• +98 25 3770 33 30
  • عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.

الصفحة 276 الي 300


[ 276 ]
ان يقلدوا فيه من قبلهم جهلا ومن غير تثبت. وقوله ولهم ما يشتهون ظاهر السياق انه معطوف على لله البنات والتقدير ويجعلون لهم ما يشتهون أي يثبتون لله سبحانه البنات باعتقاد ان الملائكة بناته ويثبتون لانفسهم ما يشتهون وهم البنون بقتل البنات ووأدها والمحصل انهم يرضون لله بما لا يرضون به لانفسهم. وقيل ان ما يشتهون مبتدأ مؤخر ولهم خبر مقدم والجملة معطوفة على يجعلون وعلى هذا فالجملة مسوقة للتقريع أو الاستهزاء. وقد وجهوا ذلك بأن عطف الجملة على لله البنات غير جائز لمخالفته القاعدة وهى ان الفعل المتعدى إلى المفعول بنفسه أو بحرف جر إذا كان فاعله ضميرا متصلا مرفوعا فانه لا يتعدى إلى نفس هذا الضمير بنفسه أو بحرف جر الا بفاصل مثلا إذا ضرب زيد نفسه لم يقل زيد ضربه وانت ضربتك وإذا غضب على نفسه لم يقل زيد غضب عليه وانما يقال زيد ضرب نفسه أو ما ضرب الا اياه وزيد غضب على نفسه أو ما غضب الا عليه الا في باب ظن وما الحق به من فقد وعدم فيجوز ان يقال زيد ظنه قويا أي نفسه. وعلى هذا فلو كان قوله ولهم ما يشتهون معطوفا على قوله لله البنات كان من الواجب ان يقال ولانفسهم ما يشتهون انتهى محصلا. والحق ان التزام هذه القاعدة انما هو لدفع اللبس وان تخلل حرف الجر بين الضميرين من الفصل وفي القرآن الكريم: " وهزى اليك بجذع النخلة " مريم: 25 " واضمم اليك جناحك " القصص: 32 ومنهم من رد القاعدة من رأس لانتقاضها بالايتين وأجابوا ايضا بوجوه اخر لا حاجة بنا إلى ذكرها من ارادها فليراجع التفاسير. قوله تعالى: " وإذا بشر احدهم بالانثى ظل وجهه مسوداوهو كظيم " اسوداد الوجه كناية عن الغضب والكظيم هو الذى يتجرع الغيظ والجملة حالية أي ينسبون إلى ربهم البنات والحال انهم إذا بشر احدهم بالانثى فقيل ولدت لك بنت اسود وجهه من الغيظ وهو يتجرع غيظه. قوله تعالى: " يتوارى من القوم من سوء ما بشر به إلى آخر الاية التوارى
________________________________________
[ 277 ]
الاستخفاء والتخفى وهو مأخود من الوراء والهون الذلة والخزى والدس الاخفاء. والمعنى يستخفى هذا المبشر بالبنت من القوم من سوء ما بشر به على عقيدته ويتفكر في امره أيمسك ما بشر به وهى البنت على ذلة من امساكه وحفظه أم يخفيه في التراب كما كان ذلك عادتهم في المواليد من البنات كما قيل ان احدهم كان يحفر حفيرة صغيرة فإذا كان المولود انثى جعلها في الحفيرة وحثا عليها التراب حتى تموت تحته وكانوا يفعلون ذلك مخافة الفقر عليهن فيطمع غير الاكفاء فيهن. واول ما بدا لهم ذلك ان بنى تميم غزوا كسرى فهزمهم وسبى نساءهم وذراريهم فادخلهن دار الملك واتخذ البنات جواري وسرايا ثم اصطلحوا بعد برهة واستردوا السبايا فخيرن في الرجوع إلى اهلهن فامتنعت عدة من البنات فاغضب ذلك رجال بنى تميم فعزموا لا تولد لهم انثى إلا وأدوها ودفنوها حية ثم تبعهم في ذلك بعض من دونهم فشاع بينهم وأد البنات. وقوله ألا ساء ما يحكمون هو حكمهم ان له البنات ولهم البنون لا لهوان البنات وكرامة البنين في نفس الامر بل معنى هذا الحكم عندهم ان يكون لله ما يكرهون ولهم ما يحبون وقيل المراد بالحكم حكمهم بوجوب وأد البنات وكون امساكهن هونا واول الوجهين اوفق وانسب للاية التالية. قوله تعالى: " للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى وهو العزيز الحكيم " المثل هو الصفة ومنه سمى المثل السائر مثلا لانه صفة تسير في الالسن وتجرى في كل موضع تناسبه وتشابهه. والسوء بالفتح والسكون مصدر ساء يسوء كما ان السوء بالضم اسمه واضافة المثل إلى السوء تفيد التنويع فان الاشياء انما توصف اما من جهة حسنها واما من جهة سوئها وقبحها فالمثل مثلان مثل الحسن ومثل السوء. والحسن والقبح ربما كانا من جهة الخلقة لا صنع للانسان ولا مدخل لاختياره فيهما كحسن الوجه ودمامة الخلقة وربما لحقا من جهة الاعمال الاختيارية كحسن العدل وقبح الظلم وانما يحمد ويذم العقل ما كان من القسم الثاني دون القسم الاول فيدور الحمد والذم بحسب الحقيقة مدار العمل بما تستحسنه وتأمر به الفطرة الانسانية
________________________________________
[ 278 ]
من الاعمال التى توصله إلى ما فيه سعادة حياته وترك العمل بها وهو الذى يتضمنه الدين الحق من احكام الفطرة. ومن المعلوم ان الطبع الانساني لا رادع له عن اقتراف العمل السئ الا اليم المؤاخذة وشديد العقاب واذعانه بايقاعه وانجازه واما الذم فانه يتبدل مدحا إذا شاع الفعل وخرج بذلك عن كونه منكرا غير معروف. ومن هنا يظهر ان الايمان بالاخرة والاذعان بالحساب والجزاء هو الاصل الوحيد الذى يضمن حفظ الانسان عن اقتراف الاعمال السيئة ويجيره من لحوق أي ذم وخزى وهو المنشأ الذى يقوم اعمال الانسان تقويما يحمله على ملازمة طريق السعادة ولا يؤثر اثره أي شئ آخر من المعارف الاصلية حتى التوحيد الذى إليه ينتهى كل اصل. وإلى ذلك يشير قوله تعالى: " ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " ص: 26. فعدم الايمان بالاخرة واستخفاف امر الحساب والجزاء هو مصدر كل عمل سئ ومورده وبالمقابلة الايمان بالاخرة هو منشأ كل حسنة ومنبع كل خير وبركة. فكل مثل سوء وصفة قبح يلزم الانسان ويلحقه فانما يأتيه من قبل نسيان الاخرة كما ان كل مثل حسن وصفة حمد بالعكس من ذلك. وبما تقدم يظهر النكتة في قوله للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء فقد كان يصفهم في الايات السابقة بالشرك فلما اراد بيان ان لهم مثل السوء بدل ذلك من وصفهم بعدم ايمانهم بالاخرة. فالذين لا يؤمنون بالاخرة هم الاصل في عروض كل مثل سوء وصفة قبح فان ملاكه وهو انكار الاخرة نعتهم اللازم لهم ولو لحق بعض المؤمنين بالاخرة شئ من مثل السوء فانما يلحقه لنسيان ما ليوم الحساب والمنكرون هم الاصل في ذلك. هذا في صفات السوء التى يستقبحها العقل ويذمها وهناك صفات سوء لا يستقبحها العقل وانما يكرهها الطبع كالانوثة عند قوم وايلاد البنات عند آخرين والفقر المالى والمرض وكالموت والفناء والعجز والجهل تشترك بين المؤمن والكافر وصفات اخرى تحليلية كالفقر والحاجة والنقص والعدم والامكان لا تختص بالانسان بل هي مشتركة
________________________________________
[ 279 ]
