• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 301 الي 325


[ 301 ]
التي ستعود صعيدا جرزا بل يدعوهم إلى ربهم ولا يزيد على ذلك فمن شاء منهم آمن به ومن شاء كفر ولا عليه شئ، وأما الذي يجب أن يواجهوا به إن كفروا أو آمنوا فليس هو أن يتاسف أو يسر، بل ما أعده الله للفريقين من عقاب أو ثواب. قوله تعالى: " واتل ما اوحي إليك " إلى آخر الاية في المجمع: لحد إليه والتحد أي مال انتهى فالملتحد اسم مكان من الالتحاد بمعنى الميل والمراد بكتاب ربك القرآن أو اللوح المحفوظ، وكأن الثاني أنسب بقوله: " لا مبدل لكلماته ". وفي الكلام على ما عرفت آنفا رجوع إلى ما قبل القصه وعليه فالانسب أن يكون قوله: " واتل " الخ عطفا على قوله: " إنا جعلنا ما على الارض " الخ والمعنى لا تهلك نفسك على آثارهم أسفا واتل ما اوحى اليك من كتاب ربك لانه لا مغير لكلماته فهي حقة ثابتة ولانك لا تجد من دونه ملتحدا تميل إليه. وبذلك ظهر أن كلا من قوله: " لا مبدل لكلماته " وقوله " لن تجد من دونه ملتحدا " في مقام التعليل فهما حجتان على الامر في قوله: " واتل " ولعله لذلك خص الخطاب في قوله: " ولن تجد " الخ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مع أن الحكم عام ولن يوجد من دونه ملتحد لاحد. ويمكن أن يكون المراد ولن تجد أنت ملتحدا من دونه لانك رسول ولا ملجأ للرسول من حيث إنه رسول إلا مرسله، والانسب على هذا أن يكون قوله: " لا مبدل لكلماته " حجة واحدة مفادها واتل عليهم هذه الايات المشتملة على الامر الالهي بالتبليغ لانه كلمة إلهية ولا تتغير كلماته وأنت رسول ليس لك إلا أن تميل إلى مرسلك وتؤدي رسالته، ويؤيد هذا المعنى قوله في موضع آخر: " قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من رسالاته " الجن: 23. قوله تعالى: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه " إلى آخر الاية قال الراغب: الصبر الامساك في ضيق يقال: صبرت الدابة حبستها بلا علف، وصبرت فلانا خلفته خلفة لا خروج له منها، والصبر حبس النفس على ما يقتضيه العقل والشرع أو عما يقتضيان حبسها عنه. انتهى مورد الحاجه.
________________________________________
[ 302 ]
ووجه الشئ ما يواجهك ويستقبلك به والاصل في معناه الوجه بمعنى الجارحة، ووجهه تعالى أسماؤه الحسنى وصفاته العليا التي بها يتوجه إليه المتوجهون ويدعوه الداعون ويعبده العابدون قال تعالى: " ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها " الاعراف 180، واما الذات المتعالية فلا سبيل إليها، وإنما يقصده القاصدون ويريده المريدون لانه إله رب علي عظيم ذو رحمة ورضوان إلى غير ذلك من اسمائه وصفاته. والداعي لله المريد وجهه إن أراد صفاته تعالى الفعلية كرحمته ورضاه وإنعامه وفضله فإنما يريد أن تشمله وتغمره فيتلبس بها نوع تلبس فيكون مرحوما ومرضيا عنه ومنعما بنعمته وإن اراد صفاته غير الفعلية كعلمه وقدرته وكبريائه وعظمته فإنما يريد أن يتقرب إليه تعالى بهذه الصفات العليا، وإن شئت فقل: يريد ان يضع نفسه موضعا تقتضيه الصفة الالهية كان يقف موقف الذلة والحقارة قبال عزته وكبريائه وعظمته تعالى، ويقف موقف الجاهل العاجز الضعيف تجاه علمه وقدرته وقوته تعالى وهكذا فافهم ذلك. وبذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالوجه هو الرضى والطاعة المرضية مجازا لان من رضى عن شخص اقبل عليه ومن غضب يعرض عنه، وكذا قول بعضهم: المراد بالوجه الذات والكلام على حذف مضاف، وكذا قول بعضهم: المراد بالوجه التوجه والمعنى يريدون التوجه إليه والزلفى لديه هذا. والمراد بدعائهم ربهم بالغداة والعشي الاستمرار على الدعاء والجرى عليه دائما لان الدوام يتحقق بتكرر غداه بعد عشي وعشي بعد غداة على الحس فالكلام جار على الكناية. وقيل: المراد بدعاء الغداة والعشي صلاة طرفي النهار وقيل: الفرائض اليومية وهو كما ترى. وقوله تعالى: " ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا " اصل معنى العدو كما صرح به الراغب التجاوز وهو المعنى الساري في جميع مشتقاته وموارد استعمالاته قال في القاموس: يقال: عدا الامر وعنه جاوزه وتركه انتهى فمعنى " لا تعد عيناك عنهم " لاتجاوزهم ولا تتركهم عيناك والحال انك تريد زينة الحياة الدنيا. لكن ذكر بعضهم ان المجاوزه لا تتعدى بعن إلا إذا كان بمعنى العفو، ولذا قال
________________________________________
[ 303 ]
لزمخشري في الكشاف: ان قوله: " لا تعد عيناك عنهم " بتضمين عدا معنى نبا وعلا في قولك: نبت عنه عينه وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به، ولو لا ذلك لكان من الواجب ان يقال: ولا تعدهم عيناك. وقوله تعالى: " ولا تطع من اغفلنا قلبه عن ذكرنا " المراد باغفال قلبه تسليط الغفلة عليه وإنسائه ذكر الله سبحانه على سبيل المجازاة حيث انهم عاندوا الحق فأضلهم الله باغفالهم عن ذكره فإن كلامه تعالى في قوم هذه حالهم نظير ما سيأتي في ذيل الايات من قوله: " إنا جعلنا على قلوبهم اكنة ان يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا ابدا. فلا مساغ لقول من قال: إن الاية من أدلة جبره تعالى على الكفر والمعصية وذلك لان الالجاء مجازاة لا ينافي الاختيار والذي ينافيه هو الالجاء ابتداء ومورد الاية من القبيل الاول. ولا حاجة إلى تكلف التأويل كقول من قال: إن المراد بقوله: " أغفلنا قلبه " عرضناه للغفلة أو ان المعنى صادفناه غافلا أو اريد به نسبناه إلى الغفلة أو ان الاغفال بمعنى جعله غفلا لا سمة له ولا علامة والمراد جعلنا قلبه غفلا لم نسمه بسمة قلوب المؤمنين ولم نعلم فيه علامة المؤمنين لتعرفه الملائكه بتلك السمة. فالجميع كما ترى. وقوله تعالى: " واتبع هواه وكان أمره فرطا " قال في المجمع: الفرط التجاوز للحق والخروج عنه من قولهم " افرط إفراطا إذا اسرف انتهى، واتباع الهوى والافراط من آثار غفلة القلب، ولذلك كان عطف الجملتين على قوله: " اغفلنا " بمنزلة عطف التفسير. قوله تعالى: " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " عطف على ما عطف عليه قوله " واتل ما اوحي اليك " وقوله: " واصبر نفسك " فالسياق سياق تعداد وظائف النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبال كفرهم بما انزل إليه وإصرارهم عليه والمعنى لا تأسف عليهم واتل ما اوحي اليك واصبر نفسك مع هؤلاء المؤمنين من الفقراء، وقل للكفار: الحق من ربكم ولا تزد على ذلك فمن شاء منهم أن يؤمن فليؤمن ومن شاء
________________________________________
[ 304 ]
