• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 301 الي 325


[ 301 ]
وكلت السكين كلولا إذا غلظت شفرتها وكل لسانه إذا لم ينبعث في القول لغلظه وذهاب حده فالاصل فيه الغلظ المانع من النفوذ والتوجيه الارسال في وجه من الطريق يقال وجهته إلى موضع كذا فتوجه إليه انتهى. فقوله وضرب الله مثلا رجلين مقايسة اخرى بين رجلين مفروضين متقابلين في اوصافهما المذكورة. وقوله احدهما ابكم لا يقدر على شئ أي محروم من ان يفهم الكلام ويفهم غيره بالكلام لكونه ابكم لا يسمع ولا ينطق فهو فاقد لجميع الفعليات والمزايا التى يكتسبها الانسان من طريق السمع الذى هو اوسع الحواس نطاقا به يتمكن الانسان من العلم باخبار من مضى وما غاب عن البصر من الحوادث وما في ضمائر الناس ويعلم العلوم والصناعات وبه يتمكن من القاء ما يدركه من المعاني الجليلة والدقيقة إلى غيره ولا يقوى الابكم على درك شئ منها إلا النزر اليسير مما يساعد عليه البصر بإعانة من الاشارة. فقوله لا يقدر على شئ مخصص عمومه بالابكم أي لا يقدر على شئ مما يقدر عليه غير الابكم وهو جملة ما يحرمه الابكم من تلقى المعلومات والقائها. وقوله وهو كل على مولاه أي ثقل وعيال على من يلى ويدبر امره فهو لا يستطيع ان يدبر امر نفسه وقوله اينما يوجهه لا يأت بخير أي إلى أي جهة ارسله مولاه لحاجة من حوائج نفسه أو حوائج مولاه لم يقدر على رفعها فهو لا يستطيع ان ينفع غيره كما لا ينفع نفسه فهذا اعني قوله احدهما ابكم لا يقدر على شئ الخ مثل احد الرجلين ولم يذكر سبحانه مثل الاخر لحصول العلم به من قوله هل يستوى هو ومن يامر بالعدل الخ وفيه ايجاز لطيف. وقوله هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم فيه اشارة إلى وصف الرجل المفروض وسؤال عن استوائهما إذا قويس بينهما وعدمه. اما الوصف فقد ذكر له منه آخر ما يمكن ان يتلبس به غير الابكم من الخير والكمال الذى يحلى نفسه ويعدو إلى غيره وهو العدل الذى هو التزام الحد الوسط في الاعمال واجتناب الافراط والتفريط فان الامر بالعدل إذا جرى على حقيقته كان لازمه
________________________________________
[ 302 ]
أن يتمكن الصلاح من نفس الانسان ثم ينبسط على اعماله فيلتزم الاعتدال في الامور ثم يحب انبساطه على اعمال غيره من الناس فيأمرهم بالعدل وهو كما عرفت مطلق التجنب عن الافراط والتفريط أي العمل الصالح اعم من العدل في الرعية. ثم وصفه بقوله وهو على صراط مستقيم وهو السبيل الواضح الذى يهدى سالكيه إلى غايتهم من غير عوج والانسان الذى هو في مسير حياته على صراط مستقيم يجرى في اعماله على الفطرة الانسانية من غير ان يناقض بعض اعماله بعضا أو يتخلف عن شئ مما يراه حقا وبالجملة لا تخلف ولا اختلاف في اعماله. وتوصيف هذا الرجل المفروض الذى يامر بالعدل بكونه على صراط مستقيم يفيد اولا ان امره بالعدل ليس من امر الناس بالبر ونسيان نفسه بل هو مستقيم في احواله واعماله يأتي بالعدل كما يأمر به. وثانيا ان امره بالعدل ليس ببدع منه من غير اصل فيه يبتنى عليه بل هو في نفسه على مستقيم الصراط ولازمه ان يحب لغيره ذلك فيأمرهم ان يلتزموا وسط الطريق ويجتنبوا حاشيتي الافراط والتفريط. واما السؤال اعني ما في قوله هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل الخ فهو سؤال لا جواب له الا النفى لا شك فيه وبه يثبت ان ما يعبدونه من دون الله من الاصنام والاوثان وهو مسلوب القدرة لا يستطيع أن يهتدى من نفسه ولا ان يهدى غيره لا يساوى الله تعالى وهو على صراط مستقيم في نفسه هاد لغيره بارسال الرسل وتشريع الشرائع. ومنه يظهر ان هذا المثل المضروب في الاية في معنى قوله تعالى: " أفمن يهدى إلى الحق أحق ان يتبع أم من لا يهدى إلا أن يهدى فمالكم كيف تحكمون " يونس: 35 فالله سبحانه على صراط مستقيم في صفاته وافعاله ومن استقامة صراطه ان يجعل لما خلقه من الاشياء غايات تتوجه إليها فلا يكون الخلق باطلا كما قال وما خلقنا السماوات والارض وما بينهما باطلا وان يهدى كلا إلى غايته التى تخصه كما خلقها وجعل لها غاية كما قال: " الذى اعطى كل شئ خلقه ثم هدى " طه: 50 فيهدى الانسان إلى سبيل قاصد كما قال: " وعلى الله قصد السبيل " النحل: 9 وقال
________________________________________
[ 303 ]
" إنا هديناه السبيل " الدهر: 3 وهذا اصل الحجة على النبوة والتشريع وقد مر تمامه في ابحاث النبوة في الجزء الثاني وفي قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب. فقد تحصل ان الغرض من المثل المضروب في الاية اقامة حجة على التوحيد مع اشارة إلى النبوة والتشريع. وقيل انه مثل مضروب فيمن يؤمل منه الخير ومن لا يؤمل منه واصل الخير كله من الله تعالى فكيف يستوى بينه وبين شئ سواه في العبادة ؟ وفيه ان المورد اخص من ذلك فهو مثل مضروب فيمن هو على خير في نفسه وهو يأمر بالعدل وهو شأنه تعالى دون غيره على انهم لا يساون بينه وبين غيره في العبادة بل يتركونه ويعبدون غيره. وقيل انه مثل مضروب في المؤمن والكافر فالابكم هو الكافر والذى يأمر بالعدل هو المؤمن وفيه ان صحة انطباق الاية على المؤمن والكافر بل على كل من يأمر بالعدل ومن يسكت عنه وجريها فيهما امر ومدلولها من جهة وقوعها في سياق تعداد النعم والاحتجاج على التوحيد وما يلحق به من الاصول امر آخر والذى تفيده بالنظر إلى هذه الجهة ان مورد المثل هو الله سبحانه وما يعبدون من دونه لا غير. قوله تعالى: " ولله غيب السماوات والارض وما امر الساعة إلا كلمح البصر أو هو اقرب ان الله على كل شئ قدير الغيب يقابل الشهادة في اطلاقات القرآن الكريم وقد تكرر فيه عالم الغيب والشهادة وقد تقدم مرارا انهما امران اضافيان فالامر الواحد غيب وغائب بالنسبة إلى شئ وشهادة ومشهود بالنسبة إلى آخر. واذ كان من الاشياء ما هو ذو وجوه يظهر ببعض منها لغيره ويخفى ببعض اعني انه متضمن غيبا وشهادة كانت اضافة الغيب والشهادة إلى الشئ تارة بمعنى اللام فيكون مثلا غيب السماوات والارض ما هو غائب عنهما خارج من حدودهما ويلحق بهذا الباب الاضافة لنوع من الاختصاص كما في قوله: " فلا يظهر على غيبه احدا " الجن: 26. وتارة بمعنى من أو ما يقرب منه فيكون المراد بغيب السماوات والارض