بين جميع الممكنات سارية في عامة الخلق والكافر يتصف بها كما يتصف بها غيره فالكافر في معرض الاتصاف بكل مثل سوء منها ما يختص به ومنها ما يشترك بينه وبين غيره كما بين تفصيلا والله سبحانه منزه من ان يتصف بشئ من هذه الصفات التى هي امثال السوء أما امثال السوء التى تتحصل من ناحية سيئات الاعمال مما يستقبحه العقل ويذمه ويجمعها الظلم فلانه لا يظلم شيئا قال تعالى: " ولا يظلم ربك احدا " الكهف: 49 وقال: " وهو الحكيم العليم " الزخرف: 84 فما قضاه من حكم أو فعله من شئ فهو المتعين في الحكمة لا يصلح بالنظر إلى النظام الجارى في الوجود الا ذاك. واما امثال السوء مما يستكرهه الطبع أو يحلله العقل فلا سبيل لها إليه تعالى فانه عزيز مطلق يمتنع جانبه من ان تسرب إليه ذلة فان له كل القدرة لا يعرضه عجز وله العلم كله فلا يطرأ عليه جهل وله محض الحياة لا يهدده موت ولا فناء منزه عن كل نقص وعدم فلا يتصف بصفات الاجسام مما فيه نقص أو فقد أو قصور أو فتور والايات في هذه المعاني كثيرة ظاهرة لا حاجة إلى ايرادها. فهو سبحانه ذو علو ونزاهة من ان يتصف بشئ من امثال السوء التى يتصف بها غيره ولا هذا المقدار من التنزه والتقدس فحسب بل منزه من ان يتصف بشئ من الامثال الحسنة والصفات الجميلة الكريمة بمعانيها التى يتصف بها غيره كالحياة والعلم والقدرة والعزة والعظمة والكبرياء وغيرها فان الذى يوجد من هذه الصفات الحسنة الكمالية في الممكنات محدودة متناه مشوب بالفقر والحاجة مخلوط بالفقدان والنقيصة لكن الذى له سبحانه من الصفات محض الكمال وحقيقته غير محدودة ولا متناه ولا مشوب بنقص وعدم فله حياة لا يهددها موت وقدرة لا يعتريها عى وعجز وعلم لا يقارنه جهل وعزة ليس معها ذلة. فله المثل الاعلى والصفة الحسنى قال تعالى: " وله المثل الاعلى في السماوات والارض " الروم: 27 وقال: " له الاسماء الحسنى " طه: 8 فالامثال منها دانية ومنها عالية والعالية منها اعلى ومنها غيره والاعلى مثله تعالى والاسماء سيئة وحسنة والحسنة منها احسن وغيره ولله منها ما هو احسن فافهم ذلك.
________________________________________
[ 280 ]
فقد تبين بما تقدم معنى كون مثله اعلى وان قوله ولله المثل الاعلى مسوق للحصر أي لله المثل الذى هو اعلى دون المثل الذى هو سئ دان ودون المثل الذى هو حسن عال من صفات الكمال الذى تتصف به الممكنات وليس بأعلى. وتبين ايضا ان المثل الاعلى الذى يظهر له تعالى من البيان السابق هو انتفاء جميع الصفات السيئة عنه كما قال: " ليس كمثله شئ " الشورى: 11 ومن الصفات الثبوتية كل صفة حسنة منفيا عنه الحدود والنواقص. وقوله وهو العزيز الحكيم مسوق لافادة الحصر وتعليل ما تقدمه أي وهو الذى له كل العزة فلا تعتريه ذلة اصلا لان كل ذلة فهو فقد عزة ما وليس يفقد عزة ما وله كل الحكمة فلا يعرضه جهالة لانها فقد حكمة ما وليس يفقد شيئا من الحكمة. واذ لا سبيل لذلة ولا جهالة إليه فلا يتصف بشئ من صفات النقص ولا ينعت بشئ من نعوت الذم وامثال السوء لكن الكافر ذليل في ذاته جهول في نفسه فتلحقه وتلازمه صفات النقص ويتصف بصفات الذم وامثال السوء فللذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء. والمؤمن وان كان ذليلا في ذاته جهولا في نفسه كالكافر الا انه لدخوله في ولاية الله اعزه ربه بعزته واظهره على الجهالة بتأييده بروح منه قال تعالى: " والله ولى المؤمنين " آل عمران: 68 وقال: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " المنافقون: 8 وقال: " اولئك كتب في قلوبهم الايمان وايدهم بروح منه " المجادلة: 22. قوله تعالى: " ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة " إلى آخر الاية ضمير عليها عائد إلى الارض لدلالة الناس عليها. ولا يبعد ان يدعى ان السياق يدل على كون المراد بالدابة الانسان فقط من جهة كونه يدب ويتحرك والمعنى ولو اخذ الله الناس بظلمهم مستمرا على المؤاخذة ما ترك على الارض من انسان يدب ويتحرك اما جل الناس فانهم يهلكون بظلمهم واما الاشذ الاندر وهم الانبياء والائمة المعصومون من الظلم فهم لا يوجدون لهلاك آبائهم وامهاتهم من قبل. والقوم اخذوا الدابة في الاية باطلاق معناها وهو كل ما يدب على الارض من
________________________________________
[ 281 ]
انسان وحيوان فعاد معنى الاية إلى انه لو يؤاخذهم بظلمهم لاهلك البشر وكل حيوان على الارض فتوجه إليه ان هذا هو الانسان يهلك بظلمه فما بال سائر الحيوان يهلك ولا ظلم له أو يهلك بظلم من الانسان ؟ واوجه ما اجيب به عنه قول بعضهم باصلاح منا ان الله تعالى لو اخذهم بظلمهم بكفر أو معصية لهلك عامة الناس بظلمهم إلا المعصومين منهم واما المعصومون على شذوذهم وقلة عددهم فانهم لا يوجدون لهلاك آبائهم وامهاتهم من قبل وإذا هلك الناس وبطل النسل هلكت الدواب من سائر الحيوان لانها مخلوقة لمنافع العباد ومصالحهم كما يشعر به قوله تعالى: " خلق لكم ما في الارض جميعا " البقرة: 29 ولهم وجوه أخر في الذب عن الاية على تقدير عموم الدابة فيها لا جدوى في نقلها من ارادها فليراجع مطولات التفاسير. واحتج بعضهم بالاية على عدم عصمة الانبياء عليهم السلام وفيه ان الاية لا تدل على ازيد من انه تعالى لو اخذ بالظلم لهلك جميع الناس وانقرض النوع واما إن كل من يهلك فانما هلك عن ظلمه فلا دلالة لها عليه فمن الجائز ان يهلك الاكثرون بظلمهم ويفنى الاقلون بفناء آبائهم وامهاتهم كما تقدم فلا دلالة في الاية على استغراق الظلم الافراد حتى الانبياء والمعصومين وانما تدل على استغراق الفناء. وربما قيل في الجواب ان المراد بالناس الظالمون منهم بقرينة قوله على ظلمهم فلا يشمل المعصومين من رأس. وربما اجيب ان المراد بالظلم اعم من المعصية التى هي مخالفة الامر المولوي وترك الاولى الذى هو مخالفة الامر الارشادي وربما صدر عن الانبياء عليهم السلام كما حكى عن آدم وزوجه: " قالا ربنا ظلمنا انفسنا " الاعراف: 23 وغيره من الانبياء فحسنات الابرار سيئات المقربين وحينئذ فلا يدل عموم الظلم في الاية للانبياء على عدم عصمة الانبياء عن المعصية بمعنى مخالفة الامر المولوي. وربما اجيب بأن اهلاك جميع الناس انما هو بان الله يمسك عن انزال المطر على الارض لظلم الظالمين من الناس فيهلك به الظالمون والاولياء والدواب فان العذاب إذا نزل لم يفرق بين الشقى والسعيد فيكون على العدو نقمة ونكالا وعلى غيره محنة ومزيد أجر.
________________________________________
[ 282 ]
والاجوبة الثلاثة غير تامة جميعا اما الاول فان اختصاص الناس بالظالمين يوجب اختصاص الهلاك بهم كما ادعى فلا يعم الهلاك المعصومين ولا موجب حينئذ لهلاك سائر الدواب المخلوقة للانسان فلا يستقيم قوله ما ترك عليها من دابة كما لا يخفى. واما الثاني فلان الايات بما لها من السياق تبحث عن الظلم بمعنى الشرك وسائر المعاصي المولوية فتعميم الظلم في الاية لترك الاولى وخاصة بالنظر إلى ذيل الاية ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى الظاهر في الايعاد لا يلائم السياق. واما الثالث فلعدم دليل من جهة اللفظ على ما ذكر فيه. وقوله ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون استدراك عن مقدر يدل عليه الجملة الشرطية في صدر الاية والتقدير فلا يعاجل في مؤاخذتهم ولكن يؤخرهم إلى اجل مسمى والاجل المسمى بالنسبة إلى الفرد من الانسان موته المحتوم وبالنسبة إلى الامة يوم انقراضها وبالنسبة إلى عامة البشر نفخ الصور وقيام الساعة ولكل منها ذكر في كلامه تعالى قال: " ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا اجلا مسمى " المؤمن: 67 وقال: " ولكل امة اجل فإذا جاء اجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " الاعراف: 34 وقال: " ولو لا كلمة سبقت من ربك إلى اجل مسمى لقضى بينهم " الشورى: 14. قوله تعالى: " ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب ان لهم الحسنى " إلى آخر الاية عود إلى نسبة المشركين إليه تعالى البنات واختيارهم لانفسهم البنين وهم يكرهون البنات ويحبون البنين ويستحسنونهم. فقوله ويجعلون لله ما يكرهون يعنى البنات وقوله وتصف السنتهم الكذب أي تخبر السنتهم الخبر الكاذب وهو ان لهم الحسنى أي العاقبة الحسنى من الحياة وهى ان يخلفهم البنون وقيل المراد بالحسنى الجنة على تقدير صحة البعث وصدق الانبياء فيما يخبرون به كما حكاه عنهم في قوله: " ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لى وما اظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربى ان لى عنده للحسنى " حم السجدة: 50 وهذا الوجه لا بأس به لو لا ذيل الاية بما سيجئ
