• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 351 الي 377


[ 351 ]
ذكر أو انثى - وهو مؤمن فاولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويقول من عمل صالحا من ذكر أو انثى - وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة. اقول وهو ما قدمناه في معنى الاية. وفي الكافي باسناده عن ابى بصير عن ابى عبد الله عليه السلام قال: قلت له فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله - إلى قوله يتوكلون فقال يا محمد يسلط والله من المؤمن على بدنه ولا يسلط على دينه قد سلط على ايوب فشوه خلقه ولم يسلط على دينه وقد يسلط من المؤمنين على ابدانهم ولا يسلط على دينهم. قلت له قوله عز وجل انما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون قال الذين هم بالله مشركون يسلط على ابدانهم وعلى اديانهم. اقول ورواه العياشي عن ابى بصير عنه عليه السلام وارجاع ضمير به إلى الله احد المعنيين في الاية. وفي الدر المنثور اخرج الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الايمان عن ابن عباس ": في قوله انما يعلمه بشر قال قالوا - انما يعلم محمدا عبدة بن الحضرمي وهو صاحب الكتب فقال الله لسان الذى يلحدون إليه اعجمي وهذا لسان عربي مبين وفي تفسير العياشي عن محمد بن عزامة الصيرفى عمن اخبره عن ابى عبد الله عليه السلام قال: ان الله عز وجل خلق روح القدس - فلم يخلق خلقا اقرب إلى الله منها وليست بأكرم خلقه عليه فإذا اراد امرا القاه إليها فألقاه إلى النجوم فجرت به قوله تعالى (1) ولقد نعلم انهم يقولون - انما يعلمه بشر لسان الذى يلحدون إليه وهو لسان ابى فكيهة مولى بنى الحضرمي - كان اعجمي اللسان - وكان قد اتبع نبى الله وآمن به وكان من اهل الكتاب فقالت قريش - هذا والله يعلم محمدا علمه بلسانه يقول الله وهذا لسان عربي مبين.
________________________________________
(1) هذا الذيل مذكور في تفسير البرهان نقلا عن العياشي لكنه غير موجود في النسخة المطبوعة اخيرا من التفسير. (*)
________________________________________
[ 352 ]
اقول والروايات في هذا الرجل مختلفة ففى هذه الرواية انه أبو فكيهة مولى بنى الحضرمي وفي الرواية السابقة انه عبدة بن الحضرمي وعن قتادة انه عبدة بن الحضرمي وكان يسمى مقيص وعن السدى انه كان عبدا لبنى الحضرمي نصرانيا كان قد قرأ التوراة والانجيل يقال له أبو بشر وعن مجاهد انه ابن الحضرمي كان اعجميا يتكلم بالرومية وعن ابن عباس ايضا في رواية انه كان قينا بمكة اسمه بلعام وكان عجمى اللسان فكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده فقالوا انما يعلمه بلعام. والمتيقن من مضامينها انه كان رجلا روميا مولى لبنى الحضرمي يسكن مكة نصرانيا له خبرة بكتب اهل الكتاب رموه بانه يعلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وفي الدر المنثور اخرج ابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم عن الضحاك في الاية قال: كانوا يقولون انما يعلمه سلمان الفارسى فأنزل الله لسان الذى يلحدون إليه اعجمي اقول وهو لا يلائم كون الاية مكية. وفيه اخرج ابن الخرائطي في مساوى الاخلاق وابن عساكر في تاريخه عن عبد الله ابن جراد انه سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل يزنى المؤمن ؟ قال - قد يكون ذلك قال هل يسرق المؤمن ؟ قال قد يكون ذلك قال هل يكذب المؤمن ؟ قال لا ثم اتبعها نبى الله صلى الله عليه وآله وسلم انما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون وفي تفسير العياشي عن العباس بن الهلال عن ابى الحسن الرضا عليه السلام: انه ذكر رجلا كذابا ثم قال قال الله انما يفترى الكذب الذين لا يؤمنون * * * من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم - 106 ذلك بانهم استحبوا الحياة الدنيا على
________________________________________
[ 353 ]
الاخرة وان الله لا يهدى القوم الكافرين - 107 اولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم واولئك هم الغافلون - 108 لا جرم انهم في الاخرة هم الخاسرون - 109 ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم - 110 يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون - 111 (بيان) في الايات وعيد على الكفر بعد الايمان وهو الارتداد ووعد جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا المجاهدين الصابرين في الله وفيها تعرض لحكم التقية. قوله تعالى: " من كفر بالله من بعد ايمانه إلا من اكره " الاطمئنان السكون والاستقرار والشرح البسط قال في المفردات اصل الشرح بسط اللحم ونحوه يقال شرحت اللحم وشرحته ومنه شرح الصدر أي بسطه بنور الهى وسكينة من جهة الله وروح منه قال تعالى: " رب اشرح لى صدري ألم نشرح لك صدرك " أفمن شرح الله صدره وشرح المشكل من الكلام بسطه واظهار ما يخفى من معانيه انتهى. وقوله من كفر بالله من بعد ايمانه شرط جوابه قوله فعليهم غضب من الله وعطف عليه قوله ولهم عذاب عظيم وضمير الجمع في الجزاء عائد إلى اسم الشرط من لكونه بحسب المعنى كليا ذا افراد. وقوله إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان استثناء من عموم الشرط والمراد
________________________________________
[ 354 ]
بالاكراه الاجبار على كلمة الكفر والتظاهر به فان القلب لا يقبل الاكراه والمراد استثنى من اكره على الكفر بعد الايمان فكفر في الظاهر وقلبه مطمئن بالايمان وقوله ولكن من شرح بالكفر صدرا أي بسط صدره للكفر فقبله قبول رضى ووعاه والجملة استدراك من الاستثناء فيعود إلى معنى المستثنى منه فان المعنى ما اريد بقولى من كفر بالله من بعد ايمانه من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ولكن اريد به من شرح بالكفر صدرا وفي مجموع الاستثناء والاستدراك بيان كامل للشرط وهذه هي النكتة لاعتراض الاستثناء بين الشرط والجزاء وعدم تأخيره إلى ان تتم الشرطية. وقيل قوله من كفر بدل من الذين لا يؤمنون بآيات الله في الاية السابقة وقوله واولئك هم الكاذبون جملة معترضة وقوله الا من اكره استثناء من ذلك وقوله ولكن من شرح مبتدأ خبره أو القائم مقام خبره قوله فعليهم غضب من الله. والمعنى على هذا انما يفترى الكذب الذين كفروا من بعد ايمانهم إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان وعند ذلك تم الكلام ثم بدأ فقال ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله. والذوق السليم يكفى مؤنة هذا الوجه على ما به من السخافة. قوله تعالى: " ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الاخرة وان الله لا يهدى القوم الكافرين " بيان لسبب حلول غضب الله بهم وثبوت العذاب العظيم عليهم وهو انهم اختاروا الحياة الدنيا وهى الحياة المادية التى لا غاية لها الا التمتع الحيوانى والاشتغال بمشتهيات النفس على الاخرة التى هي حياة دائمة مؤبدة في جوار رب العالمين وهى غاية الحياة الانسانية. وبعبارة اخرى هؤلاء لم يريدوا الا الدنيا وانقطعوا عن الاخرة وكفروا بها والله لا يهدى القوم الكافرين واذ لم يهدهم الله ضلوا عن طريق السعادة والجنة والرضوان فوقعوا في غضب من الله وعذاب عظيم. قوله تعالى: " اولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم واولئك
