• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 201 الي 225


[ 201 ]
فالمعنى - والله أعلم - الروح النازل عليك الملقى بالقرآن اليك من أمرنا غير خارج من قدرتنا، وأقسم لئن شئنا لنذهبن بهذا الروح الذى هو كلمتنا الملقاة إليك ثم لا تجد أحدا يكون وكيلا به لك علينا يدافع عنك ويطالبنا به ويجبرنا على ردما أذهبنا به. وبذلك يظهر أولا ان المراد بالذى اوحينا إليك الروح الالهي الذى هي كلمة ملقاة من الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على حد قوله: " وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا: الشورى: " 54. وثانيا: " أن المراد بالوكيل للمطالبة والرد لما أذهبه الله دون الوكيل في حفظ القرآن وتلاوته على ما فسره بعض المفسرين وهو مبني على تفسير قوله: " الذى أوحينا إليك " بالقرآن دون الروح النازل به كما قدمنا. قوله تعالى: " إلا رحمة من ربك أن فضله كان عليك كبيرا استثناء من محذوف يدل عليه السياق والتقدير فما اختصصت بما اختصصت به ولا اعطيت ما اعطيت من نزول الروح وملازمته إياك إلا رحمة من ربك: ثم علله بقوله: " إن فضله كان عليك كبيرا " وهو وارد مورد الامتنان. قوله تعالى: " قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا " الظهير هو المعين مأخوذ من الظهر كالرئيس من الرأس وقوله: " بمثله " من وضع الظاهر موضع المضمر وضميره عائد إلى القرآن. وفي الاية تحد ظاهر وهي ظاهرة في أن التحدي بجميع ما للقرآن من صفات الكمال الراجعة إلى لفظه ومعناه لا بفصاحته وبلاغته وحدها فإن انضمام غير أهل اللسان إليهم لا ينفع في معارضه البلاغه شيئا وقد اعتنت الاية باجتماع الثقلين وإعانه بعضهم لبعض. على أن الاية ظاهرة في دوام التحدي وقد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة والبلاغه اليوم فلا أثر منهم والقرآن باق على إعجازه متحد بنفسه كما كان. قوله تعالى: " ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا
________________________________________
[ 202 ]
كفورا " تصريف الامثال ردها وتكرارها وتحويلها من بيان إلى بيان ومن اسلوب إلى اسلوب، والمثل هو وصف المقصود بما يمثله ويقربه من ذهن السامع و " من " في قوله: " من كل مثل " لابتداء الغاية والمراد من كل مثل يوضح لهم سبيل الحق ويمهد لهم طريق الايمان والشكر بقرينة قوله: " فأبى أكثر الناس إلا كفورا " والكلام مسوق للتوبيخ والملامة. وفى قوله: " أكثر الناس " وضع الظاهر موضع المضمر والاصل أكثرهم ولعل الوجه فيه الاشارة إلى أن ذلك مقتضى كونهم ناسا كما مر في قوله: " وكان الانسان كفورا " أسرى: 67. والمعنى واقسم لقد كررنا للناس في هذا القرآن من كل مثل يوضح لهم الحق ويدعوهم إلى الايمان بنا والشكر لنعمنا فأبى اكثر الناس إلا ان يكفروا ولا يشكروا. قوله تعالى: " وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الارض ينبوعا - إلى قوله - كتابا نقرؤه " الفجر الفتح والشق وكذلك التفجير إلا انه يفيد المبالغة والتكثير، والينبوع العين التى لا ينضب ماؤها وخلال الشئ وسطه واثناؤه، والكسف جمع كسفة كقطع جمع قطعه وزنا ومعنى، والقبيل هو المقابل كالعشير والمعاشر والزخرف الذهب، والرقي الصعود والارتقاء. والايات تحكى الايات المعجزة التي اقترحتها قريش على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلقوا إيمانهم به عليها مستهينة بالقرآن الذي هو معجزة خالده. والمعنى " وقالوا " اي قالت قريش " لن نؤمن لك " يا محمد " حتى تفجر وتشق " لنا من الارض " ارض مكة لقلة مائها " ينبوعا " عينا لا ينضب ماؤها " أو تكون " بالاعجاز " لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الانهار " اي تشقها أو تجريها " خلالها " اي وسط تلك الجنة واثناءها " تفجيرا " " أو تسقط السماء كما زعمت اي مماثلا لما زعمت يشيرون (1) به إلى قوله تعالى: " أو نسقط عليهم كسفا من السماء: السبأ " 9 " علينا كسفا " وقطعا " أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " مقابلا نعاينهم ونشاهدهم
________________________________________
(1) فالاية لا تخلو من دلالة على تقدم سورة سبأ على هذه السورة نزولا. (*)
________________________________________
[ 203 ]
" أو يكون لك بيت من زخرف " وذهب " أو ترقى " وتصعد " في السماء ولن نؤمن لرقيك " وصعودك " حتى تنزل علينا منها " كتابا نقرؤه " ونتلوه. قوله تعالى: " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " فيه امره صلى الله عليه وآله وسلم ان يجيب عما اقترحوه عليه وينبههم على جهلهم ومكابرتهم فيما لا يخفى على ذي نظر فإنهم سألوه امورا عظاما لا يقوى على اكثرها إلا القدرة الغيبية الالهية وفيها ما هو مستحيل بالذات كالاتيان بالله والملائكة قبيلا، ولم يرضوا بهذا المقدار ولم يقنعوا به دون ان جعلوه هو المسؤل المتصدي لذلك المجيب لما سألوه فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل ربك ان يفعل كذا وكذا بل قالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر " الخ " أو تكون لك الخ " أو تسقط السماء " الخ " أو تأتي بالله " الخ " أو يكون لك " الخ " أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ". فإن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية المحيطة حتى بالمحال الذاتي، وإن أرادوا منه ذلك بما أنه يدعى الرسالة فالرسالة لا تقتضي إلا حمل ما حمله الله من أمره وبعثه لتبليغه بالانذار والتبشير لا تفويض القدرة الغيبية إليه وإقداره أن يخلق كل ما يريد، ويوجد كل ما شاؤا، وهو صلى الله عليه وآله وسلم لا يدعي لنفسه ذلك فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الامر من عجيب الاقتراح. ولذلك أمره صلى الله عليه واله وسلم أن يبادر في جوابهم أولا إلى تنزيه ربه مما يلوح إليه اقتراحهم هذا من المجازفة وتفويض القدرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يبعد أن يستفاد منه التعجب فالمقام صالح لذلك. وثانيا: " إلى الجواب قوله في صورة الاستفهام: " هل كنت إلا بشرا رسولا وهو يؤيد كون قوله: " سبحان ربي " واقعا موقع التعجب أي إن كنتم اقترحتم على هذه الامور وطلبتموها مني بما أنا محمد فإنما أنا بشر ولا قدره للبشر على شئ من هذه الامور، وإن كنتم اقترحتموها لاني رسول أدعي الرسالة فلا شأن للرسول إلا حمل الرسالة وتبليغها لا تقلد القدرة الغيبيه المطلقة. وقد ظهر بهذا البيان أن كلا من قوله: " بشرا " و " رسولا " دخيل في استقامة الجواب عن اقتراحهم أما قوله: " بشرا " فليرد به اقتراحهم عليه أن يأتي بهذه
________________________________________
[ 204 ]