________________________________________
[ 304 ]
الغيب الذى يشتملان عليه نوعا من الاشتمال قبال ما يشتملان عليه من الشهادة وبعبارة اخرى ما يغيب عن الافهام من امرهما قبال ما يظهر منهما. والساعة هي من غيب السماوات والارض بهذا المعنى الثاني اما اولا فلانه سبحانه يعدها في كلامه من الغيب وليست بخارج من امر السماوات والارض فهو من الغيب بهذا المعنى. واما ثانيافلان ما يصفها به من الاوصاف انما يلائم هذا المعنى الثاني ككونها يوما ينبئهم الله بما كانوا فيه يختلفون ويوم تبلى السرائر ويوما يخاطب فيه الانسان بمثل قوله: " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ويوما يخاطبون ربهم بقولهم ربنا ابصرنا وسمعنا فارجعنا " وبالجملة هي يوم يظهر فيه ما استتر من الحقائق في هذه النشأة ظهور عيان ومن المعلوم ان هذه الحقائق غير خارجة من السماوات والارض بل هي معهما ثابتة. كيف ؟ وهو تعالى يقول: " ولله غيب السماوات والارض " فيثبته ملكا لنفسه وليس ملكه من الملك الاعتباري يتعلق بكل امر موهوم أو جزافي بل ملك حقيقي يتعلق بامر ثابت فلها نوع من الثبوت وان فرض جهلنا بحقيقة ثبوتها. والشواهد القرآنية على هذا الذى ذكرناه كثيرة وقد عد سبحانه حياة هذه النشأة متاع الغرور ولعبا ولهوا وكرر ان اكثر الناس لا يعلمون ما هو يوم القيامة وذكر ان الدار الاخرة هي الحيوان وانهم سيعلمون ان الله هو الحق المبين وسيبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون إلى غير ذلك مما يشتمل عليه الايات على اختلاف السنتها. وبالجملة الساعة من غيب السماوات والارض والاية اعني قوله ولله غيب السماوات والارض تقرر ملكه تعالى لنفس هذا الغيب لا لعلمه فلم يقل ولله علم غيب السماوات والارض وسياق الاية يعطى إن الجملة اعني قوله ولله غيب الخ توطئة وتمهيد لقوله ما امر الساعة إلا كلمح البصر الخ فالجملة مسوقة للاحتجاج. وعلى هذا يعود معنى الاية إلى ان الله سبحانه يملك غيب السماوات والارض ملكا له ان يتصرف فيه كيف يشاء كما يملك شهادتهما وكيف لا ؟ وغيب الشئ لا يفارق
________________________________________
[ 305 ]
شهادته وهو موجود ثابت معه وله الخلق والامر والساعة الموعودة ليست بأمر محال حتى لا يتعلق بها قدرة بل هي من غيب السماوات والارض وحقيقتها المستورة عن الافهام اليوم فهى مما استقر عليه ملكه تعالى وله ان يتصرف فيه بالاخفاء يوما وبالاظهار آخر. وليست بصعبة عليه تعالى فانما امرها كلمح البصر أو اقرب من ذلك لان الله على كل شئ قدير. ومن هنا يظهر ان قوله وما امر الساعة إلا كلمح البصر أو هو اقرب إن الله على كل شئ قدير مسوق لا لاثبات اصل الساعة أو امكانها بل لنفى صعوبتها والمشقة في اقامتها وهوان امرها عنده سبحانه. فقوله وما امر الساعة إلا كلمح البصر أو هو اقرب أي بالنسبة إليه وإلا فقد استعظم سبحانه امرها بما يهون عنده كل امر خطير ووصفها بأوصاف لا يعادلها فيها غيرها قال تعالى: " ثقلت في السماوات والارض " الاعراف: 187. وتشبيه امرها بلمح البصر انما هو من جهة إن اللمحة وهى مد البصر وارساله للرؤية اخف الاعمال عند الانسان واقصرها زمانا فهو تشبيه بحسب فهم السامع ولذلك عقبه بقوله أو هو اقرب فان مثل هذا السياق يفهم منه الاضراب فكأنه تعالى يقول ان امرها في خفة المؤنة والهوان والسهولة بالنسبة الينا يشبه لمح احدكم ببصره وانما اشبهه به رعاية لحالكم وتقريبا إلى فهمكم وإلا فالامر اقرب من ذلك كما قال فيها: " ويقول كن فيكون " الانعام: 73 فأمر الساعة بالنسبة إلى قدرته ومشيته تعالى كامر ايسر الخلق واهونه. وعلل تعالى ذلك بقوله ان الله على كل شئ قدير فقدرته على كل شئ توجب أن تكون الاشياء بالنسبة إليه سواء. واياك أن تتوهم ان عموم القدرة لا يستوجب ارتفاع الاختلاف من بين الاشياء من حيث النسبة فقلة الاسباب المتوسطة بين الفاعل وفعله والشرائط والموانع وكثرتها لهما تأثير في ذلك لا محالة فالانسان مثلا قادر على التنفس وحمل ما يطيقه من الاثقال
________________________________________
[ 306 ]
وليسا سواء بالنسبة إليه وعلى هذا القياس. فان في ذلك غفلة عن معنى عموم القدرة وتوضيحه ان القدرة التى فينا قدرة مقيدة فان قدرة الانسان مثلا على اكل الغذاء وهى إن له نسبة الفاعلية إليه وهى في تأثيرها مشروطة بتحقق غذاء في الخارج وكونه بين يديه وممكن التناول وعدم ما يمنع من ذلك من انسان أو غيره وكون ادوات الفعل كاليد والفم وغيرهما غير مصابة بآفة إلى غير ذلك والذى يملكه الانسان هو الارادة والزائد على ذلك وسائط وشرائط وموانع خارجة عن قدرته بالحقيقة وقيد يقيدها وإذا اراد الانسان أن يعمل قدرته فيأكل كان عليه ان يهئ تلك الامور التى تتقيد بها قدرته في التأثير كتحصيل الغذاء ووضعه قريبا منه ورفع الموانع واعمال الادوات البدنية مثلا. ومن المعلوم ان قلة هذه الامور وكثرتها وقربها وبعدها وما اشبه ذلك من صفاتها توجب اختلاف الفعل في السهولة وعدمها وضعف القدرة وقوتها فتقيد القدرة هو الموجب للاختلاف. اما قدرته تعالى فانها عين ذاته التى يجب وجودها ويمتنع عدمها وإذا كان كذلك فلو تقيدت بقيد من وجود سبب أو شرط أو عدم مانع لانعدمت بانعدام قيدها وهو محال فقدرته تعالى مطلقة غير محدودة بحد ولا مقيدة بقيد عامة تتعلق بكل شئ على حد سواء من غير ان يكون شئ بالنسبة إليه اصعب من شئ أو اسهل واقرب إليه من شئ أو ابعد وانما الاختلاف بين الاشياء انفسها بقياس بعضها إلى بعض. وبتقريب آخر ما من شئ الا وهو يفتقر إليه سبحانه في وجوده فإذا فرضنا كل امر موجود بحيث لا يشذ عنها شاذ في جانب ونسبناها إليه تعالى كان الجميع متعلقا لقدرته وليس هناك امر ثالث يكون قيدا لقدرته من سبب أو شرط أو عدم مانع وإلا لكان شريكا في التأثير تعالى عن ذلك. واما الذى بين الاشياء انفسها من الاسباب المتوسطة والشرائط والموانع فانها توجب تقيد بعضها ببعض لا تقيد القدرة العامة الالهية التى تتعلق بها ثم تتعلق القدرة بالمقيد منها دون المطلق بمعنى ان متعلق القدرة هو زيد الذى ابوه فلان وامه فلان وهو في زمان كذا ومكان كذا وهكذا فوجود زيد بجميع روابطه وجود جميع العالم
