• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 251 الي 275


[ 251 ]
والايات الثلاث تحكي الشطر الاول من محاورتهم حين انتهضوا لمخالفة الوثنية ومخاصمتهم إذ " قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والارض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا. وقد أتوا بكلام مملوء حكمة وفهما راموا به إبطال ربوبية أرباب الاصنام من الملائكه والجن و المصلحين من البشر الذين رامت الفلسفة الوثنية إثبات الوهيتهم وربوبيتهم دون نفس الاصنام التي هي تماثيل وصور لاولئك الارباب تدعوها عامتهم آلهة وأربابا، ومن الشاهد على ذلك قوله: " عليهم " حيث أرجع إليهم ضمير " هم " المختص بأولي العقل. فبدؤا بإثبات توحيده بقولهم: " ربنا رب السماوات والارض " فأسندوا ربوبية الكل إلى واحد لا شريك له، والوثنية تثبت لكل نوع من أنواع الخلقية إلها وربا كرب السماء ورب الارض ورب الانسان. ثم أكدوا ذلك بقولهم: " لن ندعوا من دونه إلها " ومن فائدته نفى الالهة الذين تثبتهم الوثنية فوق أرباب الانواع كالعقول الكلية التي تعبده الصابئة وبرهما وسيوا ووشنو الذين تعبدهم البراهمة والبوذية وأكدوه ثانيا بقولهم: " لقد قلنا إذا شططا " فدلوا على أن دعوة غيرة من التجاوز عن الحد بالغلو في حق المخلوق برفعه إلى درجة الخالق. ثم كروا على القوم في عبادتهم غير الله سبحانه باتخاذهم آلهة فقالوا: هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فردوا قولهم بأنهم لا برهان لهم على ما يدعونه يدل عليه دلالة بينة. وما استدلوا به من قولهم: إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به إدراك خلقه فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة ولا التقرب إليه بالعبودية فلا يبقى لنا إلا أن نعبد بعض الموجودات الشريفة من عباده المقربين ليقربونا إليه زلفى ! مردود إليهم أما عدم إحاطة الادراك به تعالى فهو مشترك بيننا معاشر البشر وبين من يعبدونه من
________________________________________
[ 252 ]
العباد المقربين، والجميع منا ومنهم يعرفونه بأسمائه وصفاته وآثاره كل على قدر طاقته فله أن يتوجه إليه بالعبادة على قدر معرفته. على أن جميع الصفات الموجبة لاستحقاق العبادة من الخلق والرزق والملك والتدبير له وحده ولا يملك غيره شيئا من ذلك فله أن يعبد وليس لغيره ذلك. ثم اردفوا قولهم: " لو لا يأتون عليهم بسلطان بين " بقولهم " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا " وهو من تمام الحجة الرادة لقولهم، ومعناه أن عليهم أن يقيموا برهانا قاطعا على قولهم فلو لم يقيموه كان قولهم من القول بغير علم في الله وهو افتراء الكذب عليه تعالى، والافتراء ظلم والظلم على الله أعظم الظلم. هذا فقد دلوا بكلامهم هذا أنهم كانوا علماء بالله اولي بصيرة في دينهم، وصدقوا قوله تعالى " وزدناهم هدى " وفي الكلام على ما به من الايجاز قيود تكشف عن تفصيل نهضتهم في بادئها فقوله تعالى: " وربطنا على قلوبهم " يدل على أن قولهم: ربنا رب السماوات والارض " الخ لم يكن بإسرار النجوى وفي خلا من عبدة الاوثان بل كان بإعلان القول والاجهار به في ظرف تذوب منه القلوب وترتاع النفوس وتقشعر الجلود في ملاء معاند يسفك الدماء ويعذب ويفتن. وقوله: " لن ندعوا من دونه إلها " بعد قوله " ربنا رب السماوات والارض. - وهو جحد وإنكار - فيه إشعار وتلويح إلى أنه كان هناك تكليف إجباري بعبادة الاوثان ودعاء غير الله. وقوله: " إذ قاموا فقالوا " إلخ يشير إلى أنهم في بادئ قولهم كانوا في مجلس يصدر عنه الامر بعبادة الاوثان والاجبار عليها والنهي عن عبادة الله والسياسه المنتحلية بالقتل والعذاب كمجلس الملك أو ملاه أو ملا عام كذلك فقاموا وأعلنوا مخالفتهم وخرجوا واعتزلوا القوم وهم في خطر عظيم يهددهم ويهجم عليهم من كل جانب كما يدل عليه قولهم: " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون من دون الله فأووا إلى الكهف. هذا يؤيد ما وردت به الرواية - وسيجئ الخبر أن ستة منهم كانوا من خواص الملك يستشيرهم في اموره فقاموا من مجلس وأعلنوا التوحيد ونفي الشريك عنه تعالى.
________________________________________
[ 253 ]
ولا ينافي ذلك ما سيأتي من الروايات أنهم كانوا يسرون إيمانهم ويعملون بالتقية لجواز أن يكونوا سائرين عليها ثم يفاجؤوا القوم بإعلان الايمان ثم يعتزلوهم من غير مهل فلم تكن تسعهم إدامة التظاهر بالايمان وإلا قتلوا بلا شك. وربما احتمل أن يكون المراد بقيامهم قيامهم لله نصرة منهم للحق وقولهم: " ربنا رب السماوات والارض " الخ قولا منهم في أنفسهم وقولهم: وإذ اعتزلتموهم " الخ قولا منهم بعد ما خرجوا من المدينة، أو يكون المراد قيامهم لله " وجميع ما نقل من أقوالهم إنما قالوها فيما بين أنفسهم بعد ما خرجوا من المدينة وتنحوا عن القوم وعلى الوجهين يكون المراد بالربط على قلوبهم أنهم لم يخافوا عاقبة الخروج والهرب من المدينة وهجرة القوم لكن الاظهر هو الوجه الاول. قوله تعالى: " وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف " إلى آخر الاية الاعتزال والتعزل التنحي عن أمر والنشر البسط والمرفق بكسر الميم وفتح الفاء وبالعكس وبفتحهما المعاملة بلطف. هذا هو الشطر الثاني من محاورتهم جرت بينهم بعد خروجهم من بين الناس واعتزالهم إياهم وما يعبدون من دون الله وتنحيهم عن الجميع يشير به بعضهم عليهم أن يدخلوا الكهف ويتستروا فيه من أعداء الدين. وقد تفرسوا بهدي إلهي أنهم لو فعلوا ذلك عاملهم الله من لطفه ورحمته بما فيه نجاتهم من تحكم القوم وظلمهم والدليل على ذلك قولهم بالجزم: " فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته " الخ ولم يقولوا: عسى أن ينشر أو لعل. وهذان اللذان تفرسوا بهما من نشر الرحمة وتهيئة المرفق هما اللذان سألوهما بعد دخول الكهف إذ قالوا - كما حكى الله " ربنا آتنا من لدنك رحمة وهئ لنا من أمرنا رشدا ". والاستثناء في قوله: وما يعبدون إلا الله " استثناء منقطع فإن الوثنيين لم يكونوا يعبدون الله مع سائر آلهتهم حتى يفيد الاستثناء إخراج بعض ما دخل أولا في المستثنى منه فيكون متصلا فقول بعضهم: إنهم كانوا يعبدون الله ويعبدون
________________________________________
[ 254 ]