الايات عن قدرته في نفسه وأما قوله: " رسولا " فليرد به اقتراح ايتائها عن قدرة مكتسبة من ربه. وذكر بعضهم ما محصله أن معتمد الكلام هو قوله: " رسولا " وقوله: " بشرا " توطئة له ردا لما أنكروه من جواز كون الرسول بشرا، ودلالة على أن من قبله من الرسل كانوا كذلك، والمعنى على هذا هل كنت الا بشرا رسولا كسائر الرسل وكانوا لا يأتون الا بما أجراه على أيديهم من غير أن يفوض إليهم أو يتحكموا على ربهم بشئ. قال: وجعل " بشرا " و " رسولا " كليهما معتمدين مخالف لما يظهر من الاثار أولا فإن الذي ورد في الاثار أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسال ربه أن يفعل كذا وكذا، ولم يسألوه أن يأتيهم بشئ من قبل نفسه حتى يشار إلى رده بإثبات بشريته، ومستلزم لكون رسولا خبرا بعد خبر وكونهما خبرين لكان يأباه الذوق السليم. انتهى محصلا. وفيه أولا: أن أخذ قوله: " بشرا " ردا على زعمهم عدم جواز كون الرسول بشرا مع عدم اشتمال الايات على مزعمتهم هذه لا تصريحا ولا تلويحا تحميل من غير دليل. وثانيا: " أن الذي ذكره في معنى الاية " هل كنت الا بشرا رسولا كسائر الرسل وكانوا لا يأتون إلا كذا وكذا معتمد الكلام فيه هو التشبيه الذى في قوله: " كسائر الرسل " لا قوله " رسولا " وفي حذف معتمد الكلام إفساد السياق فافهم ذلك. وثالثا: أن اشتمال الاثار على أنهم انما سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يسأل ربه الاتيان بتلك الايات من غير أن يسألوه نفسه أن يأتي بها، لا يعارض نص الكتاب بخلافه، والذى حكاه الله عنهم أنهم قالوا: لن نؤمن لك حتي تفجر لنا " الخ " فتفجر الانهار " الخ " أو تسقط السماء " الخ " وهذا من عجيب المغالاة في حق الاثار وتحكيمها على كتاب الله وتقديمها عليه حتى في صورة المخالفة. ورابعا: أن اباء الذوق السليم عن تجويز كون " رسولا " خبرا بعد خبر لا يظهر له وجه. قوله تعالى: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جائهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا "
________________________________________
[ 205 ]
الاستفهام في قوله: " أبعث الله بشرا رسولا " للانكار، وجملة " قالوا أبعث الله " الخ " حكاية حالهم بحسب الاعتقاد وان لم يتكلموا بهذه الكلمة بعينها. وانكار النبوة والرسالة مع اثبات الاله من عقائد الوثنية وهذه قرينة على أن المراد بالناس الوثنيون والمراد بالايمان الذي منعوه هو الايمان بالرسول. فمعنى الاية وما منع الوثنيين - وكانت قريش وعامة العرب يومئذ منهم - أن يؤمنوا بالرسالة أو - برسالتك - إلا إنكارهم لرسالة البشر، ولذلك كانوا يردون على رسلهم دعوتهم - كما حكاه الله - بمثل قولهم: " لو شاء ربنا لانزل ملائكة فإنا بما ارسلتم به كافرون: حم السجدة: 14. قوله تعالى: " قل لو كان في الارض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يرد عليهم قولهم وإنكارهم لرسالة البشر ونزول الوحي بأن العناية الالهية قد تعلقت بهداية أهل الارض ولا يكون ذلك إلا بوحي سماوي لا من عند أنفسهم فالبشر القاطنون في الارض لا غنى لهم عن وحي سماوي بنزول ملك رسول إليهم ويختص بذلك نبيهم. وهذه خاصة الحياة الارضية والعيشة المادية المفتقرة إلى هداية إلهية لا سبيل إليها إلا بنزول الوحي من السماء حتى لو أن طائفة من الملائكة سكنوا الارض وأخذوا يعيشون عيشة أرضية مادية لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا كما ننزل على البشر ملكا رسولا. والعناية في الاية الكريمة. كما ترى - متعلقة بجهتين إحداهما كون الحيأه أرضية مادية والاخرى كون الهداية الواجبة بالعناية الالهية بوحي نازل من السماء برسالة ملك من الملائكة. والامر على ذلك، فهاتان الجهتان أعني كون حياة النوع أرضية مادية ووجوب هدايتهم بواسطة سماوية وملك علوي هما المقدمتان الاصليتان في البرهان على وجود الرسالة ولزومها. وأما ما أصر عليه المفسرون من تقييد معنى الاية بوجوب كون الرسول من جنس
________________________________________
[ 206 ]
المرسل إليهم ومن أنفسهم كالانسان للانسان والملك للملك فليس بتلك الاهمية ولذلك لم يصرح به في الاية الكريمة. وذلك أن كون الرسول إلى البشر وهو الذى يعلمهم ويربيهم من أنفسهم من لوازم كون حياتهم أرضية وكون الوحي النازل عليهم بواسطة الملك السماوي فإن اختلاف أفراد النوع المادية بالسعادة والشقاء والكمال والنقص وطهارة الباطن وقذارته ضروري والملك الملقي للوحي وما تحمله منه طاهر زكي لا يمسه الا المطهرون، فالملك النازل بالوحي وان نزل على النوع لكن لا يمسه الا آحاد منهم مطهرون من قذارات المادة وألواثها مقدسون من مس الشيطان وهم الرسل صلى الله عليه وآله وسلم. وتوضيح المقام: أن مقتضى العناية الالهية هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله وسعادته، والانسان الذي هو أحد هذه الانواع غير مستثنى من هذه الكلية، ولا تتم سعادته في الحياة إلا بأن يعيش عيشة اجتماعية تحكم فيها قوانين وسنن تضمن سعادة حياته في الدنيا وبعدها وترفع الاختلافات الضرورية الناشئة بين الافراد، وإذ كانت حياته حياة شعورية فلا بد أن يجهز بما يتلقى به هذه القوانين والسنن ولا يكفي في ذلك ما جهز به من العقل المميز بين خيره وشره فإن العقل بعينه يهديه إلى الاختلاف فلا بد أن يجهز بشعور آخر يتلقى به ما يفيضه الله من المعارف والقوانين الرافعة للاختلاف الضامنة لسعادته وكماله وهو شعور الوحي والانسان المتلبس به هو النبي. وهذا برهان عقلي تام مأخوذ من كلامه وقد أوردناه وفصلنا القول فيه في مباحث النبوة من الجزء الثاني وفي ضمن قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب. وأما الاية التي نحن فيها أعني قوله: " قل لو كان في الارض ملائكة " الخ فإنها تزيد على مر من معنى البرهان بشئ وهو أن القاء الوحي إلى البشر يجب أن يكون بنزول ملك من السماء إليهم. وذلك أن محصل مضمون الاية وما قبلها هو أن الذي يمنع الناس أن يؤمنوا برسالتك أنهم يحيلون رسالة البشر من جانب الله سبحانه. وقد أخطئوا في ذلك
________________________________________
[ 207 ]
فإن مقتضى الحياة الارضية وعناية الله بهداية عبادة إن ينزل إلى بعضهم ملكا من السماء رسولا حتى أن الملائكة لو كانوا كالانسان عائشين في الارض لنزل الله إلى بعضهم وهو رسولهم ملكا من السماء رسولا حاملا لوحيه. وهذا كما ترى يعطي أولا: معنى الرسالة البشرية وهو أن الرسول انسان ينزل عليه ملك من السماء بدين الله ثم هو يبلغه الناس بأمر الله. ويشير ثانيا: إلى برهان الرسالة أن حياة الانسان الارضية والعناية الربانية متعلقة بهداية عباده وإيصالهم إلى غاياتهم لا غنى لها عن نزول دين سماوي عليهم، والملائكة وسائط نزول البركات السماوية إلى الارض فلا محالة ينزل الدين على الناس بوساطة الملك وهو رسالته، والذي يشاهده ويتلقى ما ينزل به - ولا يكون إلا بعض الناس لا جميعهم لحاجته إلى طهارة باطنية وروح من أمر الله - هو الرسول البشرى. وكان المترقب من السياق أن يقال: " لبعث الله فيهم ملكا رسولا " بحذاء قولهم المحكي في الاية السابقة: " أبعث الله بشرا رسولا " لكنه عدل إلى مثل قوله: لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " ليكون أولا أحسم للشبهة وأقطع للتوهم فإن عامة الوثنيين من البرهمانية والبوذية والصابئة كما يشهد به ما في كتبهم المقدسة لا يتحاشون ذاك التحاشي عن النبوة بمعنى انبعاث بشر كامل لتكميل الناس ويعبرون عنه بظهور المنجي أو المصلح ونزول الاله إلى الارض وظهوره على أهلها في صورة موجود أرضي وكان بوذه ويوذاسف - على ما يقال - منهم والمعبود عندهم على أي حال هو الملك أو الجن أو الانسان المستغرق فيه دون الله سبحانه. وإنما يمتنعون كل الامتناع عن رسالة الملك وهو من الالهة المعبودين عندهم إلى البشر بدين يعبد فيه الله وحده وهو اله غير معبود عندهم ففي التصريح برسالة الملك السماوي إلى البشر الارضي من عند الله النص على كمال المخالفة لهم. وليكون ثانيا اشارة إلى أن رسالة الملك بالحقيقة إلى عامة الانسان غير أن الذى يصلح لتلقى الوحى منه هو الرسول منهم، وأما غيره فهم محرومون عن ذلك لعدم استعدادهم لذلك فالفيض عام وان كان المستفيض خاصا قال تعالى: " وما كان عطاء ربك محظورا " أسرى: 20 وقال: قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما اوتى