________________________________________
[ 307 ]
والقدرة المتعلقة به متعلقة بالجميع بعينه وليست هناك إلا قدرة واحدة متعلقة بالجميع يوجد بها كل شئ في موطنه الخاص به وهى مطلقة غير مقيدة لا اختلاف للاشياء بالنسبة إليها وانما الاختلاف بينها انفسها. فقد تبين مما تقدم ان عموم القدرة يوجب ارتفاع الاختلاف من بين الاشياء بالنسبة إليها بالسهولة والصعوبة وغير ذلك والاية الكريمة من غرر الايات القرآنية يتبين بها اولا إن حقيقة المعاد ظهور حقيقة الاشياء بعد خفائها. وثانيا إن القدرة الالهية تتعلق بجميع الاشياء على نعت سواء من غير اختلاف بالسهولة والصعوبة والقرب والبعد وغير ذلك. وثالثا إن الاشياء بحسب الحقيقة مرتبطة وجودا بحيث ان ايجاد الواحد منها ايجاد الجميع والجميع متعلق قدرة واحدة لا مؤثر فيها غيرها. نعم هناك نظر آخر ابسط من ذلك وهو النظر فيها من جهة نظام الاسباب والمسببات وقد صدقه الله في كلامه كما تقدم بيانه في البحث عن الاعجاز في الجزء الاول من الكتاب وبهذه النظرة ينفصل الاشياء بعضها عن بعض ويتوقف وجود بعضها على وجود بعض أو عدمه فتتقدم وتتأخر وتسهل وتصعب وتكون الاسباب وسائط بينها وبينه تعالى ويكون تعالى فاعلا بوساطة الاسباب وهو نظر بسيط. وقد ذكر كثير من المفسرين في قوله ولله غيب السماوات والارض انه بحذف مضاف والتقدير ولله علم غيب الخ وفيه إنه يستلزم ارتفاع الاتصال بين هذه الجملة وبين ما يليها إذ لا رابطة بين علم الغيب وبين هوان أمر الساعة فتعود الجملة مستدركة مستغنى عنها في الكلام. وقول بعضهم في رفع الاستدراك ان صدر الاية وذيلها يثبتان العلم والقدرة وبهما معا يتم خلق الساعة غير مفيد فانهم انما استشكلوا في الساعة من جهة القدرة لعدهم اياها ممتنعة فلا حاجة إلى التشبث لاثباتها بمسألة العلم ويشهد لذلك ما في سائر الايات المثبتة لامكان المعاد بعموم القدرة. وذكر بعضهم ان المراد به علم غيبهما لا بتقدير العلم في الكلام حتى يقال إن الاصل عدمه بل لان اضافة الغيب وهو ما يغيب عن الحس والعقل إلى السماوات
________________________________________
[ 308 ]
والارض تفيد ان المراد الامور المجهولة التى فيهما مما يقع فيهما حالا أو بعد حين وملكه تعالى له ملكه للعلم به. وفيه ان المقدمة الاخيرة ممنوعة وقد تقدم بيانه على إن اشكال ارتفاع الاتصال بين الجملتين في محله بعد. وايضا ذكر بعضهم في توجيه التعليل المستفاد من قوله ان الله على كل شئ قدير ان من جملة الاشياء اقامة الساعة في اسرع ما يكون فهو قادر على ذلك. وفيه انه لا يفى بتعليل ما يستفاد من الحصر بالنفى والاثبات وانما يفى بتعليل ما لو قيل ان الله سيجعل امر الساعة كلمح البصر مع امكان كونه لا كذلك فافهم ذلك (بحث روائي) في تفسير القمى في قوله تعالى: " من بطونه من بين فرث ودم " قال قال عليه السلام الفرث ما في الكرش وفي الكافي عن على بن ابراهيم عن ابيه عن النوفلي عن السكوني قال قال أبو عبد الله عليه السلام: ليس أحد يغص بشرب اللبن لان الله عز وجل يقول لبنا خالصا سائغا للشاربين وفي تفسير القمى باسناده عن رجل عن حريز عن ابى عبد الله عليه السلام في قوله واوحى ربك إلى النحل قال نحن النحل الذى اوحى الله إليه أن اتخذى من الجبال بيوتا أمرنا أن نتخذ من العرب شيعة ومن الشجر يقول من العجم ومما يعرشون من الموالى والذى خرج من بطونها شراب مختلف الوانه العلم الذى يخرج منا اليكم. اقول وفي هذا المعنى روايات أخر وهى من باب الجرى ويشهد به ما في بعض هذه الروايات من تطبيق النحل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم والجبال على قريش والشجر على العرب ومما يعرشون على الموالى وما يخرج من بطونها على العلم.
________________________________________
[ 309 ]
وفي تفسير القمى باسناده عن على بن المغيرة عن ابى عبد الله عليه السلام قال إذا بلغ العبد مائة سنة فذلك ارذل العمر وفي المجمع روى عن على عليه السلام: إن أرذل العمر خمس وسبعون سنة وروى عن النبي مثل ذلك. اقول روى ذلك في الدر المنثور عن الطبري عن على عليه السلام وروى عن ابن مردويه عن انس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حديثا مفصلا يدل على ان ارذل العمر مائة سنة وفي تفسير العياشي عن عبد الرحمان الاشل عن الصادق عليه السلام: في قول الله وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة قال الحفدة بنو البنت ونحن حفدة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيه عن جميل بن دراج عن ابى عبد الله عليه السلام في الحفدة قال وهم العون منهم يعنى البنين وفي المجمع في معنى الحفدة هي اختان الرجل على بناته قال وهو المروى عن ابى عبد الله عليه السلام. اقول ولا تنافى بين الروايات كما تقدم في البيان. وفي التهذيب باسناده عن شعيب العقرقوفى عن ابى عبد الله عليه السلام في طلاق العبد ونكاحه قال ليس له طلاق ولا نكاح أما تسمع الله تعالى يقول عبدا مملوكا لا يقدر على شئ قال لا يقدر على طلاق ولا على نكاح إلا باذن مولاه. اقول وفي هذا المعنى عدة روايات من طرق الشيعة. وفي تفسير القمى في قوله تعالى هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل قال قال عليه السلام كيف يستوى هذا ؟ ومن يأمر بالعدل امير المؤمنين والائمة عليهم السلام وفي تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن حمزة بن عطاء عن ابى جعفر عليه السلام في قوله تعالى: " هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل " الاية قال هو على بن ابى طالب عليه السلام وهو على صراط مستقيم. اقول والروايتان من الجرى وليستا من اسباب النزول في شئ لما تقدم في البيان السابق.