الاصنام كسائر المشركين. وكذا قول بعض آخر يجوز: إنه كان فيهم من يعبد الله مع عبادة الاصنام فيكون الاستثناء متصلا في غير محله، إذ لم يعهد من الوثنيين عبادة الله سبحانه مع عبادة الاصنام، وفلسفتهم لا تجيز ذلك، وقد أشرنا إلى حجتهم في ذلك آنفا. قوله تعالى: " وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال " إلى آخر الايتين التزاور هو التمايل مأخوذ من الزور بمعنى الميل والقرض القطع والفجوة المتسع من الارض وساحة الدار والمراد بذات اليمين وذات الشمال الجهة التي تلي اليمين أو الشمال أو الجهة ذات اسم اليمين أو الشمال وهما جهتا اليمين والشمال. وهاتان الايتان تمثلان الكهف ومستقرهم منه ومنظرهم وما يتقلب عليهم من الحال أيام لبثهم فيه وهم رقود والخطاب للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بما أنه سامع لا بما أنه هو، وهذا شائع في الكلام، والخطاب على هذا النمط يعم كل سامع من غير أن يختص بمخاطب خاص. فقوله وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه " يصف موقع الكهف وموقعهم فيه وهم نائمون وأما إنامتهم فيه بعد الاوي إليه ومدة لبثهم فيه فقد اكتفى في ذلك بما أشير إليه في الايات السابقة من إنامتهم ولبثهم وما سيأتي من قوله: " ولبثوا في كهفهم " " الخ " إيثارا للايجاز. والمعنى: وترى أنت وكل راء يفرض اطلاعه عليهم وهم في الكهف يرى الشمس إذا طلعت تتزاور وتتمايل عن كهفهم جانب اليمين فيقع نورها عليه، وإذا غربت تقطع جانب الشمال فيقع شعاعها عليه وهم في متسع من الكهف لا تناله الشمس. وقد أشار سبحانه بذلك إلى أن الكهف لم يكن شرقيا ولا غربيا لا يقع عليه شعاع الشمس إلا في أحد الوقتين بل كان قطبيا يحاذي ببابه القطب فيقع شعاع الشمس على أحد جانبيه من داخل طلوعا وغروبا، ولا يقع عليهم لانهم كانوا في متسع منه فوقاهم الله بذلك من أن يؤذيهم حر الشمس أو يغير ألوانهم أو يبلي ثيابهم بل كانوا
________________________________________
[ 255 ]
مرتاحين في نومتهم مستفيدين من روح الهواء المتحول عليهم بالشروق والغروب وهم في فجوة منه، ولعل تنكير فجوة للدلالة على وصف محذوف والتقدير وهم في فجوة منه لا يصيبهم فيه شعاعها. وقد ذكر المفسرون أن الكهف كان بابه مقابلا للقطب الشمالي يسامت بنات النعش، والجانب الايمن منه ما يلي المغرب ويقع عليه شعاع الشمس عند طلوعها والجانب الايسر منه ما يلي المشرق وتناله الشمس عند غروبها، وهذا مبني على أخذ جهتي اليمين والشمال للكهف باعتبار الداخل فيه، وكأن ذلك منهم تعويلا على ما هو المشهور أن هذا الكهف واقع في بلدة إفسوس من بلاد الروم الشرقي فإن الكهف الذي هناك قطبي يقابل بابه القطب الشمالي متمايلا قليلا إلى المشرق على ما يقال. والمعمول في اعتبار اليمين واليسار لمثل الكهف والبيت والفسطاط وكل ما له باب أن يؤخذا باعتبار الخارج منه دون الداخل فيه فإن الانسان أول ما أحس الحاجة إلى اعتبار الجهات أخذها لنفسه فسمى ما يلي رأسه وقدمه علوا وسفلا وفوق وتحت وسمى ما يلى وجهه قدام وما يقابله خلف، وسمى الجانب القوى منه وهو الذى فيه يده القوية يمينا، والذى يخالفه شمالا ويسارا ثم إذا مست الحاجة إلى اعتبار الجهات في شئ فرض الانسان نفسه مكانه فما كان من أطراف ذلك الشئ ينطبق عليه الوجه وهو الطرف الذي يستقبل به الشئ غيره تعين به قدامه وبما يقاطره خلفه وبما ينطبق عليه يمين الانسان من أطرافه يمينه وكذا بيسار الانسان يساره. وإذ كان الوجه في مثل البيت والدار والفسطاط وكل ما له باب طرفه الذي فيه الباب كان تعين يمينه ويساره باعتبار الخارج من الباب دون الداخل منه، وعلى هذا يكون الكهف الذي وصفته الاية بما وصفت جنوبيا يقابل بابه القطب الجنوبى لا كما ذكروه، وللكلام تتمة ستوافيك إنشاء الله. وعلى أي حال كان وضعهم هذا من عناية الله ولطفه بهم ليستبقيهم بذلك حتى يبلغ الكتاب أجله، واليه الاشارة بقوله عقيبه: " ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا. وقوله: " وتحسبهم أيقاظا وهم رقود " الايقاظ جمع يقظ ويقظان والرقود جمع
________________________________________
[ 256 ]
راقد وهو النائم، وفي الكلام تلويح إلى أنهم كانوا مفتوحي الاعين حال نومهم كالايقاظ. وقوله: " ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال " أي ونقلبهم جهة اليمين وجهة الشمال، والمراد نقلبهم تارة من اليمين إلى الشمال وتارة من الشمال إلى اليمين لئلا تأكلهم الارض، ولا تبلى ثيابهم ولا تبطل قواهم البدنية بالركود والخمود طول المكث. وقوله: " وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد " الوصيد فناء البيت وقيل: عتبه الدار والمعنى كانوا على ما وصف من الحال والحال أن كلبهم مفترش بذراعيه باسط لهما بفناء الكهف وفيه إخبار بأنهم كان لهم كلب يلازمهم وكان ماكثا معهم طول مكثهم في الكهف. وقوله: " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا " بيان أنهم وحالهم هذا الحال كان لهم منظر موحش هائل لو أشرف عليهم الانسان فر منهم خوفا من خطرهم تبعدا من المكروه المتوقع من ناحيتهم وملا قلبه الروع والفزع رعبا وسرى إلى جميع الجوارح فملا الجميع رعبا، والكلام في الخطاب الذي في قوله " لوليت " وقوله: " ولملئت " كالكلام في الخطاب الذي في قوله: " وترى الشمس ". وقد بان بما تقدم من التوضيح أولا: الوجه في قوله: ولملئت منهم رعبا " ولم يقل ولملئ قلبك رعبا. وثانيا: الوجه في ترتيب الجملتين: " لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا " وذلك أن الفرار وهو التبعد من المكروه معلول لتوقع وصول المكروه تحذرا منه، وليس بمعلول للرعب الذي هو الخشية وتأثر القلب، والمكروه المترقب يجب أن يتحذر منه سواء كان هناك رعب أو لم يكن. فتقديم الفرار على الرعب ليس من قبيل تقديم المسبب على سببه بل من تقديم حكم الخوف على الرعب وهما حالان متغايران قلبيان، ولو كان بدل الخوف من الرعب لكان من حق الكلام تقديم الجملة الثانية وتأخير الاولى وأما بناء على ما ذكرناه فتقديم حكم الخوف على حصول الرعب وهما جميعا أثران للاطلاع على منظرهم الهائل الموحش أحسن وأبلغ لان الفرار أظهر دلالة على ذلك من الامتلاء بالرعب.