منهم ان يكفر فليكفر فليس بنفعنا إيمانهم ولا يضرنا كفرهم بل ما في ذلك من نفع أو ضرر وثواب أو تبعة عذاب عائد إليهم انفسهم فليختاروا ما شاؤا فقد اعتدنا للظالمين كذا وكذا وللصالحين من المؤمنين كذا. ومن هنا يظهر ان قوله: " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " من كلامه تعالى يخاطب به نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وليس داخلا في مقول القول فلا يعبأ بما ذكر بعضهم ان الجملة من تمام القول المأمور به. ويظهر ايضا ان قول: " إنا اعتدنا للظالمين نارا " الخ في مقام التعليل لتخييرهم بين الايمان والكفر الذى هو تخيير صوره وتهديد معنى، والمعنى أنا إنما نهيناك عن الاسف وأمرناك ان تكتفي بالتبليغ فقط وتقنع بقولك: " الحق من ربكم " فحسب ولم نتوسل إلى إصرار والحاح لانا هيأنا لهم تبعات هذه الدعوة ردا وقبولا وكفى بما هيأناه محرضا ورادعا ولا حاجة إلى ازيد من ذلك وعليهم ان يختاروا لانفسهم أي المنزلتين شاؤا. قوله تعالى: " إنا اعتدنا للظالمين نارا " إلى آخر الاية، قال في المجمع: السرادق الفسطاط المحيط بما فيه، ويقال السرادق: ثوب يدار حول الفسطاط، وقال: المهل خثارة الزيت، وقيل: هو النحاس الذائب، وقال المرتفق المتكأ من المرفق يقال: ارتفق إذا اتكأ على مرفقه انتهى والشئ النضج يقال: شوى يشوي شيأ إذا نضج. وفي تبديل الكفر من الظلم في قوله: " إنا اعتدنا للظالمين " دون ان يقول: للكافرين دلالة على ان التبعة المذكورة إنما هي للظالمين بما هم ظالمون: وقد عرفهم في قوله: " الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالاخرة كافرون " الاعراف: 45 والباقي ظاهر. قوله تعالى: " إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع اجر من احسن عملا " بيان لجزاء المؤمنين على إيمانهم وعملهم الصالح وإنما قال: " إنا لا نضيع " الخ ولم يقل: واعتدنا لهؤلاء كذا وكذا ليكون دالا على العناية بهم والشكر لهم. وقوله: " إنا لا نضيع " الخ في موضع خبر إن وهو في الحقيقة من وضع السبب
________________________________________
[ 305 ]
موضع المسبب والتقدير إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سنوفيهم أجرهم فإنهم محسنون وإنا لا نضيع أجر من أحسن عملا. وإذ عد في الاية العقاب أثرا للظلم ثم عد الثواب في مقابله أجرا للايمان والعمل الصالح استفدنا منه أن لا ثواب للايمان المجرد من صالح العمل بل ربما أشعرت الاية بأنه من الظلم. قوله تعالى: " اولئك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الانهار " إلى آخر الاية. العدن هو الاقامة وجنات عدن جنات إقامه والاساور قيل جمع أسوره وهي جمع سوار بكسر السين وهي حلية المعصم، وذكر الراغب أنه فارسي معرب وأصله دستواره، والسندس ما رق من الديباج. والاستبرق ما غلظ منه، والارائك جمع أريكه وهي السرير، ومعنى الاية ظاهر. " بحث روائي " في الدر المنثور أخرج ابن مردويه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس ": في قوله: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا - قال: نزلت في أميه بن خلف وذلك أنه دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة فأنزل الله: " ولا تطع من أغفلنا قلبه " يعني من ختمنا على قلبه " عن ذكرنا " يعني التوحيد " واتبع هواه " يعنى الشرك " وكان أمره فرطا " يعني فرطا في أمر الله وجهاله بالله. وفيه أخرج ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الايمان عن سلمان قال: جاءت المؤلفة قلوبهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن بدر والاقرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم - يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب الصوف - جالسناك أو حادثناك وأخذنا عنك فأنزل الله: " واتل ما اوحي اليك من كتاب ربك - إلى قوله - اعتدنا للظالمين نارا " يهددهم بالنار.
________________________________________
[ 306 ]
اقول: وروى مثله القمي في تفسيره لكنه ذكر عيينة بن الحصين بن الحذيفه بن بدر الفزاري فقط، ولازم الرواية كون الايتين مدنيتين وعليه روايات أخر تتضمن نظيرة القصة لكن سياق الايات لا يساعد عليه. وفي تفسير العياشي عن أبي جعفر وأبى عبد الله عليهما السلام في قوله: " واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي " قالا: إنما عنى بها الصلاه. وفيه عن عاصم الكوزى عن أبي عبد الله عليه السلام عليه السلام قال: سمعته يقول في قول الله: " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " قال: وعيد. وفي الكافي وتفسير العياشي وغيره عن ابي حمزه عن أبي جعفر: في قوله: " وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " في ولاية على عليه السلام. أقول: وهو من الجري: وفي الدر المنثور أخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: في قوله: " بماء كالمهل " قال: كعكر الزيت - فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه. وفي تفسير القمى: في قوله: " بماء كالمهل " قال: قال عليه السلام - المهل الذي يبقى في أصل الزيت. وفي تفسير العياشي عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام: قال: ابن آدم خلق أجوف لا بد له من الطعام والشراب قال تعالى: " وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه ". واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من اعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعا - 32. كلتا الجنتين آتت
________________________________________
[ 307 ]
أكلها ولم تظلم منه شيئا وفجرنا خلالهما نهرا - 33. وكان له ثمر فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا - 34. ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا - 35. وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لاجدن خيرا منها منقلبا - 36. قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا - 37. لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا - 38. ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله ان ترن أنا أقل منك مالاو ولدا - 39. فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ويرسل عليها حسبانا من السماء فتصبح صعيدا زلقا - 40. أو يصبح ماوها غورا فلن تستطيع له طلبا - 41. وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول يا ليتنى لم أشرك بربي أحدا - 42. ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا - 43. هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا - 44. واضرب لهم مثل الحيوة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شئ مقتدرا - 45. - المال والبنون زينة الحيوة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا - 46.