________________________________________
[ 355 ]
هم الغافلون اشارة إلى ان اختيار الحياة الدنيا على الاخرة والحرمان من هداية الله سبحانه هو الوصف الذى يوصف به الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وابصارهم والذين يسمون غافلين. فانهم باختيارهم الحياة الدنيا غاية لانفسهم وحرمانهم من الاهتداء إلى الاخرى انقطعوا عن الاخرة وتعلقوا بالدنيا وجعلوها غاية لانفسهم فوقف حسهم وعقلهم فيها دون ان يتعدياها إلى ما وراءها وهو الاخرة فليسوا يبصرون ما يعتبرون به ولا يسمعون عظة يتعظون بها ولا يعقلون حجة يهتدون بها إلى الاخرة. فهم مطبوع على قلوبهم وسمعهم وابصارهم فلا تنال قلوبهم ولا سمعهم وابصارهم ما يدلهم على الاخرة وهم غافلون عنها لا يتنبهون لشئ من امرها. فظهر ان ما في الاية السابقة من الوصف بمنزلة المعرف لما في هذه الاية من الطبع ومن الغفلة فعدم هداية الله اياهم اثر ما تعلقوا بالدنيا هو معنى الطبع والغفلة والطبع صنع الهى منسوب إليه تعالى فعله بهم مجازاة والغفلة صفة منسوبة إليهم انفسهم. قوله تعالى: " لا جرم انهم في الاخرة هم الخاسرون لانهم ضيعوا رأس مالهم في الدنيا فبقوا لا زاد لهم يعيشون به في اخراهم وقد وقع في نظير المقام من سورة هود: " لا جرم انهم في الاخرة هم الاخسرون " هود: 22 ولعل وجه التشديد هناك انه تعالى اضاف إلى صفاتهم هناك انهم صدوا عن سبيل الله فراجع. قوله تعالى: " ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم " الفتنة في الاصل ادخال الذهب النار ليظهر جودته ثم استعمل في مطلق البلاء والتعذيب وقد كانت قريش ومشركو مكة يفتنون المؤمنين ليردوهم عن دينهم ويعذبونهم بانواع العذاب حتى ربما كانوا يموتون تحت العذاب كما فتنوا عمارا وأباه وامه فقتل ابواه وارتد عمار ظاهرا فتفصى منهم بالتقية وفي ذلك نزلت الايات السابقة كما سيأتي ان شاء الله في البحث الروائي. ومن هنا يظهر ان للاية اتصالا بما قبلها من قوله الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان وهى في معنى قولنا وبعد ذلك كله ان الله غفور رحيم للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا.
________________________________________
[ 356 ]
فقوله ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا وعد جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا بالمغفرة والرحمة يوم القيامة قبال ما اوعد غيرهم بالخسران التام يومئذ وقد قيد ذلك بالجهاد والصبر بعد المهاجرة وقوله ان ربك من بعدها لغفور رحيم بمنزلة تلخيص صدر الكلام لطوله ليلحق به ذيله ويفيد فائدة التأكيد كقولنا زيد في الدار زيد في الدار كذا وكذا ويفيد ان لما ذكر من قيود الكلام دخلا في الحكم فالله سبحانه لا يرضى عنهم الا أن يهاجروا ولا عن هجرتهم الا ان يجاهدوا بعدها ويصبروا. قوله تعالى: " يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون " اتيان النفس يوم القيامة كناية عن حضورها عند الملك الديان كما قال فانهم لمحضرون " الصافات - 127 والضمير في قوله عن نفسها للنفس ولا ضير في اضافة النفس إلى ضمير النفس فان النفس ربما يراد بها الشخص الانساني كقوله " من قتل نفسا بغير نفس " المائدة: 22 وربما يراد بها التأكيد ويتحدد معناها بما تقدمها من المؤكد سواء كان انسانا أو غيره كما يقال الانسان نفسه والفرس نفسه والحجر نفسه والسواد نفسه ويقال نفس الانسان ونفس الفرس ونفس الحجر ونفس السواد وقوله عن نفسها المراد فيه بالمضاف المعنى الثاني وبالمضاف إليه المعنى الاول وقد دفع التعبير بالضمير بشاعة تكرار اللفظ بالاضافة وفي هذا المقدار كفاية عن الابحاث الطويلة التى اوردها المفسرون. وقوله يوم تأتى كل نفس تجادل عن نفسها الظرف متعلق بقوله في الاية السابقة لغفور رحيم ومجادلة النفس عن نفسها دفاعها عن نفسها وقد نسيت كل شئ وراء نفسها على خلاف ما كانت عليه في الدنيا من التعلق بكل شئ دون نفسها بنسيانها وليس ذلك الا لظهور حقيقة الامر عليها وهى ان الانسان لا سبيل له إلى ما وراء نفسه وليس له في الحقيقة الا ان يشتغل بنفسه. فاليوم تأتى النفس وتحضر للحساب وهى تجادل وتصر على الدفاع عن نفسها بما تقدر عليه من الاعذار. وقوله وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون التوفية اعطاء الحق تاما
________________________________________
[ 357 ]
من غير تنقيص وقد علق التوفية على نفس العمل إذ قيل ما عملت فأفيد ان الذى اعطيته نفس العمل من غير ان يتصرف فيه بتغيير أو تعويض وفيه كمال العدل حيث لم يضف إلى ما استحقته شئ ولا نقص منه ولذلك عقبه بقوله وهم لا يظلمون ففى الاية اشارة اولا إلى ان نفسا لا تدافع يوم القيامة ولا تجادل عن غيرها بل انما تشتغل بنفسها لا فراغ لها لغيرها كما قال: " يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا " الدخان - 41 وقال: " يوم لا ينفع مال ولا بنون " الشعراء - 88 وقال: " يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة " البقرة: 254. وثانيا إلى ان الجدال لا ينفعها في صرف ما استحقتها من الجزاء شيئا فان الذى تجزاه هو عين ما عملت ولا سبيل إلى تغيير هذه النسبة وليس من الظلم في شئ. (بحث روائي) في الدر المنثور اخرج ابن المنذر وابن ابى حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال ": لما اراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان يهاجر إلى المدينة قال لاصحابه - تفرقوا عنى فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل - ومن لم تكن به قوة فليذهب في اول الليل - فإذا سمعتم بى قد استقرت بى الارض فالحقوا بى. فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار - وجاريه من قريش كانت اسلمت فاصبحوا بمكة فاخذهم المشركون وابو جهل فعرضوا على بلال - ان يكفر فأبى فجعلوا يضعون درعا من حديد في الشمس - ثم يلبسونها اياه فإذا البسوها اياه قال أحد أحد واما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك - واما عمار فقال لهم كلمه اعجبتهم تقية - واما الجارية فوتد لها أبو جهل اربعة اوتاد ثم مدها فادخل الحربة في قلبها حتى قتلها ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - فاخبروه بالذى (كان) من امرهم واشتد على عمار الذى كان تكلم به فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - كيف كان قلبك حين قلت الذى قلت ؟ أكان منشرحا بالذى قلت ام لا ؟ قال لا قال - وانزل الله الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان.