________________________________________
[ 257 ]
قوله تعالى: " وكذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم " إلى آخر الايتين التساؤل سؤال بعض القوم بعضا، والورق بالفتح فالكسر: الدراهم، وقيل هو الفضة مضروبة كانت أو غيرها، وقوله: إن يظهروا عليكم أي إن يطلعوا عليكم أو أن يظفروا بكم. والاشارة بقوله: " وكذلك بعثناهم " إلى إنامتهم بالصورة التى مثلتها الايات السابقة أي كما أنمناهم في الكهف دهرا طويلا على هذا الوضع العجيب المدهش الذي كان آية من آياتنا كذلك بعثناهم وأيقظناهم ليتساءلوا بينهم. وهذا التشبيه وجعل التساؤل غاية للبعث مع ما تقدم من دعائهم لدى ورود الكهف وإنامتهم إثر ذلك يدل على أنهم إنما بعثوا من نومتهم ليتساءلوا فيظهر لهم حقيقة الامر، وإنما انيموا ولبثوا في نومتهم دهرا ليبعثوا، وقد نومهم الله إثر دعائهم ومسألتهم رحمة من عند الله واهتداء مهيأ من أمرهم فقد كان أزعجهم استيلاء الكفر على مجتمعهم وظهور الباطل وإحاطة القهر والجبر وهجم عليهم اليأس والقنوط من ظهور كلمة الحق وحرية أهل الدين في دينهم فاستطالوا لبث الباطل في الارض وظهوره على الحق كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنى يحيى هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه. وبالجملة لما غلبت عليهم هذه المزعمة واستياسوا من زوال غلبة الباطل أنامهم الله سنين عددا ثم بعثهم ليتساءلوا فيجيبوا بيوم أو بعض يوم ثم ينكشف لهم تحول الاحوال ومرور مآت من السنين عند غيرهم وهي بنظرة أخرى كيوم أو بعض يوم فيعلموا أن طول الزمان وقصره ليس بذاك الذي يميت حقا أو يحيى باطلا، وإنما هو الله سبحانه جعل ما على الارض زينة لها وجذب إليها الانسان وأجرى فيها الدهور والايام ليبلوهم أيهم أحسن عملا، وليس للدنيا إلا أن تغر بزينتها طالبيها ممن أخلد إلى الارض واتبع هواه. وهذه حقيقة لا تزال لائحة للانسان كلما انعطف على ما مرت عليه من أيامه السالفة وما جرت عليه من الحوادث حلوها ومرها وجدها كطائف في نومة أو سنة في مثل يوم غير أن سكر الهوى والتلهي بلهو الدنيا لا يدعه أن ينتبه للحق فيتبعه لكن لله سبحانه على الانسان يوم لا يشغله عن مشاهدة هذه الحقيقة شاغل من زينة الدنيا
________________________________________
[ 258 ]
وزخرفها وهو يوم الموت كما عن على عليه السلام: " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا " ويوم آخر وهو يوم يطوى فيه بساط الدنيا وزينتها ويقضى على العالم الانساني بالبيد والانقراض. وقد ظهر بما تقدم أن قوله: " تعالى ليتساءلوا بينهم غاية لبعنهم ؟ واللام لتعليل الغاية وتنطبق على ما مر من الغاية في قوله: " ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا. " وذكر بعضهم: أنه بعض الغاية وضع موضعها لاستتباعه لسائر آثار البعث كأنه قيل ليتساءلوا بينهم وينجر ذلك إلى ظهور أمرهم وانكشاف الاية وظهور القدرة وهذا مع عدم شاهد عليه من جهة اللفظ تكلف ظاهر. وذكر آخرون: أن اللام في قوله: " ليتساءلوا " للعاقبة دون الغاية استبعادا لان يكون التساؤل وهو أمر هين غاية للبعث وهو آية عظيمة وفيه أن جعل اللام للعاقبة لا يجدي نفعا في دفع ما استبعده إذ كما لا ينبغى أن يجعل أمر هين للغاية مطلوبة لامر خطير وآية عظيمة كذلك لا يحسن ذكر شئ يسير عاقبة لامر ذي بال وآية عجيبة مدهشة على أنك عرفت صحة كون التساؤل علة غائية للبعث آنفا. وقوله: " قال قائل منهم كم لبثتم " دليل على أن السائل عن لبثهم كان واحدا منهم خاطب الباقين وسألهم عن مدة لبثهم في الكهف نائمين وكأن السائل استشعر طولا في لبثهم مما وجده من لوثة النوم الثقيل بعد التيقظ فقال: كم لبثتم ؟ وقوله: " قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " ترددوا في جوابهم بين اليوم وبعض اليوم وكأنهم بنوا الجواب على ما شاهدوا من تغير محل وقوع الشمس كأن أخذوا في النوم أوائل النهار وانتبهوا في أواسطه أو أواخره ثم شكوا في مرور الليل عليهم فيكون مكثهم يوما وعدم مروره فيكون بعض يوم فأجابوا بالترديد بين يوم وبعض يوم وهو على أي حال جواب واحد. وقول بعضهم: إن الترديد على هذا يجب أن يكون بين بعض يوم ويوم وبعض لا بين يوم وبعض يوم فالوجه أن يكون " أو " للتفصيل لا للترديد، والمعنى قال بعضهم:
________________________________________
[ 259 ]
لبثنا يوم وقال بعض آخر: لبثنا بعض يوم. لا يلتفت إليه أما أولا فلان هذا المعنى لا يتلقى من سياق مثل قوله: " لبثنا يوما أو بعض يوم البتة وقد أجاب بمثله شخص واحد بعينه قال تعالى: " قال كم لبثت قال: لبثت يوما أو بعض يوم " البقرة: 259. وأما ثانيا فلان: " قولهم: " لبثنا يوما " إنما أخذوه عما استدلوا به من الامور المشهودة لهم لجلالة قدرهم عن التحكم والتهوس والمجازفة والامور الخارجيه التي يستدل بها الانسان وخاصة من نام ثم انتبه من شمس وظل ونور وظلمة ونحو ذلك لا تشخص مقدار اليوم التام من غير زيادة ونقيصة سواء في ذلك الترديد والتفصيل فالمراد باليوم على أي حال ما يزيد على ليلة بنهارها بعض الزيادة وهو استعمال شائع. وقوله تعالى: " قالوا ربكم أعلم بما لبثتم " أي قال بعض آخر منهم ردا علي القائلين: لبثنا يوما أو بعض يوم ": " ربكم أعلم بما لبثتم ولو لم يكن ردا لقالوا ربنا أعلم بما لبثنا. وبذلك يظهر أن إحاله العلم إلى الله تعالى في قولهم: " ربكم أعلم " ليس لمجرد مراعاة حسن الادب كما قيل بل لبيان حقيقة من حقائق معارف التوحيد وهي أن العلم بحقيقة معنى الكلمة ليس إلا لله سبحانه فإن الانسان محجوب عما وراء نفسه لا يملك باذن الله إلا نفسه ولا يحيط إلا بها وإنما يحصل له من العلم بما هو خارج عن نفسه ما دلت عليه الامارات الخارجية وبمقدار ما ينكشف بها وأما الاحاطة بعين الاشياء ونفس الحوادث وهو العلم حقيقة فإنما هو لله سبحانه المحيط بكل شئ الشهيد على كل شئ والايات الدالة على هذه الحقيقي لا تحصى. فليس للموحد العارف بمقام ربه إلا أن يسلم الامر له وينسب العلم إليه ولا يسند إلى نفسه شيئا من الكمال كالعلم والقدرة إلا ما اضطر إليه فيبدء بربه فينسب إليه حقيقة الكمال ثم لنفسه ما ملكه الله إياه واذن له فيه كما قال: " علم الانسان ما لم يعلم " العلق " 5 وقال: " قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " البقره: 32 إلى آيات اخرى كثيره.