________________________________________
[ 310 ]
وكذا ما روى من طرق اهل السنة إن قوله: " ضرب الله مثلا عبدا مملوكا " الاية نزل في هشام بن عمرو وهو الذى ينفق ماله سرا وجهرا في عبده ابى الجوزاء الذى كان ينهاه وكذا ما روى ان الاية نزلت في عثمان بن عفان وعبد له. وكذا ما روى في قوله وضرب الله مثلا رجلين الاية إن الابكم ابى بن خلف ومن يأمر بالعدل حمزة وعثمان بن مظعون وكذا ما روى ان الابكم هاشم بن عمر بن الحارث القرشى وكان قليل الخير يعادى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما روى ان الابكم أبو جهل والامر بالعدل عمار وما روى ان الآمر بالعدل عثمان بن عفان والابكم مولى له كافر وهو اسيد بن ابى العيص إلى غير ذلك * * * والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون - 78 ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن الا الله ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون - 79 والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم اقامتكم ومن اصوافها واوبارها واشعارها اثاثا ومتاعا إلى حين - 80 والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال اكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون - 81 فان تولوا فانما عليك البلاغ المبين - 82 يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها واكثرهم الكافرون - 83
________________________________________
[ 311 ]
ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون - 84 وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون - 85 وإذا رأى الذين اشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول انكم لكاذبون - 86 وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون - 87 الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون - 88 ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين - 89 (بيان) الايات تذكر عدة اخرى من النعم الالهية ثم تعطف الكلام إلى ما تكشف عنه من حق القول في وحدانيته تعالى في الربوبية وفي البعث وفي النبوة والتشريع نظيره القبيل السابق الذى اوردناه من الايات. قوله تعالى: " والله اخرجكم من بطون امهاتكم لا تعلمون شيئا إلى آخر الاية الامهات جمع ام والهاء زائدة نظير اهراق واصله اراق وقد تأتى أمات وقيل الامهات في الانسان والامات في غيره من الحيوان والافئدة جمع قلة للفؤاد وهو القلب واللب ولم يبن له جمع كثرة.
________________________________________
[ 312 ]
وقوله: " والله اخرجكم من بطون امهاتكم " اشارة إلى التولد ولا تعلمون شيئا حال من ضمير الخطاب أي اخرجكم من ارحامهن بالتولد والحال ان نفوسكم خالية من هذه المعلومات التى احرزتموها من طريق الحس والخيال والعقل بعد ذلك. والاية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس ان لوح النفس خالية عن المعلومات اول تكونها ثم تنتقش فيها شيئا فشيئا كما قيل وهذا في غير علم النفس بذاتها فلا يطلق عليه عرفا يعلم شيئا والدليل عليه قوله تعالى في خلال الايات السابقة فيمن يرد إلى ارذل العمر لكى لا يعلم من بعد علم شيئا فان من الضرورى انه في تلك الحال عالم بنفسه. واحتج بعضهم بعموم الاية على ان العلم الحضوري يعنى به علم الانسان بنفسه كسائر العلوم الحصولية مفقود في بادئ الحال حادث بعد ذلك ثم ناقش في ادلة كون علم النفس بذاتها حضوريا مناقشات عجيبة. وفيه ان العموم منصرف إلى العلم الحصولي ويشهد بذلك الاية المتقدمة. وقوله: " وجعل لكم السمع والابصار والافئدة لعلكم تشكرون " اشارة إلى مبادى العلم الذى انعم بها على الانسان فمبدأ التصور هو الحس والعمدة فيه السمع والبصر وان كان هناك غيرهما من اللمس والذوق والشم ومبدأ الفكر هو الفؤاد. قوله تعالى: " ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله " الخ قال في المجمع الجو الهواء البعيد من الارض انتهى يقول ألم ينظروا إلى الطير حال كونها مسخرات لله سبحانه في جو السماء والهواء البعيد من الارض ثم استأنف فقال مشيرا إلى ما هو نتيجة هذا النظر ما يمسكهن الا الله. واثبات الامساك لله سبحانه ونفيه عن غيره مع وجود اسباب طبيعية هناك مؤثرة في ذلك وكلامه تعالى يصدق ناموس العلية والمعلولية انما هو من جهة ان توقف الطير في الجو من دون ان تسقط كيفما كان وإلى أي سبب استند هو وسببه والرابطة التى بينهما جميعا مستندة إلى صنعه تعالى فهو الذى يفيض الوجود عليه وعلى سببه وعلى الرابطة التى بينهما فهو السبب المفيض لوجوده حقيقة وان كان سببه الطبيعي القريب معه يتوقف هو عليه. ومعنى توقفه في وجوده على سببه ليس إن سببه يفيد وجوده بعد ما استفاد
________________________________________
[ 313 ]
وجود نفسه منه تعالى بل ان هذا المسبب يتوقف في اخذه الوجود منه تعالى إلى اخذ سببه الوجود منه تعالى قبل ذلك وقد تقدم بعض الكلام في توضيح ذلك من قريب. وهذا معنى توحيد القرآن والدليل عليه من جهة لفظه امثال قوله: " ألا له الخلق والامر " الاعراف: 54 وقوله: " إن القوة لله جميعا " البقرة: 165 وقوله: " الله خالق كل شئ " الزمر: 62 وقوله: " إن الله على كل شئ قدير " النحل: 77. والدليل على ما قدمناه في معنى النفى والاثبات في الاية قوله تعالى مسخرات فان التسخير انما يتحقق بقهراحد السببين الاخر في فعله على ما يريده السبب القاهر ففى لفظه دلالة على إن للمقهور نوعا من السببية. وليس طيران الطائر في جو السماء بالحقيقة بأعجب من سكون الانسان في الارض فالجميع ينتهى إلى صنعه تعالى على حد سواء لكن ألفة الانسان لبعض الامور وكثرة عهده به توجب خمود قريحة البحث عنه فإذا صادف ما يخالف ما ألفه وكثر عهده به كالمستثنى من الكلية انتبه لذلك وانتزعت القريحة للبحث عنه والانسان يرى الاجسام الارضية الثقيلة معتمدة على الارض مجذوبة إليها فإذا وجد الطير مثلا تنقض كلية هذا الحكم بطيرانها تعجب منه وانبسط للبحث عنه والحصول على علته وللحق نصيب من هذا البحث وهذا هو احد الاسباب في اخذ هذا النوع من الامور في القرآن مواد للاحتجاج. وقوله ان في ذلك لايات لقوم يؤمنون أي في كونها مسخرات في جو السماء فان للطير وهو في الجو دفيفا وصفيفا وبسطا لاجنحتها وقبضا وسكونا وانتقالا وصعودا ونزولا وهى جميعا آيات لقوم يؤمنون كما ذكره الله. قوله تعالى والله جعل لكم من بيوتكم سكنا إلى آخر الاية في المفردات البيت مأوى الانسان بالليل لانه يقال بات اقام بالليل كما يقال ظل بالنهار ثم قد يقال للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه وجمعه ابيات وبيوت لكن البيوت بالمسكن اخص والابيات بالشعر قال ويقع ذلك على المتخذ من حجر ومدر وصوف ووبر انتهى موضع الحاجة. والسكن ما يسكن إليه والظعن الارتحال وهو خلاف الاقامة والصوف