________________________________________
[ 283 ]
من معناه. وقوله لا جرم ان لهم النار وانهم مفرطون أي المقدمون إلى عذاب النار يقال فرط وافرط أي تقدم والافراط الاسراف في التقدم كما ان التفريط التقصير فيه والفرط بفتحتين هو الذى يسبق السيارة لتهيئة المسكن والماء ويقال افرطه أي قدمه. ولما كان قولهم كذبا وافتراء ان لله ما يكرهون ولهم الحسنى في معنى دعوى انهم سبقوا ربهم إلى الحسنى وتركوا له ما يكرهون اوعدهم بحقيقة هذا الزعم جزاء لكذبهم وهو ان لهم النار وانهم مقدمون إليها حقا وذلك قوله لا جرم إن لهم النار الخ. قوله تعالى: " تالله لقد ارسلنا إلى امم من قبلك فزين لهم الشيطان اعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب اليم " ظاهر السياق ان المراد باليوم يوم نزول الاية والمراد بكون الشيطان وليا لهم يومئذ اتفاقهم على الضلال في زمان الوحى والمراد بالعذاب الموعود عذاب يوم القيامة كما هو ظاهر غالب الايات التى توعد بالعذاب. والمعنى تالله لقد ارسلنا رسلنا إلى امم من قبلك كاليهود والنصارى والمجوس ممن لم ينقرضوا كعاد وثمود فزين لهم الشيطان اعمالهم فاتبعوه واعرضوا عن رسلنا فهو وليهم اليوم وهم متفقون على الضلال ولهم يوم القيامة عذاب اليم. وجوز الزمخشري على هذا الوجه ان يكون ضمير وليهم لقريش والمعنى إن الشيطان زين للامم الماضين اعمالهم وهو اليوم ولى قريش ويبعده لزوم اختلاف الضمائر. ويمكن ان يكون المراد بالامم الامم الماضين والهالكين فولاية الشيطان لهم اليوم كونهم من اولياء الشيطان في البرزخ ولهم هناك عذاب اليم وقيل المراد باليوم مدة الدنيا فهى يوم الولاية والعذاب يوم القيامة. وقيل المراد به يوم القيامة فهناك ولاية الشيطان لهم ولهم هناك عذاب اليم. وقيل المراد يوم تزيين الشيطان اعمالهم وهو من قبيل حكاية الحال الماضية. واقرب الوجوه اولها ثم التالى فالتالي والله اعلم.
________________________________________
[ 284 ]
قوله تعالى: " وما انزلنا عليك الكتاب الا لتبين لهم الذى اختلفوا فيه " الخ ضمير لهم للمشركين والمراد بالذى اختلفوا فيه هو الحق من اعتقاد وعمل فيكون المراد بالتبين الايضاح والكشف لاتمام الحجة والدليل على هذا الذى ذكرنا تفريق امر المؤمنين منهم وافرادهم بالذكر في قوله: " وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ". والمعنى هذا حال الناس في الاختلاف في المعارف الحقة والاحكام الالهية وما انزلنا عليك الكتاب الا لتكشف لهؤلاء المختلفين الحق الذى اختلف فيه فيتم لهم الحجة وليكون هدى ورحمة لقوم يؤمنون يهديهم الله به إلى الحق ويرحمهم بالايمان به والعمل. (بحث روائي) في الكافي باسناده عن عبد الرحمان بن كثير قال: قلت لابي عبد الله عليه السلام فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون قال الذكر محمد ونحن اهله المسؤولون الحديث. اقول يشير عليه السلام إلى قوله تعالى: " قد انزل الله عليكم ذكرا رسولا " الطلاق: 11 وفي معناه روايات كثيرة. وفي تفسير البرهان عن البرقى باسناده عن عبد الكريم بن ابى الديلم عن ابى عبد الله عليه السلام: قال جل ذكره فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون قال الكتاب الذكر واهله آل محمد عليهم السلام امر الله عز وجل بسؤالهم ولم يأمر بسؤال الجهال وسمى الله عز وجل القرآن ذكرا فقال تبارك وتعالى: " وانزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون " وقال تعالى: " وانه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون ". اقول وهذا احتجاج على كونهم اهل الذكر بأن الذكر هو القرآن وانهم اهله لكونهم قوم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والايتان في آخر الكلام للاستشهاد على ذلك كما صرح بذلك في غيره من الروايات وفي معنى الحديث احاديث أخر. وفي تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن ابى جعفر عليه السلام قال: قلت له ان من عندنا يزعمون ان قول الله تعالى فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون انهم اليهود والنصارى فقال إذا يدعونكم إلى دينهم قال ثم قال بيده إلى صدره نحن أهل الذكر
________________________________________
[ 285 ]
الذكر ونحن المسؤولون قال قال أبو جعفر عليه السلام الذكر القرآن. اقول وروى نظير هذا البيان عن الرضا عليه السلام في مجلس المأمون. وقد مر ان الخطاب في الاية على ما يفيده السياق للمشركين من الوثنيين المحيلين للرسالة امروا أن يسألوا اهل الذكر وهم اهل الكتب السماوية هل بعث الله للرسالة رجالا من البشر يوحى إليهم ؟ ومن المعلوم ان المشركين لما كانوا لا يقبلون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن معنى لارجاعهم إلى غيره من اهل القرآن لانهم لم يكونوا يقرون للقرآن انه ذكر من الله فتعين ان يكون المسؤل عنه بالنظر إلى مورد الاية هم اهل الكتاب وخاصة اليهود. واما إذا اخذ قوله فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون في نفسه مع قطع النظر عن المورد ومن شأن القرآن ذلك ومن المعلوم ان المورد لا يخصص بنفسه كان القول عاما من حيث السائل والمسئول والمسؤول عنه ظاهرا فالسائل كل من يمكن ان يجهل شيئا من المعارف حقيقية والمسائل من المكلفين والمسئول عنه جميع المعارف والمسائل التى يمكن ان يجهله جاهل واما المسئول فانه وان كان بحسب المفهوم عاما فهو بحسب المصداق خاص وهم اهل بيت النبي عليه وعليهم السلام. وذلك ان المراد بالذكر ان كان هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في آية الطلاق فهم اهل الذكر وان كان هو القرآن كما في آية الزخرف فهو ذكر للنبى صلى الله عليه وآله وسلم ولقومه وهم قومه أو المتيقن من قومه فهم اهله وخاصته وهم المسئولون وقد قارنهم صلى الله عليه وآله وسلم بالقرآن وأمر الناس بالتمسك بهما في حديث الثقلين المتواتر قائلا: انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض الحديث ومن الدليل على ان كلامهم عليهم السلام من الجهة التى ذكرناها عدم تعرضهم لشئ من خصوصيات مورد الاية. ومما قدمناه يظهر فساد ما اورده بعضهم على الاحاديث ان المشركين الذين امروا بالسؤال ما كانوا يقبلون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يقبلون من اهل بيته ؟ وفي الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: لا ينبغى للعالم ان يسكت على علمه ولا ينبغى للجاهل ان يسكت على جهله وقد قال الله
________________________________________
[ 286 ]
فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون فينبغي للمؤمن ان يعرف عمله على هدى أم على خلافه وفي تفسير القمى في قوله تعالى: " أفأمن الذين مكروا السيئات إلى قوله بمعجزين قال قال عليه السلام إذا جاؤا وذهبوا في التجارات فيأخذهم في تلك الحالة أو يأخذهم على تخوف قال قال على تيقظ وفي تفسير العياشي عن سماعة عن ابى عبد الله عليه السلام قال: سألت عن قول الله وله الدين واصبا قال واجبا وفي المعاني باسناده عن حنان بن سدير عن الصادق عليه السلام في حديث قال عليه السلام ولله المثل الاعلى الذى لا يشبهه شئ ولا يوصف ولا يتوهم وفي الدر المنثور: في قوله ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم الاية اخرج ابن مردويه عن ابى هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لو ان الله يؤاخذنى وعيسى بن مريم بذنوبنا وفي لفظ بما جنت هاتان الابهام والتى تليها لعذبنا مايظلمنا شيئا. اقول والحديث مخالف لما يثبته الكتاب والسنة من عصمة الانبياء عليهم السلام ولا وجه لحمله على ارادة ترك الاولى من الذنوب إذ لا عذاب عليه * * * والله انزل من السماء ماء فأحيا به الارض بعد موتها ان في ذلك لاية لقوم يسمعون - 65 وان لكم في الانعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين - 66 ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ان في ذلك لاية لقوم يعقلون - 67 وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون - 68 ثم كلى
________________________________________
[ 287 ]
من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذلك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه فيه شفاء للناس ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون - 69 والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى ارذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا ان الله عليم قدير - 70 والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادى رزقهم على ما ملكت ايمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون - 71 والله جعل لكم من انفسكم ازواجا وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون - 72 ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والارض شيئا ولا يستطيعون - 73 فلا تضربوا لله الامثال ان الله يعلم وانتم لا تعلمون - 74 ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا هل يستون الحمد لله بل اكثرهم لا يعلمون - 75 وضرب الله مثلا رجلين احدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير هل يستوى هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم - 76 ولله غيب السموات والارض وما امر الساعة إلا كلمح البصر أو هو اقرب ان الله على كل شئ قدير - 77
________________________________________
[ 288 ]
(بيان) رجوع بعد رجوع إلى عد النعم والالاء الالهية واستنتاج التوحيد والبعث منها والاشارة إلى مسألة التشريع وهى النبوة. قوله تعالى: " والله انزل من السماء ماء فأحيا به الارض بعد موتها " الخ يريد انبات الارض بعدما انقطعت عنه بحلول الشتاء بماء السماء الذين هو المطر فتأخذ اصول النباتات وبذورها في النمو بعد سكونها وهى حياة من سنخ الحياة الحيوانية وإن كانت اضعف منها وقد اتضح بالابحاث الحديث ان للنبات من جراثيم الحياة ما للحيوان وان اختلفتا صورة وأثرا. وقوله ان في ذلك لاية لقوم يسمعون المراد بالسمع قبول ما من شأنه أن يقبل من القول فان العاقل الطالب للحق إذا سمع ما يتوقع فيه الحق اصغي واستمع إليه ليعيه ويحفظه قال تعالى: " الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه اولئك الذين هداهم الله واولئك هم اولوا الالباب " الزمر: 18. فإذا ذكر من فيه قريحة قبول الحق حديث انزال الله المطر واحيائه الارض بعد موتها كان له في ذلك آية للبعث وان الذى احياها لمحيى الموتى. قوله تعالى: " وان لكم في الانعام لعبرة الخ الفرث هو الثفل الذى ينزل إلى الكرش والامعاء فإذا دفع فهو سرجين وليس فرثا والسائغ اسم فاعل من السوغ يقال ساغ الطعام والشراب إذا جرى في الحلق بسهولة. وقوله وان لكم في الانعام لعبرة أي لكم في الابل والبقر والغنم لامرا أمكنكم أن تعتبروا به وتتعظوا ثم بين ذلك الامر بقوله نسقيكم مما في بطونه الخ أي بطون ما ذكر من الانعام اخذ الكثير شيئا واحدا. وقوله من بين فرث ودم الفرث في الكرش والبان الانعام مكانها مؤخر البطن بين الرجلين والدم مجراه الشرايين والاوردة وهى محيطة بهما جميعا فأخذ اللبن شيئا هو بين الفرث والدم كأنه باعتبار مجاورته لكل منهما واجتماع الجميع في داخل الحيوان وهذا كما يقال اخترت زيدا من بين القوم ودعوته واخرجته من بينهم إذا
________________________________________
[ 289 ]
اجتمع معهم في مكان واحد وجاورهم فيه وان كان جالسا في حاشية القوم لا وسطهم والمراد بذلك انى ميزته من بينهم وقد كان غير متميز. والمعنى نسقيكم مما في بطونه لبنا خارجا من بين فرث ودم خالصا غير مختلط ولا مشوب بهما ولا مستصحب لشئ من طعمهما ورائحتهما سائغا للشاربين فذلك عبرة لمن اعتبر وذريعة إلى العلم بكمال القدرة ونفوذ الارادة وان الذى خلص اللبن من بين فرث ودم لقادر على ان يبعث الانسان ويحييه بعدما صار عظاما رميما وضلت في الارض اجزاؤه. قوله تعالى: " ومن ثمرات النخيل والاعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا " إلى آخر الاية قال في المفردات السكر بضم السين حالة تعرض بين المرء وعقله إلى ان قال والسكر بفتحتين ما يكون منه السكر قال تعالى: " تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا انتهى. وقال في المجمع السكر في اللغة على اربعة اوجه الاول ما اسكر من الشراب والثانى ما طعم من الطعام قال الشاعر جعلت عيب الاكرمين سكرا أي جعلت ذمهم طعما لك والثالث السكون ومنه ليلة ساكرة أي ساكنة قال الشاعر وليست بطلق ولا ساكرة ويقال سكرت الريح سكنت قال وجعلت عين الحرور تسكر والرابع المصدر من قولك سكر سكرا ومنه التسكير التحيير في قوله سكرت ابصارنا انتهى والظاهر ان الاصل في معناه هو زوال العقل باستعمال ما يوجب ذلك وسائر ما ذكره من المعاني مأخوذة منه بنوع من الاستعارة والتوسع. وقوله ومن ثمرات النخيل والاعناب اما جملة اسمية معطوفة على قوله والله انزل من السماء ماء كقوله في الاية السابقة وان لكم في الانعام لعبرة والتقدير ومن ثمرات النخيل والاعناب ما أو (1) شئ تتخذون منه الخ قالوا
________________________________________
(1) الترديد مبنى على المذهبين في حذف الموصول كما سيأتي. (*)
________________________________________
[ 290 ]
والعرب ربما يضمرما الموصولة كثيرا ومنه قوله تعالى: " وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا " الدهر: 20 والتقدير رأيت ما ثم أو التقدير ومن ثمرات النخيل والاعناب شئ تتخذون منه بناء على عدم جواز حذف الموصول وابقاء الصلة على ما ذهب إليه البصريون من النحاة. واما جملة فعلية معطوفة على قوله انزل من السماء كما في الاية التالية واوحى ربك والتقدير خلق لكم أو آتاكم من ثمرات النخيل والاعناب وقوله تتخذون منه الخ بدل منه أو استئناف كأن قائلا يقول ما ذا نستفيد منه فقيل تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا وافراد ضمير منه بتأويل المذكور كقوله مما في بطونه في الاية السابقة. وقوله تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا أي تتخذون مما ذكر من ثمرات النخيل والاعناب ما هو مسكر كالخمر بأنواعها ورزقا حسنا كالتمر والزبيب والدبس وغير ذلك مما يقتات به. ولا دلالة في الاية على اباحة استعمال السكر ولا على تحسين استعماله ان لم تدل على نوع من تقبيحه من جهة مقابلته بالرزق الحسن وانما الاية تعد ما ينتفعون به من ثمرات النخيل والاعناب وهى مكية تخاطب المشركين وتدعوهم إلى التوحيد. وعلى هذا فالاية لا تتضمن حكما تكليفيا حتى تكون منسوخة أو غير منسوخة وبه يظهر فساد القول بكونها منسوخة بآية المائدة كما نسب إلى قتادة. وقد اغرب صاحب روح المعاني إذ قال وتفسير السكر بالخمر هو المروى عن ابن مسعود وابن عمر وابى رزين والحسن ومجاهد والشعبى والنخعي وابن ابى ليلى وابى ثور والكلبي وابن جبير مع خلق آخرين والاية نزلت في مكة والخمر إذ ذاك كانت حلالا يشربها البر و الفاجر وتحريمها انما كان بالمدينة اتفاقا واختلفوا في انه قبل احد أو بعدها والاية المحرمة لها يا ايها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه على ما ذهب إليه جمع فما هنا منسوخ بها وروى ذلك غير واحد ممن تقدم كالنخعي وابى ثور وابن جبير. وقيل نزلت قبل ولا نسخ بناء على ما روى عن ابن عباس ان السكر هو الخل