________________________________________
[ 260 ]
ويظهر بذلك أن القائلين منهم: " ربكم أعلم بما لبثتم " كانوا أعلى كعبا في مقام المعرفة من القائلين: لبثنا يوما أو بعض يوم ولم يريدوا بقولهم هذا مجرد إظهار الادب وإلا لقالوا: " ربنا أعلم بما لبثنا ولم يكونوا أحد الحزبين اللذين أشار سبحانه إليهما بقوله فيما سبق ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا " فإن إظهار الادب لا يسمى قولا وإحصاء ولا الاتي به ذا قول وإحصاء. والظاهر أن القائلين منهم: " ربكم أعلم بما لبثتم " غير القائلين: " لبثنا يوما أو بعض يوم " فان السياق سياق المحاورة والمجاوبة كما قيل ولازمه كون المتكلمين ثانيا غير المتكلمين أولا ولو كانوا هم الاولين بأعيانهم لكان من حق الكلام أن يقال: ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا بدل قوله: " ربكم أعلم " الخ. ومن هنا يستفاد أن القوم كانوا سبعة أو أزيد إذ قد وقع في حكاية محاورتهم " قال " مرة و " قالوا " مرتين وأقل الجمع ثلاثة فقد كانوا لا يقل عددهم من سبعة. وقوله تعالى: " فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه " من تتمة المحاورة وفيه أمر أو عرض لهم أن يرسلوا رسولا منهم إلى المدينة ليشترى لهم طعاما يتغذون به والضمير في " أيها " راجع إلى المدينة والمراد بها أهلها من الكسبة استخداما. وزكاء الطعام كونه طيبا وقيل: كونه حلالا وقيل: كونه طاهرا ووروده بصيغة أفعل التفضيل " أزكى طعاما لا يخلو من إشعار بالمعنى الاول. والضمير " في " منه للطعام المفهوم من الكلام وقيل: للازكى طعاما و " من " للابتداء أو التبعيض أي ليأتكم من ذلك الطعام الا زكى برزق ترتزقون به، وقيل: الضمير للورق و " من " للبداية وهو بعيد لا حواجه إلى تقدير ضمير آخر يرجع إلى الجملة السابقة وكونه ضمير التذكير وقد اشير إلى الورق بلفظ التأنيث من قبل. وقوله تعالى: " وليتلطف ولا يشعرن بكم أحدا " التلطف إعمال اللطف والرفق وإظهاره فقوله: ولا يشعرن بكم أحدا عطف تفسيرى له والمراد على ما يعطيه السياق ليتكلف اللطف مع أهل المدينة في ذهابه ومجيئه ومعاملته لهم كي لا يقع خصومة أو منازعة لتؤدي إلى معرفتهم بحالكم وإشعارهم بكم، وقيل
________________________________________
[ 261 ]
المعنى ليتكلف اللطف في المعاملة وإطلاق الكلام يدفعه. وقوله تعالى: " إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم ولن تفلحوا إذا أبدا " تعليل للامر بالتلطف وبيان لمصلحته. ظهر على الشئ بمعنى اطلع عليه وعلم به وبمعنى ظفر به وقد فسرت الاية بكل من المعنيين والكلمة على ما ذكره الراغب مأخوذة من الظهر بمعنى الجارحة مقابل البطن فكان هو الاصل ثم استعير للارض فقيل: ظهر الارض مقابل بطنها ثم اخذ منه الظهور بمعنى الانكشاف مقابل البطون للملازمه بين الكون على وجه الارض وبين الرؤية والاطلاع وكذا بينه وبين الظفر وكذا بينه وبين الغلبة عادة فقيل: ظهر عليه أي اطلع عليه وعلم بمكانه أو ظفر به أو غلبه ثم اتسعوا في الاشتقاق فقالوا: أظهر وظاهر وتظاهر واستظهر إلى غير ذلك. وظاهر السياق أن يكون " يظهروا عليكم " بمعنى يطلعوا عليكم ويعلموا بمكانكم فانه أجمع المعاني لان القوم كانوا ذوى أيد وقوة وقد هربوا واستخفوا منهم فلو اطلعوا عليهم ظفروا بهم وغلبوهم على ما أرادوا. وقوله: " يرجموكم " أي يقتلوكم بالحجارة وهو شر القتل ويتضمن معنى النفرة والطرد، وفي اختيار الرجم على غيره من أصناف القتل إشعار بأن أهل المدينة عامة كانوا يعادونهم لدينهم فلو ظهروا عليهم بادروا إليهم وتشاركوا في قتلهم والقتل الذي هذا شأنه يكون بالرجم عادة. وقوله: " أو يعيدوكم في ملتهم " الظاهر أن الاعادة مضمن معنى الادخال ولذا عدي بفي دون إلى. وكان لازم دخولهم في ملتهم عادة وقد تجاهروا برفضها وسموها شططا من القول وافتراء على الله بالكذب - أن لا يقنع القوم بمجرد اعترافهم بحقية الملة صورة دون أن يثقوا بصدقهم في الاعتراف ويراقبوهم في أعمالهم فيشاركوا الناس في عبادة الاوثان والاتيان بجميع الوظائف الدينية التي لهم والحرمان عن العمل بشئ من شرائع الدين الالهي والتفوه بكلمة الحق.
________________________________________
[ 262 ]
وهذا كله لا بأس به على من اضطر على الاقامة في بلاد الكفر والانحصار بين أهله كالاسير المستضعف بحكم العقل والنقل وقد قال تعالى: " إلا من أكره وقلبه مطمئن " بالايمان " النحل: 106 وقال تعالى: " إلا أن تتقوا منهم تقاة " آل عمران: 28 فله أن يؤمن بقلبه وينكره بلسانه وأما من كان بنجوة منهم وهو حر في اعتقاده وعمله ثم ألقى بنفسه في مهلكة الضلال وتسبب إلى الانحصار في مجتمع الكفر فلم يستطع التفوة بكلمة الحق وحرم التلبس بالوظائف الدينية الانسانية فقد حرم على نفسه السعادة ولن يفلح أبدا قال تعالى: " إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الارض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فاولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا " النساء: 97. وبهذا يظهر وجه ترتب قوله: " ولن تفلحوا إذا أبدا " على قوله: " أو يعيدوكم في ملتهم " ويندفع ما قيل: إن إظهار الكفر بالاكراه مع إبطان الايمان معفو عنه في جميع الازمان فكيف رتب على العود في ملتهم عدم الفلاح أبدا مع أن الظاهر من حالهم الكره هذا فانهم لو عرضوا بأنفسهم عليهم أو دلوهم بوجه على مكانهم فأعادوهم في ملتهم ولو على كره كان ذلك منهم تسببا اختياريا إلى ذلك ولم يعذروا البتة. وقد أجابوا عن الاشكال بوجوه اخر غير مقنعة: منها: أن الاكراه على الكفر قد يكون سببا لاستدراج الشيطان إلى استحسانه والاستمرار عليه وفيه أن لازم هذا الوجه أن يقال: ويخاف عليكم أن لا تفلحوا أبدا الا أن يقضى بعدم الفلاح قطعا. ومنها: أنه يجوز أن يكون أراد يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الاكراه وأنت خبير بأن سياق القصة لا يساعد عليه. ومنها: أنه يجوز أن يكون في ذلك الوقت كان لا يجوز التقية بإظهار الكفر مطلقا وفيه عدم الدليل على ذلك. وسياق ما حكى من محاورتهم أعني قوله: " لبثتم " إلى تمام الايتين سياق عجيب دال على كمال تحابهم في الله ومواخاتهم في الدين وأخذهم بالمساواة بين أنفسهم ونصح
________________________________________
[ 263 ]