________________________________________
[ 308 ]
بيان الايات تتضمن مثلين يبينان حقيقة ما يملكه الانسان في حياته الدنيا من الاموال والاولاد وهي زخارف الحياة وزيناتها الغارة السريعة الزوال والفناء التي تتزين بها للانسان فتلهيه عن ذكر ربه وتجذب وهمه إلى أن يخلد إليها ويعتمد عليها فيخيل إليه أنه يملكها ويقدر عليها حتى إذا طاف عليها طائف من الله سبحانه فنت وبادت ولم يبق للانسان منها إلا كحلمة نائم وأمنية كاذبة. فالايات ترجع الكلام إلى توضيح ما أشار سبحانه إليه في قوله: " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها - إلى قوله - صعيدا جرزا " من الحقيقة. قوله تعالى: " واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لاحدهما جنتين من أعناب " الخ أي واضرب لهؤلاء المتولهين بزينة الحياة الدنيا المعرضين عن ذكر الله مثلا ليتبين لهم أنهم لم يتعلقوا في ذلك إلا بسراب وهمي لا واقع له. وقد ذكر بعض المفسرين أن الذى يتضمنه المثل قصة مقدرة مفروضة فليس من الواجب أن يتحقق مضمون المثل خارجا، وذكر آخرون أنه قصة واقعة، وقد رووا في ذلك قصصا كثيرة مختلفة لا معول عليها غير أن التدبر في سياق القصة بما فيها من كونهما جنتين اثنتين وانحصار أشجارهما في الكرم والنخل ووقوع الزرع بينهما وغير ذلك يؤيد كونها قصة واقعة. وقوله: " جنتين من أعناب " أي من كروم فالثمرة كثيرا ما يطلق على شجرتها وقوله: " وحففناهما بنخل " أو جعلنا النخل محيطة بهما حافة من حولهما وقوله: " وجعلنا بينهما زرعا " أي بين الجنتين ووسطهما، وبذلك تواصلت العمارة وتمت واجتمعت له الاقوات والفواكه. قوله تعالى كلتا الجنتين آتت أكلها " الايه الاكل بضمتين المأكول، والمراد بايتائهما الاكل إثمار أشجارهما من الاعناب والنخيل. وقوله: " ولم تظلم منه شيئا " الظلم النقص، والضمير للاكل أي ولم تنقص من أكله
________________________________________
[ 309 ]
شيئا بل أثمرت ما في وسعها من ذلك وقوله: " وفجرنا خلالهما نهرا أي شققنا " وسطهما نهرا من الماء يسقيهما ويرفع حاجتهما إلى الشرب بأفرب وسيله من غير كلفة. قوله تعالى: " وكان له ثمر " الضمير للرجل والثمر أنواع المال كما في الصحاح وعن القاموس، وقيل الضمير للنخل والثمر ثمره وقيل المراد كان للرجل ثمر ملكه من غير جنته. وأول الوجوه اوجهها ثم الثاني ويمكن ان يكون المراد من إيتاء الجنتين اكلها من غير ظلم بلوغ أشجارهما في الرشد مبلغ الاثمار وأوانه، ومن قوله: " وكان له ثمر " وجود الثمر على اشجارهما بالفعل كما في الصيف وهو وجه خال عن التكلف. قوله تعالى: " فقال: " لصاحبه وهو يحاوره أنا اكثر منك مالا واعز نفرا المحاورة المخاطبة والمراجعه في الكلام، والنفر الاشخاص يلازمون الانسان نوع ملازمة سموا نفرا لانهم ينفرون معه ولذلك فسره بعضهم بالخدم والولد، وآخرون بالرهط والعشيرة، والاول اوفق بما سيحكيه الله تعالى من قول صاحبه له: " إن ترن انا اقل منك مالا وولدا " حيث بدل النفر من الولد، والمعنى فقال الذي جعلنا له الجنتين لصاحبه والحال انه يحاوره: " انا اكثر منك مالا واعز نفرا أي ولدا وخدما. وهذا الذي قاله لصاحبه يحكى عن مزعمة خاصه عندة منحرفة عن الحق فإنه نظر إلى نفسه وهو مطلق التصرف فيما خوله الله من مال وولد لا يزاحم فيما يريده في ذلك فاعتقد انه مالكه وهذا حق لكنه نسى ان الله سبحانه هو الذى ملكه وهو المالك لما ملكه والذي سخره الله له وسلطه عليه من زينة الحياة الدنيا التي هي فتنة وبلاء يمتحن بها الانسان ليميز الله الخبيث من الطيب بل اجتذبت الزينة نفسه إليها فحسب انه منقطع عن ربه مستقل بنفسه فيما يملكه، وان التأثير كله عند الاسباب الظاهرية التي سخرت له. فنسي الله سبحانه وركن إلى الاسباب وهذا هو الشرك ثم التفت إلى نفسه فرآى أنه يتصرف في الاسباب مهيمنا عليها فظن ذلك كرامه لنفسه وأخذه الكبر فاستكبر على صاحبه، وإلى ذلك يرجع اختلاف الوصفين أعنى وصفه تعالى لملكه إذ قال: " جعلنا لاحدهما جنتين " الخ ولم يقل: كان لاحدهما جنتان، ووصف الرجل نفسه
________________________________________
[ 310 ]
إذ قال لصاحبه: " إنا أكثر منك ما لا وأعز نفرا " فلم ير إلا نفسه ونسي أن ربه هو الذى سلطه على ما عنده من المال وأعزه بمن عنده من النفر فجرى قوله لصاحبه " أنا أكثر منك ما لا وأعز نفرا " مجرى قول قارون لمن نصحه أن لا يفرح ويحسن بما آتاه الله من المال: " إنما اوتيته على علم " القصص: 78. وهذا الذى يكشف عنه قوله: " أنا أكثر منك ما لا " الخ أعني دعوى الكرامة النفسية والاستحقاق الذاتي ثم الشرك بالله بالغفلة عنه والركون إلى الاسباب الظاهرية هو الذى أظهره حين دخل جنته فقال كما حكاه الله: " ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة الخ. قوله تعالى: " ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال " إلى آخر الايتين. الضمائر الاربع راجعة إلى الرجل، والمراد بالجنه جنسها ولذا لم تثن، وقيل: لان الدخول لا يتحقق في الجنتين معا في وقت واحد، وإنما يكون في الواحدة بعد الواحدة. وقال في الكشاف: فإن قلت: فلم أفرد الجنة بعد التثنية ؟ قلت: معناه ودخل ما هو جنته ما له جنة غيرها يعنى أنه لا نصيب له في الجنه التي وعد المؤمنون فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما. انتهى وهو وجه لطيف. وقوله: " وهو ظالم لنفسه " وإنما كان ظالما لانه تكبر على صاحبه إذ قال: " أنا اكثر منك ما لا " الخ وهو يكشف عن إعجابه بنفسه وشركه بالله بنسيانه والركون إلى الاسباب الظاهرية، وكل ذلك من الرذائل المهلكة. وقوله: " قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا البيد والبيدودة الهلاك والفناء والاشاره بهذه إلى الجنه، وفصل الجملة لكونها في معنى جواب سؤال مقدر كأنه لما قيل: ودخل جنته قيل: فما فعل ؟ فقيل: قال: ما أظن أن تبيد الخ. وقد عبر عن بقاء جنته بقوله: " ما أظن أن تبيد " الخ ونفي الظن بأمر كناية عن كونه فرضا وتقديرا لا يلتفت إليه حتى يظن به ويمال إليه فمعنى ما أظن أن تبيد هذه أن بقاءه ودوامه مما تطمئن إليه النفس ولا تتردد فيه حتى تتفكر في بيده وتظن أنه سيفنى.