________________________________________
[ 208 ]
رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته " الانعام: 124. والاية بما تعطي من معنى الرسالة يؤيد ما ورد عن أئمه أهل البيت عليه السلام في الفرق بين الرسول والنبى أن الرسول هو الذى يرى الملك ويسمع منه، والنبى يرى المنام ولا يعاين، وقد أوردنا بعض هذه الاخبار في خلال ابحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب. ومن ألطف التعبير في الاية وأوجزه تعبيره عن الحياة الارضية بقوله " في الارض ملائكه يمشون مطمئنين " فإن الانتقال المكاني على الارض مع الوقوع تحت الجاذبة الارضية من أوضح خواص الحياة المادية الارضية. قوله تعالى: " قل كفى بالله شهيدا بينى وبينكم انه كان بعباده خبيرا بصيرا لما احتج عليهم بما احتج وبين لهم ما بين في أمر معجزة رسالته وهي القرآن الذي تحدى به وهم على عنادهم وجحودهم وعنتهم لا يعتنون به ويقترحون عليه بامور جزافية اخرى ولا يحترمون لحق ولا ينقطعون عن باطل أمر أن يرجع الامر إلى شهادة الله فهو شهيد بما وقع منه ومنهم فقد بلغ ما ارسل به ودعا واحتج وأعذر وقد سمعوا وتمت عليهم الحجة واستكبروا وعتوا فالكلام في معنى اعلام قطع المحاجة وترك المخاصمة ورد الامر إلى مالك الامر فليقض ما هو قاض. وقيل المراد بالاية الاستشهاد بالله سبحانه على حقية الدعوة وصحة الرسالة كأنه يقول: كفانى حجة أن الله شهيد على رسالتي فهذا كلامه يصرح بذلك فإن قلتم: ليس بكلامه بل مما افتريته فأتوا بمثله ولن تأتوا بمثله ولو كان الثقلان أعوانا لكم وأعضادا يمدونكم. وهذا في نفسه جيد غير أن ذيل الاية كما قيل لا يلائمه أعني قوله: " بينى وبينكم " وقوله: " إنه كان بعباده خبيرا بصيرا " بل كان الاقرب أن يقال شهيدا لي عليكم أو على رسالتي أو نحو ذلك. وهذه الاية والايتان قبلها مسجعة بقوله: " رسولا " وهو المورد الوحيد في القرآن الذي اتفقت فيه ثلاث آيات متوالية في سجع واحد على ما نذكر.
________________________________________
[ 209 ]
قوله تعالى: " ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه " الخ هو - على ما يشعر به السياق - من تتمة الخطاب الاخير للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم " فهو كناية عن أنه تمت عليهم الحجة وحقت عليهم الضلالة فلا مطمع في هدايتهم. ومحصل المعنى: خاطبهم باعلام قطع المحاجة فإن الهداية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد فمن هداه فهو المهتدي لا غير ومن أضله ولم يهده فلن تجد يا محمد له أولياء من دونه يهدونه والله لا يهدي هؤلاء فانقطع عنهم ولا تكلف نفسك في دعوتهم رجاء أن يؤمنوا. ومن هنا يظهر أن قول بعضهم: أن الاية كلام مبتدء غير داخل في حيز " قل " في غير محله. وإنما أتى بأولياء بصيغة الجمع مع كون المفرد أبلغ وأشمل إشارة إلى أنه لو كان له ولي من دون الله لكان ذلك إما آلهتهم وهي كثيرة واما سائر الاسباب الكونية وهي أيضا كثيرة. وفي قوله: " ومن يهد الله فهو المهتد " الخ التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة فقد كان السياق سياق التكلم بالغير ولعل الوجه فيه أنه لو قيل: ومن نهد ومن نضلل على التكلم بالغير أو هم تشريك الملائكة في أمر الهداية والاضلال فأوهم التناقض في قوله: " فلن تجد له أولياء من دونه " فإن الاولياء عندهم الملائكة وهم يتخذونهم آلهة ويعبدونهم. قوله: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم " إلى آخر الايتين العمي والبكم والصم جمع أعمى وأبكم وأصم وخبو النار وخبوها سكون لهبها، والسعير لهب النار، والمعنى ظاهر. قوله تعالى: " أو لم يروا أن الله الذي خلق السموات والارض قادر على أن يخلق مثلهم إلى آخر الاية، الكفور الجحود احتجاج منه تعالى على البعث بعد الموت فقد كان قولهم " ءاذا كنا عظاما ورفاتا ءإنا لمبعوثون خلقا جديدا استبعادا مبنيا على إحالة أن يعود هذا البدن الدنيوي بعد تلاشيه وصيرورته عظاما ورفاتا إلى ما كان
________________________________________
[ 210 ]
عليه بخلق جديد فاحتج عليهم بأن خلق البدن أولا يثبت القدرة عليه وعلى مثله الذي هو الخلق الجديد للبعث فحكم الامثال واحد. فالمماثلة إنما هي من جهة مقايسة البدن الجديد من البدن الاول مع قطع النظر عن النفس التي هي الحافظة لوحدة الانسان وشخصيته ولا ينافي ذلك كون الانسان الاخروي عين الانسان الدنيوي لا مثله لان ملاك الوحدة والشخصية هي النفس الانسانية وهي محفوظة عند الله سبحانه غير باطلة ولا معدومة، وإذا تعلقت بالبدن المخلوق جديدا كان هو الانسان الدنيوي كما أن الانسان في الدنيا واحد شخصي باق على وحدته الشخصية مع تغير البدن بجميع أجزائه حينا بعد حين. والدليل على أن النفس التي هي حقيقة الانسان محفوظة عند الله مع تفرق أجزاء البدن وفساد صورته قوله تعالى: " وقالوا ءإذا ضللنا في الارض ءإنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم " الم السجدة: 11 حيث استشكلوا في المعاد بأنه تجديد للخلق بعد فناء الانسان بتفرق أجزاء بدنه فاجيب عنه بأن ملك الموت يتوفى الانسان ويأخذه تاما كاملا فلا يضل ولا يتلاشى وإنما الضال بدنه ولا ضير في ذلك فإن الله يجدده. والدليل على أن الانسان المبعوث هو عين الانسان الدنيوي لا مثله جميع آيات القيامة الدالة على رجوع الانسان إليه تعالى وبعثه وسؤاله وحسابه ومجازاته بما عمل. فهذا كله يشهد على أن المراد بالمماثلة ما ذكرناه، وإنما تعرض لامر البدن حتى ينجر إلى ذكر المماثلة محاذاة لمتن ما استشكلوا به من قولهم: " ءإذا كنا عظاما ورفاتا ءإنا لمبعوثون خلقا جديدا " فلم يضمنوا قولهم إلا شؤون البدن لا النفس المتوفاة منه، وإذا قطع النظر عن النفس كان البدن مماثلا للبدن، وإن كان مع اعتبارها عينا. وذكر بعضهم: أن المراد بمثلهم نفسهم فهو من قبيل قولهم مثلك لا يفعل هذا أي أنت لا تفعله. وللمناقشة إليه سبيل والظاهر أن العناية في هذا التركيب أن مثلك لاشتماله على مثل ما فيك من الصفة لا يفعل هذا فأنت لا تفعله لمكان صفتك ففيه نفي الفعل بنفي سببه على سبيل الكناية، وهو آكد من قولنا: أنت لا تفعله. وقوله: " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه الظاهر أن المراد بالاجل هو زمان الموت
________________________________________
[ 211 ]