________________________________________
[ 314 ]
للضأن والوبر للابل كالشعر للانسان ويسمى ما للمعز شعرا كالانسان والاثاث متاع البيت الكثير ولا يقال للواحد منه اثاث قال في المجمع ولا واحد للاثاث كما انه لا واحد للمتاع انتهى والمتاع اعم من الاثاث فانه مطلق ما يتمتع به ولا يختص بما في البيت. وقوله والله جعل لكم من بيوتكم سكنا أي جعل لكم بعض بيوتكم سكنا تسكنون إليه ومن البيوت ما لا يسكن إليه كالمتخذ لادخار الاموال واختزان الامتعة وغير ذلك وقوله وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا الخ أي من جلودها بعد الدبغ وهى الانطاع والادم بيوتا وهى القباب والخيام تستخفونها أي تعدونها خفيفة من جهه الحمل يوم ظعنكم وارتحالكم ويوم اقامتكم من غير سفر وظعن وقوله ومن اصوافها واوبارها واشعارها الخ معطوف على موضع من جلود أي وجعل لكم من اصوافها وهى للضأن وأوبارها وهى للابل واشعارها وهى للمعز اثاثا تستعملونه في بيوتكم ومتاعا تتمتعون به إلى حين محدود قيل وفيه اشارة إلى انها فانية داثرة فلا ينبغى للعاقل ان يختارها على نعيم الاخرة. قوله تعالى: " والله جعل لكم مما خلق ظلالا " إلى آخر الاية الظرفان اعني قوله لكم ومما خلق متعلقان بجعل وتعليق الظلال بما خلق لكونها امرا عدميا محققا بتبع غيره وهى مع ذلك من النعم العظيمة التى أنعم الله بها على الانسان وسائر الحيوان والنبات فما الانتفاع بالظل للانسان وغيره بأقل من الانتفاع بالنور ولو لا الظل وهو ظل الليل وظل الابنية والاشجار والكهوف وغيرها لما عاش على وجه الارض عائش. وقوله وجعل لكم من الجبال اكنانا الكن ما يستتر به الشئ حتى ان القميص كن للابسه وأكنان الجبال هي الكهوف والثقب الموجودة فيها. وقوله وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر أي قميصا يحفظكم من الحر قال في المجمع ولم يقل وتقيكم البرد لان ما وقى الحر وقى البرد وانما خص الحر
________________________________________
[ 315 ]
بذلك مع ان وقايتها للبرد اكثر لان الذين خوطبوا بذلك اهل حر في بلادهم فحاجتهم إلى ما يقى الحر اكثر عن عطاء. قال على ان العرب يكتفى بذكر احد الشيئين عن الاخر للعلم به قال الشاعر وما ادرى إذا يممت أرضا * أريد الخير أيهما يلينى. فكنى عن الشر ولم يذكره لاند مدلول عليه ذكره الفراء انتهى. ولعل بعض الوجه في ذكره الحر والاكتفاء به ان البشر الاولى كانوا يسكنون المناطق الحارة من الارض فكان شدة الحر أمس بهم من شدة البرد وتنبههم لاتخاذ السراويل انما هو للاتقاء مما كان الابتلاء به اقرب إليهم وهو الحر والله اعلم. وقوله وسرابيل تقيكم بأسكم الظاهر ان المراد به درع الحديد ونحوه. وقوله كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون امتنان عليهم باتمام النعم التى ذكرها وكانت الغاية المرجوة من ذلك اسلامهم لله عن معرفتها فإن المترقب المتوقع ممن يعرف النعم واتمامها عليه ان يسلم لارادة منعمه ولا يقابله بالاستكبار لان منعما هذا شأنه لا يريد به سوء. قوله تعالى: " فان تولوا فانما عليك البلاغ المبين " قال في المجمع البلاغ الاسم والتبليغ المصدر مثل الكلام والتكليم انتهى. لما فرغ عن ذكر ما اريد ذكره من النعم والاحتجاج بها ختمها بما مدلولها العتاب واللوم والوعيد على الكفر ويتضمن ذكر وحدانيته تعالى في الربوبية والمعاد والنبوة وبدأ ذلك ببيان وظيفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته وهو البلاغ فقال فان تولوا أي يتفرع على هذا البيان الذى ليس فيه الا دعوتهم إلى ما فيه صلاح معاشهم ومعادهم من غير أن يتبعه اجبار أو اكراه انهم ان تولوا واعرضوا عن الاصغاء إليه والاهتداء به فانما عليك البلاغ المبين والتبليغ الواضح الذى لا ابهام فيه ولا ستر عليه لانك رسول وما على الرسول الا ذلك. وفي الاية تسلية للنبى صلى الله عليه وآله وسلم وبيان وظيفة له. قوله تعالى: " يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها واكثرهم الكافرون " المعرفة
________________________________________
[ 316 ]
والانكار متقابلان كالعلم والجهل وهذا هو الدليل على ان المراد بالانكار وهو عدم المعرفة لازم معناه وهو الانكار في مقام العمل وهو عدم الايمان بالله ورسوله واليوم الاخر أو الجحود لسانا مع معرفتها قلبا لكن قوله واكثرهم الكافرون يخص الجحود باكثرهم كما يسجئ فيبقى للانكار المعنى الاول. وقوله واكثرهم الكافرون دخول اللام على الكافرون يدل على الكمال أي انهم كافرون بالنعم الالهية أو بما تدل عليه من التوحيد وغيره جميعا لكن اكثرهم كاملون في كفرهم وذلك بالجحود عنادا والاصرار عليه والصد عن سبيل الله. والمعنى يعرفون نعمة الله بعنوان انها نعمة منه ومقتضاه ان يؤمنوا به وبرسوله واليوم الاخر ويسلموا في العمل ثم إذا وردوا مورد العمل عملوا بما هو من آثار الانكار دون المعرفة واكثرهم لا يكتفون بمجرد الانكار العملي بل يزيدون عليه بكمال الكفر والعناد مع الحق والجحود والاصرار عليه. وفيما قدمناه كفاية لك عما اطال فيه المفسرون في معنى قوله واكثرهم الكافرون مع انهم جميعا كافرون بانكارهم من قول بعضهم انما قال اكثرهم لان منهم من لم تقم عليه الحجة كمن لم يبلغ حد التكليف أو كان مؤفا في عقله أو لم تصل إليه الدعوة فلا يقع عليه اسم الكفر. وفيه ان هؤلاء خارجون على اطلاق الاية رأسا فانها تذكر توبيخا وايعادا انهم ينكرون نعمة الله بعد ما عرفوها وهؤلاء ان كانوا ينكرونها كانوا بذلك كافرين وان لم ينكروها لم يدخلوا في اطلاق الاية قطعا وكيف يصح ان يقال انهم لم تقم عليهم الحجة وليست الحجة إلا النعمة التى يعدها الله سبحانه وهم يعرفونها ؟ وقول بعضهم انما قال واكثرهم الكافرون لانه كان يعلم ان فيهم من سيؤمن وفيه انه قول لا دليل عليه. وقول بعضهم ان المراد بالاكثر الجميع وانما عدل عن البعض احتقارا له ان يذكره ونسب إلى الحسن البصري وهو قول عجيب. قيل وفي الاية دليل على فساد قول المجبرة انه ليس لله على الكافر نعمة
