل يقصد به غيره كأنه يقول: إنما عنيت بقولى إنك لن تستطيع " الخ " إياك دون غيرك.
________________________________________
[ 346 ]
قوله تعالى: " قال أن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا الضمير في " بعدها " راجع إلى هذه المرة أو المسألة اي ان سألتك بعد هذه المرة أو هذه المسألة فلا تصاحبني اي يجوز لك ان لا تصاحبني. وقوله: " قد بلغت من لدني عذرا " اي بلغت عذرا ووجدته كائنا ذلك من لدني إذ بلغ عذرك النهاية من عندي. قوله تعالى: " فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية أستطعما أهلها " إلى آخر الاية الكلام في قوله: " فانطلقا " " فأبوا " " فوجدا " فأقامه " كالكلام في قوله في الاية السابقة: " فانطلقا " " فقتله ". وقوله: استطعما أهلها " صفة لقرية ولم يقل: " استطعماهم لرداءة قولنا: " قرية استطعماهم بخلاف مثل قولنا: أتى قرية على إرادة أتى أهل قرية لان للقرية نصيبا من الاتيان فيجوز وضعها موضع أهلها مجازا بخلاف الاستطعام لانه لاهلها خاصة، وعلى هذا فليس قوله: " أهلها " من وضع الظاهر موضع المضمر. ولم يقل: حتى إذا أتيا قرية أستطعما أهلها لان القرية كانت تتمحض حينئذ في معناها الحقيقي والغرض العمدة - كما عرفت - متعلق بالجزاء أعني قوله: " قال لو شئت لتخذت عليه أجرا " وفيه ذكر أخذ الاجر وهو إنما يكون من أهلها لا منها فقوله: " أتيا أهل قرية " دليل على أن إقامة الجدار كانت بحضور من أهل القرية وهو الذي أغنى أن يقال: لو شئت لتخذت عليه منهم أو من أهلها أجرا فافهم ذلك. والمراد بالاستطعام طلب الطعام بالاضافة ولذا قال: " فأبوا أن يضيفوهما " وقوله " فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض " الانقضاض السقوط، وإراده الانقضاض مجاز عن الاشراف على السقوط والانهدام، وقوله: " فأقامة " أي أثبته الخضر باصلاح شأنه ولم يذكر سبحانه كيف أقامه ؟ بنحو خرق العادة أم ببناء أو ضرب دعامة ؟ غير أن قول موسى: " لو شئت لتخذت عليه أجرا " مشعر بأنه كان بعمل غير خارق فإن المعهود من أخذ الاجر، ما كان على العاديات. وقوله: " قال لو شئت لتخذت (1) عليه اجرا " تخذ وأخذ بمعنى واحد، وضمير
________________________________________
(1) قرى، بالتشديد من " اتخذ " وبالتخفيف من " تخذ " (*).
________________________________________
[ 347 ]
" عليه " للاقامة المفهومة من " فأقامة " وهو مصدر جائز الوجهين، والسياق يشهد أنهما كانا جائعين فذكره موسى أخذ الاجرة على عمله إذ لو كان أخذ أجرا أمكنهما أن يشتريا به شيئا من الطعام يسدان به جوعهما. قوله تعالى: " قال هذا فراق بينى وبينك سانبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا " الاشارة بهذا إلى قول موسى أي هذا القول سبب فراق بينى وبينك أو إلى الوقت أي هذا الوقت وقت فراق بيني وبينك كما قيل، ويمكن أن تكون الاشارة إلى نفس الفراق، والمعنى هذا الفراق قد حضر كأنه كان أمرا غائبا فحضر عند قول موسى: " لو شئت لتخذت " الخ وقوله: " بينى وبينك " ولم يقل بيننا للتأكيد، وإنما قال الخضر هذا القول بعد الاعتراض الثالث لان موسى كان قبل ذلك يعتذر إليه كما في الاول أو يستمهله كما في الثاني، وأما الفراق بعد الاعتراض الثالث فقد أعذره موسى فيه إذ قال بعد الاعتراض الثاني: إن سألتك عن شئ بعدها فلا تصاحبني " الخ والباقي ظاهر. قوله تعالى: " أما السفينة فكانت لمساكين " الخ شروع في تفصيل ما وعد إجمالا بقوله: " سانبئك " الخ وقوله: " أن أعيبها " أي أجعلها معيبة وهذه قرينة على أن المراد بكل سفينة كل سفينة غير معيبة. وقوله: " وكان وراءهم ملك " وراء بمعنى الخلف وهو الظرف المقابل للظرف الاخر الذي يواجهه الانسان ويسمى قدام وأمام لكن ربما يطلق على الظرف الذي يغفل عنه الانسان وفيه من يريده بسوء أو مكروه وإن كان قدامه أو فيه ما يعرض عنه الانسان أو فيه ما يشغل الانسان بنفسه عن غيره كان الانسان ولى وجهه إلى جهه تخالف جهته قال تعالى: " فمن ابتغى وراء ذلك فاولئك هم العادون " المؤمنون: 7، وقال: " وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب الشورى: 51، وقال: " والله من ورائهم " البروج: 20. ومحصل المعنى: أن السفينة كانت لعدة من المساكين يعملون بها في البحر ويتعيشون به وكان هناك ملك جبار أمر بغصب السفن فأردت بخرقها أحدث فيها عيبا فلا يطمع فيها الجبار ويدعها لهم. قوله تعالى: " وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا "
________________________________________
[ 348 ]
الاظهر من سياق الاية وما سيأتي من قوله: " وما فعلته عن أمري " أن يكون المراد بالخشية التحذر عن رأفة ورحمة مجازا لا معناه الحقيقي الذي هو التأثر القلبي الخاص المنفى عنه تعالى وعن أنبيائه كما قال: " ولا يخشون أحدا إلا الله " الاحزاب: " 39، وأن يكون المراد بقوله: " أن يرهقهما طغيانا وكفرا " أن يغشيهما ذلك أي يحمل والديه على الطغيان والكفر بالاغواء والتأثير الروحي لمكان حبهما الشديد له لكن قوله في الاية التالية: " وأقرب رحما " لا تخلو من تأييد لكون " طغيانا وكفرا " تميزين عن الارهاق أي وصفين للغلام دون أبويه. قوله تعالى: " فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاه وأقرب رحما المراد بكونه خيرا منه زكاة كونه خيرا منه صلاحا وايمانا بقرينة مقابلته الطغيان والكفر في الاية السابقة، وأصل الزكاة فيما قيل الطهارة والمراد بكونه أقرب منه رحما كونه أوصل للرحم والقرابة فلا يرهقهما، وأما تفسيره بكونه أكثر رحمة بهما فلا يناسبه قوله " اقرب منه " تلك المناسبة، وهذا - كما عرفت - يؤيد كون المراد من قوله: " يرهقهما طغيانا وكفرا " في الاية السابقة إرهاقه اياهما بطغيانه وكفره لا تكليفه إياهما الطغيان والكفر وإغشاؤهما ذلك. والاية - على أي حال - تلوح إلى أن إيمان أبويه كان ذا قدر عند الله ويستدعي ولدا مؤمنا صالحا يصل رحمهما وقد كان المقضي في الغلام خلاف ذلك فأمر الله الخضر بقتله ليبدلهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما. قوله تعالى: " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا " لا يبعد أن يستظهر من السياق أن المدينة المذكورة في هذه الاية غير القرية التى وجدا فيها الجدار فأقامه، إذ لو كانت هي هي لم يكن كثير حاجة إلى ذكر كون الغلامين اليتيمين فيها فكأن العناية متعلقة بالاشارة إلى أنهما ومن يتولى أمرهما غير حاضرين في القرية. وذكر يتم الغلامين ووجود كنز لهما تحت الجدار ولو انقض لظهر وضاع وكون أبيهما صالحا كل ذلك توطئة وتمهيد لقوله: " فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما " وقوله: " رحمة من ربك " تعليل للارادة.