________________________________________
[ 358 ]
اقول والجارية المذكورة في الرواية هي سمية ام عمار وكان معهم ياسر أبو عمار وقيل وكان أبو عمار اول شهيدين في الاسلام وقد استفاضت الروايات على قتلهما بالفتنة واظهار عمار الكفر تقية ونزول الاية فيه. وفيه اخرج عبد الرزاق وابن سعد وابن جرير وابن ابى حاتم وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل من طريق ابى عبيدة بن محمد بن عمار عن ابيه قال ": اخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه. فلما اتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ما وراءك شئ ؟ قال شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير - قال كيف تجد قلبك ؟ قال مطمئن بالايمان قال ان عادوا فعد فنزلت الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان وفي المجمع عن ابن عباس وقتاده ": ان الاية نزلت في جماعة اكرهوا - وهم عمار وياسر ابوه وامه سمية وصهيب وبلال وخباب عذبوا وقتل أبو عمار وامه وأعطاهم عمار بلسانه - ما ارادوا منه ثم اخبر سبحانه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال قوم كفر عمار فقال صلى الله عليه وآله وسلم كلا ان عمارا ملئ ايمانا من قرنه إلى قدمه - واختلط الايمان بلحمه ودمه. وجاء عمار إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يبكى - فقال صلى الله عليه وآله وسلم ما وراءك ؟ فقال شر يا رسول الله - ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يمسح عينيه ويقول ان عادوا لك فعد لهم بما قلت فنزلت الاية وفي الدر المنثور اخرج ابن سعد عن عمر بن الحكم قال كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدرى ما يقول - وكان صهيب يعذب حتى لا يدرى ما يقول - وكان أبو فكيهة يعذب حتى لا يدرى ما يقول - وبلال وعامر وابن فهيرة وقوم من المسلمين - وفيهم نزلت هذه الاية " ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ". اقول وسمى منهم في بعض الروايات عباس بن ابى ربيعة وفي بعضها الاخر هو والوليد بن ابى ربيعة والوليد بن الوليد بن المغيرة وابو جندل بن سهيل بن عمرو واجمع رواية في ذلك ما عن ابن عباس ان هذه الاية نزلت فيمن كان يفتن من اصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم - ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا
________________________________________
[ 359 ]
وفي الكافي باسناده عن ابى عمرو الزبيري عن ابى عبد الله عليه السلام في حديث قال: فاما ما فرض على القلب من الايمان - الاقرار والمعرفة والعقد والرضا والتسليم بأن لا اله الا الله وحده لا شريك له الها واحدا - لم يتخذ صاحبة ولا ولدا - وان محمدا عبده ورسوله - والاقرار بما جاء به من عند الله من نبى أو كتاب - فذلك ما فرض الله على القلب من الاقرار والمعرفة - وهو عمله وهو قول الله عز وجل " الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان - ولكن من شرح بالكفر صدرا " وفيه باسنادة عن مسعدة بن صدقة قال: قيل لابي عبد الله عليه السلام ان الناس يروون إن عليا عليه السلام قال على منبر الكوفة - يا ايها الناس انكم ستدعون إلى سبى فسبوني ثم تدعون إلى البراءة منى فلا تبرؤوا منى - قال ما اكثر ما يكذبون الناس على علي عليه السلام ثم قال انما قال انكم ستدعون إلى سبى فسبوني - ثم تدعون إلى البراءة وانى لعلى دين محمد - ولم يقل ولا تبرؤوا منى. فقال له السائل أرايت ان اختار القتل دون البراءة ؟ قال والله ما ذاك عليه وما له - الا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث اكرهه اهل مكة - وقلبه مطمئن بالايمان فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندها يا عمار ان عادوا فعد فقد انزل الله عذرك الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان وأمرك ان تعود إن عادوا اقول وروى هذا المعنى العياشي في تفسيره عن معمر بن يحيى بن سالم عن ابى جعفر عليه السلام وقوله عليه السلام وامرك ان تعود ان عادوا يستفاد ذلك من الاية حيث لم يرد الاستثناء فيها من الشخص بل وردت على العنوان وهو اكراه من اطمأن قلبه بالايمان واما كونه امرا منه تعالى كما امر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلعل الوجه ان صريح الاستثناء هو الجواز ومع جواز ذلك لا مساغ للاباء الذى هو عرض النفس للقتل والقاؤها في التهلكة فيجامع هذا الجواز الوجوب دون الاباحة. وفي تفسير العياشي عن عمرو بن مروان قال سمعت ابا عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: رفع عن امتى اربعة خصال - ما اخطأوا وما نسوا وما اكرهوا عليه وما لم يطيقوا وذلك في كتاب الله " الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان " * * *
________________________________________
[ 360 ]
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون - 112 ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون - 113 فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله ان كنتم اياه تعبدون - 114 انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان الله غفور رحيم - 115 ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون - 116 متاع قليل ولهم عذاب أليم - 117 وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا انفسهم يظلمون - 118 ثم ان ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك واصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم - 119 إن ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين - 120 شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم - 121 وآتيناه في الدنيا حسنة وانه في الاخرة لمن الصالحين - 122 ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين - 123
________________________________________
[ 361 ]
انما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه وان ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون - 124 ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي احسن ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين - 125 وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين - 126 واصبر وما صبرك الا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون - 127 ان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون - 128 (بيان) تتمة آيات الاحكام السابقة تذكر فيها محرمات الاكل ومحللاته ونهى عن التحليل والتحريم ابتداعا بغير اذن الله وذكر بعض ما شرع لليهود من الاحكام التى نسخت بعد وفي ذلك عطف على ما تقدم من حديث النسخ في قوله وإذا بدلنا آية مكان آية واشارة إلى ان ما انزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم انما هو دين ابراهيم عليه السلام المبنى على الاعتدال والتوحيد مرفوعا عنه ما في دين اليهود من التشديد عليهم قبال ظلمهم. وفي آخرها امر بالعدل في المعاقبة وندب إلى الصبر والاحتساب ووعد جميل بالنصرة والكفاية ان اتقوا واحسنوا. قوله تعالى: " ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا " إلى آخر الاية الرغد من العيش هو الواسع الطيب. هذا مثل ضربه الله تعالى فوصف فيه قرية آتاها ما تحتاج إليه من نعم الحياة وأتم ذلك كله بنبى بعثه إليهم يدعوهم إلى ما فيه صلاح دنياهم واخراهم فكفروا بأنعمه وكذبوا رسوله فبدل الله نعمته نقمة وعذبهم بما ظلموا بتكذيب رسوله وفي المثل
________________________________________
[ 362 ]
تحذير عن كفران نعمة الله بعد إذ بذلت والكفر باياته بعد إذ انزل وفيه توطئة وتمهيد لما سيذكره من محللات الاكل ومحرماته وينهى عن تشريع الحلال والحرام بغير اذن الله كل ذلك بالاستفادة من سياق الايات فان كل سابقة منها تسوق النظر إلى اللاحقة. وقيل ان هذه القرية هي مكة عذبهم الله بالجوع سبع سنين لما كفروا بأنعم الله وقد وسعها عليهم وكذبوا رسوله وقد ارسله إليهم فابتلوا بالقحط وكان يغار عليهم قوافلهم بسخط من الله سبحانه لما دعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكره في المجمع ونسبه إلى ابن عباس ومجاهد وقتادة. وفيه ان لا اشكال في انه في نفسه يقبل الانطباق على ما ذكر لكن سياق الايات انما يلائم كونه مثلا عاما مذكورا توطئة وتمهيدا لما بيناه. فقوله ضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا وصف القرية بثلاثة اوصاف متعاقبة غير ان الاوسط منها وهى الاطمئنان كالرابط بين الطرفين فان القرية إذا أمنت المخاطرات كمهاجمة الاشرار وشن الغارات وقتل النفوس وسبى الذرارى ونهب الاموال وكذا أمنت الحوادث الطبيعية كالزلازل وغيرها اطمأنت وسكنت فلم يضطر اهلها إلى الجلاء والتفرق. ومن كمال اطمئنانها ان يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ولا يلجأ اهلها إلى الاغتراب وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمل المشاق البالغة في طلب الرزق وجلبه إليها. فاتصاف القرية بصفاتها الثلاث المذكورة الامن والاطمئنان واتيان رزقها إليها من كل مكان يتم ويكمل لها جميع النعم المادية الصورية وسيضيف سبحانه إليها النعم المعنوية في الاية التالية ولقد جاءهم رسول منهم فهى قرية أتم اللة نعمة عليها واكملها. وقوله فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف التعبير بأنعم الله وهو جمع قلة للاشارة بها إلى الاصناف المذكورة وهى ثلاثة الامن والاطمئنان واتيان الرزق والاذاقة استعارة للايصال اليسير فاذاقة الجوع والخوف مشعر بأن الذى يوصلهما قادر على تضعيف ذلك وتكثيره بما لا يقدر بقدر كيف لا ؟ وهو الله الذى له القدرة كلها.