________________________________________
[ 311 ]
وهذا حال الانسان فان نفسه لا تتعلق بالشئ الفاني من جهه أنه متغير يسرع إليه الزوال وإنما يتعلق القلب عليه بما يشاهد فيه من سمة البقاء كيفما كان فينجذب إليه ولا يلوي عنه إلى شئ من تقادير فنائه، فتراه إذا أقبلت عليه الدنيا اطمأن إليها وأخذ في التمتع بزينتها والانقطاع إليها واعتورته اهواؤه وطالت آماله كأنه لا يرى لنفسه فناء، ولا لما بيده من النعمة زوالا ولا لما ساعدته عليه من الاسباب انقطاعا، وتراه إذا أدبرت عنه الدنيا اخذه اليأس والقنوط فأنساه كل رجاء للفرج وسجل عليه انه سيدوم ويدوم عليه الشقاء وسوء الحال. والسبب في ذلك كله ما أودعه الله في فطرته من التعلق بهذه الزينة الفانية فتنة وامتحانا فإذا أعرض عن ذكر ربه انقطع إلى نفسه والزينة الدنيوية التي بين يديه والاسباب الظاهرية التى أحاطت به وتعلق على حاضر الوضع الذي يشاهده، ودعته جاذبة الزينات والزخارف أن يجمد عليها ولا يلتفت إلى فنائها وهو القول بالبقاء وكلما قرعته قارعة العقل الفطري أن الدهر سيغدر به، والاسباب ستخذله، وأمتعة الحياه ستودعه وحياته المؤجلة ستبلغ أجلها، منعه اتباع الاهواء وطول الامال الاصغاء لها والالتفات إليها. وهذا شأن أهل الدنيا لا يزالون على تناقض من الرأى يعملون ما يصدقونه بأهوائهم ويكذبونه بعقولهم لكنهم يطمئنون إلى رأي الهوى فيمنعهم عن الالتفات إلى قضاء العقل. وهذا معنى قولهم بدوام الاسباب الظاهرية وبقاء زينة الحياة الدنيا ولهذا قال فيما حكاه الله: " ما أظن أن تبيد هذه أبدا " ولم يقل: هذه لا تبيد أبدا. وقوله: " وما أظن الساعة قائمة " هو مبني على ما مر من التأبيد في قوله: " ما اظن ان تبيد هذه ابدا " فإنه يورث استبعاد تغير الوضع الحاضر بقيام الساعة، وكل ما حكاه الله سبحانه من حجج المشركين على نفى المعاد مبنى على الاستبعاد كقولهم: من " يحيى العظام وهي رميم " يس: 78، وقولهم: " إذا ضللنا في الارض ءإنا لفي خلق جديد " ألم السجدة: 10. وقوله: " ولئن رددت إلى ربى لا جدن خيرا منها منقلبا مبني على ما تقدم من دعوى كرامه النفس واستحقاق الخير، ويورث ذلك في الانسان رجاء كاذبا بكل
________________________________________
[ 312 ]
خير وسعادة من غير عمل يستدعيه يقول: من المستبعد أن تقوم الساعة ولئن قامت ورددت إلى ربى لاجدن بكرامة نفسي - ولا يقول: يؤتيني ربى - خيرا من هذه الجنة منقلبا أنقلب إليه. وقد خدعت هذا القائل نفسه فيما ادعت من الكرامة حتى أقسم على ما قال كما يدل عليه لام القسم في قوله: " ولئن رددت " ولام التأكيد ونونها في قوله: " لاجدن " وقال: " رددت " ولم يقل: ردني ربي إليه، وقال: " لاجدن " ولم يقل: آتانى الله. والايتان كقوله تعالى: " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي ومأ أظن الساعة قائمه ولئن رجعت إلى ربي ان لي عنده للحسنى " حم السجدة: 50. قوله تعالى قال: " له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذى خلقك من تراب ثم من نطفه ثم سواك رجلا " الاية وما بعدها إلى تمام أربع آيات رد من صاحب الرجل يرد به قوله: " أنا اكثر منك مالا واعز نفرا " ثم قوله إذ دخل جنته " ما اظن ان تبيد هذه أبدا " وقد حلل الكلام من حيث غرض المتكلم ألى جهتين: إحداهما استعلاؤه على الله سبحانه بدعوى استقلاله في نفسه وفيما يملكه من مال ونفر واستثناؤه بما عنده من القدرة والقوة والثانية استعلاؤه على صاحبه واستهانته به بالقلة والذلة ثم رد كلا من الدعويين بما يحسم مادتها ويقطعها من اصلها فقوله: " أكفرت بالذي خلقك - إلى قوله - إلا بالله " رد لاولى الدعويين، وقوله " إن ترن انا اقل - إلى قوله - طلبا " رد للثانية. فقوله: " قال له صاحبه وهو يحاوره " في إعادة جملة " وهو يحاوره " إشارة إلى أنه لم ينقلب عما كان عليه من سكينة الايمان ووقاره باستماع ما استمعه من الرجل بل جرى على محاورته حافظا آدابه ومن أدبه إرفاقه به في الكلام وعدم خشونته بذكر ما يعد دعاء عليه يسوؤه عادة فلم يذكر ولده بسوء كما ذكر جنته بل اكتفى فيه بما يرمز إليه ما ذكره في جنته من إمكان صيرورتها صعيدا زلقا وغور مائها. وقوله: " أكفرت بالذي خلقك " الخ الاستفهام للانكار ينكر عليه ما اشتمل عليه كلامه من الشرك بالله سبحانه بدعوى الاستقلال لنفسه وللاسباب والمسببات كما
________________________________________
[ 313 ]
تقدمت الاشاره إليه ومن فروع شركه استبعاده قيام الساعة وتردده فيه. وأما ما ذكره في الكشاف أنه جعله كافرا بالله جاحدا لا نعمه لشكه في البعث كما يكون المكذب بالرسول كافرا فغير سديد كيف ؟ وهو يذكر في استدراكه نفي الشرك عن نفسه، ولو كان كما قال لذكر فيه الايمان بالمعاد. فإن قلت: الايات صريحة في شرك الرجل والمشركون ينكرون المعاد. قلت لم يكن الرجل من المشركين بمعنى عبدة الاصنام وقد اعترف في خلال كلامه بما لا تجيزه اصول الوثنية فقد عبر عنه سبحانه بقوله: " ربي " ولا يراه الوثنيون ربا للانسان ولا إلها معبودا وإنما هو عندهم رب الارباب وإله الالهة، ولم ينف المعاد من اصله كما تقدمت الاشاره إليه بل تردد فيه واستبعده بالاعراض عن التفكر فيه ولو نفاه لقال: ولو رددت ولم يقل: ولئن رددت إلى ربي. فما يذكر لامره من الاثر السئ في الاية إنما هو لشركه بمعنى نسيانه ربه ودعواه الاستقلال لنفسه وللاسباب الظاهرية ففيه عزله تعالى عن الربوبية والقاء زمام الملك والتدبير إلى غيره فهذا هو اصل الفساد الذي عليه ينشأ كل فرع فاسد سواء اعترف معه بلسانه بالتوحيد أو انكره واثبت الالهة، قال الزمخشري في قوله تعالى قال: " ما أظن ان تبيد هذه ابدا " ونعم ما قال: وترى اكثر الاغنياء من المسلمين وان لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم فإن السنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه. انتهى. وقد ابطل هذا المؤمن دعوى صاحبه الكافر بقوله: " أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا " بإلفات نظره إلى اصله وهو التراب ثم النطفة فإن ذلك هو اصل الانسان فما زاد على ذلك حتى يصير الانسان انسانا سويا ذا صفات وآثار من موهبة الله محضا لا يملك اصله شيأ من ذلك، ولا غيره من الاسباب الظاهرية الكونية فإنها أمثال الانسان لا تملك شيأ من نفسها وآثار نفسها الا بموهبة من الله سبحانه. فما عند الانسان وهو رجل سوي من الانسانية وآثارها من علم وحياة وقدرة وتدبير يسخر بها الاسباب الكونيه في سبيل الوصول إلى مقاصده ومآربه كل ذلك مملوكه لله محضا، آتاها الانسان وملكه اياها ولم يخرج بذلك عن ملك الله ولا انقطع
________________________________________
[ 314 ]
عنه بل تلبس الانسان منها بما تلبس فانتسب إليه بمشيته ولو لم يشأ لم يملك الانسان شيئا من ذلك فليس للانسان ان يستقل عنه تعالى في شئ من نفسه وآثار نفسه ولا لشئ من الاسباب الكونية ذلك. يقول: انك ذاك التراب ثم المني الذي ما كان يملك من الانسانية والرجولية وآثار ذلك شيأ والله سبحانه هو الذي آتاكها بمشيته وملكها اياك وهو المالك لما ملكك فما لك تكفر به وتستر ربوبيته ؟ واين انت والاستقلال ؟ قوله تعالى: " لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا القراءة المشهورة " لكن " بفتح النون المشددة من غير الف في الوصل واثباتها وقفا، واصله على ما ذكروه " لكن أنا " حذفت الهمزة بعد نقل فتحتها إلى النون وأدغمت النون في النون فالوصل بنون مشددة مفتوحة من غير الف والوقف بالالف كما في " أنا " ضمير التكلم. وقد كرر في الاية لفظ " ربى " والثاني من وضع الظاهر موضع المضمر وحق السياق " ولا أشرك به أحدا " وذلك للاشارة إلى علة الحكم بتعليقه بالوصف كأنه قال: ولا أشرك به أحدا لانه ربي ولا يجوز الاشراك به لربوبيته. وهذا بيان حال من المؤمن قبال ما ادعاه الكافر لنفسه والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " ولو لا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله " من تتمة قول المؤمن لصاحبه الكافر، وهو تحضيض وتوبيخ لصاحبه إذ قال لما دخل جنته: " ما أظن أن تبيد هذه أبدا " وكان عليه أن يبدله من قوله: " ما شاء الله لا قوه إلا بالله " فينسب الامر كله إلى مشية الله ويقصر القوة فيه تعالى مبنيا على ما بينه له أن كل نعمة بمشية الله ولا قوة إلا به. وقوله: " ما شاء الله " إما على تقدير: الامر ما شاءه الله، أو على تقدير: ما شاءه الله كائن، وما على التقديرين موصولة ويمكن أن تكون شرطية والتقدير ما شاءه الله كان، والاوفق بسياق الكلام هو أول التقادير لان الغرض بيان رجوع الامور إلى مشية الله تعالى قبال من يدعي الاستقلال والاستغناء. وقوله: " لا قوة إلا بالله " يفيد قيام القوة بالله وحصر كل قوة فيه بمعنى أن ما
________________________________________
[ 315 ]
ظهر في مخلوقاته تعالى من القوة القائمة بها فهو بعينه قائم به من غير أن ينقطع ما أعطاه منه فيستقل به الخلق قال تعالى: " أن القوة لله جميعا " البقرة: 165. وقد تم بذلك الجواب عما قاله الكافر لصاحبه وما قاله عند ما دخل جنته. قوله تعالى: " إن ترن انا اقل منك ما لا وولدا فعسى " إلى آخر الايتين قال في المجمع: أصل الحسبان السهام التي ترمي لتجرى في طلق واحد وكان ذلك من رمي الاساورة وأصل الباب الحساب، وإنما يقال لما يرمي به: حسبان لانه يكثر كثرة الحساب. قال: والزلق الارض الملساء المستوية لا نبات فيها ولا شئ وأصل الزلق ما تزلق عنه الاقدام فلا تثبت عليه. انتهى. وقد تقدم أن الصعيد هو سطح الارض مستويا لا نبات عليه: والمراد بصيرورة الماء غورا صيرورته غائرا ذاهبا في باطن الارض. والايتان كما تقدمت الاشارة إليه رد من المؤمن لصاحبه الكافر من جهة ما استعلى عليه بأنه اكثر منه مالا وأعز نفرا، وما أورده من الرد مستخرج من بيانه السابق ومحصله أنه لما كانت الامور بمشيه الله وقوته وقد جعلك أكثر مني مالا وأعز نفرا فالامر في ذلك إليه لا اليك حتى تتبجح وتستعلي على فمن الممكن المرجو أن يعطيني خيرا من جنتك ويخرب جنتك فيديرنى إلى حال أحسن من حالك اليوم ويديرك إلى حال أسوء من حالي اليوم فيجعلني أغنى منك بالنسبة الي ويجعلك أفقر مني بالنسبه اليك. والظاهر أن تكون " ترن " في قوله: " ان ترن أنا أقل " الخ من الرأي بمعنى الاعتقاد فيكون من أفعال القلوب، و " أنا " ضمير فصل متخلل بين مفعوليه اللذين هما في الاصل مبتدأ وخبر، ويمكن أن يكون من الرؤية بمعنى الابصار فأنا ضمير رفع أكد به مفعول " ترن " المحذوف من اللفظ. ومعنى الاية ان ترنى أنا أقل منك مالا وولدا فلا بأس والامر في ذلك إلى ربي فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك ويرسل عليها أي على جنتك مرامي من عذابه السماوي كبرد أو ريح سموم أو صاعقة أو نحو ذلك فتصبح أرضا خالية ملساء لا شجر عليها ولا زرع، أو يصبح ماؤها غائرا فلن تستطيع أن تطلبه لا معانه في الغور.