بعضهم لبعض وإشفاق بعضهم على بعض فقد تقدم أن قول القائلين: " ربكم أعلم بما لبثتم " تنبيه ودلالة على موقع من التوحيد أعلى وأرفع درجي مما يدل عليه قول الاخرين " لبثنا يوما أو بعض يوم ". ثم قول القائل: " فابعثوا " حيث عرض بعث الرسول على الجميع ولم يستبد بقول: ليذهب أحدكم وقوله: " أحدكم ولم يقل اذهب يا فلان أو ابعثوا فلانا وقوله: " بورقكم هذه " فأضاف الورق إلى الجميع كل ذلك دليل المواخاة والمساواة. ثم قوله: " فلينظر أيها أزكى طعاما " الخ وقوله: " وليتلطف " الخ نصح وقوله " إنهم إن يظهروا عليكم " الخ نصح لهم وإشفاق على نفوسهم بما هم مؤمنون على دينهم. وقوله تعالى: " بورقكم هذه " على ما فيه من الاضافة والاشارة المعينة لشخص الورق مشعر بعناية خاصة بذكرها فإن سياق استدعاء أن يبعثوا أحدا لاشتراء طعام لهم لا يستوجب بالطبع ذكر الورق التي يشترى بها الطعام والاشاره إليها بشخصها ولعلها إنما ذكرت في الاية مع خصوصيه الاشاره لانها كانت هي السبب لظهور أمرهم وانكشاف حالهم لانها حين أخرجها رسومها ليدفعها ثمنا للطعام كانت من مسكوكات عهد مرت عليها ثلاثة قرون وليس في آيات القصة ما يشعر بسبب ظهور أمرهم وانكشاف حالهم إلا هذه اللفظة. قوله تعالى: " وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم " قال في المفردات: عثر الرجل يعثر عثرا وعثورا إذا سقط ويتجوز به فيمن يطلع على أمر من غير طلبه قال تعالى: فإن عثر على أنهما استحقا إثما. يقال عثرت على كذا قال: " وكذلك أعثرنا عليهم " أي وقفناهم عليهم من غير أن طلبوا. انتهى. والتشبيه في قوله: " وكذلك أعثرنا عليهم " كنظيره في قوله: " وكذلك بعثناهم " أي وكما أنساهم دهرا ثم بعثناهم لكذا وكذا كذلك أعثرنا عليهم ومفعول أعثرنا هو الناس المدلول عليه بالسياق كما يشهد به ذيل الاية وقوله: " ليعلموا أن وعد الله حق
________________________________________
[ 264 ]
ضمير الجمع للناس والمراد بوعد الله على ما يعطيه السياق البعث ويكون قوله: " وأن الساعة لا ريب فيها " عطفا تفسيريا لسابقه. وقوله: " إذ يتنازعون بينهم أمرهم " ظرف لقوله: " أعثرنا " أو لقوله " ليعلموا " والتنازع التخاصم قيل: أصل التنازع التجاذب ويعبر به عن التخاصم وهو باعتبار اصل معناه يتعدى بنفسه، وباعتبار التخاصم يتعدى بفي كقوله تعالى: " فإن تنازعتم في شئ انتهى. والمراد بتنازع الناس بينهم أمرهم تنازعهم في أمر البعث وإنما إضيف إليهم إشعارا باهتمامهم واعتنائهم بشأنه فهذه حال الاية من جهة مفرداتها بشهادة بعضها على بعض. والمعنى على ما مر: وكما أنمناهم ثم بعثناهم لكذا وكذا أطلعنا الناس عليهم في زمان يتنازعون أي الناس بينهم في أمر البعث ليعلموا أن وعد الله بالبعث حق وأن الساعة لا ريب فيها. أو المعنى أعثرنا عليهم ليعلم الناس مقارنا لزمان يتنازعون فيه بينهم في أمر البعث أن وعد الله بالبعث حق. وأما دلالة بعثهم عن النوم على أن البعث يوم القيامة حق فانما هو من جهة أن انتزاع أرواحهم عن أجسادهم ذاك الدهر الطويل وتعطيل شعورهم وركود حواسهم عن أعمالها وسقوط آثار القوى البدنية كالنشو والنماء ونبات الشعر والظفر وتغير الشكل وظهور الشيب وغير ذلك وسلامة ظاهر أبدانهم وثيابهم عن الدثور والبلى ثم رجوعهم إلى حالهم يوم دخلوا الكهف بعينها يماثل انتزاع الارواح عن الاجساد بالموت ثم رجوعها إلى ما كانت عليها، وهما معا من خوارق العادة لا يدفعهما إلا الاستبعاد من غير دليل. وقد حدث هذا الامر في زمان ظهر التنازع بين طائفتين من الناس موحد يرى مفارقة الارواح الاجساد عند الموت ثم رجوعها إليها في البعث ومشرك (1) يرى
________________________________________
(1) وهذا مذهب عامة الوثنيين فهم لا يرون بطلان الانسان بالموت وانما يرون نفي البعث واثبات التناسخ. (*)
________________________________________
[ 265 ]
مغايرة الروح البدن ومفارقتها له عند الموت لكنه لا يرى البعث وربما رأى التناسخ. فحدوث مثل هذه الحادثة في مثل تلك الحال لا يدع ريبا لاولئك الناس أنها آية إلهية قصد بها إزالة الشك عن قلوبهم في أمر البعث بالدلالة بالمماثل على المماثل ورفع الاستبعاد بالوقوع. ويقوى هذا الحدس منهم ويشتد بموتهم بعيد الانبعاث فلم يعيشوا بعده إلا سويعات لم تسع أزيد من اطلاع الناس على حالهم واجتماعهم عليهم واستخبارهم عن قصتهم وإخبارهم بها. ومن هنا يظهر وجه آخر لقوله تعالى: " إذ يتنازعون بينهم أمرهم " وهو رجوع الضميرين الاولين إلى الناس والثالث إلى أصحاب الكهف وكون " إذ " ظرفا لقوله " ليعلموا " ويؤيده قوله بعده: " ربهم أعلم: بهم " على ما سيجئ. والاعتراض على هذا الوجه أولا: بأنه يستدعي كون التنازع بعد الاعثار وليس كذلك، وثانيا بأن التنازع كان قبل العلم وارتفع به فكيف يكون وقته وقته، مدفوع بأن التنازع على هذا الوجه في الاية هو تنازع الناس في أمر أصحاب الكهف وقد كان بعد الاعثار ومقارنا للعلم زمانا، والذي كان قبل الاعثار وقبل العلم هو تنازعهم في أمر البعث وليس بمراد على هذا الوجه. وقوله تعالى: " فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم " القائلون هم المشركون " من القوم بدليل قوله بعده: " قال الذين غلبوا على أمرهم " والمراد ببناء البنيان " عليهم على ما قيل أن يضرب عليهم ما يجعلون به وراءه ويسترون عن الناس فلا يطلع عليهم مطلع منهم كما يقال: بنى عليه جدارا إذا حوطه وجعله وراءه. وهذا الشطر من الكلام بانضمامه إلى ما قبله من قوله: " وكذلك بعثناهم " " وكذلك أعثرنا عليهم " يلوح إلى تمام القصة كأنه قيل: ولما أن جاء رسولهم إلى المدينة وقد تغيرت الاحوال وتبدلت الاوضاع بمرور ثلاثة قرون على دخولهم في الكهف وانقضت سلطة الشرك وألقي زمام المجتمع إلى التوحيد وهو لا يدري لم يلبث دون أن ظهر أمره وشاع خبره فاجتمع عليه الناس ثم هجموا وازدحموا على باب الكهف فاستنبؤوهم قصتهم
________________________________________
[ 266 ]