________________________________________
[ 349 ]
فرحمته تعالى سبب لارادة بلوغهما واستخراجهما كنزهما، وكان يتوقف على قيام الجدار فأقامه الخضر، وكان سبب انبعاث الرحمة صلاح ابيهما وقد عرض أن مات وايتم الغلامين وترك كنزا لهما. وقد طال البحث في التوفيق بين صلاح ابيهما ووجود كنز لهما تحت الجدار الظاهر في كون ابيهما هو الكانز له بناء على ذم الكنز كما يدل عليه قوله تعالى: " والذين يكنزون الذهب والفضي ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم " التوبه: 34. لكن الاية لا تتعرض بأكثر من أن تحته كنز لهما من غير دلالة على أن أباهما هو الذي دفنه وكنزه، على أن وصف أبيهما بالصلاح دليل على كون هذا الكنز أيا ما كان أمرا غير مذموم على تقدير تسليم كون الكانز هو الاب، على أن من الجائز أن يكون أبوهما الصالح كنزه لهما لتأويل يسوغه فما هو بأعظم من خرق السفينة وقتل النفس المحترمة الواردين في القصة وقد جوزهما التأويل بأمر إلهي وهنا بعض روايات ستوافيك في البحث الروائي الاتي إن شاء الله. وفي الاية دلالة على أن صلاح الانسان ربما ورث أولاده أثرا جميلا وأعقب فيهم السعادة والخير فهذه الاية في جانب الخير نظيرة قوله تعالى: " وليخش الذين لو تركوا من بعدهم ذرية ضعافا خافوا عليهم " النساء: " 9. وقوله: " وما فعلته عن أمري " كناية عن أنه إنما فعل ما فعل عن أمر غيره وهو الله سبحانه لا عن أمر أمرته به نفسه. وقوله: " ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا: " أي ما لم تستطع عليه صبرا من اسطاع يسطيع بمعنى استطاع يستطيع وقد تقدم في أول تفسير سورة آل عمران أن التأويل في عرف القرآن هي الحقيقة التي يتضمنها الشئ ويؤول إليها ويبتنى عليها كتأويل الرؤيا وهو تعبيرها، وتأويل الحكم وهو ملاكه وتأويل الفعل وهو مصلحته وغايته الحقيقية وتأويل الواقعة وهو علتها الواقعية وهكذا. فقوله: " ذلك تأويل ما لم تسطع " الخ إشارة منه إلى أن الذي ذكره للوقائع الثلاث وأعماله فيها هو السبب الحقيقي لها لا ما حسبه موسى من العناوين المترائية من
________________________________________
[ 350 ]
أعماله كالتسبب إلى هلاك الناس في خرق السفينة والقتل من غير سبب موجب في قتل الغلام وسوء تدبير المعاش في إقامة الجدار. وذكر بعضهم: " أن من الادب الجميل الذي استعمله الخضر مع ربه في كلامه أن ما كان من الاعمال التى لا تخلو عن نقص ما نسبه إلى نفسه كقوله: فأردت أن أعيبها وما جاز انتسابه إلى ربه وإلى نفسه أتي فيه بصيغة المتكلم مع الغير كقوله: " فأردنا أن يبدلهما ربهما "، " فخشينا " وما يختص به تعالى لتعلقه بربوبيته وتدبيره ملكه نسبه إليه كقوله: " فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ". بحث تاريخي في فصلين 1 - قصة موسى والخضر في القرآن: أوحى الله سبحانه إلى موسى أن هناك عبدا من عباده عنده من العلم ما ليس عند موسى وأخبره أنه إن انطلق إلى مجمع البحرين وجده هناك، وهو بالمكان الذي يحيى فيه الحوت الميت. (أو يفتقد فيه الحوت). فعزم موسى أن يلقى العالم ويتعلم منه بعض ما عنده إن أمكن وأخبر فتاه عما عزم عليه فخرجا قاصدين مجمع البحرين وقد حملا معهما حوتا ميتا وذهبا حتى بلغا مجمع البحرين وقد تعبا وكانت هناك صخرة على شاطئ البحر فأويا إليها ليستريحا هنيئة وقد نسيا حوتهما وهما في شغل منه. وإذا بالحوت اضطرب ووقع في البحر حيا، أو وقع فيه وهو ميت، وغار فيه والفتى يشاهده ويتعجب من امره غير انه نسي ان يذكره لموسى حتى تركا الموضع وانطلقا حتى جاوزا مجمع البحرين وقد نصبا فقال له موسى: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا. فذكر الفتى ما شاهده من امر الحوت، وقال لموسى: إنا إذ أوينا إلى الصخرة حي الحوت ووقع في البحر يسبح فيه حتى غار وكنت اريد ان اذكر لك امره لكن الشيطان انسانية (أو إنى نسيت الحوت عند الصخرة فوقع في البحر وغار فيه). قال موسى: ذلك ما كنا نبغى ونطلب فلنرجع إلى هناك فارتدا على آثارهما قصصا فوجدا عبدا من عباد الله آتاه الله رحمة من عنده وعلمه علما من لدنه فعرض عليه


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page