________________________________________
[ 316 ]
قوله تعالى: " واحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه " إلى آخر الاية الاحاطة بالشئ كناية عن هلاكه، وهي مأخوذه من احاطة العدو واستدارته به من جميع جوانبه بحيث ينقطع عن كل معين وناصر وهو الهلاك، قال تعالى: " وظنوا أنهم أحيط بهم " يونس 22. وقوله: " فأصبح يقلب كفيه " كناية عن الندامة فإن النادم كثيرا ما يقلب كفيه ظهرا لبطن وقوله: " وهي خاوية على عروشها " كناية عن كمال الخراب كما قيل فإن البيوت الخربة المنهدمة تسقط أولا عروشها وهي سقوفها على الارض ثم تسقط جدرانها على عروشها الساقطة والخوي السقوط وقيل: الاصل في معناه الخلو. وقوله: " ويقول يا ليتني لم اشرك بربي أحدا " أي يا ليتني لم أتعلق بما تعلقت به ولم أركن ولم أطمئن إلى هذه الاسباب التي كنت أحسب أن لها استقلالا في التأثير وكنت أرجع الامر كله إلى ربي فقد ضل سعيي وهلكت نفسي. والمعنى: وأهلكت أنواع ماله أو فسد ثمر جنته فأصبح نادما على المال الذي أنفق والجنة خربة ويقول يا ليتنى لم اشرك بربي أحدا ولم أسكن إلى ما سكنت إليه واغتررت به من نفسي وسائر الاسباب التي لم تنفعني شيئا. قوله تعالى: " ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا " الفئة الجماعة، والمنتصر الممتنع. وكما كانت الايات الخمس الاولى أعني قوله: " قال له صاحبه - إلى قوله طلبا " بيانا قوليا لخطأ الرجل في كفره وشركه كذلك هاتان الايتان أعني قوله: " واحيط بثمره - إلى قوله - وما كان منتصرا " بيان فعلي له أما تعلقه بدوام الدنيا واستمرار زينتها في قوله: " ما أظن أن تبيد هذه أبدا " فقد جلى له الخطأ فيه حين احيط بثمره فأصبحت جنته خاوية على عروشها، وأما سكونه إلى الاسباب وركونه إليها وقد قال لصاحبه " أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا " فبين خطاؤه فيه بقوله تعالى: " ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله " وأما دعوى استقلاله بنفسه وتبجحه بها فقد أشير إلى جهة بطلانها بقوله تعالى: " وما كان منتصرا.
________________________________________
[ 317 ]
قوله تعالى: " هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا وخير عقبا " القراءة المشهورة " الولاية " بفتح الواو وقرئ بكسرها والمعنى واحد، وذكر بعضهم أنها بفتح الواو بمعنى النصرة وبكسرها بمعنى السلطان، ولم يثبت وكذا " الحق " بالجر، والثواب مطلق التبعة والاجر وغلب في الاجر الحسن الجميل، والعقب بالضم فالسكون وبضمتين العاقبة. ذكر المفسرون أن الاشارة بقوله: " هنالك " إلى معنى قوله: " أحيط بثمره " أي في ذلك الموضع أو في ذلك الوقت وهو موضع الاهلاك ووقته الولاية لله، وأن الولاية بمعنى النصرة أي إن الله سبحانه هو الناصر للانسان حين يحيط به البلاء وينقطع عن كافة الاسباب لا ناصر غيره. وهذا معنى حق في نفسه لكنه لا يناسب الغرض المسوق له الايات وهو بيان أن الامر كله لله سبحانه وهو الخالق لكل شئ المدبر لكل أمر وليس لغيره إلا سراب الوهم وتزيين الحياة لغرض الابتلاء والامتحان، ولو كان كما ذكروه لكان الانسب توصيفه تعالى في قوله: " لله الحق " بالقوة والعزة والقدرة والغلبة ونحوها لا بمثل الحق الذي يقابل الباطل، وأيضا لم يكن لقوله: " هو خير ثوابا وخير عقبا " وجه ظاهر وموقع جميل. والحق والله أعلم أن الولاية بمعنى مالكية التدبير وهو المعنى السارى في جميع اشتقاقاتها كما مر في الكلام على قوله تعالى: " إنما وليكم الله ورسوله " المائدة: 55 أي عند إحاطة الهلاك وسقوط الاسباب عن التأثير وتبين عجز الانسان الذي كان يرى لنفسه الاستقلال والاستغناء ولاية أمر الانسان وكل شئ وملك تدبيره لله لانه إله حق له التدبير والتأثير بحسب واقع الامر وغيره من الاسباب الظاهرية المدعوة شركاء له في التدبير والتأثير باطل في نفسه لا يملك شيئا من الاثر إلا ما أذن الله له وملكه إياه، وليس له من الاستقلال إلا اسمه بحسب ما توهمه الانسان فهو باطل في نفسه حق بالله سبحانه والله هو الحق بذاته المستقل الغني في نفسه. وإذا اخذ بالقياس بينه - تعالى عن القياس - وبين غيره من الاسباب المدعوة شركاء في التأثير كان الله سبحانه خيرا منها ثوابا فانه يثيب من دان له ثوابا حقا وهي
________________________________________
[ 318 ]
تثيب من دان لها وتعلق بها ثوابا باطلا زائلا لا يدوم وهو مع ذلك من الله وبإذنه، وكان الله سبحانه خيرا منها عاقبه لانه سبحانه هو الحق الثابت الذي لا يفنى ولا يزول ولا يتغير عما هو عليه من الجلال والاكرام، وهى امور فانية متغيرة جعلها الله زينة للحياة الدنيا يتوله إليها الانسان وتتعلق بها قلبه حتى يبلغ الكتاب أجله وإن الله لجاعلها صعيدا جرزا. وإذا كان الانسان لا غنى له عن التعلق بشئ ينسب إليه التدبير ويتوقع منه إصلاح شأنه فربه خير له من غيره لانه خير ثوابا وخير عقبا. وذكر بعضهم أن الاشارة بقوله: " هنالك " إلى يوم القيامة فيكون المراد بالثواب والعقب ما في ذلك اليوم. والسياق كما تعلم لا يساعد على شئ من ذلك. قوله تعالى: " واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء الخ هذا هو المثل الثاني ضرب لتمثيل الحياه الدنيا بما يقارنها من الزينة السريعة الزوال. والهشيم فعيل بمعنى مفعول من الهشم، وهو على ما قال الراغب كسر الشئ الرخو كالنبات، وذرا يذرو ذروا أي فرق، وقيل: أي جاء به وذهب، وقوله: " فاختلط به نبات الارض " ولم يقل: اختلط بنبات الارض إشارة إلى غلبته في تكوين النبات على سائر أجزائه، ولم يذكر مع ماء السماء غيره من مياه العيون والانهار لان مبدء الجميع ماء المطر، وقوله: " فأصبح هشيما " أصبح فيه - كما قيل - بمعنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح. والمعني: واضرب لهؤلاء المتولهين بزينة الدنيا المعرضين عن ذكر ربهم مثل الحياة الدنيا كماء انزلناه من السماء وهو المطر فاختلط به نبات الارض فرف نضارة وبهجة وظهر بأجمل حليه فصار بعد ذلك هشيما مكسرا متقطعا تعبث به الرياح تفرقه وتجئ به وتذهب وكان الله على كل شئ مقتدرا. قوله تعالى: " المال والبنون زينة الحياة الدنيا " إلى آخر الاية. الاية بمنزله النتيجة للمثل السابق وهي أن المال والبنين وإن تعلقت بها القلوب وتاقت إليها النفوس تتوقع منها الانتفاع وتحف بها الامال لكنها زينة سريعة الزوال غارة لا يسعها أن تثيبه
________________________________________
[ 319 ]
وتنفعه في كل ما أراده منها ولا أن تصدقه في جميع ما يأمله ويتمناه بل ولا في أكثره ففى الاية - كما ترى - انعطاف إلى بدء الكلام أعني قوله: " إنا جعلنا ما على الارض زينة لها " الايتين. وقوله: " والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا " المراد بالباقيات الصالحات الاعمال الصالحة فإن أعمال الانسان محفوظة له عند الله بنص القرآن فهي باقية وإذا كانت صالحة فهي باقيات صالحات، وهى عند الله خير ثوابا لان الله يجازي الانسان الجائي بها خير الجزاء، وخير أملا لان ما يؤمل بها من رحمة الله وكرامته ميسور للانسان فهي أصدق أملا من زينات الدنيا وزخارفها التي لا تفى للانسان في أكثر ما تعد، والامال المتعلقة بها كاذبة على الاغلب وما صدق منها غار خدوع. وقد ورد من طرق الشيعة وأهل السنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن طرق الشيعة عن أئمه أهل البيت عليهم السلام عدة من الروايات: أن الباقيات الصالحات التسبيحات الاربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وفي أخرى انها الصلاة وفي اخرى مودة اهل البيت وهي جميعا من قبيل الجري والانطباق على المصداق ي * * * ويوم نسير الجبال وترى الارض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا (47). وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا (48). ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا (49). وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن
________________________________________
[ 320 ]
ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا (50). ما أشهدتهم خلق السموات والارض ولا خلق أنفسهم وما كنت متخذ المضلين عضدا (51). ويوم يقول نادوا شركاءي الذين زعمتم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم وجعلنا بينهم موبقا (52). ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا (53). ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الانسان أكثر شئ جدلا (54). وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الاولين أو يأتيهم العذاب قبلا (55). وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق واتخذوا آياتي وما انذروا هزوا (56). ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرآ وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا (57). وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا (58). وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا (59).