فإن الاجل إما مجموع مدة الحياة الدنيا وهي محدودة بالموت وإما آخر زمان الحياة ويقارنه الموت وكيف كان فالتذكير بالموت الذي لا ريب فيه ليعتبروا به ويكفوا عن الجرأة على الله وتكذيب آياته فهو قادر على بعثهم والانتقام منهم بما صنعوا. فقوله: " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه " ناظر إلى قوله في صدر الاية السابقة: " ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا فهو نظير قوله: " والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يشعرون - إلى أن قال أو لم ينظروا في ملكوت السموات والارض - إلى أن قال - وان عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون " الاعراف: 185. وجوز بعضهم أن يكون المراد بالاجل هو يوم القيامة وهو لا يلائم السياق فإن سابق الكلام يحكي إنكارهم للبعث ثم يحتج عليهم بالقدرة فلا يناسبه أخذ البعث مسلما لا ريب فيه. ونظيره تقرير بعضهم قوله: " وجعل لهم أجلا لا ريب فيه " حجة أخرى مسوقة لاثبات يوم القيامة على كل من تقديري كون المراد بالاجل هو يوم الموت أو يوم القيامة وهو تكلف لا يعود إلى جدوى البتة فلا موجب للاشتغال به. قوله تعالى: " قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لامسكتم خشية الانفاق وكان الانسان قتورا " فسر القتور بالبخيل المبالغ في الامساك وقال في المجمع: القتر التضييق والقتور فعول منه للمبالغة ويقال: قتر يقتر وتقتر وأقتر وقتر إذا قدر في النفقة. انتهى. وهذا توبيخ لهم على منعهم رسالة البشر المنقول عنهم سابقا بقوله: " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله ملكا رسولا " ومعنى الاية ظاهر. بحث روائي في تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إنما الشفاء في علم
________________________________________
[ 212 ]
القرآن لقوله: " ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين الحديث. وفي الكافي بإسناده عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال: النية أفضل من العمل إلا وإن النية هي العمل ثم قرء قوله عزوجل: " قل كل يعمل على شاكلته " يعنى على نيته. أقول: وقوله: إن النية هي العمل يشير إلى اتحادهما اتحاد العنوان ومعنونه. وفيه بإسناده عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: إنما خلد أهل النار في النار لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لان نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء. ثم تلا قوله تعالى: " قل كل يعمل على شاكلته قال: على نيته. اقول: إشارة إلى رسوخ الملكات بحيث يبطل في النفس استعداد ما يقابلها وروي الرواية العياشي أيضا في تفسيره عن أبى هاشم عنه عليه السلام. وفي الدر المنثور ": في قوله تعالى: " يسألونك عن الروح " الاية أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ في العظمة والحاكم وصححه وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه فنزلت: " يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما اوتيتم من العلم إلا قليلا " قالوا: أوتينا علما كثيرا اوتينا التوراة ومن اوتي التوراة فقد اوتي خيرا كثيرا فأنزل الله: " قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربى ولو جئنا بمثله مددا ". اقول: وروى بطرق أخرى عن عبد الله بن مسعود وعن عبد الرحمان بن عبد الله ابن ام الحكم أن السؤال إنما كان من اليهود بالمدينة وبها نزلت الاية وكون السورة مكية واتحاد سياق آياتها لا يلائم ذلك. وفيه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم وابن الانباري في كتاب الاضداد وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في الاسماء والصفات عن علي بن أبي طالب في قوله:
________________________________________
[ 213 ]
" ويسألونك عن الروح " قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة اقول: كون الروح من الملائكة لا يوافق ظاهر عدة من آيات الكتاب كقوله: " ينزل الملائكة بالروح من أمره " النحل: وغيره من الايات، وقد تقدم في ذيل قوله تعالى: " ينزل الملائكة بالروح من أمره " من سورة النحل حديث على عليه السلام وفيه إنكاره أن يكون الروح ملكا واحتجاجه على ذلك بالاية فالعبرة في أمر الروح بما يأتي. وفي الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن قول الله عزوجل: يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى " قال: خلق أعظم من جبرائيل وميكائيل كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مع الائمة وهو من الملكوت. اقول: وفي معناه روايات أخر، والرواية توافق ما تقدم توضيحه من مدلول الايات. وفي تفسير العياشي عن زرارة وحمران عن أبى جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام عن قوله " يسألونك عن الروح قال: إن الله تبارك وتعالى أحد صمد والصمد الشئ الذى ليس له جوف فإنما الروح خلق من خلقه له بصر وقوة وتأييد يجعله في قلوب الرسل والمؤمنين. اقول: وإنما تعرض في صدر الرواية بما تعرض دفعا لما يتوهم من مثل قوله تعالى: " ونفخت فيه من روحي " أن هناك جوفا ونفسا منفوخا. وفيه عن أبي بصير عن أحدهما عليهما السلام قال: سألته عن قوله: " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي " ما الروح ؟ قال: التي في الدواب والناس قلت: وما هي ؟ قال: من الملكوت من القدرة. أقول: وهذه الروايات تؤيد ما تقدم في بيان الاية أن الروح المسؤول عنه حقيقة وسيعة ذات مراتب مختلفة، وأيضا ظاهر هذه الرواية كون الروح الحيواني مجردا من الملكوت.
________________________________________
[ 214 ]
وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير وإبن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب ورجلا من بنى عبد الدار وأبا البحترى أخا بني أسد والاسود بن المطلب وربيعة بن الاسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي امية وامية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج السهميين أجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سريعا وهو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بدء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم. فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذرك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الابآء، وعبت الدين، وسفهت الاحلام وشتمت الالهة وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح الا وقد جئت فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من اموالنا حتى تكون اكثرنا مالا، وإن كنت تطلب الشرف فينا سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي - فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه ونعذر فيك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ولا فيئكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا. وأنزل علي كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فان تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والاخرة وان تردوه علي أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فأسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق، وليبعث لنا من قد مضى من آبائنا وليكن فيمن