________________________________________
[ 291 ]
بلغة الحبشة أو على ما نقل عن ابى عبيدة ان السكر المطعوم المتفكه به كالنقل وانشد جعلت اعراض الكرام سكرا إلى ان قال وإلى عدم النسخ ذهب الحنفيون وقالوا المراد بالسكر ما لا يسكر من الانبذة واستدلوا عليه بأن الله تعالى امتن على عباده بما خلق لهم من ذلك ولا يقع الامتنان الا بمحلل فيكون ذلك دليلا على جواز شرب ما دون المسكر من النبيذ فإذا انتهى إلى السكر لم يجز انتهى موضع الحاجة. اما ما ذكره في الخمر فقد فصلنا القول في ذلك في ذيل آيات التحريم من سورة المائدة واقمنا الشواهد هناك على ان الخمر كانت محرمة قبل الهجرة وكان الاسلام معروفا بتحريمها وتحريم الزنا عند المشركين عامتهم وان تحريمها نزل في سورة الاعراف وقد نزلت قبل سورة النحل قطعا وفي سورتي البقرة والنساء وقد نزلتا قبل سورة المائدة وان التى نزلت في المائدة انما نزلت لتشديد الحرمة وزجر بعض المسلمين حيث كانوا يتخلفون عن حكم التحريم كما وقع في الروايات وهو الذى يشير إليه بقوله يشربها البر والفاجر وفي لفظ الايات دلالة على ذلك إذ يقول فهل انتم منتهون. واما ما نقله عن ابن عباس ان السكر في لغة الحبشة بمعنى الخل فلا معول عليه واستعمال اللفظ غير العربي وان كان غير عزيز في القرآن كما قيل في استبرق وجهنم وزقوم وغيرها لكنه انما يجوز فيما لم يكن هناك مانع من لبس أو ابهام واما في مثل السكر وهو في اللغة العربية الخمر وفي الحبشية الخل فلا وكيف يجوز ان ينسب إلى ابلغ الكلام انه ترك الخل وهو عربي جيد واستعمل مكانه لفظة حبشية تفيد في العربية ضد معناها ؟ واما ما نسبه إلى ابى عبيدة فقد تقدم ما عليه في اول الكلام فراجع. واما ما نسبه إلى الحنفية من ان المراد بالسكر النبيذ وان الاية تدل على جواز شرب القليل منه ما لم يصل إلى حد الاسكار لمكان الامتنان ففيه ان الاية لا تدل على اكثر من انهم يتخذون منه سكرا واما الامتنان عليهم بذلك فبمعزل من دلالة الاية وانما عد من النعم ثمرات النخيل والاعناب لا كل ما عملوا منها من حلال وحرام ولو كان في ذلك امتنان لم يقابله بالرزق الحسن الدال بمقابلته على نوع من العتاب على اتخاذهم منه سكرا كما اعترف به البيضاوى وغيره.
________________________________________
[ 292 ]
على ان ما في الاية من لفظ السكر غير مقيد بكونه نبيذا أو خمرا ولا قليلا لا يبلغ حد الاسكار ولا غيره فلو كان اتخاذ السكر متعلقا للامتنان الدال على الجواز لكانت الاية صريحة في حلية الجميع ثم لم يقبل النسخ اصلا فان لسان الامتنان لا يقبل امدا يرتفع بعده كيف يجوز ان يعد الله شيئا من نعمه ويمتن على الناس به ثم يعده بعد برهة رجسا ومن عمل الشيطان كما في آية المائدة الا بالبداء بمعناه المستحيل عليه تعالى. ثم ختم سبحانه الاية بقوله ان في ذلك لاية لقوم يعقلون حثا على التعقل والامعان في امر النبات وثمراته. قوله تعالى: " واوحى ربك إلى النحل ان اتخذى من الجبال بيوتا " إلى آخر الايتين الوحى كما قال الراغب الاشارة السريعة وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز أو بصوت مجرد عن التركيب أو باشارة ونحوها والمحصل من موارد استعماله انه القاء المعنى بنحو يخفى على غير من قصد افهامه فالالهام بالقاء المعنى في فهم الحيوان من طريق الغريزة من الوحى وكذا ورود المعنى في النفس من طريق الرؤيا أو من طريق الوسوسة أو بالاشارة كل ذلك من الوحى وقد استعمل في كلامه تعالى في كل من هذه المعاني كقوله واوحى ربك إلى النحل الاية وقوله: " واوحينا إلى أم موسى " القصص: 7 وقوله: " إن الشياطين ليوحون إلى اوليائهم " الانعام: 121 وقوله: " فأوحى إليهم ان سبحوا بكرة وعشيا " مريم: 11 ومن الوحى التكليم الالهى لانبيائه ورسله قال تعالى: " وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا " الشورى: 51 وقد قرر الادب الدينى في الاسلام ان لا يطلق الوحى على غير ما عند الانبياء والرسل من التكليم الالهى. قال في المجمع والذلل جمع الذلول يقال دابة ذلول بين الذل ورجل ذلول بين الذل والذلة انتهى. وقوله واوحى ربك إلى النحل أي ألهمه من طريق غريزته التى اودعها في بنيته وامر النحل وهو زنبور العسل في حياته الاجتماعية وسيرته وصنعته لعجيب ولعل بداعة امره هو الموجب لصرف الخطاب عنهم إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذ قال واوحى ربك.
________________________________________
[ 293 ]
وقوله ان اتخذى من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون هذا من مضمون الوحى الذى اوحى إليه والظاهر ان المراد بما يعرشون هو ما يبنون لبيوت العسل. وقوله ثم كلى من كل الثمرات الامر بان تأكل من كل الثمرات مع انها تنزل غالبا على الازهار انما هو لانها انما تأكل من مواد الثمرات اول ما تتكون في بطون الازهار ولما تكبر وتنضج. وقوله فاسلكي سبل ربك ذللا تفريعه على الامر بالاكل يؤيد ان المراد به رجوعها إلى بيوتها لتودع فيها ما هيأته من العسل المأخوذ من الثمرات واضافة السبل إلى الرب للدلالة على إن الجميع بالهام الهى. وقوله يخرج من بطونها شراب مختلف الوانه الخ استئناف بعد ذكر جملة ما امرت به يبين فيه ما يترتب على مجاهدتها في امتثال امر الله سبحانه ذللا وهو انه يخرج من بطونها أي بطون النحل شراب وهو العسل مختلف الوانه بالبياض والصفرة والحمرة الناصعة وما يميل إلى السواد فيه شفاء للناس من غالب الامراض. وتفصيل القول في حياة النحلة هذه الحشرة الفطنة التى بنت حياتها على مدنية عجيبة فاضلة لا تكاد تحصى غرائبها ولا يحاط بدقائقها ثم الذى تهيؤه ببالغ مجاهدتها وما يشتمل عليه من الخواص خارج عن وسع هذا الكتاب فليراجع في ذلك مظان تحقيقه. ثم ختم الاية بقوله ان في ذلك لاية لقوم يتفكرون وقد اختلف التعبير بذلك في هذه الايات فخص الاية في احياء الارض بعد موتها بقوم يسمعون وفي ثمرات النخيل والاعناب بقوم يعقلون وفي امر النحل بقوم يتفكرون. ولعل الوجه في ذلك ان النظر في امر الموت والحياة بحسب طبعه من العبرة والموعظة وهى بالسمع انسب والنظر في الثمرات من حيث ما ينفع الانسان في وجوده من السير البرهانى من مسلك اتصال التدبير وارتباط الانظمة الجزئية ورجوعها إلى نظام عام واحد لا يقوم الا بمدبر واحد وهو للعقل انسب وامر النحل في حياتها يتضمن دقائق عجيبة لا تنكشف للانسان الا بالامعان في التفكر فهو آية للمتفكرين. وقد اشرنا سابقا إلى ما في آيات السورة من مختلف الالتفاتات وعمدتها في هذه الايات ترجع إلى خطاب المشركين رحمة لهم واشفاقا بحالهم وهم لا يعلمون والاعراض