________________________________________
[ 363 ]
ثم اضافة اللباس إلى الجوع والخوف وفيها دلالة على الشمول والاحاطة كما يشمل اللباس البدن ويحيط به تشعر بأن هذا المقدار اليسير من الجوع والخوف الذى اذاقهم شملهم كما يشمل اللباس بدن الانسان وهو سبحانه قادر على ان يزيد على ذلك فهو المتناهى في قهره وغلبته وهم المتناهون في ذلتهم وهوانهم. ثم ختم الاية بقوله بما كانوا يصنعون للدلالة على ان سنة المجازاة في الشكر والكفر قائمة على ساق. والمعنى ضرب الله مثلا مثل قرية كان اهلها آمنين من كل شر وسوء يهددهم في نفوسهم واعراضهم واموالهم ساكنين غير مضطرين يأتيهم رزقهم طيبا واسعا من كل مكان من غير أن يضطروا إلى السفر والاغتراب فكفر اهلها بهذه النعم الالهية ولم يشكروه سبحانه فأنالهم الله شيئا يسيرا من نقمته بسلب هذه النعم وهو الجوع والخوف اللذان عماهم وشملاهم قبال ما استمروا عليه بكفران الانعم جزاء لكفرانهم. قوله تعالى: " ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب وهم ظالمون " وهذا هو النعمة المعنوية التى اضافها إلى نعمه المادية المذكورة وكان فيها صلاح معاشهم ومعادهم وتحذير لهم من الكفران بأنعم الله وشرح ما فيه من الشؤم والشقاء لكنهم كذبوا رسولهم الذى هو منهم يعرفونه ويدرون انه انما يدعوهم لامر الهى ويهديهم إلى سبيل الرشاد وسعادة الجد فظلموا ذلك فأخذهم العذاب بظلمهم. وبهذا التقرير يظهر ما في القيود المأخوذة في الاية من النكات. قوله تعالى: " فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا " إلى آخر الاية تفريع على ما تحصل من المثل نتيجة والتقدير إذا كان الحال هذا الحال وكان في كفران هذا الرزق الرغد عذاب وفي تكذيب الدعوة عذاب فكلوا مما رزقكم الله حال كونه حلالا طيبا أي لستم بممنوعين منه وانتم تستطيبونه فكلوا منه واشكروا نعمة الله ان كنتم إياه تعبدون. وقد ظهر بذلك اولا ان الاية مسوقة لتحليل طيبات الرزق مطلقا فلا سبيل إلى ما ذكره بعضهم إن المراد فكلوا مما رزقكم الله من الغنائم رزقا حلالا طيبا بناء على ان الاية
________________________________________
[ 364 ]
نزلت بعد وقعة بدر والمثل السابق مثل مضروب لاهل مكة والمراد بالرسول الذى كذبوه هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبالعذاب الذى اخذهم هو القتل الذريع لصناديدهم يوم بدر. وهذا كله مما لا دليل عليه من طريق لفظ الايات على انه قد تأيد سابقا انها مكية. وثانيا ان المراد بالحل والطيب كون الرزق بحيث لم يحرم منه الانسان طبعا وطبعه يستطيبه أي الحل والطيب بحسب الطبع وذلك ملاك الحلية الشرعية التى تتبع الحلية بحسب الفطرة فان الدين فطرى لان الله سبحانه فطر الانسان مجهزا بجهاز التغذية وجعل اشياء ارضية من الحيوان والنبات ملائمة لقوامه يميل إليها طبعه من غير نفرة فله ان يأكل منها وهو الحل. وثالثا ان قوله فكلوا امرمقدمى بالنسبة إلى قوله واشكروا نعمة الله وذكر النعمة تلويح إلى سبب الحكم فان كون الشئ نعمة هو السبب في وجوب الشكر عليه. ورابعا ان قوله ان كنتم اياه تعبدون خطاب للمؤمنين فانهم هم الذين يعبدون الله ولا يعبدون غيره والقصر في الجملة الذى يدل عليه تقديم المفعول على الفعل قصر القلب وغيرهم وهم المشركون انما يعبدون الاصنام والالهة من دون الله. وجعل الخطاب للمشركين ودعوى ان المراد بالعبادة في قوله ان كنتم إياه تعبدون الاطاعة أو ان المعنى ان صح زعمكم انكم تقصدون بعبادتكم لآلهتكم عبادته تعالى لا يرجع إلى طائل فان جعل العبادة بمعنى الاطاعة يحتاج إلى قرينة ولا قرينة والمشركون لا يعبدون الله سبحانه ولو باشراكه في العبادة ولا يقصدون بعبادة آلهتهم عبادته تعالى بل ينزهونه تعالى عن عبادتهم لكونه اجل من ان يناله ادراك أو ينتهى إليه توجه. وكون الخطاب في الاية للمؤمنين يوجب كون المثل مضروبا لاجلهم ورجوع سائر الخطابات التشريعية فيما قبل الاية وما بعدها متوجهة إليهم وربما قيل ان الخطاب لعامة الناس أعم من المؤمن والكافر وتطبيقه على الايات لا يخلو من تكلف وان كان دون تخصيص الخطاب بالمشركين اشكالا.