________________________________________
[ 317 ]
وان جميع ما فعله بهم انما هو خذلان ونقمة لانه سبحانه نص في هذه الاية على خلاف قولهم انتهى. والحق ان للنعمة اعتبارين احدهما كونها نعمه أي ناعمة ملائمة لحال المنعم عليه من حيث كونه في صراط التكوين أي من حيث سعادته الجسمية والاخر من حيث وقوع المنعم عليه في صراط التشريع أي من حيث سعادته الروحية الانسانية بأن تكون النعمة بحيث توجب معرفتها ايمانه بالله ورسوله واليوم الاخر واستعمالها في طريق مرضاة الله والمؤمن منعم بالنعمتين كلتيهما والكافر منعم في الدنيا بالطائفة الاولى محروم من الثانية وفي كلامه سبحانه شواهد كثيرة تشهد على ذلك. قوله تعالى: " ويوم نبعث من كل امة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون " قال في المجمع قال الزجاج والعتب الموجودة يقال عتب عليه يعتب إذا وجد عليه فإذا فاوضه ما عتب عليه قالوا عاتبه وإذا رجع إلى مسرته قيل اعتب والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب واستعتبه طلب منه ان يعتب انتهى. وقوله ويوم نبعث من كل امة شهيدا يفيد السياق ان المراد بهذا اليوم يوم القيامة وبهؤلاء الشهداء الذين يبعث كل واحد منهم من امة شهداء الاعمال الذين تحملوا حقائق اعمال امتهم في الدنيا وهم يستشهد بهم ويشهدون عليهم يوم القيامة وقد تقدم بعض الكلام في معنى هذه الشهادة في تفسير قوله: " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " البقرة: 143 في الجزء الاول من الكتاب. ولا دلالة في لفظ الاية على ان المراد بشهيد الامة نبيها ولا ان المراد بالامة امة الرسول فمن الجائز ان يكون غير النبي من امته كالامام شهيدا كما يدل عليه آية البقرة السابقة وقوله تعالى: " وجئ بالنبيين والشهداء " الزمر: 69 وعلى هذا فالمراد بكل امة امة الشهيد المبعوث واهل زمانه. وقوله ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ذكر بعث شهداء الامم دليل على انهم يشهدون على اممهم بما عملوا في الدنيا وقرينة على ان المراد من نفى الاذن للكافرين انهم لا يؤذن لهم في الكلام وهو الاعتذار لا محالة ونفى الاذن في الكلام
________________________________________
[ 318 ]
انما هو تمهيد لاداء الشهود شهادتهم كما تلوح إليه آيات اخر كقوله: " اليوم نختم على افواههم وتكلمنا ايديهم وتشهد ارجلهم " يس: 65 وقوله: " هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون " المرسلات: 36. على ان سياق قوله ثم لا يؤذن الخ يفيد ان المراد بهذا الذى ذكر نفى ما يتقى به الشر يومئذ من الحيل وبيان انه لا سبيل إلى تدارك ما فات منهم واصلاح ما فسد من اعمالهم في الدنيا يومئذ وهو احد امرين الاعتذار أو استئناف العمل اما الثاني فيتكفله قوله ولا هم يستعتبون ولا يبقى للاول وهو الاعتذار بالكلام إلا قوله ثم لا يؤذن للذين كفروا. ومن هنا يظهر ان قوله ولا هم يستعتبون أي لا يطلب منهم ان يعتبوا الله ويرضوه بيان لعدم امكان تدارك ما فات منهم بتجديد العمل والرجوع إلى السمع والطاعة فان اليوم يوم جزاء لا يوم عمل ولا سبيل إلى رجوعهم القهقرى إلى الدنيا حتى يعملوا صالحا فيجزوا به. وقد بين سبحانه ذلك في مواضع اخرى من كلامه بلسان آخر كقوله تعالى: " يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة ابصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون " القلم: 43 وقوله: " ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رؤوسهم عند ربهم ربنا ابصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون " الم السجدة: 12. قوله تعالى: " وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون " كانت الاية السابقة بالحقيقة مسوقة لبيان الفرق بين يوم الجزاء الذى هو يوم القيامة وبين سائر ظروف الجزاء في الدنيا بأن جزاء يوم القيامة لا يرتفع ولا يتغير باعتذار ولا باستعتاب وهذه الاية بيان فرق عذاب اليوم مع العذابات الدنيوية التى تتعلق بالظالمين في الدنيا فانها تقبل بوجه التخفيف أو الانظار بتأخير ما وعذاب يوم القيامة لا يقبل تخفيفا ولا انظارا. فقوله: " واذارأى الذين ظلموا العذاب " ذكر الظلم في الصلة دون الكفر ونحوه للدلالة على سبب الحكم وملاكه والمراد برؤية العذاب اشرافه عليهم
________________________________________
[ 319 ]
واشرافهم عليه بعد فصل القضاء كما يفيده السياق والمراد بالعذاب عذاب يوم القيامة وهو عذاب النار. والمعنى والله اعلم وإذا قضى الامر بعذابهم وأشرفوا على العذاب بمشاهدة النار فلا مخلص لهم عنه بتخفيف أو بانظار وامهال. قوله تعالى: " وإذا رأى الذين اشركوا شركاءهم " إلى آخر الاية مضى في حديث يوم البعث وقوله وإذا رأى الذين اشركوا وهم في عرف القرآن عبدة الاصنام والاوثان قرينة على ان المراد بقوله شركاءهم الذين اشركوهم بالله زعما منهم انهم شركاء لله وافتراء ويدل ايضا عليه ذيل الاية والاية التالية. فتسميتهم شركاءهم وهم يسمونهم شركاء الله للدلالة بها على ان ليس لهم من الشركة إلا الشركة بجعلهم بحسب وهمهم فليس لاشراكهم شركاءهم من الحقيقة إلا انها لا حقيقة لها وبذلك يظهر ان تفسير شركائهم بالاصنام أو بالمعبودات الباطلة وانهم انما عدوا شركائهم لانهم جعلوا لها نصيبا من اموالهم وانعامهم أو الشياطين لانهم شاركوهم في الاموال والاولاد أو شركاؤهم في الكفر وهم الذين كفروا مثل كفرهم أو شاركوهم في وبال كفرهم كل ذلك في غير محله ولا نطيل بالمناقشة في كل واحد منها. وقوله: " قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا " من دونك معناه ظاهر وهو تعريف منهم اياهم لربهم ولا حاجة إلى البحث عن غرض المشركين في تعريفهم فان اليوم يوم احاط بهم الشقاء والعذاب من كل جانب والانسان في مثل ذلك يلوى إلى كل ما يخطر بباله من طرق السعي في خلاص نفسه وتنفيس كربه. وقوله فألقوا إليهم القول انكم لكاذبون قال في المجمع تقول القيت الشئ إذا طرحته واللقى الشئ الملقى والقيت إليه مقالة إذا قلتها له وتلقاها إذا قبلها انتهى. والمعنى ان شركائهم ردوا إليهم وكذبوهم وقد عبر سبحانه في موضع آخر عن هذا التكذيب بالكفر كقوله: " ويوم القيامة يكفرون بشرككم " فاطر: 14 وقوله حكاية عن مخاطبة الشيطان لهم يوم القيامة: " انى كفرت بما اشركتمون من
________________________________________
[ 320 ]