________________________________________
[ 294 ]
عن مخاطبتهم لكفرهم وجحودهم إلى خطاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا ظاهر مشهود في آيات السورة فلا يزال الخطاب فيها يتقلب بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المشركين فيتحول منه إليهم ومنهم إليه. قوله تعالى: " والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى ارذل العمر لكى لا يعلم بعد علم شيئا " الخ الارذل اسم تفضيل من الرذالة وهى الرداءة والرذل الدون والردئ والمراد بأرذل العمر بقرينة قوله لكى لا يعلم الخ سن الشيخوخة والهرم التى فيها انحطاط قوى الشعور والادراك وهى تختلف باختلاف الامزجة وتبتدئ على الاغلب من الخمس و السبعين. والمعنى والله خلقكم معشر الناس ثم يتوفاكم في عمر متوسط ومنكم من يرد إلى سن الهرم فينتهى إلى ان لا يعلم بعد علم شيئا لضعف القوى وهذا آية ان حياتكم وموتكم وكذا شعوركم وعلمكم ليست بأيديكم وإلا اخترتم البقاء على الوفاة والعلم على عدمه بل ذلك على ما له من عجيب النظام منته إلى علمه وقدرته تعالى ولهذا علله بقوله ان الله عليم قدير. قوله تعالى: " والله فضل بعضكم على بعض في الرزق " إلى آخر الاية فضل بعض الناس على بعض في الرزق وهو ما تبقى به الحياة ربما كان من جهة الكمية كالغنى المفضل بالمال الكثير على الفقير وربما كان من جهة الكيفية كأن يستقل بالتصرف فيه بعضهم ويتولى امر الاخرين مثل ما يستقل المولى الحر بملك ما في يده والتصرف فيه بخلاف عبده الذى ليس له ان يتصرف في شئ الا باذنه وكذا الاولاد الصغار بالنسبة إلى وليهم و الانعام والمواشى بالنسبة إلى مالكها وقوله: " فما الذين فضلوا برادى رزقهم على ما ملكت ايمانهم " قرينة على ان المراد هو القسم الثاني من التفضيل وهو ان بعضهم فضل بالحرية والاستقلال بملك ما رزق وليس يختار ان يرد ما رزق باستقلاله وحريته إلى من يملكه ويملك رزقه ولا ان يبذل له ما اوتيه من نعمة حتى يتساويا ويتشاركا فيبطل ملكه ويذهب سودده. فهذه نعمة ليسوا بمغمضين عنها ولا برادين لها على غيرهم وليست إلا من الله سبحانه فان امر المولوية والرقية وان كان من الشئون الاجتماعية التى ظهرت عن آراء
________________________________________
[ 295 ]
الناس والسنن الاجتماعية الجارية في مجتمعاتهم لكن له اصول طبيعية تكوينية هي التى بعثت آرائهم على اعتباره كسائر الامور الاجتماعية العامة. ومن الشاهد على ذلك ان الامم الراقية منذ عهد طويل اعلنوا بالغاء سنة الاسترقاق ثم اتبعتهم سائر الامم من الشرقيين وغيرهم وهم لا يزالون يحترمون معناها إلى هذه الغاية وان ألغوا صورتها ويجرون مسماها وان هجروا اسمها (1) ولن يزالوا كذلك فليس في وسع الانسان أن يسد باب المغالبة وقد قدمنا كلاما في هذا المعنى في آخر الجزء السادس من هذا الكتاب فليراجعه من شاء. وكون هذا المعنى نعمة من الله انما هو لان من صلاح المجتمع الانساني ان يتسلط بعضهم على بعض فيصلح القوى الضعيف بصالح التدبير ويكمله. وعلى هذا فقوله فهم فيه سواء متفرع على المنفى في قوله فما الذين فضلوا برادى رزقهم دون النفى والمعنى ليسوا برادى رزقهم على عبيدهم فيكونوا متساوين فيه متشاركين وفي ذلك ذهاب مولويتهم ويحتمل ان يكون جملة استفهامية حذفت منها اداة الاستفهام وفيها انكار ان يكون المفضلون والمفضل عليهم في ذلك متساويين ولو كانوا سواء لم يمتنع المفضل من ان يرد رزقه على من فضل عليه فان في ذلك دلالة على انها نعمة خصه الله بها. ولذلك عقبه ثانيا بقوله أفبنعمة الله يجحدون وهو استفهام توبيخي كالمتفرع لما تقدمه من الاستفهام الانكارى والمراد بنعمة الله هذا التفضيل المذكور بعينه. والمعنى والله اعلم والله فرق بينكم بأن فضل بعضكم على بعض في الرزق فبعضكم حر مستقل في التصرف فيه وبعضكم عبد تبع له لا يتصرف الا عن اذن فليس الذين فضلوا برادى رزقهم الذى رزقوه على سبيل الحرية والاستقلال على ما ملكت ايمانهم حتى يكون هؤلاء المفضلون والمفضل عليهم في الرزق سواء فليسوا سواء بل هي نعمة تختص بالمفضلين أفبنعمة الله يجحدون ؟ هذا ما يفيده ظاهر الاية بما احتفت به من القرائن والسياق سياق تعداد النعم
________________________________________
(1) وإنما نقلوا حكم الاسترقاق مما بين الفرد والفرد إلى ما بين المجتمع والمجتمع وسموه بغير اسمه. (*)
________________________________________
[ 296 ]
وربما قرر معنى الاية على وجه آخر فقيل المعنى أنهم لا يشركون عبيدهم في أموالهم وأزواجهم حتى يكونوا في ذلك سواء ويرون ذلك نقصا لانفسهم فكيف يشركون عبيدى في ملكى وسلطاني ويعبدونهم ويتقربون إليهم كما يعبدونني ويتقربون إلى كما فعلوا في عيسى بن مريم عليه السلام ؟ قالوا والاية على شاكلة قوله تعالى: " ضرب لكم مثلا من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء " الروم: 28 قالوا والاية نزلت في نصارى نجران. وفيه أن سياق الآية هو سياق تعداد النعم لاستنتاج التوحيد لا المناقضة والتوبيخ فلا أثر فيها منه. على أن الآية مما نزلت بمكة واين ذاك من وفود نصارى نجران على المدينة سنة ست من الهجرة أو بعدها ؟ وقياس هذه الاية من آية سورة الروم مع الفارق لاختلاف السياقين فسياق هذه الاية سياق الاحتجاج بذكر النعمة وسياق آية الروم هو سياق التوبيخ على الشرك. وقيل ان المعنى فهؤلاء الذين فضلهم الله في الرزق من الاحرار لا يرزقون مماليكهم وعبيدهم بل الله تعالى هو رازق الملاك والمماليك فإن الذى ينفقه المولى على مملوكه إنما ينفقه مما رزقهم الله فالله رازقهم جميعا فهم فيه سواء. ومحصله ان قوله فهم فيه سواء حال محل اضراب مقدر والتقدير ان الموالى ليسوا برادى رزق انفسهم على عبيدهم فيما ينفقون عليهم بل الله يرزق العبيد بأيدى مواليهم وهم سواء في الرزق من الله. وفيه ان ما قرر من المعنى مقتضاه ان يبطل التسوية اخيرا حكم التفضيل أولا ولا يستقيم عليه مدلول قوله أفبنعمة الله يجحدون. وقيل المراد أن الموالى ليسوا برادى ما بأيديهم من الرزق على مواليهم حتى يستووا في التمتع منه. وفيه أنه يعود حينئذ إلى أن الانسان يمنع غيره من أن يتسلط على ما ملكه من
________________________________________
[ 297 ]