وحصلت الدلالة الالهية ثم إن الله قبضهم إليه فلم يلبثوا أحياء بعد انبعاثهم إلا سويعات أرتفعت بها عن الناس شبهتهم في أمر البعث وعندئذ قال المشركون ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم. وفي قوله: " ربهم أعلم بهم " إشارة إلى وقوع خلاف بين الناس المجتمعين عليهم أمرهم، فإنه كلام آيس من العلم بهم واستكشاف حقيقة أمرهم يلوح منه أن القوم تنازعوا في شئ مما يرجع إليهم فتبصر فيه بعضهم ولم يسكن الاخرون إلى شئ ولم يرتضوا رأي مخالفيهم فقالوا: ابنوا لهم بنيانا ربهم أعلم بهم. فمعنى الجملة أعني قوله: " ربهم أعلم بهم " يتفاوت بالنظر إلى الوجهين المتقدمين في قوله: " إذ يتنازعون بينهم أمرهم " إذ للجملة على أي حال نوع تفرع على تنازع بينهم كما عرفت آنفا فإن كان التنازع المدلول عليه بقوله: " إذ يتنازعون بينهم أمرهم " هو التنازع في أمر البعث بالاقرار والانكار لكون ضمير " أمرهم " للناس كان المعنى انهم تنازعوا في أمر البعث فأعثرناهم عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها لكن المشركين لم ينتهوا بما ظهرت لهم من الاية فقالوا أبنوا على أصحاب الكهف بنيانا واتركوهم على حالهم ينقطع عنهم الناس فلم يظهر لنا من أمرهم شئ ولم نظفر فيهم على يقين ربهم أعلم، بهم وقال الموحدون أمرهم ظاهر وآيتهم بينة ولنتخذن عليهم مسجدا يعبد فيه الله ويبقى ببقائه ذكرهم. وان كان التنازع هو التنازع في أصحاب الكهف وضمير " أمرهم " راجعا إليهم كان المعنى أنا أعثرنا الناس عليهم بعد بعثهم عن نومتهم ليعلم الناس أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها عند ما توفاهم الله بعد اعثار الناس عليهم وحصول الغرض وهم أي الناس يتنازعون بينهم في أمرهم أي أمر أصحاب الكهف كأنهم اختلفوا: أنيام القوم أم أموات ؟ وهل من الواجب أن يدفنوا ويقبروا أو يتركوا على هيئتهم في فجوة الكهف فقال المشركون: ابنوا عليهم بنيانا واتركوهم على حالهم ربهم أعلم بهم أنيام أم أموات ؟ قال الموحدون: " لنتخذن عليهم مسجدا ". لكن السياق يؤيد المعنى الاول لان ظاهره كون قول الموحدين: " لنتخذن عليهم مسجدا " ردا منهم لقول المشركين: " ابنوا عليهم بنيانا الخ " والقولان من الطائفتين
________________________________________
[ 267 ]
إنما يتنافيان على المعنى الاول، وكذا قولهم: " ربهم أعلم بهم " وخاصة حيث قالوا: " ربهم " ولم يقولوا: ربنا أنسب بالمعنى الاول. وقوله: " قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا " هؤلاء القائلون هم الموحدون ومن الشاهد عليه التعبير عما اتخذوه بالمسجد دون المعبد فإن المسجد في عرف القرآن هو المحل المتخذ لذكر الله والسجود له قال تعالى: " ومساجد يذكر فيها اسم الله " الحج: 40. وقد جاء الكلام بالفصل من غير عطف لكونه بمنزله جواب عن سؤال مقدر كأن قائلا يقول فماذا قال غير المشركين ؟ فقيل: قال الذين غلبوا الخ، وأما المراد بغلبتهم على أمرهم فإن كان المراد بأمرهم هو الامر المذكور في قوله: " إذ يتنازعون بينهم أمرهم " والضمير للناس فالمراد بالغلبة غلبه الموحدين بنجاحهم بالاية التي قامت على حقية البعث، وان كان الضمير للفتية فالغلبة من حيث التصدي لامرهم والغالبون هم الموحدون وقيل الملك وأعوانه، وقيل أولياؤهم من أقاربهم وهو أسخف الاقوال. وإن كان المراد بأمرهم غير الامر السابق والضمير للناس فالغلبة أخذ زمام امور المجتمع بالملك وولاية الامور، والغالبون هم الموحدون أو الملك وأعوانه وان كان الضمير عائدا إلى الموصول فالغالبون هم الولاة والمراد بغلبتهم على امورهم أنهم غالبون على ما أرادوه من الامور قادرون هذا، وأحسن الوجوه أولها. والايه من معارك آراء المفسرين ولهم في مفرداتها وفى ضمائر الجمع التي فيها وفي جملها اختلاف عجيب والاحتمالات التي ابدوها في معاني مفرداتها ومراجع ضمائرها واحوال جملها إذا ضربت بعضها في بعض بلغت الالوف، وقد أشرنا منها إلى ما يلائم السياق وعلى الطالب لازيد من ذلك أن يراجع المطولات. قوله تعالى: " سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم - إلى قوله - وثامنهم كلبهم " يذكر تعالى اختلاف الناس في عدد اصحاب الكهف واقوالهم فيه، وهي على ما ذكره تعالى - وقوله الحق - ثلاثة مترتبة متصاعدة احدها انهم ثلاثة رابعهم كلبهم والثاني أنهم خمسة وسادسهم كلبهم وقد عقبه بقوله: " رجما بالغيب أي قولا بغير علم. وهذا التوصيف راجع إلى القولين جميعا: ولو اختص بالثاني فقط كان من حق
________________________________________
[ 268 ]
الكلام أن يقدم القول الثاني ويؤخر الاول ويذكر مع الثالث الذي لم يذكر معه ما يدل على عدم ارتضائه. والقول الثالث أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، وقد ذكره الله سبحانه ولم يعقبه بشئ يدل على تزييفه، ولا يخلو ذلك من اشعار بأنه القول الحق وقد تقدم في الكلام على محاورتهم المحكية بقوله تعالى: " قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم " أنه مشعر بل دال على أن عددهم لم يكن بأقل من سبعة. ومن لطيف صنع الاية في عد الاقوال نظمها العدد من ثلاثة إلى ثمانية نظما متواليا ففيها ثلاثة رابعها خمسة سادسها سبعة وثأمنها. وأما قوله: " رجما بالغيب " تمييز يصف القولين بأنهما من القول بغير علم والرجم هو الرمي بالحجارة وكأن المراد بالغيب الغائب وهو القول الذي معناه غائب عن العلم لا يدري قائله أهو صدق أم كذب ؟ فشبه الذى يلقي كلاما ما هذا شأنه بمن يريد الرجم بالحجارة فيرمي ما لا يدري أحجر هو يصيب غرضه أم لا ؟ ولعله المراد بقول بعضهم: رجما بالغيب أي قذفا بالظن لان المظنون غائب عن الظان لا علم له به. وقيل معنى " رجما بالغيب " ظنا بالغيب وهو بعيد. وقد قال تعالى: " ثلاثه رابعهم كلبهم " وقال: " خمسة سادسهم كلبهم " فلم يأت بواو ثم قال: " سبعة وثامنهم كلبهم " فأتى بواو قال في الكشاف: وثلاثة خبر مبتدء محذوف أي هم ثلاثة، وكذلك خمسة وسبعة، رابعهم كلبهم جملة من مبتدء وخبر واقعة صفة لثلاثة، وكذلك سادسهم كلبهم وثامنهم كلبهم. فان قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة ؟ ولم دخلت عليها دون الاوليين ؟ قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وبيده سيف، ومنه قوله تعالى: " وما أهلكنا من قرية الا ولها كتاب معلوم " وفائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر. وهذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا: سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات
________________________________________
[ 269 ]