________________________________________
[ 215 ]
يبعث لنا منهم قصى بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل ؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولا. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما ارسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والاخرة، وإن تردوه على أصبر لامر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخر لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك، وتسأله أن يجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالاسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت اليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والاخرة وان تردوه علي أصبر لامر الله حتى يحكم الله بينى وبينكم. قالوا: فاسقط السماء كما زعمت أن ربك ان شاء فعل فإنا لن نؤمن لك الا أن تفعل فقال رسول الله ذلك إلى الله ان شاء فعل بكم ذلك. قالوا: يا محمد قد علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم اليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك بما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمان وإنا والله لن نؤمن بالرحمان أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا، وقال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عنهم وقام معهم عبد الله بن أبي امية فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لانفسهم امورا ليعرفوا بها منزلتك عند الله فلم تفعل ذلك ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فو الله ما
________________________________________
[ 216 ]
اؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتى معك بنسخة منشورة معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا اصدقك. ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رآى من متابعتهم إياه وأنزل عليه فيما قال له عبد الله بن أبي أميه: " وقالوا لن نؤمن لك - إلى قوله - بشرا رسولا الحديث. أقول: وألذي ذكر في الروايي من محاورتهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسؤالاتهم لا ينطبق على ظاهر الايات ولا ما فيها من الجواب على ظاهر ما فيها من الجواب. وقد تقدمت الاشارة إلى ذلك في بيان الايات. وقد تكررت الرواية من طرق الشيعة وأهل السنة أن الذي القى إليه صلى الله عليه وآله وسلم القول من بين القوم وسأله هذه المسائل هو عبد الله بن أبي أمية المخزومى أخو ام سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفى الدر المنثور: في قوله تعالى: " ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم " أخرج أحمد والبخاري ومسلم والنسائي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وأبو نعيم في المعرفة وابن مردويه والبيهقي في الاسماء والصفات عن انس قال: قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ قال: الذى أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيه على وجوههم أقول: وفي معناه روايات أخر. * * * ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني اسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لا ظنك يا موسى مسحورا (101).
________________________________________
[ 217 ]
قال لقد علمت ما أنزل هولاء إلا رب السموات والارض بصائر وإنى لا ظنك يا فرعون مثبورا (102). فأراد أن يستفزهم من الارض فأغرقناه ومن معه جميعا (103). وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الارض فإذا جاء وعد الاخرة جئنا بكم لفيفا (104). وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك الا مبشرا ونذيرا (105). وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا (106). قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للاذقان سجدا (107). ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا (108). ويخرون للاذقان يبكون ويزيدهم خشوعا (109). قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا (110). وقل الحمد لله الذى لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا (111). بيان في الايات تنظير ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم من معجزة النبوة وهو القرآن وإعراض المشركين عنه واقتراحهم آيات اخرى جزافيه بما جاء به موسى عليه السلام من آيات النبوة وإعراض فرعون عنها ورميه إياه بأنه مسحور ثم عود إلى وصف القرآن والسبب في نزوله مفرقة أجزاؤه وما يلحق بها من المعارف.
________________________________________
[ 218 ]
قوله تعالى: " ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فسئل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إنى لا ظنك يا موسى مسحورا " الذي اوتي موسى عليه السلام من الايات على ما يقصه القرآن أكثر من تسع غير أن الايات التى أتى بها لدعوة فرعون فيما يذكره القرآن تسع وهي: العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفدع والدم والسنون ونقص من الثمرات فالظاهر أنها هي المرادة بالايات التسع المذكورة في الاية وخاصة مع ما فيها من محكى قول موسى لفرعون: " لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والارض بصائر " وأما غير هذه الايات كالبحر والحجر وإحياء المقتول بالبقرة وإحياء من أخذته الصاعقة من قومه ونتق الجبل فوقهم وغير ذلك فهي خارجة عن هذه التسع المذكورة في الاية. ولا ينافي ذلك كون الايات إنما ظهرت تدريجا فإن هذه المحاورة مستخرجة من مجموع ما تخاصم به موسى وفرعون طول دعوته. فلا عبرة بما ذكره بعض المفسرين مخالفا لما عددناه لعدم شاهد عليه وفي التوراة أن التسع هي العصا والدم والضفادع والقمل وموت البهائم وبرد كنار أنزل مع نار مضطرمة أهلكت ما مرت به من نبات وحيوان والجراد والظلمة وموت عم كبار الادميين وجميع الحيوانات. ولعل مخالفة التوراة لظاهر القرآن في الايات التسع هي الموجبة لترك تفصيل الايات التسع في الاية ليستقيم الامر بالسؤال من اليهود لانهم مع صريح المخالفة لم يكونوا ليصدقوا القرآن بل كانوا يبادرون إلى التكذيب قبل التصديق. وقوله: " إنى لا ظنك يا موسى مسحورا " أي سحرت فاختل عقلك وهذا في معنى قوله المنقول في موضع آخر: " إن رسولكم الذى أرسل إليكم لمجنون " الشعراء: 27 وقيل المراد بالمسحور الساحر نظير الميمون والمشؤم بمعنى اليامن والشائم وأصله استعمال وزن الفاعل في النسبة ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى: " قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السموات والارض بصائر وإني لا ظنك يا فرعون مثبورا " المثبور الهالك وهو من الثبور بمعنى الهلاك والمعنى قال موسى مخاطبا لفرعون: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الايات البينات إلا رب
________________________________________
[ 219 ]