الرزق وحينئذ يكون تخصيصذلك بالعبيد مستدركا زائدا ولو وجه بأنه انما لا يرده عليه لمكان تسلطه على عبيده رجع إلى ما قدمناه من المعنى ولكانت النعمة المعدودة هي الفضل من جهة مالكية المولى لعبده ولما عنده من الرزق. قوله تعالى: " والله جعل لكم من انفسكم ازواجا وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة " إلى آخر الاية قال في المفردات قال الله تعالى: " 2 وجعل لكم من ازواجكم بنين وحفدة " جمع حافد وهو المتحرك المسرع بالخدمة اقارب كانوا أو اجانب قال المفسرون هم الاسباط ونحوهم وذلك ان خدمتهم اصدق إلى ان قال قال الاصمعي اصل الحفد مداركة الخطو انتهى. وفي المجمع واصل الحفد الاسراع في العمل إلى ان قال ومنه قيل للاعوان حفدة لاسراعهم في الطاعة انتهى والمراد بالحفدة في الاية الاعوان الخدم من البنين لمكان قوله وجعل لكم من ازواجكم ولذا فسر بعضهم قوله بنين وحفدة بصغار الاولاد وكبارهم وبعضهم بالبنين والاسباط وهم بنو البنين. والمعنى والله جعل لكم من انفسكم ازواجا تألفونها وتأنسون بها وجعل لكم من ازواجكم بالايلاد بنين وحفدة واعوانا تستعينون بخدمتهم على حوائجكم وتدفعون بهم عن انفسكم المكاره ورزقكم من الطيبات وهى ما تستطيبونه من امتعة الحياة وتنالونه بلا علاج وعمل كالماء والثمرات أو بعلاج وعمل كالاطعمة والملابس ونحوها ومن في من الطيبات للتبعيض وهو ظاهر. ثم وبخهم بقوله أفبالباطل وهى الاصنام والاوثان ومن ذلك القول بالبنات لله والاحكام التى يشرعها لهم ائمتهم ائمة الضلال يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون والنعمة هي جعل الازواج من انفسهم وجعل البنين والحفدة من ازواجهم فان ذلك من اعظم النعم واجلاها لكونه اساسا تكوينيا يبتنى عليه المجتمع البشرى ويظهر به فيهم حكم التعاون والتعاضد بين الافراد وينتظم به لهم امر تشريك الاعمال والمساعي فيتيسر لهم الظفر بسعادتهم في الدنيا والاخرة. ولو ان الانسان قطع هذا الرابط التكويني الذى انعم الله به عليه وهجر هذا السبب الجميل وان توسل بأى وسيلة غيره لتلاشي جمعه وتشتت شمله وفي ذلك
________________________________________
[ 298 ]
هلاك الانسانية قوله تعالى: " ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا في السماوات والارض شيئا ولا يستطيعون " عطف على موضع الجملة السابقة والمعنى يكفرون بنعمة الله ويعبدون من دون الله ما لا يملك الخ. وقد ذكروا ان رزقا مصدر وشيئا مفعوله والمعنى لا يملك لهم أن يرزق شيئا وقيل الرزق بمعنى المرزوق وشيئا بدل منه وقيل ان شيئا مفعول مطلق والتقدير لا يملك شيئا من الملك وخير الوجوه اوسطها. ويمكن ان يقال في السماوات والارض شيئا بدل من رزقا وهو من بدل الكل من البعض يفيد معنى الاضراب والترقى والمعنى ويعبدون ما لا يملك لهم رزقا بل لا يملك لهم في السماوات والارض شيئا. وقوله ولا يستطيعون أي ولا يستطيعون ان يملكوا رزقا وشيئا ويمكن أن يكون منسى المتعلق جاريا مجرى اللازم أي ولا استطاعة لهم اصلا. وقد اجتمع في الاية رعاية الاعتبارين في الاصنام فانها من جهة انها معمولة من حجر أو خشب أو ذهب أو فضة غير عاقلة وبهذا الاعتبار قيل ما لا يملك الخ ومن جهة انهم يعدونها آلهة دون الله ويعبدونها والعبادة لا تكون الا لعاقل منسلكة على زعمهم في سلك العقلاء وبهذا الاعتبار قيل ولا يستطيعون. وفي الاية رجوع إلى التخلص لبيان الغرض من تعداد النعم وهو التوحيد واثبات النبوة بمعنى التشريع والمعاد يجرى ذلك إلى تمام اربع آيات ينهى في اولاها عن ضربهم الامثال لله سبحانه ويضرب في الثانية مثل تبين به وحدانيته تعالى في ربوبيته وفي الثالثة مثل يتبين به امر النبوة والتشريع ويتعرض في الرابعة لامر المعاد. قوله تعالى: " فلا تضربوا لله الامثال ان الله يعلم وانتم لا تعلمون " الظاهر السابق إلى الذهن ان المراد بضرب الامثال التوصيف المصطلح عليه بالاستعارة التمثيلية وهى اجراء الاوصاف عليه تعالى بضرب من التشبيه كقولهم ان له بنات كالانسان وان الملائكة بناته وان بينه وبين الجنة نسبا وصهرا وانه كيف يحيى العظام وهى
________________________________________
[ 299 ]
رميم إلى غير ذلك وهذا هو المعنى المعهود من هذه الكلمة في كلامه تعالى وقد تقدم في خلال الايات السابقة قوله للذين لا يؤمنون بالاخرة مثل السوء ولله المثل الاعلى. فالمعنى إذا كان الامر على ما ذكر فلا تصفوه سبحانه بما تشبهونه بغيره وتقيسونه إلى خلقه لان الله يعلم وانتم لا تعلمون حقائق الامور وكنهه تعالى. وقيل المراد بالضرب الجعل وبالامثال ما هو جمع المثل بمعنى الند فقوله: " فلا تضربوا لله الامثال " في معنى قوله في موضع آخر فلا تجعلوا لله اندادا " البقرة: 22 وهو معنى بعيد. قوله تعالى: " ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ " إلى آخر الاية ما في الاية من المثل المضروب يفرض عبدا مملوكا لا يقدر على شئ وآخر رزق من الله رزقا حسنا ينفق منه سرا وجهرا ثم يسأل هل يستويان ؟ واعتبار التقابل بين المفروضين يعطى ان كلا من الطرفين مقيد بخلاف ما في الاخر من الوصف مع تبيين الاوصاف بعضها لبعض. فالعبد المفروض مملوك غير مالك لا لنفسه ولا لشئ من متاع الحياة وهو غير قادر على التصرف في شئ من المال والذى فرض قباله حر يملك نفسه وقد رزقه الله رزقا حسنا وهو ينفق منه سرا وجهرا على قدرة منه على التصرف بجميع اقسامه. وقوله هل يستوون سؤال عن تساويهما ومن البديهى ان الجواب هو نفى التساوى ويثبت به ان الله سبحانه وهو المالك لكل شئ المنعم بجميع النعم لا يساوى شيئا من خلقه وهم لا يملكون لا انفسهم ولا غيرهم ولا يقدرون على شئ من التصرف فمن الباطل قولهم ان مع الله آلهة غيره وهم من خلقه. والتعبير بقوله يستوون دون أن يقال يستويان للدلالة على ان المراد من ذلك الجنس من غير أن يختص بمولى وعبد معينين كما قيل. وقوله الحمد لله أي له عز اسمه جنس الحمد وحقيقته وهو الثناء على الجميل الاختياري لان جميل النعمة من عنده ولا يحمد الا الجميل فله تعالى كل الحمد كما ان له جنسه فافهم ذلك.
________________________________________
[ 300 ]
والجملة من تمام الحجة ومحصلها انه لا يستوى المملوك الذى لا يقدر أن يتصرف في شئ وينعم بشئ والمالك الذى يملك الرزق ويقدر على التصرف فيه فيتصرف وينعم كيف شاء والله سبحانه هو المحمود بكل حمد إذ ما من نعمة إلا وهى من خلقه فله كل صفة يحمد عليها كالخلق والرزق والرحمة والمغفرة والاحسان والانعام وغيرها فله كل ثناء جميل وما يعبدون من دونه مملوك لا يقدر على شئ فهو سبحانه الرب وحده دون غيره. وقد قيل ان الحمد في الاية شكر على نعمه تعالى وقيل حمد على تمام الحجة وقوتها وقيل تلقين للعباد ومعناه قولوا الحمد لله الذى دلنا على توحيده وهدانا إلى شكر نعمه وهى وجوه لا يعبأ بها. وقوله بل اكثرهم لا يعلمون أي اكثر المشركين لا يعلمون ان النعمة كلها لله لا يملك غيره شيئا ولا يقدر على شئ بل يثبتون لاوليائهم شيئا من الملك والقدرة على سبيل التفويض فيعبدونهم طمعا وخوفا هذا حال اكثرهم واما اقلهم من الخواص فانهم على علم من الحق لكنهم يحيدون عنه بغيا وعنادا. وقد تبين مما تقدم ان الاية مثل مضروب في الله سبحانه وفيمن يزعمونه شريكا له في الربوبية وقيل انها مثل تمثل به حال الكافر المخذول والمؤمن الموفق فإن الكافر لاحباط عمله وعدم الاعتداد باعماله كالعبد المملوك الذى لا يقدر على شئ فلا يعد له احسان وان انفق وبالغ بخلاف المؤمن الذى يوفقه الله لمرضاته ويشكر مساعيه فهو ينفق مما عنده من الخير سرا وجهرا. وفيه انه لا يلائم سياق الاحتجاج الذى للايات وقد تقدم ان الاية احدى الايات الثلاث المتوالية التى تتعرض لغرض تعداد النعم الالهية وهى تذكر بالتوحيد بمثل يقيس حال من ينعم بجميع النعم من حال من لا يملك شيئا ولا يقدر على شئ فيستنتج ان الرب هو المنعم لا غير. قوله تعالى: " وضرب الله مثلا رجلين احدهما أبكم " إلى آخر الاية قال في المجمع الابكم الذى يولد اخرس لا يفهم ولا يفهم وقيل الابكم الذى لا يقدر أن يتكلم والكل الثقل يقال كل عن الامر يكل كلا إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه.