علم وطمأنينة نفس ولم يرجموا بالظن كما غيرهم، والدليل عليه أن الله سبحانه أتبع القولين الاولين قوله رجما بالغيب، وأتبع القول الثالث قوله: ما يعلمهم الا قليل، وقال ابن عباس: حين وقعت الواو انقطعت العدة أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات انتهى. وقال في المجمع في ذيل ما لخص به كلام أبي على الفارسي: وأما من قال: هذه الواو واو الثمانية واستدل بقوله: " حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها " لان للجنة ثمانية أبواب فشئ لا يعرفه النحويون انتهى. قوله تعالى: " قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم الا قليل " إلى آخر الاية أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقضي في عدتهم حق القضاء وهو أن الله أعلم بها وقد لوح في كلامه السابق إلى القول وهذا نظير ما حكى عن الفتية في محاورتهم وارتضاء إذ قال قائل منهم كم لبثتم ؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم. قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم. ومع ذلك ففي الكلام دلالة على أن بعض المخاطبين بخطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم " ربي أعلم بعدتهم " الخ كان على علم من ذلك فإن قوله: " ما يعلمهم ولم يقل: لا يعلمهم يفيد نفى الحال فالاستثناء منه بقوله: " الا قليل " يفيد الاثبات في الحال واللائح منه على الذهن أنهم من أهل الكتاب. وبالجملة مفاد الكلام أن الاقوال الثلاثة كانت محققة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلى هذا فقوله: " سيقولون ثلاثة " الخ المفيد للاستقبال، وكذا قوله: " ويقولون خمسة " الخ، وقوله: " ويقولون سبعة " الخ ان كانا معطوفين على مدخول السين في " سيقولون " تفيد الاستقبال القريب بالنسبة إلى زمن نزول الايات أو زمن وقوع الحادثة فافهم ذلك. وقوله تعالى: " فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا قال الراغب: المرية التردد في الامر وهو أخص من الشك، قال: والامتراء والمماراة المحاجة فيما فيه مرية قال: وأصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب. انتهى. فتسمية الجدال مماراة لما فيه من اصرار المماري بالبحث ليفرغ خصمه كل ما عنده من الكلام فينتهى عنه. والمراد بكون المراء ظاهرا أن لا يتعمق فيه بالاقتصار على ما قصه القرآن من غير تجهيل لهم ولا رد كما قيل، وقيل: المراء الظاهر ما يذهب بحجة الخصم يقال ظهر:
________________________________________
[ 270 ]
إذا ذهب، قال الشاعر. وتلك شكاة ظاهر عنك عارها. والمعنى: وإذا كان ربك أعلم وقد أنبأك نبأهم فلا تحاجهم في الفتية إلا محاجة ظاهرة غير متعمق فيها - أو محاجه ذاهبة لحجتهم - ولا تطلب الفتيا في الفتية من أحد منهم فربك حسبك. قوله تعالى: " ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله الاية الكريمة سواء كان الخطاب فيها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة أو له ولغيره متعرضة للامر الذي يراه الانسان فعلا لنفسه ويخبر بوقوعه منه في مستقبل الزمان. والذي يراه القرآن في تعليمه الالهي أن ما في الوجود من شئ ذاتا كان أو فعلا واثرا فإنما هو مملوك لله وحده له ان يفعل فيه ما يشاء ويحكم فيه ما يريد لا معقب لحكمه، وليس لغيره أن يملك شيئا الا ما ملكه الله تعالى منه واقدره عليه وهو المالك لما ملكه والقادر على ما عليه اقدره والايات القرآنية الدالة على هذه الحقيقة كثيرة جدا لا حاجة إلى ايرادها. فما في الكون من شئ له فعل أو اثر - وهذه هي التي نسميها فواعل واسبابا وعللا فعالة - غير مستقل في سببيته ولا مستغن عنه تعالى في فعله وتأثيره لا يفعل ولا يؤثر الا ما شاء الله ان يفعله ويؤثره اي اقدره عليه ولم يسلب عنه القدرة عليه باراده خلافة. وبتعبير آخر كل سبب من الاسباب الكونية ليس سببا من تلقاء نفسه وباقتضاء من ذاته بل باقداره تعالى على الفعل والتأثير وعدم ارادته خلافه، وإن شئت فقل: بتسهيله تعالى له سبيل الوصول إليه، وإن شئت فقل باذنه تعالى فالاذن هو الاقدار ورفع المانع وقد تكاثرت الايات الدالة على ان كل عمل من كل عامل موقوف على اذنه تعالى قال تعالى: " ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على اصولها فبإذن الله " الحشر 5 وقال: " ما اصاب من مصيبة الا باذن الله التغابن: 11 وقال والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه: الاعراف: 58 وقال: " وما كان لنفس ان تموت الا باذن
________________________________________
[ 271 ]
الله " آل عمران: 145 وقال: " وما كان لنفس ان تؤمن الا باذن الله " يونس: 100 وقال: وما ارسلنا من رسول الا ليطاع باذن الله " النساء: 64 إلى غير ذلك من الايات الكثيرة. فعلى الانسان العارف بمقام ربه المسلم له ان لا يرى نفسه سببا مستقلا لفعله مستغنيا فيه عن غيره بل مالكا له بتمليك الله قادرا عليه باقداره وأن القوة لله جميعا وإذا عزم على فعل ان يعزم متوكلا على الله قال تعالى: " فإذا عزمت فتوكل على الله " وإذا وعد بشئ أو أخبر عما سيفعله أن يقيده باذن الله أو بعدم مشيته خلافه. وهذا المعنى هو الذي يسبق إلى الذهن المسبوق بهذه الحقيقة القرآنية إذا قرع بابه قوله تعالى: " ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا الا ان يشاء الله " وخاصة بعدما تقدم في آيات القصة من بيان توحده تعالى في الوهيته وربوبيته وما تقدم قبل آيات القصة من كون ما على الارض زينة لها سيجعله الله صعيدا جرزا ومن جملة ما على الارض افعال الانسان التي هي زينة جالبة للانسان يمتحن بها وهو يراها مملوكة لنفسه. وذلك ان قوله: " ولا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا " نهى عن نسبته فعله إلى نفسه، ولا بأس بهذه النسبة قطعا فانه سبحانه كثيرا ما ينسب في كلامه الافعال الي نبيه والى غيره من الناس وربما يأمره أن ينسب افعالا إلى نفسه قال تعالى: " فقل لي عملي ولكم عملكم " يونس: 41، وقال: " لنا اعمالنا ولكم اعمالكم " الشورى: 15. فأصل نسبة الفعل إلى فاعله مما لا ينكره القرآن الكريم وإنما ينكر دعوى الاستقلال في الفعل والاستغناء عن مشيته واذنه تعالى فهو الذي يصلحه الاستثناء أعني قوله: " الا ان يشاء الله ". ومن هنا يظهر أن الكلام على تقدير باء الملابسة وهو استثناء مفرغ عن جميع الاحوال أو جميع الازمان، وتقديره: ولا تقولن لشئ - اي لاجل شئ تعزم عليه - اني فاعل ذلك غدا في حال من الاحوال أو زمان من الازمنة الا في حال أو في زمان يلابس قولك المشية بأن تقول: اني فاعل ذلك غدا ان شاء الله أن أفعله أو الا ان يشاء الله ان لا افعله، والمعنى على أي حال: ان أذن الله في فعله. هذا ما يعطيه التدبر في معنى الاية ويؤيده ذيلها وللمفسرين فيها توجيهات اخرى.