________________________________________
[ 365 ]
قوله تعالى: " انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فان الله غفور رحيم " تقدم الكلام في معنى الاية في تفسير سورة البقرة الاية 173 وسورة المائدة الاية 3 وسورة الانعام الاية 145. والاية بمعناها على اختلاف ما في لفظها واقعة في اربعة مواضع من القرآن في سورتي الانعام والنحل وهما مكيتان من اوائل ما نزلت بمكة وأواخرها وفي سورتي البقرة والمائدة وهما من اوائل ما نزلت بالمدينة واواخرها وهى تدل على حصر محرمات الاكل في الاربع المذكورة الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به كما نبه عليه بعضهم. لكن بالرجوع إلى السنة يظهر ان هذه هي المحرمات الاصلية التى عنى بها في الكتاب وما سوى هذه الاربع من المحرمات مما حرمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأمر من ربه وقد قال تعالى: " ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " الحشر: 7 وقد تقدم بعض الروايات الدالة على هذا المعنى. قوله تعالى ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب الخ ما في قوله لما تصف مصدرية والكذب مفعول تصف أي لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام بسبب وصف السنتكم لغاية افتراء الكذب على الله. وكون الخطاب في الايات للمؤمنين على ما يؤيده سياقها كما مر أو لعامة الناس يؤيد ان يكون المراد بقوله ولا تقولوا لما تصف السنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام النهى عن الابتداع بادخال حلال أو حرام في الاحكام الجارية في المجتمع المعمولة بينهم من دون ان ينزل به الوحى فان ذلك من ادخال ما ليس من الدين في الدين وافتراء على الله وان لم ينسبه واضعه إليه تعالى وذلك ان الدين في عرف القرآن هو سنة الحياة وقد تكرر منه سبحانه قوله يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أو ما يقرب منه فالدين لله ومن زاد فيه شيئا فقد نسبه إليه تعالى افتراء عليه وان سكت عن الاسناد أو نفي ذلك بلسانه. وذكر الجمهور ان المراد بالاية النهى عما كان المشركون يحلونه كالميتة والدم وما
________________________________________
[ 366 ]
أهل لغير الله به أو يحرمونه كالبحيرة والسائبة وغيرهما والسياق كما مر لا يؤيده. ثم قال سبحانه في مقام تعليل النهى ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون ثم بين حرمانهم من الفلاح بقوله متاع قليل ولهم عذاب اليم. قوله تعالى: " وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل " الخ المراد بقوله ما قصصنا عليك من قبل كما قيل ما قصه تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم في سورة الانعام وقد نزلت قبل سورة النحل بلا اشكال بقوله: " وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذى ظفر " إلى آخر الاية الانعام: 146. والاية في مقام دفع الدخل وفيها عطف على مسألة النسخ المذكورة سابقا كأن قائلا يقول فإذا كانت محرمات الاكل منحصرة في الاربع المذكورة الميتة والدم ولحم الخنزير وما اهل لغير الله به وكان ما وراءها حلالا فما هذه الاشياء المحرمة على بنى اسرائيل من قبل ؟ هل هذا إلا ظلم بهم ؟ فأجاب عنه بأنا حرمنا عليهم ذلك وما ظلمناهم في تحريمه ولكنهم كانوا يظلمون انفسهم فنحرم عليهم بعض الاشياء أي انه كان محللا لهم مأذونا فيه لكنهم ظلموا انفسهم وعصوا ربهم فجزيناهم بتحريمه عقوبة كما قال سبحانه في موضع آخر فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات احلت لهم الاية ولو انهم بعد ذلك كله رجعوا إلى ربهم وتابوا عن معاصيهم تاب الله عليهم ورفع الحظر عنهم وأذن لهم فيما منعهم عنه انه لغفور رحيم. فقد ظهر إن الاية متصلة بما قبلها من حديث التحليل والتحريم وانها كالجواب عن سؤال مقدر وان ما بعدها من قوله ثم ان ربك للذين عملوا السوء الاية متصل بها متمم لمضمونها. قوله تعالى: " ثم ان ربك للذين عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك واصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم الجهالة والجهل واحد وهو في الاصل ما يقابل العلم لكن الجهالة كثيرا ما تستعمل بمعنى عدم الانكشاف التام للواقع وان لم يخل المحل عن علم ما مصحح للتكليف كحال من يقترف المحرمات وهو يعلم بحرمتها لكن الاهواء النفسانية تغلبه وتحمله على المعصية ولا تدعه يتفكر في حقيقة هذه المخالفة
________________________________________
[ 367 ]
والمعصية فله علم بما ارتكب ولذلك يؤاخذ ويعاقب على ما فعل وهو مع ذلك جاهل بحقيقة الامر ولو تبصر تمام التبصر لم يرتكب والمراد بالجهالة في الاية هذا المعنى إذ لو كان المراد هو الاول وكان ما ذكر من عمل السوء مجهولا من حيث حكمه أو من حيث موضوعه لم يكن العمل معصية حتى يحتاج إلى التوبة فالمغفرة والرحمة. والاية كما تقدمت الاشارة إليه متصلة بما قبلها متممة لمضمونها ومعنى الايتين انا لم نظلم بنى اسرائيل في تحريم الطيبات التي حرمناها لهم بل هم الذين ظلموا انفسهم حيث ارتكبوا المعاصي واصروا عليها فأدى ذلك إلى تحريم الطيبات عليهم وبعد ذلك كله باب المغفرة والرحمة مفتوح وان ربك للذين عملوا السوء أي عملوا عملا سوء وهو السيئة بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك واصلحوا حتى يتبين التوبة وتستقر إن ربك من بعدها أي من بعد التوبة لغفور رحيم. وفي تقييد التوبة أولا بالاصلاح ثم ارجاع الضمير اخيرا إليها وحدها في قوله إن ربك من بعدها لغفور دلالة على إن شمول المغفرة والرحمة من تبعات التوبة واما الاصلاح فانما هو لتبيين التوبة وظهور كونها توبة حقيقية ورجوعا جديا لا مجرد صورة خالية عن المعنى. وقوله في ذيل الاية ان ربك من بعدها تلخيص لتفصيل قوله في صدرها إن ربك للذين الخ وفائدته حفظ فهم السامع عن التشوش والضلال وابراز العناية ببعدية المغفرة والرحمة بالنسبة إلى التوبة نظير ما مر من قوله ثم ان ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا ان ربك من بعدها لغفور رحيم. قوله تعالى: " إن ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين " الاية وما يتلوها على اتصالها بما تقدم من حصر محرمات الاكل في الاربع وتحليل ما وراءها وهذه الاية إلى تمام اربع آيات بمنزلة التفصيل لما تقدمها كأنه قيل هذا حال ملة موسى التي حرمنا فيها على بنى اسرائيل بعض ما احل لهم من الطيبات واما هذه الملة التي انزلناها اليك فانما هي الملة التي تحقق بها ابراهيم فاجتباه الله وهداه إلى صراط مستقيم واصلح بها دنياه وآخرته وهي ملة معتدلة جارية على الفطرة تحلل الطيبات
________________________________________
[ 368 ]