السموات والارض أنزلها بصائر يتبصر بها لتمييز الحق من الباطل وإني لا ظنك يا فرعون هالكا بالاخرة لعنادك وجحودك. وإنما أخذ الظن دون اليقين لان الحكم لله وليوافق ما في كلام فرعون: " وإنى لاظنك يا موسى " الخ ومن الظن ما يستعمل في مورد اليقين. قوله تعالى: " فأراد أن يستفزهم من الارض فأغرقناه ومن معه جميعا " الاستفزاز الازعاج والاخراج بعنف، ومعنى الاية ظاهر. قوله تعالى وقلنا من بعده لبنى اسرائيل اسكنوا الارض فإذا جاء وعد الاخرة جئنا بكم لفيفا " المراد بالارض التي أمروا أن يسكنوها هي الارض المقدسة التي كتبها الله لهم بشهادة قوله: ادخلوا الارض المقدسة التي كتب الله لكم " المائدة: 21، وغير ذلك كما أن المراد بالارض في الاية السابقة مطلق الارض أو أرض مصر بشهادة السياق. وقوله: " فإذا جاء وعد الاخرة أي وعد الكرة الاخرة أو الحياة الاخرة والمراد به على ما ذكره المفسرون يوم القيامة، وقوله: " جئنا بكم لفيفا " أي مجموعا ملفوفا بعضكم ببعض. والمعنى: وقلنا من بعد غرق فرعون لبني إسرائيل اسكنوا الارض المقدسة - وكان فرعون يريد أن يستفزهم من الارض - فإذا كان يوم القيامة جئنا بكم ملتفين مجتمعين للحساب وفصل القضاء. وليس ببعيد أن يكون المراد بوعد الاخرة ما ذكره الله سبحانه في أول السورة فيما قضى إلى بنى إسرائيل بقوله: فإذا جاء وعد الاخرة ليسوؤا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا " وإان لم يذكره جمهور المفسرين فينعطف بذلك ذيل الكلام في السورة إلى صدره، ويكون المراد أنا أمرناهم بعد غرق فرعون ان اسكنوا الارض المقدسة التي كان يمنعكم منها فرعون والبثوا فيها حتى إذا جاء وعد الاخرة التى يلتف بكم فيها البلاء بالقتل والاسر والجلاء جمعناكم منها وجئنابكم لفيفا، وذلك أسارتهم وإجلاؤهم إلى بابل.
________________________________________
[ 220 ]
ويتضح على هذا الوجه نكتة تفرع قوله: " فإذا جاء وعد الاخرة " الخ على قوله: " وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الارض " على خلاف الوجه السابق الذي لا يترتب فيه على التفريع نكتة ظاهرة. قوله تعالى: " وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا " لما فرغ من التنظير رجع إلى ما كان عليه من بيان حال القرآن وذكر أوصافه فذكر أنه أنزله انزالا مصاحبا للحق وقد نزل هو من عنده نزولا مصاحبا للحق فهو مصون من الباطل من جهة من أنزله فليس من لغو القول وهذره ولا داخله شئ يمكن أن يفسده يوما ولا شاركه فيه أحد حتى ينسخه في وقت من الاوقات وليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم الا رسولا منه تعالى يبشر به وينذر وليس له أن يتصرف فيه بزيادة أو نقيصة أو يتركه كلا أو بعضا باقتراح من الناس أو هوى من نفسه أو يعرض عنه فيسأل الله آية أخرى فيها هواه أو هوى الناس أو يداهنهم فيه أو يسامحهم في شئ من معارفه وأحكامه كل ذلك لانه حق صادر عن مصدر حق، وماذا بعد الحق الا الضلال. فقوله: " وما أرسلناك " الخ متمم للكلام السابق، ومحصله أن القرآن آية حقة ليس لاحد أن يتصرف فيه شيئا من التصرف والنبي وغيره في ذلك سواء. قوله تعالى: وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا " معطوف على ما قبله أي أنزلناه بالحق وفرقناه قرآنا، قال في المجمع: معنى فرقناه فصلناه ونزلناه آية آية وسورة سورة ويدل عليه قوله: " على مكث " والمكث - بضم الميم - والمكث - بفتحها - لغتان. انتهى. فاللفظ بحسب نفسه يعم نزول المعارف القرآنية التي هي عند الله في قالب الالفاظ والعبارات التي لا تتلقى الا بالتدريج ولا تتعاطى الا بالمكث والتؤدة ليسهل على الناس تعقله وحفظه على حد قوله " انا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وانه في أم الكتاب لدينا لعلى حكيم " الزخرف: 4. ونزول الايات القرآنية نجوما مفرقة سورة سورة وآية آية بحسب بلوغ الناس فة استعداد تلقي المعارف الاصلية للاعتقاد والاحكام الفرعية للعمل واقتضاء المصالح ذلك ليقارن العلم العمل ولا يجمح عنه طباع الناس بأخذ معارفه وأحكامه واحدا بعد
________________________________________
[ 221 ]
واحد كما لو نزل دفعة وقد نزلت التوراة دفعة فلم يتلقها اليهود بالقبول الا بعد نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة. لكن الاوفق بسياق الايات السابقة وفيها مثل قولهم المحكي: " حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه " الظاهر في اقتراح نزول القرآن دفعة هو أن يكون المراد بتفريق القرآن انزاله سورة سورة وآية آية حسب تحقق أسباب النزول تدريجا وقد تكرر من الناس اقتراح أن ينزل القرآن جملة واحدة كما في: " وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة " الفرقان " 32، وقوله حكاية عن أهل الكتاب: " يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء " النساء: 153. ويؤيده تذييل الاية بقوله: " ونزلناه تنزيلا " فإن التنزيل وهو انزال الشئ تدريجا أمس بالاعتبار الثاني منه بالاول. ومع ذلك فالاعتبار الثاني وهو تفصيل القرآن وتفريقه بحسب النزول بانزال بعضه بعد بعض من دون أن ينزل جملة واحدة يستلزم الاعتبار الاول وهو تفصيله وتفريقه إلى معارف وأحكام متبوعة مختلفه بعدما كان الجميع مندمجة في حقيقة واحده منطوية مجتمعة الاعراق في أصل واحد فارد. ولذلك فصل الله سبحانه كتابه سورا وآيات بعدما البسه لباس اللفظ العربي ليسهل على الناس فهمه كما قال: " لعلكم تعقلون " ثم نوعها انواعا ورتبها ترتيبا فنزلها واحدة بعد واحدة عند قيام الحاجة إلى ذلك وعلى حسب حصول استعدادات الناس المختلفة وتمام قابليتهم بكل واحد منها وذلك في تمام ثلاث وعشرين سنة ليشفع التعليم بالتربية ويقرن العلم بالعمل. وسنعود إلى البحث عن بعض ما يتعلق بالاية والسورة في كلام مستقل ان شاء الله تعالى. قوله تعالى: " قل آمنوا به أو لا تؤمنوا " إلى آخر الايات الثلاث، المراد بالذين اوتوا العلم من قبله هم الذين تحققوا بالعلم بالله وآياته من قبل نزول القرآن سواء كانوا من اليهود أو النصارى أو غيرهم فلا موجب للتخصيص اللهم الا ان يقال: ان السياق
________________________________________
[ 222 ]
يفيد كون هؤلاء من اهل الحق والدين غير المنسوخ يومئذ هو دين المسيح عليه السلام فهم أهل الحق من علماء النصرانية الذين لم يزيغوا ولم يبدلوا. وعلى أي حال المراد من كونهم اوتوا العلم من قبله أنهم استعدوا لفهم كلمه الحق وقبولها لتجهزهم بالعلم بحقيقة معناه وايراثه اياهم وصف الخشوع فيزيدهم القرآن المتلو عليهم خشوعا. وقوله: " يخرون للاذقان سجدا الاذقان جمع ذقن وهو مجمع اللحيين من الوجه، والخرور للاذقان السقوط على الارض على أذقانهم للسجدة كما يبينه قوله: " سجدا " وانما اعتبرت الاذقان لان الذقن أقرب أجزاء الوجه من الارض عند الخرور عليها للسجدة، وربما قيل: المراد بالاذقان الوجوه اطلاقا للجزء على الكل مجازا. وقوله: " ويقولون سبحان ربنا ان كان وعد ربنا لمفعولا: اي ينزهونه تعالى عن كل نقص وعن خلف الوعد خاصة ويعطي سياق الايات السابقة أن المراد بالوعد وعده سبحانه بالبعث وهذا في قبال اصرار المشركين على نفى البعث وانكار المعاد كما تكرر في الايات السابقة. وقوله: " ويخرون للاذقان يبكون ويزيدهم خشوعا " تكرار الخرور للاذقان واضافته إلى البكاء لافادة معنى الخضوع وهو التذلل الذى يكون بالبدن كما أن الجملة الثانية لافادة معنى الخشوع وهو التذلل الذي يكون بالقلب فمحصل الاية أنهم يخضعون ويخشعون. وفي الاية اثبات خاصة المؤمنين لهم وهي التى أشير إليها بقوله سابقا: (وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) كما أن في الاية نفي خاصة المشركين عنهم وهي انكار البعث. وفي هذه الايات الثلاث بيان أن القرآن في غنى عن إيمانهم لا لان إيمان الذين اوتوا العلم من قبله يرفع حاجة له إلى إيمان غيرهم بل لان إيمانهم به يكشف عن أنه كتاب حق أنزل بالحق لا حاجة له في حقيته ولا افتقار في كماله إلى إيمان مؤمن وتصديق مصدق فإن آمنوا به فلا نفسهم وإن كفروا به فعليها لا له ولا عليه.