قبل " ابراهيم: 22. قوله تعالى: " وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون " السلم الاسلام والاستسلام وكان في التعبير بالقاء السلم اشارة إلى انضمام شئ من الخضوع والمقهورية بالقهر الالهى إلى سلمهم. وضمير ألقوا عائد إلى الذين اشركوا بقرينة قوله بعد وضل عنهم ما كانوا يفترون فالمراد إن المشركين يسلمون يوم القيامة لله وقد كانوا يدعون إلى الاسلام في الدنيا وهم يستكبرون. وليس المراد بالقاء السلم هذا يوم القيامة هو انكشاف الحقيقة وظهور الوحدانية وهو مدلول قوله في صفة يوم القيامة: " ويعلمون إن الله هو الحق المبين " النور: 25 لان العلم بثبوت شئ امر والتسليم والايمان بثبوته امر آخر كما يظهر من قوله تعالى: " وجحدوا بها واستيقنتها انفسهم " النمل: 14. ومجرد العلم بأن الله هو الحق لا يكفى في سعادة الانسان بل تحتاج في تمامها إلى تسليمه والايمان به بترتيب آثاره عليه ثم من التسليم والايمان ما كان عن طوع واختيار ومنه ما كان عن كره واضطرار والذى ينفع في السعادة هو التسليم والايمان عن اختيار وموطن الاختيار الدنيا التى هي دار العمل دون الاخرة التى هي دار الجزاء. وهم لم يسلموا للحق ما داموا في الدنيا وان أيقنوا به حتى إذا وردوا الدار الاخرة وأوقفوا موقف الحساب عاينوا ان الله هو الحق المبين وان عذاب الشقاء أحاط بهم من كل جانب اسلموا للحق وهم مضطرون وليس ينفعهم وإلى هذا العلم والتسليم الاضطراري يشير قوله تعالى: " يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون إن الله هو الحق المبين " النور: 25 فصدر الاية يخبر عن اسلامهم لانه الدين الحق قال تعالى: " إن الدين عند الله الاسلام " آل عمران: 19 وذيل الاية عن انكشاف الحق لهم وظهور الحقيقة عليهم. والاية المبحوث عنها اعني قوله وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون صدرها يشير إلى اسلامهم وذيلها إلى كون ذاك الاسلام اضطراريا لا ينفعهم لانهم كانوا يرون لله الوهية ولشركائهم الوهية فاختاروا تسليم شركائهم
________________________________________
[ 321 ]
وعبادتهم على التسليم لله ثم لما ظهر لهم الحق يوم القيامة وكذبهم شركائهم بطل ما زعموه وضل عنهم ما افتروه فلم يبق للتسليم الا الله سبحانه فسلموا له مضطرين وانقادوا له كارهين. قوله تعالى: " الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون " استئناف متعرض لحال ائمة الكفر بالخصوص بعد ما اشار إلى حال عامة الظالمين والمشركين في الايات السابقة. والسامع إذا سمع ما شرحه الله من حالهم يوم القيامة في هذه الايات وانهم معذبون جميعا من غير ان يخفف عنهم أو ينظروا فيه وقد سمع منه ان منهم طائفة هم اشد كفرا واشقى من غيرهم إذ يقول واكثرهم الكافرون خطر بباله طبعا انهم هل يساوون غيرهم في العذاب الموعود وهم يزيدون عليهم في السبب وهو الكفر. فاستؤنف الكلام جوابا عن ذلك فقيل الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله بالعناد واللجاج فاكتملوا في الكفر واقتدى بهم غيرهم زدناهم عذابا وهو الذى للصد وهم يختصون به فوق العذاب وهو الذى بازاء مطلق الظلم والكفر ويشاركون فيه عامة اخوانهم وكان اللام في العذاب للعهد الذكرى يشار بها إلى ما ذكر في قوله وإذا رأى الذين ظلموا العذاب الخ بما كانوا يفسدون تعليل لزيادة العذاب. ومن هنا يظهر ان المراد بالافساد الواقع في التعليل هو الصد لانه الوصف الذى يزيدون به على غيرهم وهو افساد الغير بصرفه عن سبيل الله وبتقرير آخر افساد في الارض بالمنع عن انعقاد مجتمع صالح كان من المترقب حصوله باقبال اولئك المصروفين على دين الله وسلوك سبيله. قوله تعالى: " ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء " الخ صدر الاية تكرار ما تقدم قبل بضع آيات من قوله ويوم نبعث من كل امة شهيدا غير انه كان هناك توطئة وتمهيدا لحديث عدم الاذن لهم في الكلام يومئذ وهو ههنا توطئة وتمهيد لذكر شهادته صلى الله عليه وآله وسلم لهؤلاء يومئذ وهو في الموضعين
________________________________________
[ 322 ]
مقصود لغيره لا لنفسه وكيف كان فقوله ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم يدل على بعث واحد في كل امة للشهادة على اعمال غيره وهو غير البعث بمعنى الاحياء للحساب بل بعث بعد البعث وانما جعل من انفسهم ليكون اتم للحجة واقطع للمعذرة كما يفيده السياق وذكره المفسرون حتى انهم ذكروا شهادة لوط على قومه ولم يكن منهم نسبا ووجهوه بأنه كان تأهل فيهم وسكن معهم فهو معدود منهم. وقوله وجئنا بك شهيدا على هؤلاء يفيد انه صلى الله عليه وآله وسلم شهيد على هؤلاء واستظهروا ان المراد بهؤلاء هم امته وايضا انهم قاطبة من بعث إليه من لدن عصره إلى يوم القيامة ممن حضره ومن غاب ومن عاصره ومن جاء بعده من الناس. وآيات الشهادة من معضلات آيات القيامة على ما في جميع آيات القيامة من الاعضال وصعوبة المنال وقد تقدم في ذيل قوله: " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " البقرة: 143 في الجزء الاول من الكتاب نبذة من الكلام في معنى هذه الشهادة. ومن الواجب قبل الورود في بحث الشهادة وسائر الامور التى تصفها الايات ليوم القيامة كالجمع والوقوف والسؤال والميزان والحساب ان يعلم انه تعالى يعد في كلامه هذه الامور في عداد الحجج التى تقام يوم القيامة على الانسان لتثبيت ما عمله من خير أو شر والقضاء عليه بما ثبت بالحجة القاطعة للعذر والمنيرة للحق ثم المجازاة بما يستوجبه القضاء من سعادة أو شقاء وجنة أو نار وهذا من اوضح ما يستفاد من آيات القيامة الشارحة لشؤن هذا اليوم وما يواجه الناس منها. وهذا اصل مقتضاه ان يكون بين هذه الحجج واجزائها ونتائجها روابط حقيقية بينة يضطر العقل إلى الاذعان بها ولا يسع للانسان بما عنده من الشعور الفطري ردها ولا الشك والارتياب فيها. وعلى هذا فمن الواجب ان تكون الشهادة القائمة هناك باقامة منه تعالى مشتملة من الحقيقة على ما لا سبيل للمناقشة فيها والله سبحانه لو امر اشقى الناس على أن يشهد على الاولين والاخرين بما عملوه باختيار من الشاهد أو يخلق الشهادة في لسانه بلا
________________________________________
[ 323 ]