وتحرم الخبائث يجلب العمل بها من الخير ما جلبه لابراهيم عليه السلام منه. فقوله إن ابراهيم كان امة قال في المفردات وقوله ان ابراهيم كان امة قانتا لله أي قائما مقام جماعة في عبادة الله نحو قولهم فلان في نفسه قبيلة انتهى وهو قريب مما نقل عن ابن عباس وقيل معناه الامام المقتدى به وقيل انه كان أمة منحصرة في واحد مدة من الزمان لم يكن على الارض موحد يوحد الله غيره. وقوله قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين القنوت الاطاعة والعبادة أو دوامها والحنف الميل من الطرفين إلى حاق الوسط وهو الاعتدال. قوله تعالى: " شاكرا لانعمه اجتباه وهداه إلى صراط مستقيم " الاجتباء من الجباية وهو الجمع واجتباء الله الانسان هو اخلاصه لنفسه وجمعه من التفرق في المذاهب المختلفة وفي تعقيب قوله شاكرا لانعمه بقوله اجتباه الخ مفصولا اشعار بالعلية وذلك يؤيد ما تقدم في سورة الاعراف في تفسير قوله: " ولا تجد اكثرهم شاكرين " الاعراف: 17 إن حقيقة الشكر هو الاخلاص في العبودية. قوله تعالى: " وآتيناه في الدنيا حسنة وانه في الاخرة لمن الصالحين " الحسنة هي المعيشة الحسنة فقد كان عليه السلام ذا مال كثير ومروة عظيمة. وقد بسطنا الكلام في معنى الاجتباء في تفسير سورة يوسف عند الاية 6 وفي معنى الهداية والصراط المستقيم في تفسير الفاتحة عند قوله " اهدنا الصراط المستقيم " الاية: 6 وفي معنى قوله: " وانه في الاخرة لمن الصالحين " البقرة: 130 فراجع. وفي توصيفه تعالى ابراهيم عليه السلام بما وصفه من الصفات اشارة إلى انها من مواهب هذا الدين الحنيف فان انتحل به الانسان ساقه إلى ما ساق إليه ابراهيم عليه السلام. قوله تعالى: " ثم اوحينا اليك أن اتبع ملة ابراهيم حنيفا وما كان من المشركين " تكرار اتصافه بالحنف ونفي الشرك لمزيد العناية به. قوله تعالى: " انما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه " إلى آخر الاية قال في المفردات اصل السبت القطع ومنه سبت السير قطعه وسبت شعره حلقه وأنفه اصطلمه وقيل سمى يوم السبت لان الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات والارض يوم
________________________________________
[ 369 ]
الاحد فخلقها في ستة ايام كما ذكره فقطع عمله يوم السبت فسمى بذلك. وسبت فلان صار في السبت وقوله يوم سبتهم شرعا قيل يوم قطعهم للعمل ويوم لا يسبتون قيل معناه لا يقطعون العمل وقيل يوم لا يكونون في السبت وكلاهما اشارة إلى حالة واحدة وقوله انما جعل السبت أي ترك العمل فيه وجعلنا نومكم سباتا أي قطعا للعمل وذلك اشارة إلى ما قال في صفة الليل لتسكنوا فيه انتهى. فالمراد بالسبت على ما ذكره نفس اليوم لكن معنى جعله جعل ترك العمل فيه وتشريعه ويمكن ان يكون المراد به المعنى المصدرى دون اليوم المجعول فيه ذلك كما هو ظاهر قوله: " تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم " الاعراف: 163. وكيف كان فقد كان من طبع الكلام ان يقال انما جعل السبت للذين حتى يفيد نوعا من الاختصاص والملك وان الله شرع لهم في كل اسبوع ان يقطعوا العمل يوما يفرغون فيه لعبادة ربهم وهو يوم السبت كما جعل للمسلمين في كل اسبوع يوما يجتمعون فيه للعبادة والصلاة وهو يوم الجمعة. فقوله انما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه بتعدية جعل بعلى دون اللام من قبيل قولهم لى عليك دين وهذا عليك لا لك فتفيد معنى التكليف والتشديد والابتلاء أي انما جعل للتشديد عليهم وابتلائهم وامتحانهم فقد كان هذا الجعل عليهم لا لهم كما انجر امرهم فيه إلى لعن طائفة منهم ومسخ آخرين وقد اشير إلى ذلك في سورة البقرة الاية 65 وسورة النساء الاية 47. والانسب على هذا ان يكون المراد بقوله اختلفوا فيه أي في السبت اختلافهم فيه بعد التشريع فانهم تفرقوا فيه فرقا ممن قبله وممن رده وممن احتال للعمل فيه على ما اشير إلى قصصهم في سور البقرة والنساء والاعراف لا اختلافهم فيه قبل التشريع بأن يعرض عليهم أن يسبتوا في كل اسبوع يوما للعبادة ثم يجعل ذلك اليوم هو الجمعة فيختلفوا فيه فيجعل عليهم يوم السبت كما وقع في بعض الروايات.
________________________________________
[ 370 ]
والمعنى انما جعل يوم السبت أو قطع العمل للعبادة يوما في كل اسبوع تشديدا وابتلاء وفتنة وكلفة على اليهود الذين اختلفوا فيه بعد تشريعه بين من قبله ومن رده ومن احتال فيه للعمل مع التظاهر بقبوله وان ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. وبالبناء على هذا يكون وزان الاية وزان قوله السابق وعلى الذين هادوا حرمنا الخ في انها في معنى الجواب عن سؤال مقدر عطفا على ما مر من حديث النسخ والتقدير واما جعل السبت لليهود فانما جعل لا لهم بل عليهم ليبتليهم الله ويفتنهم به ويشدد عليهم كما قد تكرر نظائره فيهم لكونهم عاتين معتدين مستكبرين وبالجملة الاية ناظرة إلى الاعتراض بتشريع بعض الاحكام غير الفطرية على اليهود ونسخه في هذه الشريعة. وانما لم يضم إلى قوله سابقا وعلى الذين هادوا حرمنا الخ لكون مسألة السبت مغايرة لسنخ مسألة تحليل الطيبات واستثناء محرمات الاكل وقد عرفت ان الكلام على اتصاله من قوله وعلى الذين هادوا إلى قوله وما كان من المشركين سبع آيات تامة ثم اتصلت بها هذه الاية وهي ثامنتها الملحقة بها. ومن هنا يظهر الجواب عما اعترض به ان توسيط جعل السبت بين حكاية امر النبي صلى الله عليه وآله وسلم باتباع ملة ابراهيم عليه السلام وبين امره صلى الله عليه وآله وسلم بالدعوة إليها وبعبارة اخرى وقوع قوله انما جعل السبت الخ بين قوله ثم اوحينا اليك الخ وقوله ادع إلى سبيل ربك الخ كالفصل بين الشجر ولحائه. ومحصل الجواب ان قوله ثم اوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم الاية من تمام السياق السابق وقوله انما جعل السبت الاية متصل بما تقدمه كما عرفت واما قوله ادع إلى سبيل ربك الاية فهو استئناف وامر بالدعوة إلى سبيل الله بفنون الخطاب لا إلى ملة ابراهيم حتى يتصل بالاية السابقة نوع اتصال وان كان سبيل الله هو ملة ابراهيم بعينها لكن للفظ حكم وللمعنى بحسب المآل حكم آخر فافهم. وللقوم في تفسير الاختلاف اختلاف عميق فمنهم من قال ان المراد انما جعل السبت على الذين اختلفوا على نبيهم فيه حيث امرهم بتعظيم الجمعة فعدلوا عنه واخذوا
________________________________________
[ 371 ]
السبت فجعله الله عليهم تشديدا فالاختلاف اختلاف سابق على الجعل لا لاحق به وربما جعل في للتعليل فان الاختلاف على هذا لم يقع في السبت بل من اجل السبت. وربما قيل الاختلاف بمعنى المخالفة فانهم خالفوا نبيهم في السبت ولم يختلفوا فيه. وربما قيل انهم امروا باتخاذ الجمعة من غير تعيين ووكل ذلك إلى اجتهادهم فاختلفت احبارهم في تعيينه ولم يهدهم الله إليه ووقعوا في السبت. وربما قيل ان المراد انهم اختلفوا فيما بينهم في شأن السبت فطائفة منهم فضلته على الجمعة وطائفة منهم عكست الامر وفضلت الجمعة عليه إلى غير ذلك مما قيل والاصل في ذلك ما ورد في بعض الروايات من القصة. وانت خبير بأن شيئا من الاقوال لا ينطبق على لفظ الاية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه. قوله تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي احسن " إلى آخر الآية لا شك في انه يستفاد من الاية إن هذه الثلاثة الحكمة والموعظة والمجادلة من طرق التكليم والمفاوضة فقد امر بالدعوة بأحد هذه الامور فهى من انحاء الدعوة وطرقها وإن كان الجدال لا يعد دعوة بمعناها الاخص. وقد فسرت الحكمة كما في المفردات باصالة الحق بالعلم والعقل والموعظة كما عن الخليل بانه التذكير بالخير فيما يرق له القلب والجدال كما في المفردات بالمفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة. والتأمل في هذه المعاني يعطى ان المراد بالحكمة والله اعلم الحجة التي تنتج الحق الذى لا مرية فيه ولا وهن ولا ابهام والموعظة هو البيان الذى تلين به النفس ويرق له القلب لما فيه من صلاح حال السامع من الغبر والعبر وجميل الثناء ومحمود الاثر ونحو ذلك. والجدال هو الحجة التي تستعمل لفتل الخصم عما يصر عليه وينازع فيه من غير أن يريد به ظهور الحق بالمؤاخذة عليه من طريق ما يتسلمه هو والناس أو يتسلمه هو وحده في قوله أو حجته.