________________________________________
[ 223 ]
فقد ذكر سبحانه إعراضهم عن القرآن وكفرهم به وعدم اعتنائهم بكونه آية واقتراحهم آيات اخرى ثم بين له من نعوت الكمال ودلائل الاعجاز في لفظه ومعناه وغزاره الاثر في النفوس وكيفية نزوله ما استبان به انه حق لا يعتريه بطلان ولا فساد أصلا ثم بين في هذه الايات أنه في غنى عن إيمانهم فهم وما يختارونه من الايمان والكفر. قوله تعالى: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمان أياما تدعوا فله الاسماء الحسنى " لفظة أو للتسوبة ؟ ؟ والاباحه فالمراد بقوله " الله " و " الرحمان " الاسمان الدالان على المسمى دون المسمى، والمعنى ادعوا باسم الله أو باسم الرحمان فالدعاء. دعاؤه. وقوله: " أيا ما تدعوا شرط وما صلة للتأكيد نظير قوله: فبما رحمة من الله " آل عمران 159. وقوله: " عما قليل ليصبحن نادمين " المؤمنون 40 و " أيا " شرطية وهى مفعول " تدعوا ". وقوله: " فله الاسماء الحسنى " جواب الشرط، وهو من وضع السبب موضع المسبب والمعنى أي اسم من الاسمين تدعوه فهو اسم أحسن له لان الاسماء الحسنى كلها له فالاسماء الدالة على المسميات منها حسنة تدل على ما فيه حسن ومنها قبيحة بخلافها ولا سبيل للقبيح إليه تعالى، والاسماء الحسنة منها ما هو أحسن لاشوب نقص وقبح فيه كالغنى الذي لا فقر معه والحياة التي لاموت معها والعزة التي لا ذلة دونها ومنها ما هو حسن يغلب عليه الحسن من غير محوضة ولله سبحانه الاسماء الحسنى، وهي كل اسم هو أحسن الاسماء في معناه كما يدل عليه قول أئمه الدين: ان الله تعالى غني لا كالاغنياء حي لا كالاحياء، عزيز لا كالاعزة عليم لا كالعلماء وهكذا أي له من كل كمال صرفه ومحضه الذي لا يشوبه خلافه. والضمير في قوله: " أيا ما تدعوا فله الاسماء الحسنى " عائد إلى الذات المتعالية من كل اسم ورسم، وليس براجع إلى شئ من الاسمين الله والرحمان لان المراد بهما كما - تقدم - الاسمان دون الذات المتعالية التي هي مسماة بهما ولا معنى لان يقال: أيا من الاسمين تدعوا فان لذلك الاسم جميع الاسماء الحسنى أو باقي الاسماء الحسنى بل المعنى أيا من اسمائه تدعوا فلا مانع منه لانها جميعا اسماؤه لانها اسماء حسنى وله
________________________________________
[ 224 ]
الاسماء الحسنى فهى طرق دعوته ودعوتها دعوته فإنها اسماؤه والاسم مرآة المسمى وعنوانه فافهم ذلك. والاية من غرر الايات القرآنية تنير حقيقة ما يراه القرآن الكريم من توحيد الذات وتوحيد العبادة قبال ما يراه الوثنية من توحيد الذات وتشريك العبادة. فإن الوثنية - على ما تقدم جملة من آرائهم في الجزء العاشر من الكتاب ترى انه سبحانه ذات متعالية من كل حد ونعت ثم تعينت بأسماء اسما بعد اسم وتسمي ذلك تولدا، وترى الملائكة والجن مظاهر عالية لاسمائه فهم ابناؤه المتصرفون في الكون، وترى أن عبادة العابدين وتوجه المتوجهين لا يتعدى طور الاسماء ولا يتجاوز مرتبة الابناء الذين هم مظاهر اسمائه فإنا انما نعبد فيما نعبد الاله أو الخالق أو الرازق أو المحيي أو المميت إلى غير ذلك، وهذه كلها اسماء مظاهرها الابناء من الملائكة والجن: وأما الذات المتعالية فهي أرفع من أن يناله حس أو وهم أو عقل، وأعلى من أن يتعلق به توجه أو طلب أو عبادة أو نسك. فعندهم دعوة كل اسم هي عبادة ذلك الاسم أي الملك أو الجن الذي هو مظهر ذلك الاسم وهو الاله المعبود بتلك العبادة فيتكثر الالهة بتكثر أنواع الدعوات بأنواع الحاجات ولذلك لما سمع بعض المشركين دعاءه صلى الله عليه وآله وسلم في صلاته: يا الله يا رحمان قال: انظروا إلى هذا الصابئ ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهين. والايه الكريمة ترد عليهم ذلك وتكشف عن وجه الخطأ في رأيهم بأن هذه الاسماء أسماء حسنى له تعالى فهي مملوكة له محضا لا تستقل دونه بنعت ولا تنحاز عنه في ذات أو صفة تملكه وتقوم به فليس لها إلا الطريقيه المحضة، ويكون دعاؤها دعاءه والتوجه بها توجها إليه، وكيف يستقيم أن يحجب الاسم المسمى وليس إلا طريقا دالا عليه هاديا إليه ووجها له يتجلى به لغيره، فدعاء الاسماء الكثيرة لا ينافي توحيد عبادة الذات كما يمتنع أن تقف العبادة على الاسم ولا يتعداه. ويتفرع على هذا البيان ظهور الخطأ في عد الاسماء أو مظاهرها من الملائكة والجن
________________________________________
[ 225 ]
أبناء له تعالى فان إطلاق الولد والابن سواء كان على وجه الحقيقة أو التشريف يقتضى نوع مسانخة واشتراك بين الولد الوالد - أو الابن والاب - في حقيقة الذات أو كمال من كمالاته وساحة كبريائه منزهة من أن يشاركه شئ غيره في ذات أو كمال فإن الذي له هو لنفسه، والذى لغيره هو له لا لانفسهم. وكذا ظهور الخطأ في نسبه التصرف في الكون بأنواعه إليهم فإن هؤلاء الملائكه وكذا الاسماء التي هم مظاهر لها عندهم لا يملكون لانفسهم شيئا ولا يستقلون دونه بشئ بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وكذا الجن فيما يعملون وبالجملة ما من سبب من الاسباب الفعالة في الكون إلا وهو تعالى الذي ملكه القدرة على ما يعمله، وهو المالك لما ملكه والقادر على ما عليه أقدره. وهذا هو الذي تفيده الاية التالية " وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولى من الذل " وسنكرر الاشارة إليه إن شاء الله. وفي الاية دلالة على أن لفظة الجلالة من الاسماء الحسنى فهو في أصله - الاله - وصف يفيد معني المعبودية وإن عرضت عليه العلمية بكثرة الاستعمال كما يدل عليه صحة إجراء الصفات عليه يقال: الله الرحمن الرحيم ولا يقال الرحمن الله الرحيم وفي كلامه تعالى: " بسم الله الرحمن الرحيم ". قوله تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا " الجهر والاخفات وصفان متضائفان، يتصف بهما الاصوات، وربما يعتبر بينهما خصلة ثالثة هي بالنسبة إلى الجهر إخفات وبالنسبة إلى الاخفات جهر فيكون الجهر هو المبالغة في رفع الصوت، والاخفات هو المبالغة في خفضه وما بينهما هو الاعتدال فيكون معنى الاية لا تبالغ في صلاتك في الجهر ولا في الاخفات بل اسلك فيما بينهما سبيلا وهو الاعتدال وتسميته سبيلا لانه سنة يستن بها هو ومن يقتدي به من امته المؤمنين به. هذا لو كان المراد بالصلاة في قوله: " بصلاتك " للاستغراق والمراد به كل صلاة