________________________________________
[ 272 ]
منها ان المعنى هو المعنى السابق الا ان الكلام بتقدير القول في الاستثناء وتقدير الكلام: الا ان تقول ان شاء الله، ولما حذف " تقول " نقل " ان شاء الله " إلى لفظ الاستقبال، فيكون هذا تأديبا من الله للعباد وتعليما لهم أن يعلقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة حتى يخرج عن حد القطع فلا يلزمهم كذب أو حنث إذا لم يفعلوه لمانع والوجه منسوب إلى الاخفش. وفيه أنه تكلف من غير موجب. على أن التبديل المذكور يغير المعنى وهو ظاهر. ومنها ان الكلام على ظاهره غير أن المصدر المؤل إليه " أن يشاء الله " بمعنى المفعول، والمعنى لا تقولن لشئ اني فاعل ذلك غدا الا ما يشاؤه الله ويريده، واذ كان الله لا يشاء الا الطاعات فكأنه قيل: ولا تقولن في شئ اني سأفعله الا الطاعات، والنهي للتنزيه لا للتحريم حتى يعترض عليه بجواز العزم على المباحات والاخبار عنه. وفيه أنه مبنى على حمل المشيه على الارادة التشريعية ولا دليل عليه ولم يستعمل المشية في كلامه تعالى بهذا المعنى قط، وقد استعمل استثناء المشية التكوينية في مواضع من كلامه كما حكى من قول موسى لخضر: " ستجدنة ان شاء الله صابرا " الكهف: 69، وقول شعيب لموسى: " ستجدني ان شاء الله من الصالحين " القصص، 27 وقول اسماعيل لابيه: " ستجدني أن شاء الله من الصابرين " الصافات: 102 وقوله تعالى: لتدخلن المسجد الحرام ان شاء الله آمنين " الفتح: 27 إلى غير ذلك من الايات. والوجه مبني على اصول الاعتزال وعند المعتزلة ان لا مشية لله سبحانه في أعمال العباد الا الارادة التشريعية المتعلقة بالطاعات، وهو مدفوع بالعقل والنقل. ومنها ان الاستثناء من الفعل دون القول من غير حاجة إلى تقدير، والمعنى ولا تقولن لشئ هكذا وهو ان تقول اني فاعل ذلك غدا باستقلالي الا ان يشاء الله خلافه بابداء مانع على ما تقوله المعتزلة ان العبد فاعل مستقل للفعل الا ان يبدئ الله مانعا دونه أقوى منه، ومآل المعنى أن لا تقل في الفعل بقول المعتزلة. وفيه أن تعلق الاستثناء بالفعل دون القول بما مر من البيان أتم فلا وجه للنهي عن تعليق الاستثناء على الفعل، وقد وقع تعليقه على الفعل في مواضع من كلامه من غير ان
________________________________________
[ 273 ]
يرده كقوله حكاية عن ابراهيم: " ولا أخاف ما تشركون به الا ان يشاء ربي شيئا " الانعام: 80 وقوله حكاية عن شعيب: " وما يكون لنا أن نعود فيها الا ان يشاء الله " الاعراف: 89، وقوله: " وما كانوا ليؤمنوا الا ان يشاء الله " الانعام: 111 إلى غير ذلك من الايات. فلتحمل الايه التي نحن فيها على ما يوافقها. ومنها: ان الاستثناء من أعم الاوقات الا أن مفعول " يشاء " هو القول والمعنى ولا تقولن ذلك الا أن يشاء الله أن تقوله، والمراد بالمشية الاذن أي لا تقل ذلك الا أن يؤذن لك فيه بالاعلام. وفيه أنه مبني على تقدير شئ لا دليل عليه من جهة اللفظ وهو الاعلام ولو لم يقدر لكان تكليفا بالمجهول. ومنها: أن الاستثناء للتأبيد نظير قوله: " خالدين فيها ما دامت السماوات والارض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ " هود: 108 والمعنى: لا تقولن ذلك أبدا. وفيه أنه مناف للايات الكثيرة المنقولة آنفا التي تنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإلى سائر الناس أعمالهم ماضية ومستقبلة بل تأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينسب أعماله إلى نفسه كقوله " فقل لي عملي ولكم عملكم " يونس: 41، وقوله: " قل سأتلوا عليكم منه ذكرا " الكهف: 83. قوله تعالى: " واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربى لاقرب من هذا رشدا " اتصال الاية واشتراكها مع ما قبلها في سياق التكليف يقضي أن يكون المراد من النسيان نسيان الاستثناء، وعليه يكون المراد من ذكر ربه ذكره بمقامه الذي كان الالتفات إليه هو الموجب للاستثناء وهو أنه القائم على كل نفس بما كسبت الذي ملكه الفعل وأقدره عليه وهو المالك لما ملكه والقادر على ما عليه أقدره. والمعنى: إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت أنك نسيته فاذكر ربك متى كان ذلك بما لو كنت ذاكرا لذكرته به وهو تسليم الملك والقدرة إليه وتقييد الافعال بإذنه ومشيته. وإذ كان الامر بالذكر مطلقا لم يتعين في لفظ خاص فالمندوب إليه هو ذكره
________________________________________
[ 274 ]
تعالى بشأنه الخاص سواء كان بلفظ الاستثناء بأن يلحقه بالكلام، إن ذكره ولما يتم الكلام أو يعيد الكلام ويستثني أو يضمر الكلام ثم يستثنى إن كان فصل قصير أو طويل كما ورد في بعض (1) الروايات أنه لما نزلت الايات قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ان شاء الله أو كان الذكر باستغفار ونحوه. ويظهر مما مر أن ما ذكره بعضهم أن الاية مستقلة عما قبلها وأن المراد بالنسيان نسيانه تعالى أو مطلق النسيان والمعنى: واذكر ربك إذا نسيته ثم ذكرته أو واذكر ربك إذا نسيت شيئا من الاشياء وكذا ما ذكره بعضهم بناء على الوجه السابق أن المراد بذكره تعالى خصوص الاستثناء وإن طال الفصل أو خصوص الاستغفار أو الندم على التفريط، كل ذلك وجوه غير سديده. وقوله: " وقل عسى أن يهدين ربى لاقرب من هذا رشدا " حديث الاتصال والاشتراك في سياق التكليف بين جمل الاية يقضي هنا أيضا أن تكون الاشارة بقوله: " هذا " إلى الذكر بعد النسيان، والمعنى وارج أن يهديك ربك إلى أمر هو أقرب رشدا من النسيان ثم الذكر وهو الذكر الدائم من غير نسيان فيكون من قبيل الايات الداعية له صلى الله عليه وآله وسلم إلى دوام الذكر كقوله تعالى: " واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفه ودون الجهر من القول بالغدو والاصال ولا تكن من الغافلين " الاعراف: 205 وذكر الشئ كلما نسي ثم ذكر والتحفظ عليه كرة بعد كرة من أسباب دوام ذكره. ومن العجيب أن المفسرين أخذوا قوله: " هذا " في الاية إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف وذكروا أن معنى الاية: قل عسى أن يعطيني ربي من الايات الدالة على نبوتي ما هو أقرب إرشادا للناس من نبأ أصحاب الكهف، وهو كما ترى. وأعجب منه ما عن بعض أن هذا إشارة إلى المنسي وأن معنى الاية: ادع الله إذا نسيت شيئا أن يذكرك إياه وقل إن لم يذكرك ما نسيته: عسى أن يهدينى ربي لشئ هو
________________________________________
(1) رواه السيوطي في الدر المنثور عن ابن المنذر عن مجاهد. (*)
________________________________________
[ 275 ]
أقرب خيرا ومنفعة من المنسي. وأعجب منه ما عن بعض آخر أن قوله: " وقل عسى أن يهدين " الخ عطف تفسيرى لقوله: " واذكر ربك إذا نسيت " والمعنى إذا وقع منك النسيان فتب إلى ربك وتوبتك أن تقول: عسى أن يهدين ربي لاقرب من هذا رشدا، ويمكن أن يجعل الوجهان الثاني والثالث وجها واحدا وبناؤهما على أي حال على كون المراد بقوله: " إذا نسيت " مطلق النسيان، وقد عرفت ما فيه. قوله تعالى: " ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا " بيان لمدة لبثهم في الكهف على حال النوم فإن هذا اللبث هو متعلق العناية في آيات القصة وقد اشير إلى إجمال مدة اللبث بقوله في أول الايات: " فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ". ويؤيده تعقيبه بقوله في الاية التالية قل الله أعلم بما لبثوا " ثم قوله: " واتل ما اوحي اليك " الخ ثم قوله: " وقل الحق من ربكم " ولم يذكر عددا غير هذا فقوله: " قل الله أعلم بما لبثوا " بعد ذكر مدة اللبث كقوله: قل ربي أعلم بعدتهم " يلوح إلى صحة العدد المذكور. فلا يصغى إلى قول القائل إن قوله: " ولبثوا في كهفهم الخ محكي قول أهل الكتاب وقوله: " قل الله أعلم بما لبثوا " رد له، وكذا قول القائل إن قوله: " ولبثوا " الخ قول الله تعالى وقوله: " وازدادوا تسعا " إشارة إلى قول أهل الكتاب والضمير لهم والمعنى أن أهل الكتاب زادوا على العدد الواقعي تسع سنين ثم قوله: " قل الله أعلم بما لبثوا " رد له. على أن المنقول عنهم أنهم قالوا بلبثهم مائتي سنة أو أقل لا ثلاثمائة. وتسعة ولا ثلاثمائة. وقوله " سنين " ليس بمميز للعدد وإلا لقيل: ثلاثمائة سنة بل هو بدل من ثلاثمائة كما قالوا، وفي الكلام مضاهاة لقوله فيما أجمل في صدر الايات: " سنين عددا ". ولعل النكتة في تبديل " سنة " من " سنين " استكثار مدة اللبث، وعلى هذا فقوله وازدادوا تسعا " لا يخلو من معنى الاضراب كأنه قيل: ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة هذه السنين المتمادية والدهر الطويل بل ازدادوا تسعا، ولا ينافي هذا ما تقدم في قوله: " سنين عددا " أن هذا لاستقلال عدد السنين واستحقاره لان المقامين


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page