________________________________________
[ 372 ]
فينطبق ما ذكره تعالى من الحكمة والموعظة والجدال بالترتيب على ما اصطلحوا عليه في فن الميزان بالبرهان والخطابة والجدل غير انه سبحانه قيد الموعظة بالحسنة والجدال بالتى هي احسن ففيه دلالة على إن من الموعظة ما ليست بحسنة ومن الجدال ما هو احسن وما ليس بأحسن ولا حسن والله تعالى يأمر من الموعظة بالموعظة الحسنة ومن الجدال بأحسنه. ولعل ما في ذيل الاية من التعليل بقوله ان ربك هو اعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين يوضح وجه التقييد فمعناه انه سبحانه اعلم بحال اهل الضلال في دينه الحق وهو اعلم بحال المهتدين فيه فهو يعلم ان الذى ينفع في هذا السبيل هو الحكمة والموعظة الحسنة والجدال الاحسن لا غير. والاعتبار الصحيح يؤيد ذلك فان سبيله تعالى هو الاعتقاد الحق والعمل الحق ومن المعلوم ان الدعوة إليه بالموعظة مثلا ممن لا يتعظ بما يعظ به دعوة عملا إلى خلاف ما يدعو إليه القول والدعوة إليه بالمجادلة مثلا بالمسلمات الكاذبة التي يتسلمها الخصم لاظهار الحق احياء لحق باحياء باطل وان شئت فقل احياء حق باماتة حق إلا أن يكون الجدال على سبيل المناقضة. ومن هنا يظهر ان حسن الموعظة انما هو من حيث حسن اثره في الحق الذى يراد به بأن يكون الواعظ نفسه متعظا بما يعظ ويستعمل فيها من الخلق الحسن ما يزيد في وقوعها من قلب السامع موقع القبول فيرق له القلب ويقشعر به الجلد ويعيه السمع ويخشع له البصر. ويتحرز المجادل مما يزيد في تهييج الخصم على الرد والعناد وسوقه إلى المكابرة واللجاج واستعمال المقدمات الكاذبة وان تسلمها الخصم إلا في المناقضة ويحترز سوء التعبير والازراء بالخصم وبما يقدسه من الاعتقاد والسب والشتم وأي جهالة اخرى فان في ذلك احياء للحق باحياء الباطل أي اماتة الحق كما عرفت. والجدال احوج إلى كمال الحسن من الموعظة ولذلك اجاز سبحانه من الموعظة حسنتها ولم يجز من المجادلة إلا التي هي احسن.
________________________________________
[ 373 ]
ثم إن في قوله بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي احسن اخذا بالترتيب من حيث الافراد فالحكمة مأذون فيها بجميع افرادها والموعظة منقسمة إلى حسنة وغير حسنة والمأذون فيها منهما هي الموعظة الحسنة والمجادلة منقسمة إلى حسنة وغير حسنة ثم الحسنة إلى التي هي احسن وغيرها والمأذون فيها منها التي هي احسن والاية ساكتة عن توزيع هذه الطرق بحسب المدعوين بالدعوة فالملاك في استعمالها من حيث المورد حسن الاثر وحصول المطلوب وهو ظهور الحق. فمن الجائز ان يستعمل في مورد جميع الطرق الثلاث وفي آخر طريقان أو طريق واحد حسب ما تستدعيه الحال ويناسب المقام. ومنه يظهر ان قول بعضهم ان ظاهر الاية ان يجمع صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته بين الطرق الثلاث ليس في محله إذ لا دليل على لزوم الجمع بينها بالنسبة إلى كل مدعو واما بالنسبة إلى جميع المدعوين فهو حاصل. وكذا ما ذكره بعضهم ان الطرق الثلاث المذكورة في الاية مترتبة حسب ترتب افهام الناس في استعدادها لقبول الحق فمن الناس الخواص وهم اصحاب النفوس المشرقة القوية الاستعداد لادراك الحقائق العقلية وشديدة الانجذاب إلى المبادئ العالية وكثيرة الالفة بالعلم واليقين فهؤلاء يدعون بالحكمة وهي البرهان. ومنهم عوام وهم اصحاب نفوس كدرة واستعداد ضعيف مع شدة ألفتهم بالمحسوسات وقوة تعلقهم بالرسوم والعادات قاصرة عن تلقى البراهين من غير أن يكونوا معاندين للحق وهؤلاء يدعون بالموعظة الحسنة. ومنهم اصحاب العناد واللجاج الذين يجادلون بالباطل ليدحضوا به الحق ويكابرون ليطفؤا نور الله بأفواههم رسخت في نفوسهم الاراء الباطلة وغلب عليهم تقليد اسلافهم في مذاهبهم الخرافية لا ينفعهم المواعظ والعبر ولا يهديهم سائق البراهين وهؤلاء هم الذين امر بمجادلتهم بالتى هي احسن. وفيه انه لا يخلو من دقة لكن لا ينتج اختصاص كل طريق بما يناسبه من مرتبة الفهم فربما انتفع الخواص بالموعظة والمجادلة وربما انتفعت العوام وهم الفاء العادات والرسوم بالمجادلة بالتى هي احسن ولا دلالة في لفظ الاية على ما ذكر من التخصيص.