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

۱ شوال

  ۱ـ عيد الفطر السعيد.۲ـ غزوة الكدر أو قرقرة الكدر.۳ـ وفاة عمرو بن العاص.۱ـ عيد الفطر السعيد:هو اليوم الاوّل م...

المزید...

۳شوال

قتل المتوكّل العبّاسي

المزید...

۴ شوال

۱- أميرالمؤمنين يتوجه إلى صفين. ۲- وصول مسلم إلى الكوفة.

المزید...

۸ شوال

هدم قبور أئمة‌ البقيع(عليهم سلام)

المزید...

۱۰ شوال

غزوة هوازن يوم حنين أو معركة حنين

المزید...

11 شوال

الطائف ترفض الرسالة الاسلامية في (11) شوال سنة (10) للبعثة النبوية أدرك رسول الله(ص) أن أذى قريش سيزداد، وأن ...

المزید...

۱۴ شوال

وفاة عبد الملك بن مروان

المزید...

۱۵ شوال

١ـ الصدام المباشر مع اليهود واجلاء بني قينقاع.٢ـ غزوة أو معركة اُحد. ٣ـ شهادة اسد الله ورسوله حمزة بن عبد المط...

المزید...

۱۷ شوال

۱- ردّ الشمس لأميرالمؤمنين علي (عليه السلام) ۲ـ غزوة الخندق ۳ـ وفاة أبو الصلت الهروي ...

المزید...

۲۵ شوال

شهادة الامام الصادق(عليه السلام)

المزید...

۲۷ شوال

مقتل المقتدر بالله العباسي    

المزید...
012345678910
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page