________________________________________
[ 321 ]
بيان الايات متصلة بما قبلها تسير مسيرها في تعقيب بيان أن هذه الاسباب الظاهرية وزخارف الدنيا الغارة زينة الحياة سيسرع إليها الزوال ويتبين للانسان أنها لا تملك له نفعا ولا ضرا وإنما يبقى للانسان أو عليه عمله فيجازى به. وقد ذكرت الايات أولا قيام الساعة ومجئ الانسان فردا ليس معه إلا عمله ثم تذكر إبليس وإباءه عن السجدة لادم وفسقه عن أمر ربه وهم يتخذونه وذريته أولياء من دون الله وهم لهم عدو ثم تذكر يوم القيامة وإحضارهم وشركاءهم وظهور انقطاع الرابطة بينهم وتعقب ذلك آيات اخر في الوعد والوعيد، والجميع بحسب الغرض متصل بما تقدم. قوله تعالى: " يوم نسير الجبال وترى الارض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " الظرف متعلق بمقدر والتقدير " واذكر يوم نسير " وتسيير الجبال بزوالها عن مستقرها وقد عبر سبحانه عنه بتعبيرات مختلفة كقوله: " وكانت الجبال كثيبا مهيلا: المزمل: 14 وقوله: " وتكون الجبال كالعهن المنفوش " القارعة: 5 وقوله: " فكانت هباء منبثا " الواقعة: " 6، وقوله: " وسيرت الجبال فكانت سرابا " النبا: 20. والمستفاد من السياق أن بروز الارض مترتب على تسيير الجبال فإذا زالت الجبال والتلال ترى الارض بارزه لا تغيب ناحية منها عن أخرى بحائل حاجز ولا يستتر صقع منها عن صقع بساتر، وربما احتمل أن تشير إلى ما في قوله: " وأشرقت الارض بنور ربها " الزمر: 69. وقوله: " وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا " أي لم نترك منهم أحدا فالحشر عام للجميع. قوله تعالى وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة الخ السياق يشهد على أن ضمير الجمع في قوله: " عرضوا " وكذا ضميرا الجمع في الاية السابقة
________________________________________
[ 322 ]
للمشركين وهم الذين اطمأنوا إلى أنفسهم والاسباب الظاهرية التي ترتبط بها حياتهم، وتعلقوا بزينة الحياة كالمتعلق بأمر دائم باق فكان ذلك انقطاعا منهم عن ربهم، وإنكارا للرجوع إليه، وعدم مبالاة بما يأتون به من الاعمال أرضى الله أم أسخطه. وهذه حالهم ما دام أساس الامتحان الالهي والزينة المعجلة بين أيديهم والاسباب الظاهرية حولهم ولما يقض الامر أجله ثم إذا حان الحين وتقطعت الاسباب وطاحت الامال وجعل الله ما عليها من زينة صعيدا جرزا لم يبق إذ ذاك لهم إلا ربهم وأنفسهم وصحيفة أعمالهم المحفوظة عليهم، وعرضوا على ربهم - وليسوا يرونه ربا لهم وإلا لعبدوه - صفا واحدا لا تفاضل بينهم بنسب أو مال أو جاه دنيوى لفصل القضاء تبين لهم عند ذلك أن الله هو الحق المبين وأن ما يدعونه من دونه وتعلقت به قلوبهم من زينة الحياة واستقلال أنفسهم والاسباب المسخرة لهم ما كانت إلا أو هاما لا تغني عنهم من الله شيئا وقد أخطأوا إذ تعلقوا بها وأعرضوا عن سبيل ربهم ولم يجروا على ما أراده منهم بل كان ذلك منهم لانهم توهموا أن لا موقف هناك يوقفون فيه فيحاسبون عليه. وبهذا البيان يظهر أن هذه الجمل الاربع: " وعرضوا " الخ " لقد جئتمونا " الخ " بل ظننتم " الخ " ووضع الكتاب " الخ نكت أساسية مختارة من تفصيل ما يجري يومئذ بينهم وبين ربهم من حين يحشرون إلى أن يحاسبوا، وأكتفي بها إيجازا في الكلام لحصول الغرض بها. فقوله: " وعرضوا على ربك صفا " اشارة أولا إلى أنهم ملجؤون إلى الرجوع إلى ربهم ولقائه فيعرضون عليه عرضا من غير أن يختاروه لانفسهم، وثانيا أن لا كرامة لهم في هذا اللقاء ويشعر به قوله: " على ربك " ولو أكرموا لقيل: ربهم كما قال: " جزاؤهم عند ربهم جنات عدن " البينة: 8 وقال: " إنهم ملاقوا ربهم " هود: 29 " أو قيل: عرضوا علينا جريا على سياق التكلم السابق، وثالثا أن أنواع التفاضل والكرامات الدنيوية التى اختلقتها لهم الاوهام الدنيوية من نسب ومال وجاه قد طاحت عنهم فصفوا صفا واحدا لا تميز فيه لعال من دان ولا لغني من فقير ولا لمولى من عبد، وإنما الميز اليوم بالعمل وعند ذلك يتبين لهم أنهم أخطأوا الصواب في حياتهم
________________________________________
[ 323 ]
الدنيا وضلوا السبيل فيخاطبون بمثل قوله: " لقد جئتمونا " الخ. وقوله " لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة " مقول القول والتقدير وقال لهم أو قلنا لهم: لقد جئتمونا الخ، وفي هذا بيان خطاهم وضلالهم في الدنيا إذ تعلقوا بزينتها وزخرفها فشغلهم ذلك عن سلوك سبيل الله والاخذ بدينه. وقوله " بل ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا " في معنى قوله " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم الينا لا ترجعون " المؤمنون: 115 والجملة إن كانت إضرابا عن الجمله السابقة على ظاهر السياق فالتقدير ما في معنى قولنا: شغلتكم زينه الدنيا وتعلقكم بأنفسكم وبظاهر الاسباب عن عبادتنا وسلوك سبيلنا بل ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا تلقوننا فيه فتحاسبوا وبتعبير آخر: أن اشتغالكم بالدنيا وتعلقكم بزينتها وأن كان سببا في الاعراض عن ذكرنا واقتراف الخطيئات لكن كان هناك سبب هو أقدم منه وهو الاصل وهو أنكم ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا فنسيان المعاد هو الاصل في ترك الطريق وفساد العمل قال تعالى: " إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " ص: 26. والوجه في نسبة الظن