________________________________________
[ 374 ]
وكذا ما ذكره بعضهم إن المجادلة بالتى هي احسن ليست من الدعوة في شئ بل الغرض منها شئ آخر مغاير لها وهو الالزام والافحام قال ولذلك لم يعطف الجدال في الاية على ما تقدمه بل غير السياق وقيل وجادلهم بالتى هي احسن. وفيه غفلة عن حقيقة القياس الجدلي فالافحام وان كان غاية للقياس الجدلي لكنه ليس غاية دائمية فكثيرا ما يتألف قياس من مقدمات مقبولة أو مسلمة وخاصة في الامور العملية والعلوم غير اليقينية كالفقه والاصول والاخلاق و الفنون الادبية ولا يراد به الالزام والافحام. على ان في الالزام والافحام دعوة كما ان في الموعظة دعوة وان اختلفت صورتها باختلاف الطرق نعم تغيير السياق لما في الجدال من معنى المنازعة والمغالبة. قوله تعالى: " وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " قال في المفردات العقوبة والعقاب والمعاقبة تختص بالعذاب انتهى. والاصل في معناه العقب وهو مؤخر الرجل وعقيب الشئ وعاقبة الامر ما يليه من ورائه أو آخره والتعقيب الاتيان بشئ عقيب شئ ومعاقبتك غيرك أن تأتى بما يسوؤه عقيب اتيانه بما يسوؤك فينطبق على المجازاة والمكافأة بالعذاب. فقوله وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به الخطاب فيه للمسلمين على ما يفيده السياق ولازمه ان يكون المراد بالمعاقبة مجازاة المشركين والكفار وبقوله عوقبتم به عقاب الكفار اياهم ومجازاتهم لهم بما آمنوا بالله ورفضوا آلهتهم. والمعنى وان اردتم مجازاة الكفار وعذابهم فجازوهم على ما فعلوا بكم بمثل ما عذبوكم به مجازاة لكم على ايمانكم وجهادكم في الله. وقوله ولئن صبرتم لهو خير للصابرين أي صبرتم على مر ما عوقبتم به ولم تعاقبوا ولم تكافؤا لهو خير لكم بما انكم صابرون لما فيه من ايثار رضى الله وثوابه فيما اصابكم من المحنة والمصيبة على رضى انفسكم بالتشفى بالانتقام فيكون العمل خالصا لوجهه الكريم ولما في الصفح والعفو من اعمال الفتوة ولها آثارها الجميلة. قوله تعالى: " واصبر وما صبرك إلا بالله " إلى آخر الاية أمر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم بالصبر وبشرى له إن الله قواه على الصبر على مر ما يلقاه في سبيله فانه تعالى يذكر إن
________________________________________
[ 375 ]
صبره انما هو بحول وقوة من ربه ثم يأمره بالصبر ولازم الامر قدرة المأمور على المأمور به ففي قوله وما صبرك إلا بالله اشارة إلى إن الله قواك على ما أمرك به. وقوله: " ولا تحزن عليهم " أي على الكافرين لكفرهم وقد تقدم تفسير هذا المعنى سابقا في السورة وغيرها. وقوله ولا تك في ضيق مما يمكرون الظاهر ان المراد النهى عن التحرج من مكرهم في الحال أو على سبيل الاستمرار دون مجرد الاستقبال. قوله تعالى: " إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون " أي ان التقوى والاحسان كل منهما سبب مستقل في موهبة النصرة الالهية وابطال مكر اعداء الدين ودفع كيدهم فالاية تعليل لقوله ولاتك في ضيق مما يمكرون ووعد بالنصر. وهذه الايات الثلاث اشبه مضمونا بالايات المدنية منها بالمكية وقد وردت روايات من طرق الفريقين انها نزلت في منصرف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أحد وسياتى في البحث الروائي وان كان من الممكن توجيه اتصالها بما قبلها بوجه كما تصدى له بعضهم. ومما يجب ان يتنبه له ان الاية التي قبل الثلاثة اجمع لغرض السورة من هذه الثلاث وان لايات السورة مع الاغماض عن قوله والذين هاجروا الاية وقوله " من كفر بعد ايمانه " إلى تمام بضع آيات وقوله وان عاقبتم إلى آخر السورة سياقا واحدا متصلا. (بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: " وضرب الله مثلا " الاية قال قال عليه السلام نزلت في قوم كان لهم نهر يقال له الثرثار وكانت بلادهم خصبة كثيرة الخير - وكانوا يستنجون بالعجين ويقولون هو ألين لنا فكفروا بأنعم الله واستخفوا فحبس الله عنهم الثرثار - فجدبوا حتى احوجهم الله إلى أكل ما يستنجون به حتى كانوا يتقاسمون عليه اقول ورواه في الكافي عنه باسناده عن عمرو بن شمر عن ابى عبد الله عليه السلام مفصلا والعياشي عن حفص وزيد الشحام عنه
________________________________________
[ 376 ]
وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن انس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ما من عبد يشهد له امة إلا قبل الله شهادتهم والامة الرجل فما فوقه ان الله يقول ان ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين. اقول وقد تقدم في تفسير آيات الشهادة ما له تعلق بالحديث. وفي تفسير العياشي عن سماعة بن مهران قال سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول: لقد كانت الدنيا وما كان فيها إلا واحد يعبد الله ولو كان معه غيره لاضافه إليه حيث يقول ان ابراهيم كان امة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين فصبر بذلك ما شاء الله ثم ان الله تبارك وتعالى آنسه باسماعيل واسحاق فصاروا ثلاثة اقول ورواه في الكافي باسناده عن سماعة عن عبد صالح وفي الدر المنثور اخرج الشافعي في الام والبخاري ومسلم عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحن الاخرون السابقون يوم القيامة بيد إنهم اوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ثم هذا يومهم الذى فرض عليهم يوم الجمعة فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد اقول وروى مثله عن احمد ومسلم عن ابى هريرة وحذيفة عنه صلى الله عليه وآله وسلم: ولم ترد الرواية في تفسير الاية. وفيه اخرج ابن مردويه عن ابى ليلى الاشعري إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: تمسكوا بطاعة ائمتكم ولا تخالفوهم فان طاعتهم طاعة الله ومعصيتهم معصية الله فان الله انما بعثنى - ادعو إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة - فمن خالفني في ذلك فهو من الهالكين - وقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله ومن ولى من امركم شيئا فعمل بغير ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " وجادلهم بالتى هي احسن " قال قال عليه السلام بالقرآن وفي الكافي عنه باسناده عن ابى عمر والزبيرى عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي احسن " قال بالقرآن الهالكين - وقد برئت منه ذمة الله وذمة رسوله ومن ولى من امركم شيئا فعمل بغير ذلك فعليه لعنة الله والملائكة والناس اجمعين وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " وجادلهم بالتى هي احسن " قال قال عليه السلام بالقرآن وفي الكافي عنه باسناده عن ابى عمر والزبيرى عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله تعالى: " ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هي احسن " قال بالقرآن
________________________________________
[ 377 ]
اقول ظاهره انه تفسير بالتى هي احسن ومحصله الجدال على سنة القرآن الذى فيه ادب الله. وفي تفسير العياشي عن الحسن بن حمزة قال سمعت ابا عبد الله عليه السلام يقول: لما رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما صنع بحمزه بن عبد المطلب قال اللهم لك الحمد واليك المشتكى وأنت المستعان على ما ارى ثم قال: لئن ظفرت لامثلن ولامثلن ولامثلن قال فأنزل الله " وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين " فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - اصبر اصبر وفي الدر المنثور اخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم قتل حمزة ومثل به لئن ظفرت بقريش لامثلن بسبعين رجلا منهم فأنزل الله وإن عاقبتم الاية فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل نصبر يا رب فصبر ونهى عن المثلة. اقول وروى ايضا ما في معناه عن ابى بن كعب وابى هريرة وغير هما عنه صلى الله عليه وآله وسلم - تم والحمد لله -


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page