أضف تعليق

كود امني
تحديث

مؤسسة السبطين عليهما السلام

loading...
أخبار المؤسسة
إصدارات
حول المؤسسة
loading...
المرئيات
المدائح
المحاضرات
الفقه
الصور

مشاهدة الكل

telegram ersali arinsta ar

١ ذوالقعدة الحرام

١- ذوالقعدة الحرام ١ـ ولادة كريمة أهل البيت فاطمة بنت موسى بن جعفر(س). ٢ـ غزوة بدر الصغرى. ٣ـ وفاة الاشعث ب...

المزید...

١١ ذوالقعدة الحرام

١١- ذوالقعدة الحرام ولادة ثامن الحجج، الامام السلطان ابوالحسن علي بن موسى الرضا المرتضى(ع) ...

المزید...

١٥ ذوالقعدة الحرام

١٥- ذوالقعدة الحرام نهاية الحكم الاموي وبداية الحكم العباسي ...

المزید...

٢٣ ذوالقعدة الحرام

٢٣- ذوالقعدة الحرام غزوة بني قريظة وتصفية يهود المدينة

المزید...

٢٥ ذوالقعدة الحرام

٢٥- ذوالقعدة الحرام ١) يوم دحو الارض ٢) خروج الرسول (ص) لحجة الوداع ٣) احضار الامام الرضا(ع) من الحجاز إلى ...

المزید...

٣٠ ذوالقعدة الحرام

٣٠- ذوالقعدة الحرام شهادة الامام الجواد(ع)

المزید...
012345
سيرة العلماء
تطبيق اندرويد لكتاب العروة الوثقی والتعليقات عليها
مكتبة أنيس
ثبّت سؤالك هنا
العروة الوثقى
Sibtayn International Foundation
Tel: +98 25 37703330 Fax: +98 25 37706238 Email : sibtayn[at]sibtayn.com
© 2024 Sibtayn International Foundation. All Rights Reserved.

Hi! Click one of our representatives below to chat on WhatsApp or send us email to [email protected]

الإتصال بنا
Close and go back to page