بنفي المعاد إليهم أن انقطاعهم إلى الدنيا وتعلقهم بزينتها ومن يدعونه من دون الله فعل من ظن أنها دائمة باقية لهم وانهم لا يرجعون إلى الله فهو ظن حالى عملي منهم ويمكن أن يكون كناية عن عدم اعتنائهم بأمر الله واستهانتهم بما انذروا به نظير قوله تعالى: " ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون " حم السجدة: 22. ومن الجائز ان يكون قوله: " بل ظننتم أن لن نجعل لكم موعدا " اضرابا عن اعتذار لهم مقدر بالجهل ونحوه والله اعلم. قوله تعالى: " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا " إلى آخر الاية وضع الكتاب نصبه ليحكم عليه، ومشفقين من الشفقة واصلها الرقة، قال الراغب في المفردات: الاشفاق عناية مختلطة بخوف لان المشفق يحب المشفق عليه ويخاف ما يلحقه قال تعالى: " وهم من الساعة مشفقون " فإذا عدي بمن فمعنى
________________________________________
[ 324 ]
الخوف فيه أظهر، وإذا عدي بفي فمعنى العناية فيه اظهر، قال تعالى: " انا كنا قبل في اهلنا مشفقين " " مشفقون منها " انتهى. والويل الهلاك، ونداؤه عند المصيبة - كما قيل - كناية عن كون المصيبة أشد من الهلاك فيستغاث بالهلاك لينجى من المصيبة كما ربما يتمنى الموت عند المصيبة قال تعالى: " يا ليتنى مت قبل هذا " مريم: 23. وقوله: " ووضع الكتاب " ظاهر السياق أنه كتاب واحد يوضع لحساب أعمال الجميع ولا ينافى ذلك وضع كتاب خاص بكل انسان والايات القرآنية دالة على أن لكل انسان كتابا ولكل امة كتابا وللكل كتابا قال تعالى: " وكل انسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا " الاية: اسرى: 13 وقد تقدم الكلام فيها، وقال: " كل امه تدعى إلى كتابها " الجاثية: 28 وقال: " هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق " الجاثية: 29 وسيجئ الكلام في الايتين ان شاء الله تعالى. وقيل: المراد بالكتاب كتب الاعمال واللام للاستغراق، والسياق لا يساعد عليه. وقوله: " فترى المجرمين مشفقين مما فيه " تفريع الجملة على وضع الكتاب وذكر إشفاقهم مما فيه دليل على كونه كتاب الاعمال أو كتابا فيه الاعمال، وذكرهم بوصف الاجرام للاشارة إلى علة الحكم وأن إشفاقهم مما فيه لكونهم مجرمين فالحكم يعم كل مجرم وإن لم يكن مشركا. وقوله: " ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها " الصغيرة والكبيرة وصفان قامتا مقام موصوفهما وهو الخطيئة أو المعصية أو الهنة ونحوها. وقولهم هذا إظهار للدهشة والفزع من سلطه الكتاب في إحصائه للذنوب أو لمطلق الحوادث ومنها الذنوب في صورة الاستفهام التعجيبي، ومنه يعلم وجه تقديم الصغيرة على الكبيرة في قوله: " صغيرة ولا كبيرة " مع أن الظاهر أن يقال: " لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها بناء على أن الكلام في معنى الاثبات وحق الترقي فيه أن يتدرج من الكبير إلى الصغير هذا، وذلك لان المراد - والله - أعلم - لا يغادر صغيرة لصغرها
________________________________________
[ 325 ]
ودقتها ولا كبيرة لكبرها ووضوحها، والمقام مقام الاستفزاع في صورة التعجيب واحصاء الصغيرة على صغرها ودقتها أقرب إليه من غيرها. وقوله: " ووجدوا ما عملوا حاضرا " ظاهر السياق كون الجملة تأسيسا لا عطف تفسير لقوله: " لا يغادر صغيرة ولا كبيرة " الخ وعليه فالحاضر عندهم نفس الاعمال بصورها المناسبة لها لا كتابتها كما هو ظاهر أمثال قوله: " يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون " التحريم: 7، ويؤيده قوله بعده: " وما يظلم ربك أحدا " فإن انتفاء الظلم بناء على تجسم الاعمال أوضح لان ما يجزون به إنما هو عملهم يرد إليهم ويلحق بهم لا صنع في ذلك لاحد فافهم ذلك. قوله تعالى: " وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لادم فسجدوا إلا ابليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه " تذكير ثان لهم بما جرى بينه تعالى وبين ابليس حين أمر الملائكة بالسجود لابيهم آدم فسجدوا الا ابليس كان من الجن فتمرد عن أمر ربه. أي واذكر هذه الواقعة حتى يظهر لهم أن ابليس - وهو من الجن - وذريته عدو لهم لا يريدون لهم الخير فلا ينبغى لهم أن يفتتنوا بما يزينه لهم هو وذريته من ملاذ الدنيا وشهواتها والاعراض عن ذكر الله ولا أن يطيعوهم فيما يدعونهم إليه من الباطل. وقوله: " أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو " تفريع على محصل الواقعة والاستفهام للانكار أي ويتفرع على الواقعة أن لا تتخذوه وذريته أولياء والحال انهم اعداء لكم معشر البشر، وعلى هذا فالمراد بالولاية ولاية الطاعة حيث يطيعونه وذريته فيما يدعونهم فقد اتخذوهم مطاعين من دون الله، وهكذا فسرها المفسرون. وليس من البعيد أن يكون المراد بالولاية ولاية الملك والتدبير وهو الربوبية فإن الوثنية كما يعبدون الملائكة طمعا في خيرهم كذلك يعبدون الجن اتقاء من شرهم، وهو سبحانه يصرح بأن ابليس من الجن وله ذرية وأن ضلال الانسان في صراط سعادته وما يلجمه من أنواع الشقاء إنما هو بإغواء الشيطان فالمعنى أفتتخذونه وذريته آلهة وأربابا من دوني تعبدونهم وتتقربون إليهم وهم لكم عدو ؟ ويؤيده الاية التالية فإن عدم إشهادهم الخلقة انما يناسب انتفاء ولاية التدبير عنهم لا انتفاء ولاية الطاعة وهو ظاهر.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page