ارادة منه أو أن يشهد بما عملوه من غير ان يكون قد تحملها في الدنيا وشهدها شهود عيان بل معتمدا على اعلام من الله أو ملائكته أو على حجة ثم امضى تعالى ذلك وأنفذه وجازى به محتجا في جميع ذلك بشهادته ثانيا عليها لم يكن ذلك مما لا تطيقه سعة قدرته ولا يسعه نفوذ ارادته ولا استطاع احد أن ينازعه في ملكه أو يعقب حكمه أو يغلبه على امره. لكنها حجة تحكمية غير تامة لا تقطع بالحقيقة عذرا ولا تدفع ريبا نظير التحكمات التى نجدها من جبابرة الانسان والطواغيت العابثين بالحق والحقيقة وكيف يتصور لمثل هذه الحجج المختلقة عين أو اثر يوم لا عين فيه الا للحق ولا اثر فيه الا للحقيقة ؟ وعلى هذا فمن الواجب ان يكون هذا الشهيد ذا عصمة الهية يمتنع عليه الكذب والجزاف وان يكون عالما بحقائق الاعمال التى يشهد عليها لا بظاهر صورها وهيئاتها المحسوسة بل بحقيقة ما انعقدت عليه في القلوب وان يستوى عنده الحاضر والغائب من الناس كما تقدمت الاشارة إليه في تفسير آية سورة البقرة. ومن الواجب أن تكون شهادته شهادة عن معاينة كما هو ظاهر لفظ الشهيد وظاهر تقييده بقوله من انفسهم في قوله شهيدا عليهم من انفسهم غير مستندة إلى حجة عقلية أو دليل سمعي ويشهد به قوله تعالى حكاية عن المسيح عليه السلام: " وكنت شهيدا عليهم ما دمت فيهم فلما توفيتنى كنت انت الرقيب عليهم وانت على كل شئ شهيد " المائدة: 117. وبهذا تتلاءم الايتان مضمونا اعني قوله ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء وقوله: " وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا " البقرة: 143. فان ظاهر آية البقرة ان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الناس الذين هم عامة من بعث إليهم من زمانه إلى يوم القيامة شهداء يشهدون على اعمالهم وان الرسول انما هو شهيد على هؤلاء الشهداء دون سائر الناس إلا بواسطتهم ولا ينبغى ان يتوهم ان الامة هم المؤمنون وغيرهم الناس وهم خارجون من الامة فان ظاهر الاية السابقة في السورة " ويوم نبعث من كل امة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا " الاية إن الكفار من الامة
________________________________________
[ 324 ]
المشهود عليهم. ولازم ذلك ان يكون المراد بالامة في الاية المبحوث عنها ويوم نبعث في كل امة شهيدا عليهم من انفسهم جماعة الناس من اهل عصر واحد يشهد اعمالهم شهيد واحد ويكون حينئذ الامة التى بعث إليها النبي صلى الله عليه وآله وسلم منقسمة إلى امم كثيرة. ويكون المراد بالشهيد الانسان المبعوث بالعصمة والمشاهدة كما تقدم ويؤيده قوله من انفسهم إذ لولا المشاهدة لم يكن لكونه من انفسهم وقع ولا لتعدد الشهداء بتعدد الامم وجه فلكل قوم شهيد من انفسهم سواء كان نبيا لهم أو غير نبيهم فلا ملازمة كما يؤيده قوله: " وجئ بالنبيين والشهداء " الزمر: 69. ويكون المراد بهؤلاء في قوله وجئنا بك شهيدا على هؤلاء الشهداء دون عامة الناس فالشهداء شهداء على الناس والنبى صلى الله عليه وآله وسلم شهيد على الشهداء وظاهر الشهادة على الشاهد تعديله دون الشهادة على عمله فهو صلى الله عليه وآله وسلم شهيد على مقامهم لا على اعمالهم ولذلك لم يكن من الواجب ان يعاصرهم ويتحد بهم زمانا فافهم ذلك. والانصاف انه لو لا هذا التقريب لم يرتفع ما يتراءى ما في آيات الشهادة من الاختلاف كدلالة آية البقرة وقوله: " ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس " الحج: 78 على كون الامة هم المؤمنين ودلالة غيرهما على الاعم ودلالتهما على ان النبي انما هو شهيد على الشهداء وان بينه وبين الناس شهداء ودلالة غيرهما على خلافه وان على الناس شهيدا واحدا هو نبيهم لان المفروض حينئذ ان شهيد كل امة هو نبيهم وكون اخذ الشهيد من انفسهم لغو لا اثر له مع عدم لزوم الحضور والمعاصرة وان الشهادة انما تكون من حى كما في الكلام المحكى عن المسيح عليه السلام واشكالات اخرى تتوجه على نجاح الحجة ومضيها تقدمت الاشارة إليها والله الهادى. وقوله: " ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين " ذكروا انه استئناف يصف القرآن بكرائم صفاته فصفته العامة انه تبيان لكل شئ والتبيان والبيان واحد كما قيل واذ كان كتاب هداية لعامة الناس وذلك شأنه كان الظاهر ان المراد بكل شئ كل ما يرجع إلى امر الهداية مما يحتاج إليه الناس في
________________________________________
[ 325 ]
اهتدائهم من المعارف الحقيقية المتعلقة بالمبدأ والمعاد والاخلاق الفاضلة والشرائع الالهية والقصص والمواعظ فهو تبيان لذلك كله. ومن صفته الخاصة أي المتعلقة بالمسلمين الذين يسلمون للحق انه هدى يهتدون به إلى مستقيم الصراط ورحمة لهم من الله سبحانه يحوزون بالعمل بما فيه خير الدنيا والاخرة وينالون به ثواب الله ورضوانه وبشرى لهم يبشرهم بمغفرة من الله ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم. هذا ما ذكروه وهو مبنى على ما هو ظاهر التبيان من البيان المعهود من الكلام وهو اظهار المقاصد من طريق الدلالة اللفظية فإنا لا نهتدي من دلالة لفظ القرآن الكريم إلا على كليات ما تقدم لكن في الروايات ما يدل على ان القرآن فيه علم ما كان وما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة ولو صحت الروايات لكان من اللازم ان يكون المراد بالتبيان الاعم مما يكون من طريق الدلالة اللفظية فلعل هناك اشارات من غير طريق الدلالة اللفظية تكشف عن اسرار وخبايا لا سبيل للفهم المتعارف إليها. والظاهر على ما يستفاد من سياق هذه الايات المسوقة للاحتجاج على الاصول الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد والكلام فيها ينعطف مرة بعد اخرى عليها إن قوله ونزلنا عليك الكتاب الخ ليس باستئناف بل حال عن ضمير الخطاب في جئنا بك بتقدير قد أو بدون تقديرها على الخلاف بين النحاة في الجملة الحالية المصدرة بالفعل الماضي. والمعنى وجئنا بك شهيدا على هؤلاء والحال إنا نزلنا عليك من قبل في الدنيا الكتاب وهو بيان لكل شئ من امر الهداية يعلم به الحق من الباطل فيتحمل شهادة اعمالهم فيشهد يوم القيامة على الظالمين بما ظلموا وعلى المسلمين بما اسلموا لان الكتاب كان هدى ورحمة وبشرى لهم وكنت انت بذلك هاديا ورحمة ومبشرا لهم. وعلى هذا فصدر الاية كالتوطئة لذيلها كأنه قيل سيبعث شهداء يشهدون على الناس بأعمالهم وانت منهم ولذلك نزلنا عليك كتابا يبين الحق والباطل ويميز بينهما حتى تشهد به يوم القيامة على الظالمين بظلمهم وقد تبين الكتاب وعلى المسلمين باسلامهم وقد كان الكتاب هدى ورحمة وبشرى لهم وكنت هاديا ورحمة ومبشرا به.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page